المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412654
يتصفح الموقع حاليا : 324

البحث

البحث

عرض المادة

حكم مُنكِر إلهامِ الأنبياء

[إلهام الأنبياء]

 

يتفق الأصوليون على أن الإلهام من الله -تعالى- لأنبيائه حقٌّ، وهو بالنسبة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حُجَّةٌ في حَقِّهِ، كذلك هو في حق أُمته، ويكفر منكر حقيقته، ويفسق تارك العمل به كالقرآن الكريم (2)، وهاك طرفًا من نصوصهم:

قال صاحب "المنار": "الإلهام حجة على المُلْهَم وعلى غيره، إن كان الملهَمُ نبيًّا، وعلم أنه من الله تعالى" (3).

وقال صاحب "مُسَلَّم الثبوت": "ثم إلهامه -صلى اللَّه عليه وسلم- حجة

قطعية عليه، وعلى غيره"، وقال شارحه: "يُكِفَّر منكِر حَقِّيَّتِه، ويُفَسَّق تارك العمل به كالقرآن" (4).


(1) انظر: "عالم الملائكة الأبرار" للدكتور عمر سليمان الأشقر ص (46 - 50).
(2) "الموسوعة الفقهية" (6/ 188)، وانظر: "جمع الجوامع" (2/ 356).
(3) "كشف الأسرار بشرح المنار" (2/ 520).
(4) "مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت" (2/ 421، 422).

[إلهام غير الأنبياء]

اختلف الأصوليون في حجية إلهام غير الأنبياء من المسلمين:

1 - ففرقة أثبتت حجيته مطلقًا:

وهم بعض الحبية (1)، وبعض الجبرية (2)، وبعض الصوفية (3)، وبعض الرافضة الجعفرية (4)، ومعهم بعض الحنفية (5).


(1) حكى أبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة" ص (399) عن بعضهم قولهم في الإلهام: "إنه حجة بمنزلة الوحي المسموع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا حكاه عنهم ابن السمعاني في "قواطع الأدلة" (5/ 120).
والحبية: قوم زعموا أنهم أحباء الله عجبًا بأنفسهم، وأن الله يتجلى لقلوبهم ويحدثهم، فمِن أجل ذلك رأوا حديث أنفسهم حجة، انظر: "تقويم الأدلة" ص (399).
(2) نسبه إليهم ابن السبكي في "جمع الجوامع" (2/ 356)، والزركشي في "تشنيف المسامع مع شرح جمع الجوامع" (2/ 159)، والولي العراقي في "الغيث الهامع شرح جمع الجوامع" (3/ 819).
(3) نسبه إليهم السمرقندي في "ميزان الأصول في نتائج العقول" ص (679)، والزركشي في "البحر المحيط" (6/ 103).
وعليه بنى محمد أحمد المتمهدي السوداني دعوته قائلًا: "إن أمرنا ناشئ عن إلهام صائب مع المشورة المسنونة" اهـ. نقله عنه في "ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر" ص (393)، ومِن قَبله ادعى ابن عربي أن ترتيب الفتوحات المكية "لم يكن لي من اختيار، ولا عن نظر فكري، وإنما الحق يملى لنا على لسان مَلَكَ الإلهام جميع ما نسطره" اهـ. من "الفتوحات المكية" (1/ 287)، وهذا عين ما ادعاه الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل"، حيث ادعى أنه أسسه على الكشف الصريح، وأن الله أمره بإبرازه، مع ما تضمنه من الإلحاد، والكفر، والتخليط، وانظر: "الفكر الصوفي" ص (149) وما بعدها، وانظر أيضًا: "كتب حذر منها العلماء" (1/ 45).
(4) نسبه إليهم صاحب "الميزان" ص (679)، وانظر: "فواتح الرحموت" (2/ 422)، و"البحر المحيط" (6/ 103).
(5) كصاحب "مسلم الثبوت" وشارحه صاحب "فواتح الرحموت".

2 - وفرقة نفت حجيته مطلقًا: منهم القفال الشاشي (1)، وابن السبكي (2)، والنسفي (3)، وابن الهُمام (4)، والشعراني (5)، والكاكي (6)، والألوسي، والسرهندي (7).

3 - وفرقة توسطت، فلم ينكروا أصله، وذهبوا إلى جواز العمل بالإلهام في غير العقائد، وقيدوا هذا الجواز بشروط ثلاثة:

الأول: ألا يوجد دليل شرعي في المسألة، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا غيرها من الأدلة المختلف فيها.

الثاني: أن يكون ذلك في باب المباح، دون أبواب الإيجاب والندب والتحريم والكراهة، فإنها لا بد فيها من دليل شرعي.

الثالث: أن يكون ذلك في حق الملهَم (8) خاصة، ولا يدعو غيره إلى العمل بما أُلهم به.

وهؤلاء منهم أبو زيد الدبوسي، وابن السمعاني، والسجستاني، والسمرقندي، والرازي، وابن الصلاح، وابن النجار، وغيرهم.

قال أبو زيد: "قال جمهور العلماء: إنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم" (9). اهـ.


(1) نسبه إليه الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 103).
(2) "جمع الجوامع" (2/ 356).
(3) "العقائد النسفية وحواشيها" ص (41).
(4) حيث قال في "تيسير التحرير": "الإلهام ليس بحجة مطلقًا، لإنعدام ما يوجب نسبته إلى الله تعالى" اهـ. (4/ 185).
(5) وله مصنف أسماه: "حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام"، كما حكاه عنه الألوسي في "روح المعاني" (16/ 17).
(6) هو محمد بن محمد الخجندي البخاري قوام الدين الكاكي، الحنفي (ت 749 هـ)، قال في "جامع الأسرار": "وإن كان الملهم وليًّا، فليس بحجة أصلًا" اهـ. (5/ 1431).
(7) "روح المعاني" (16/ 18).
(8) أي الملهَم أو المحدَّث الذي يكون مستقيمًا معتصمًا بالكتاب والسنة حالًا ومآلًا.
(9) "تقويم الأدلة" ص (392).

وقال ابن السمعاني: "واعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله -تعالى- بعبدٍ بلطفه كرامة له، ونقول في التمييز بين الحق والباطل من ذلك: إن كل ما استقام على شرع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده، فهو مقبول، وكل ما لا يستقيم على شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود، ويكون ذلك من تسويلات النفس، ووساوس الشيطان، ويجب رده، وعلى أننا لا ننكر زيادة نور من الله كرامة للعبد، وزيادة نظر له" إلى أن قال: "فأما على القول الذي يقولونه -وهو أن يرجع إلى قلبه في جميع الأمور- فلا نعرفه" (1).

وقال ابن النجار: "إنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها، لأنه ليس المراد الإيقاع في القلب بلا دليل، بل الهداية بالحق إلى الدليل" (2). اهـ. وذلك كما قال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: "إلا أن يؤتى الله

عبدًا فهمًا في كتابه" (3).

[أثر التقوى في تنوير البصيرة]

قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} الآية [البقرة: 282]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الآية [الطلاق: 2]، وقال سبحانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، وقال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] 


(1) "قواطع الأدلة" (5/ 132)، وانظر "فتح الباري" (12/ 388، 389).
(2) "شرح الكوكب المنير" (1/ 331، 332).
(3) كما في حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- المتقدم تخريجه ص (164) هامش رقم (4).

وقال رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء" (1).

وفي حديث الوَلاية: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه الذي يمشي بها" (2).

وقد رُوي عن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة"، ورُوي عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: "إن في قلب المؤمن سِراجًا يُزْهِر".

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدجال مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ" (3).

وكلما قوي الإيمان في القلب، قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من باطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي، والسراج الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله -تعالى-: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن لم يسمع فيها بالأثر؛ فإذا سمع فيها بالأثر، كان نورًا على نور.

وقد لاحظ العلماء على مر الأزمان معنى أن للتقوى والمجاهدة أثرًا في تنوير العقل، وهداية القلب، والتوفيق إلى إصابة الحق في الأقوال، والسَّداد في الأعمال، فسموا مصنفاتهم بأسماء تعبر عن هذا مثل: "فتح الباري"، و"فتح القدير"، و"فتح العزيز"، و"فتح الملك العلام"، و"فيض القدير"، و"فيض الباري"، ونحو ذلك، وصدق الشاعر إذ يقول:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ الهوى ... وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا


(1) رواه مسلم (1/ 102).
(2) رواه البخاري (7/ 190)، وانظر: "فتح الباري" (11/ 295).
(3) رواه البخاري (16/ 574 - فتح) طبعة طيبة- الرياض، ومسلم (4/ 2245).

[موقف ابن تيمية من الكشف]

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف الكشف: "هو ما يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالقلوب على المطلوب" (1).

لا يعتبر شيخ الإسلام الكشف دليلًا مستقلًّا، بل هو عنده من الأدلة التبعية، أي التابعة لدليل النقل الصحيح، وعليه فلا يمكن الاعتماد عليه إذا انفرد؛ لأنه لا يعلم ما أُلقي في القلب: هل هو وسوسة شيطان، أو لَمة مَلَك؟ (2).

ويُعرف خطأ الكشف عند ابن تيمية بأحد أمور (3):

أولًا: بمخالفة الكتاب والسنة، "والأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- معصومون، لا يقولون على اللَّه إلا الحق، ولا يتكلمون عنه إلا الصدق، ومن سوى الأنبياء ليس معصومًا، فقد يغلط ويحصل له في كشفه، وحسه، وذوقه، وشهوده أمور يظن فيها ظنونًا كاذبة".

ثانيًا: مناقضته للعقل (4)، يقول ابن تيمية: "وإذا أخبر مثلُ هذا بشيء -عُلِمَ بطلانُه بصريح العقل- عُلِمَ أنه غالط".

ثالثًا: مخالفة الحس الظاهر (5).

وبين شيخ الإسلام أن المعرضين عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان: "إما طريق النُّظَّار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية:


(1) انظر: "بيان تلبيس الجهمية" (1/ 263).
(2) انظر: "شرح العقيدة الأصفهانية" ص (12).
(3) انظر: "منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد" ص (292)، حيث عزاه إلى: "الجواب الصحيح" (3/ 134 - 136).
(4) وسنبين لاحقًا -إن شاء الله- الدليل العقلي على أن الإلهام لا يُحتج به استقلالًا، فانظره ص (179).
(5) قال النسفي في عقائده: "إن أسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والعقل، والخبر الصادق، ومنه خبر الرسول المؤيَّد بالمعجزة.
والإلهام ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق. اهـ. من "العقائد النسفية" ص (41).

وهي الطريقة العبادية الكشفية، وكل من جَرَّب هاتين الطريقتين علم أن ما لا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلًا دخل في الشطح والطامات التي لا يصدق بها إلا أجهل الخلق (1)، فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل". اهـ (2).

* * *


(1) "ومن دلائل الخطأ والتلبيس والتخيلات في الكشف الذي يسمونه (النوراني) تعارض أهله وتناقضهم فيه، وما يذكرونه فيه من معلوماتهم المختلفة باختلاف معلوماتهم الفنية والخرافية والشرعية. فترى بعضهم يذكر في كشفه "جبل قاف" المحيط بالأرض"! و"الحية المحيط به"! كما تراه في ترجمة الشعراني للشيخ أبي مدين، وهو من الخرافات التي لا حقيقة لها.
ومنهم من يذكر في كشفه الأفلاك وكواكبها على الطريقة اليونانية الباطلة أيضًا، وأكثرهم يذكرون في كشفهم الأحاديث الموضوعة، فإن اعترض عليهم -أو على المفتونين بكشفهم- علماء الحديث، قالوا: إن الحديث قد صح في كشفنا، وإن لم يصح في رواياتكم، وكشفنا أصح، لأنه من علم اليقين، وعلمكم ظني! ". اهـ. من "موقف الإسلام من الإلهام والكشف" للدكتور يوسف القرضاوي ص (65، 66).
(2) "درء تعارض العقل والنقل" (5/ 346).

  • الثلاثاء AM 11:07
    2022-08-02
  • 1202
Powered by: GateGold