المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413663
يتصفح الموقع حاليا : 244

البحث

البحث

عرض المادة

عبادة الصور والتماثيل

شمل اقتباس النصرانية من الديانات والوثنيات المجاورة كل أمور العقيدة والشريعة والشعائر، كما شمل الذوق والإحساس والمظاهر العامة، فلم يكن شيء من عقائدها وطقوسها إلا وعليه بصمات وثنية واضحة يتجلى ذلك في التماثيل والصور التي لا يخلو منها دير أو كنيسة رغم أن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل وتعده من أعمال الوثنيين (سفر التثنية).

ونشأت عبادة الصور والتماثيل -كأية بدعة أخرى- محدودة النطاق، ثم نمت تدريجياً وانتشرت في أرجاء واسعة، لكنها لم تدخل في صلب الديانة المسيحية بصفة رسمية إلا في مجمع نيقية الثاني كما سيأتي:

يقول: (ول ديورانت): "كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة".

وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجد لها الناس ويقبلونها، ويوقدون الشموع، ويحرقون البخور أمامها ويتوجونها بالأزهار ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي.

(وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص كنت ترى الصور المقدسة في كل مكان في الكنائس والأديرة والمنازل والحوانيت وحتى أثاث المنازل والحلي والملابس نفسها لم تخل منها، وأخذت المدن التى تتهددها أخطار الوباء أو المجاعة أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية، أو على ما فيها من الأولياء والقديسين .. للنجاة من هذه الكوارث) (1)

تلك هي الصورة مجملة في القرون المسيحية الأولى، ولكن المد الإسلامي العظيم في القرن الثامن الذي شمل معظم المعمورة أحدث بتعاليمه التوحيدية الخالصة أثراً قوياً في البيئات الوثنية المجاورة -لا سيما دولة الروم النصرانية- وبفضل هذا التأثير أحس الغربيون بسخافة معتقداتهم وضحالة تفكيرهم مبهورين بما لدى المسلمين من عقيدة ناصعة وحضارة شامخة.

 


(1) قصة الحضارة (24/ 154) وانظر قصة جزيرة صقلية في (ص:109) من هذا الكتاب.

لذلك، فقد قامت في الغرب في فترات متقطعة من تاريخه حركات معادية لهذه البدعة من أشهرها: محاولة الامبراطور (ليو الثالث) الذي أصدر مرسوماً يطلب فيه طمس الصور وإزالة التماثيل، وأراد بذلك أن يزيل عن أمته ودينها هذه الوصمة الشنيعة التي تظهره بمظهر النقص أمام أعدائه المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك وضجت الأديرة والكنائس وثار الشعب، واتفق الكل على خلعه والمناداة بإمبراطور آخر.

غير أن الحركة لم تمت، بل ظل أوارها يستعر، فاجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا (جريجوري الثاني)، وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل (1).

وفي عهد أحفاده عاد الصراع من جديد، وظلت المسألة تتأرجح بين الحرمة والحل حتى دعت الامبراطورة (إيريني) التي كانت معاصرة لهارون الرشيد رجال الدين في العالم المسيحي إلى عقد مجمع عام لبحث المسألة واتخاذ قرار حاسم حيالها، فاجتمع مجمع نيقية الثاني سنة (787) وحضر (350) أسقفاً واتخذ القرار الآتي:

إنا نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات؛ لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل وسائر القديسين في صورهم شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم والتكريم


(1) قصة الحضارة (14).

لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق إلا بالطبيعة الإلهية (1).

وبذلك انتصرت وثنية الكنيسة على أفكار معارضيها ردحاً من الزمان، وحسبت أن العبادة تعني الركوع والسجود ولا شيء غير ذلك.

وبعد ذلك بقرابة ثلاثة قرون، اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم اتصالاً أقوى عن طريق الحروب الصليبية، فكان ذلك عاملاً فعالاً في بعث الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل، ونادى كثير من المصلحين الكنيسيين بذلك، وبظهور الحركة الإصلاحية تزعم البروتستانت الحرب على الصور والتماثيل وحرمتها كنائسهم، إلا أن الغالبية الكاثوليكية لا تزال تقدسها وتلعن محطميها.

وربما دهش المرء إذا علم أن تقديس الصور عادة غربية شائعة في عصرنا الحاضر ليس في الأوساط الدينية فحسب، بل في الأوساط العامة وبعض المثقفين (2).

وبلغ بصورة المسيح وأمه حد الابتذال والامتهان، وكانت الطامة الكبرى في الأفلام السينمائية حيث وصل السخف والاستهتار بإحدى الشركات السويدية (وربما كانت يهودية) سنة (1397هـ) إلى إنتاج فيلم عن (حياة المسيح الجنسية) والغريب أن الدول الغربية اتخذت موقفاً سلبياً تجاه هذه الفعلة الشريرة، بينما بعثت بعض المنظمات الإسلامية نداءات لإيقاف الفيلم.


(1) محاضرات في النصرانية: (164) مع العلم بان عدد الأساقفة فيه (377) لا كما ذكر ديورانت (350).
(2) انظر: وداعاً أيها السلاح: ارنست همنغواي: (47).

ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه، بل إن الكنيسة تجرأت على البارئ جل شأنه، وصورته كما تصور المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

يقول الأستاذ ناصر الدين دينيه:

"الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لم يتخذ فيه الإله شكلاً بشرياً أو ما إلى ذلك من الأشكال، أما في المسيحية فإن لفظ الله تحوطها تلك الصورة الآدمية لرجل شيخ طاعن في السن، قد بانت عليه جميع دلائل الكبر والشيخوخة والانحلال، فمن تجاعيد الوجه غائرة إلى لحية بيضاء مرسلة مهملة تثير في النفس ذكرى الموت والفناء، ونسمع القوم يصيحون (ليحيي الله) فلا نرى للغرابة محلاً، ولا نعجب لصيحاتهم وهم ينظرون إلى رمز الأبدية الدائمة، وقد تمثل أمامهم شيخاً هرماً قد بلغ أرذل العمر فكيف لا يخشون عليه من الهلاك والفناء؟! وكيف لا يطلبون له الحياة؟! كذلك (يا هو) الذي يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي، فهم يجعلونه في مثل تلك المظاهر المتهالكة، تراه في متحف الفاتيكان ونُسَخ الأناجيل القديمة المصورة" (1).

هذا وليس تصوير الإله انحرافاً في نظر الكنيسة؛ فإن أحد علمائها يقرر (أنه لا يمكننا أن نفهم الله إلا عن طريق تصوره بالصور البشرية) (2).

ولنا بعد ذلك أن نتصور ما تحدثه هذه الوثنية الساذجة في نفس الإنسان الغربي المتثقف ومدى ما تنفره من الدين وتجعله فريسة الأفكار الإلحادية المتخفية بلباس (العلم والمعرفة).

بقي أن نعلم أنه لم تكن عبادة الصور والتماثيل هي الاقتباسة الوثنية الوحيدة، بل كانت الأمم الأوروبية المتوحشة تدخل في النصرانية اسمياً مع بقاء عقائدها وتقاليدها الوثنية بحالها وتتغاضى الكنيسة عن ذلك مقابل الخضوع لها ودفع الضرائب المستحقة، فلم تكن تهدف إلى هداية الناس، بل إلى بسط سلطانها ونفوذها، لا سيما وأنها ليست مهتدية في ذاتها.

 


(1) أشعة خاصة بنور القرآن: (25).
(2) الله واحد أم ثالوث: (14).

ومن أوضح الأمثلة على ذلك دخول الجزر البريطانية في المسيحية، فقد كان البريطانيون شديدي التمسك بوثنيتهم. ودار بينهم وبين الكنيسة صراع طويل، ولما رأى البابا (جريجوري) ذلك (اصطنع اللين مع من بقي في إنجلترا من الوثنيين، وأجاز تحويل الهياكل إلى كنائس بأن تحول عادة التضحية بالثيران في يسر ولطف إلى ذبحها لإنعاشهم لمديح الله، وبهذا كان كل ما طرأ على الإنجليز من تغير، هو تحولهم من أكل لحم البقر حين يحمدون الله إلى حمد الله حين يأكلون لحم البقر) (1).

[المعجزات والخرافات]

تفتقر المسيحية المحرفة في كثير من تعاليمها إلى الإقناع العقلي والبرهان المنطقي لإثباتها نظراً لتنافيها مع الفطرة وبدائه التفكير، لذلك اضطرت الكنيسة إلى تعويض نقص بضاعتها من الأدلة بادعاء الخوارق والمعجزات قاصدة التمويه على العقول الضعيفة واستغفال النفوس الساذجة، وكانت خوارق الكنيسة وشعوذتها تتراوح بين الرؤى المنامية ذات التهويل البالغ وبين التكهن المتكلف بالمغيبات وحوادث المستقبل، وبين تحمل الأساليب واستجداء شتى الوسائل لشفاء الأمراض المستعصية يتبع ذلك أمور أخرى كتعليق التمائم والرقى والتمتمات المجهولة واستعمال إشارة الصليب وتعليق صور القديسين، ومحاربة الشياطين، وطرد الأرواح الشريرة، وصد الكوارث والأوبئة، واستنزال النصر في الحروب وغير ذلك.

وكان من السهل على العقلية الأوروبية الهمجية أن تتقبل هذه السخافات، وتصدق الكنيسة في كل شيء بفضل الإرث الوثني الذي ظل متغلغلاً في أعماقها.

وفي القرون الأولى للمسيحية كان معظم المعجزات يدور حول شخصية المسيح وأمه وشيء منها للرسل والتلاميذ، لكن الكنيسة لم تقتصر على المعجزات الربانية الحقة، بل نسج خيالها خوارق أخرى هي أخلاط وأوهام يغلب عليها عنصر التهويل وتتسم بطابع الأساطير الوثنية القديمة التي تخيلها شعراء اليونان وغيرهم.

ولنأخذ على ذلك مثلاً: (مولد عيسى) -عليه السلام- كما صوره يوحنا في الإصحاح الثاني عشر من الرؤيا: "ظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر، تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً، وهى حبلى وتصرخ متمخضة ومتوجعة لتلده وظهرت آية أخرى في السماء هوذا تنين عظيم، أحمر له سبعة رءوس وعشرة قرون، وعلى رءوسه سبعة تيجان، وذنبه يجر ثلث نجوم السماء، فطرحها إلى الأرض والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد، حتى يبتلع ولدها حتى ولدت، فولدت ابنا ذكراً يرعى جميع الأمم بعصا من حديد، واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه، والمرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولها هناك ألفا ومائتين وستين يوماً، وحدثت حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وحارب التنين وملائكته".

 


(1) قصة الحضارة (14/ 368).

أما بطرس فتروي له رسالة (أعمال الرسل) هذه المعجزة: "صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة، فجاع كثيراً واشتهى أن يأكل، وبينما هم يهيئون له، وقعت عليه غيبة فرأى السماء مفتوحة، وإناء نازلاً عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف، ومدلاة على الأرض، وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء" (1).

أما في العصور اللاحقة فقد اتسع نطاق المعجزات حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وكان باستطاعته أن يترقى في منصبه بالقيام بأي عمل تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية، مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، وإذا كان التاريخ يذكر فزع الامبراطور (شارلمان) وحاشيته من الساعة التي أهداها إليه الرشيد ظانين أن بها قوى خفية من الجن والشياطين، فما بالك بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!

ونظراً لكثرة الشواهد التاريخية على ذلك فسنتجاوز القرون الوسطى إلى العصر الحديث حيث نلمح الكثير من الخرافات الكنسية لا تزال تمارس نشاطها على أتباع الكنيسة في العالم الغربي ذاته، يقول فريزر: "معظم الفلاحين في فرنسا لا يزالون يعتقدون أن القسيس يملك على العناصر قوة خفية لا تقاوم، وأنه حين يتلو البعض الصلوات المعينة بالذات التي لا يعرفها سواه والتي لا يحق لغيره أن يرتلها، فإنه يستطيع في حالة الخطر الداهم أن يبطل لفترة معينة فعل القوانين الأبدية للعالم الفيزيقي أو حتى يقلبها تماما".


(1) صح: (10).

وفي مناطق أخرى يعتقد الناس أن القسيس يملك القدرة على تشتيت العواصف وإن لم يكن لكل القساوسة مثل هذه الملكة، ولذا فانه حين يتغير راعي الكنيسة في بعض تلك القرى يبدى أتباع الأبرشية كثيراً من التلهف لمعرفة ما إذا كان الراعى الجديد يتمتع بهذه السلطة كما يسمونها، وعلى ذلك فمجرد أن تظهر أدنى بادرة بهبوب إحدى العواصف الشديدة؛ فإنهم يخضعونه للاختبار، فيطلبون إليه القيام ببعض الشعائر والتراتيل ضد الغيوم المتكاثفة، فإذا جاءت النتائج محققة لآمالهم ضمن الراعي الجديد لنفسه عطف أتباع الكنيسة واحترامهم (1) وإلا فالعكس بالعكس.

وهناك قداس خاص يستعمله القساوسة في الأعمال الانتقامية يتحدث عنه فريزر بقوله: "لا يقام هذا القداس إلا في كنيسة متهدمة أو مهجورة، حيث تنعق البوم وتمرح الخفافيش وقت الغسق، وتأوي إليها جماعات الغجر في الليل، وحيث تقبع الضفادع البرية تحت مذبحها المدنس، فهناك يأتي ذلك القسيس الشرير بالليل ومعه عشيقته الفاجرة الخليعة، وحين ترسل الساعة أول دقاتها معلنة الحادية عشر يبدأ يُهَمْهِم في تلاوة القداس ابتداءً من آخره إلى أوله بحيث يفرغ منه حين تبدأ دقات الساعة تعلن منتصف الليل، وتقوم عشيقته بمساعدته في ذلك، أما القربان الذي يباركه فلابد أن يكون أسود اللون كما أنه لا يتناول النبيذ، ولكنه يشرب بدلاً منه بعض الماء من بئر سبق أن ألقيت فيها جثة طفل مات قبل تعميده، ثم يرسم علامة الصليب، ولكن على الأرض وبقدمه اليسرى، ويقوم بأداء كثير من الأعمال الأخرى التي لا يستطيع


(1) الغصن الذهبى: (226).

أي مسيحي أن يراها دون أن يصيبه العمى والصمم والبكم بقية حياته" (1).

وفي سنة (1893م) حدثت في جزيرة صقلية واقعة تصور الموضوع أبلغ تصوير، فقد كانت الجزيرة تمر بمحنة رهيبة بسبب الجفاف، وكان الجدب قد استمر ستة أشهر متصلة وتناقصت كميات الطعام بسرعة وانتاب الناس ذعر شديد، فجربوا كل الطرق المعترف بها للحصول على المطر، خرجت جموعهم من منازلهم، وأحاطوا بالصور والتماثيل المقدسة، يتوسلون إليها بترتيل الصلوات وإضاءة الشموع في الكنائس طيلة الليل والنهار، وعلقوا على الأشجار سعف النخيل الذي سبق لهم أن باركوه في " أحد السعف" (2) ونثروا في الحقول (الكناسة المقدسة) وهى التراب الذي كنسوه من الكنائس في ذلك اليوم فلم يجد ذلك شيئاً، وحملوا الصلبان على أكتافهم، وساروا حفاة الأقدام عراة الرءوس وجلد بعضهم بعضاً بالسياط ولكن دون جدوى.

وأخيراً لجئوا إلى القديسين، وتجمعوا حول القديس فرانسيس الذي اعتادوا حسب اعتقادهم أن ينالوا المطر ببركته، فأقاموا له الصلوات والترانيم والزينات، لكن جهودهم كلها ذهبت هباء، فنبذوا معظم القديسين حتى إنهم ألقوا بالقديس يوسف في إحدى الحدائق ليجرب بنفسه الحال التي وصل إليها الناس، وأقسموا أن يتركوه هناك في الشمس حتى يأتيهم بالمطر، وأداروا وجوه بعض القديسين إلى الحائط كما يفعل المدرس بالتلاميذ الأشقياء، وجردوا بعضهم من ملابسهم الفاخرة وقذفوهم بأقذع السباب والشتائم، أما القديس ميخائيل رئيس الملائكة -حسب عقيدتهم- فقد نزعوا أجنحته الذهبية ومزقوها


(1) الغصن الذهبي: (227).
(2) يوم مقدس عندهم.

ووضعوا مكانها أجنحة ورقية، وفي بعض المناطق قيد الناس قس بلدتهم وتركوه عارياً، وأخذوا يهتفون إليه بغضب (المطر أو حبل المشنقة) (1).

ومن الخرافات التي ما تزال عالقة بأذهان النصارى إلى اليوم خرافة (تجلَّي العذراء) التي يثيرونها حيناً بعد آخر (2) كما أن هناك عادت غربية شائعة اليوم أصلها خرافات كنسية، فمثلاً التشاؤم من الرقم (13) أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها حتى أنه عند ترقيم المنازل في المدن الغربية يرفض بعضهم وضع هذا الرقم على منزله ويضع مكانه (12ب).

وهذا غير الخرافات الكنسية عن الكون والحياة التي سنعرض لها عند موضوع (علمانية العلم)، وحينئذٍ سيتضح أثر هذه الخرافات بجملتها في إثارة الصراع الذي دار طويلاً بين الدين والعلم (أو العقل والوحي).

[صكوك الغفران]

توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيلاً، وحماقة يترفع عن ارتكابها من لديه مسكة من عقل أو ذرة من إيمان، تلك هي توزيع الجنة وعرضها للبيع في مزاد علني وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة، ونجاته من عذاب المطهر، فإذا ما تسلم المشترى صك غفرانه ودسه في محفظته فقد أبيح له كل محظور وحل له كل حرام: ماذا عليه لو زنى وسرق وقتل، بل لو جدف وألحد وكفر ما دام الصك رهن يده؟ أليس المسيح هو الذي منحه إياه والمسيح هو الذي يدين ويحاسب؟ أتراه متناقضاً إلى هذا الحد: يمنح الناس المغفرة ثم يحاسبهم على الذنوب؟

وإذ قد اطمأن المشترى إلى هذه النتيجة فقد بقي لديه ما ينغص الفرحة، ويكدر الغبطة، ذلك أن والديه وأقرباءه قد ماتوا وليس معهم صكوك.

لكن الكنيسة الأم الرءوم لكل المسيحيين شملت الكل برحمتها، وأتمت الفرحة لزبونها فأباحت له أن يشتري لمن أحب (صك غفران)، وما عليه بعد دفع الثمن إلا كتابة اسم المغفور له في الخانة المخصصة فيغادر المطهر فوراً ويستقر في ظلال النعيم مع المسيح والقديسين.

أما الشقي النكد عديم الحظ، فهو ذلك القن الذي لم يستطع أن يحصل من سيده الإقطاعي (المغفور له) على ما يشتري به صكاً من قداسة الآباء أو المريض المقعد الذي لا يجد عملاً يخول له الحصول على المغفرة، أو الفقير المعدم الذي يعجز عن استدانة دينارين يشترى بها جنات النعيم، هؤلاء يظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغت تقواهم، وعظم حبهم للمسيح وتعلقهم بالعذراء.

تلك هي المهزلة أو جانب منها، فمن أين جاءت بها الكنيسة إذا كانت الأناجيل والرسائل خالية مما يدعمها أو يدل عليها؟

إن الأساس الذي يبدو أن هذه البدعة انبثقت عنه هو الفكرة الوثنية التي ادعاها رجال الدين (فكرة القداسة)، وعن تقديس رجال الدين نشأت فكرة الاستشفاع بهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة والتقرب إلى الله زلفى، فنتج عن ذلك أن تقرر المبدأ الذي أشرنا إليه سلفاً (مبدأ التوسط بين الله والخلق)، حتى أصبح حقاً عادياً لأي رجل دين، بل أصبحت وظيفة رجل الدين أينما كان هي التوسط بين الله وخلقه، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد، وبمراسم وطقوس الزواج والموت ويتقبل الاعترافات من المذنبين.

وفي الوقت الذي كان رجل الدين فيه يتقبل الاعتراف لم يكن ليدعي حق المغفرة من نفسه؛ لكن المسيح -بزعمه- يغفر لمن أقر بذنبه بين يدي أحد أتباع كنيسته التي أورثها سلطانه وفرض لها السيادة على العالمين.

وكان الفرد المسيحي يستطيع ضمان الملكوت مع المسيح باعتراف واحد في العمر هو اعترافه ساعة احتضاره، إذ يتم دهن جسده بالزيت المقدس، فيتطهر من كل الأرجاس والذنوب، وكان من العقوبات الصارمة التي تتخذها الكنيسة ضد مخالفيها من الشعوب أو الأفراد حرمانهم من الاعتراف الأخير والصلاة عليهم؛ فلا يشك مسيحي أنهم ذهبوا إلى الجحيم بسبب ذلك.

واستمر الحال على ذلك فترات طويلة حتى كان مطلع القرن الثالث عشر الميلادي حيث كانت الكنيسة تجتاز مرحلة حاسمة في تاريخها، وكانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، فقررت عقد مجمع عام لبحث الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فعقد المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة (1215م) ونجح هذا المجمع في إقرار مسألتين كان لهما أثر بالغ على المسيحية في القرون التالية هما:

مسألة الاستحالة، وقد مرت قريباً (العشاء الرباني).

 


(1) الغصن الذهبي: (280 - 282).
(2) انظر: قذائف الحق للشيخ الغزالى: (48) فما بعدها.

مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمذنبين، وذلك بإصدار القرار التالي:

3 - "إن يسوع المسيح لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديماً والمثبتة في الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل" (1).

هذا وقد فرض المجمع على كل المسيحيين أن يعترفوا أمام قسيس الأبرشية مرة كل عام؛ لكي يستطيعوا الحصول على الغفران (2) وتنفيذاً لذلك أخذ الناس يتوافدون على الأبرشيات طلباً للمغفرة، ويقدمون للقساوسة الهدايا والصدقات، فارتفع مركز الكنيسة معنويا ومادياً.

وبعد فترة من الزمن أخذ هذا التوافد في الفتور وتقاعس كثيرون عن الاعتراف، وفي الوقت نفسه ازداد إلحاح الكنيسة على تثبيت مركزها وتعبئة خزائنها فقررت اتخاذ وسيلة ناجحة لضمان استمرار ذلك، فهداها تفكيرها إلى كتابة الغفرانات في صكوك تباع على الملأ وتنص على غفران أبدي بحيث تكون حافزاً قوياً على دفع المبلغ المالي الذي تقرره الكنيسة أو القيام بالخدمات التي ترغب تنفيذها وهذا نص الصك:


(1) محاضرات في النصرانية: (194).
(2) تاريخ العالم: (5/ 502).

(ربنا يسوع يرحمك يا ... (يكتب اسم الذي سيغفر له) ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة، باسم الأب والابن والروح القدس) (1).

بقي أن نلفت النظر إلى حقيقة الوضع الذي كانت عليه الكنيسة، والظروف التي ألجأتها لمثل هذه التصرفات، ففي هذه المرحلة من تاريخ الكنيسة كانت تواجه ألد وأخطر أعدائها (المسلمين)، وكانت الحروب الصليبية قد استعر أوارها، وبدأت تلوح علامات الهزيمة للصليبيين، وبلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوروبيين مبلغاً كبيراً، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم وعداً قاطعاً، ولم يروا للمسيح والملائكة والقديسيين أثراً في معاركهم، بل على العكس تخيلوا أنهم يقفون ضدهم تماماً، وبذلك اهتز موقف الكنيسة، وأيقنت أن وعودها المعسولة بالنصر، وقراراتها الشفوية بالمغفرة للمشتركين في الحرب لم تعد تؤدي مفعولاً مؤثراً،


(1) المسيحية: (214). ومثله في محاضرات النصرانية.

فقررت تجسيد هذه الأماني في وثيقة خطية محسوسة يحملها المقاتل، ويندفع للاشتراك في الحملة الصليبية، وهو على ثقة وعزم، وتنفيذاً لذلك برز إلى الوجود مهزلة جديدة هي (صكوك الغفران)، وكانت كما يقول ول ديورانت: توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين (1).

وعليه فلم يكن ليحظى بالحصول على صك غفران إلا أحد اثنين:

1 - رجل ذو مال يشتري الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي.

2 - رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.

3 - وغير هذين رجل ثالث يعتصر قلبه أسى لأنه لا يملك ثمن الصك أو لا يستطيع أن يشترك في الحرب، إما لعجزه وإما لكونه غير مستعد للموت من أجل الكنيسة؛ لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.

وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد وإن كانت عند الله شر مقاماً وأخسر صفقة.

نتائج هذه البدعة:

إن بدعة كهذه لن تمر في التاريخ مرور الكرام، بل هي جديرة بأن تحدث أصداءً واسعةً الانتشار، وتثير ردود فعل بعيدة الآثار، لاسيما وقد ظهرت في الفترة التي اتصلت فيها أوروبا بنور الإسلام، وأخذت العقول النائمة تتلمس مكانها في الحياة، وبدأت الفطر تستيقظ بعد طول رقاد.

كانت هذه البدعة أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، لكنها ارتدت عليها بعد ذلك شراً مستطيراً ووباءً قاتلاً.

فمن ناحية المكانة الدينية ارتفعت منزلة رجال الدين في نظر السذج والجهلة بعد أن منحهم المسيح هذه الموهبة العظيمة، وخيل إليهم أنه ما دام أعطاهم حق المغفرة للناس فبديهي أنه غفر لهم، بل قدسهم ووهبهم من روحه كما يدعون، وبذلك تجب طاعتهم والتزلف إليهم وتملقهم على من أراد التقرب إلى المسيح والحصول على رضاه.

وإذ قد آمن الناس -ملوكاً وصعاليك- بحق الغفران، فقد سهل عليهم أن يؤمنوا بمقابلة حق الحرمان، ولم يزدادوا طمعاً في ذاك إلا وازدادوا رهبة لهذا.

ومن الوجهة المادية أثرت الكنيسة من عملية بيع الصكوك ثراء فاحشاً، حتى أصبحت بحق أغنى طبقات المجتمع الأوروبي آنذاك بما تكدس في خزائنها من أموال وتدفق عليها من عطايا وهبات.

 


(1) قصة الحضارة: (15/ 66).

ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة، وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران، وبالمقابل انخفضت سلطة الملوك الذين كانوا جنوداً للكنيسة بأنفسهم في الحروب الصليبية، إلا من تردد منهم أو حاول التملص من قبضتها، فعوقب بالحرمان كما حدث لفريدريك الثاني (1).

كل هذه الثمار جنتها الكنيسة من جراء هذه المهزلة المبتدعة، وكان نتائجها الطغيان الأعمى والغطرسة الباغية، ولم لا تطغى وتستبد وقد عبدها الناس من دون الله وقدسوا تعاليمها دون تعاليم المسيح؟! ولم لا تغتر وتتجبر وهى تملك المجتمع من ناصيته وتتحكم في الضمائر وتسيطر على الأرواح كما تشاء، وترفع من أحبت إلى أعلى عليين، وتقذف من أبغضت في دركات الجحيم، وتنصب هذا قديساً وذاك شيطاناً مريداً؟!

تلك هي الصورة الإيجابية التي خلفتها هذه المهزلة للكنيسة، وعليها اقتصرت نظرة آبائها، فدفعهم الغرور إلى المضي قدماً، وازدادوا نهماً غير عابئين بالنتائج ولا حافلين بالعواقب.

لكن سنة الله لا تحابي أحداً ولا تجامله، فكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، والزبد يذهب جفاءً، وهكذا كانت صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة وبدايةً لنهايتها، وكانت خسارتها بها عظيمة عظم جنايتها.

فمن الوجهة الاقتصادية نرى الإقبال الهائل على شراء الصكوك أعقبه انكماش وفتور كالذي يصيب أية بدعة أو ظاهرة جديدة بعد فترة من ظهورها فنضب الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعاً وشراهة اضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة، فكان الآباء والقساوسة يتجولون في الإقطاعيات ويبيعونها بأسعار مخفضة ثم زهيدة، وكلما ازداد العرض قل الطلب، وتولد لدى الناس شعور داخلي بأن شراءها إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو على الأقل فيما ليس مضمون العاقبة.

وفي الوقت نفسه داهمت المسرح المالي فئة جديدة من الناس أخذت تظهر بوضوح منافسة للطبقتين البارزتين آنذاك "النبلاء" و"رجال الدين" تلك هي الطبقة البورجوازية، وحصلت تحولات أخرى كانت بمثابة المؤشر لنهاية النظام الإقطاعي بجملته.

ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئاً فشيئاً بعد زمان من ظهور هذه المهزلة وابتداء الناس يعتقدون أنهم كانوا مخطئين في ذلك الاندفاع الأعمى والتسليم الأبله، وعمَّق ذلك الاعتقاد تنافس القساوسة على بيع الصكوك مقروناً به سيرتهم السيئة وجورهم الفاضح، وعجب الناس إذ رأوا كثيراً من الأشرار والطغاة والمجرمين يتبوءون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذاناً بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.

ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي: كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكاماً مع الأيام، وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع لرجال الدين، يمنون عليهم بالعفو إن رضوا، ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافساً قوياً لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك، فكان يسيطر على الجميع شعور موحد بالعداوة لها والحقد عليها.

لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها -لا سيما صكوك الغفران- تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة، وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين -ولوثر خاصة- وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة ونتائج قرارات حرمانها.

ومن ناحية أخرى رأى الأوروبيون -حكاماً ومحكومين- الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي، حيث لا كهنوت ولا طغيان ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم، وبهرت عيونهم لدرجة أن صكوك الغفران ووعود الكنيسة بالملكوت أصبحت بالنسبة لهم هراءً لا طائل تحته وعبثاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.

تلك صورة مجملة لبعض النتائج التي ترتبت على بدعة صكوك الغفران وملابساتها بالنسبة للكنيسة خاصة، أما بالنسبة للوضع الاجتماعي والديني بصفة عامة، فقد كانت صكوك الغفران سبباً مباشراً في انبعاث الشرارة الأولى التي اندلعت نيرانها فيما بعد، فالتهمت الأوضاع الاجتماعية وأودت بالتعاليم الكنسية والتقاليد الدينية كافة، ولا يشك أي منصف في أن للإسلام تأثيراً مباشراً على الثورة العارمة ضد الكنيسة، وإن كان دعاتها ومؤيدوها يكنون له أشد العداوة والحقد، على أن ما يهمنا الآن هو أن مهزلة صكوك الغفران قد ساعدت بصفة مباشرة على هدم التعاليم الدينية من أساسها، والاستهتار بكل المعتقدات والأصول الإيمانية بجملتها، وأسهمت في انتشار فكرة إنكار الآخرة والجنة والنار التي لا يقوم دين بغيرها.

وما زالت إلى الآن شاهداً قوياً ومستنداً قاطعاً لكل أعداء الدين في الغرب، حيث نشأ عن الكفر برجل الدين وتصرفاته كفر بالدين ذاته وما يتصل به من سلوك وخلق.

وكان الخيار الصعب الذي وضعه أعداء الدين -لا سيما اليهود- أمام الإنسان الأوروبي هو: إما أن يؤمن بصكوك الغفران، فيحكم على نفسه تلقائياً بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكامله، إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة.

لذلك نجد الفيلسوف اليهودي الوجودي " جان بول سارتر" يجسد هذا الخيار في إحدى رواياته المشهورة " الشيطان والرحمن" (2) هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر صكوك غفران، بل تستحي من ذكرها، وتخجل كلما دار الحديث عنها.

 


(1) انظر: حول سيرته: كتاب الزنديق الأعظم، وفصل أعجوبة العام، (ج:3)، ويلز. وسيأتي الحديث عنه (137).

(2) ترجمها للعربية: سامي الجندي.

  • الثلاثاء AM 05:50
    2022-07-12
  • 1141
Powered by: GateGold