المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413677
يتصفح الموقع حاليا : 221

البحث

البحث

عرض المادة

إثبات لوازم الصفة مع نفي حقيقتها تناقض

[فرع في إبطال شبهتهما في هذا الباب]

يقال للأشعريّيْن: سبحان الله!! وهل كان صراع السلف مع الجهمية والمعتزلة إلا على إثبات حقائق صفات الله تعالى، فإن السلف كانوا يثبتون صفاته تعالى على الحقيقة، ويأبى ذلك الجهمية والمعتزلة بدعوى التشبيه، وإلا فلو كان الجميع متفقين على كونها من مجازات الكلام لما صار بين السلف والمعطلة خصومة، ولدامت بينهما المودة والألفة.

ولأجل هذا أكد السلف هذا الأمر فأثبتوا صفات الله تعالى على الحقيقة، ولم يعبأوا بتشنيع الجهمية والمعتزلة، بل حذروا من أن يُخدع المسلم بذلك، وألفوا الكتب والرسائل رداً عليهم وإبطالاً لدعواهم.

ومن ظن أن حقيقة الصفة الثابتة لله هي حقيقة صفة المخلوق فقد زل وضل، فإن هذا لا يقره عقل ولا نقل ولا تقتضيه لغة، إذ الصفة تابعة للموصوف، فإذا كان لله تعالى ذات حقيقة، وللمخلوق ذات حقيقة، لم يلزم أن تكون حقيقة ذات الله تعالى هي حقيقة ذات المخلوق، كما لا يلزم من حقيقة وجود الله أن تكون هي حقيقة وجود المخلوق. فالله ليس كمثله شيء، وليس له سمي، ولا كفؤ، ولا نظير. والصفات فرع عن الذات، فإذا تباينت الذوات تباينت الصفات، فلا يلزم من إثبات صفات الله تعالى على الحقيقة، أن تكون هي حقيقة صفة المخلوق.

قال ابن الزاغوني في كتابه "الإيضاح": (فإن قالوا: إن إثبات اليد الحقيقة التي هي صفة لله تعالى ممتنع لعارض يمنع، فليس بصحيح، من جهة أن الباري تعالى ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات، فإن الباري تعالى في نفسه ذات ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا ماهية له تعرف وتدرك وتثبت في شاهد العقل، ولا ورد ذكرها في نقل، وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية، وإذا كان الكل مرتفعاً، والمثل بذلك ممتنعاً: فالنفار من قولنا يد مع هذه الحال كالنفار من قولنا ذات، ومهما دفعوا به إثبات ذات مما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد، لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات، وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع للإقرار بالذات على ما هي عليه مما ذكرنا فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم عن نفي يد هي صفة تناسب الذات فيما ثبت لها من ذلك، وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه) (1) اهـ.

وقال الذهبي: (وما أحسن قول نعيم بن حماد الذي سمعناه بأصح إسناد عن محمد ابن إسماعيل الترمذي أنه سمعه


(1) الإيضاح في أصول الدين (ص286 - 287) وقد نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (1/ 42).

يقول: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً".

قلت: أراد أن الصفات تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف تعالى {ليس كمثله شيء} في ذاته المقدسة، فكذلك صفاته لا مثل لها، إذ لا فرق بين القول في الذات والقول في الصفات، وهذا هو مذهب السلف) (1) اهـ.

وقال العلامة الألوسي: (قيل: هو مراد مالك وغيره من قولهم: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" أي: الاستواء معلوم المعنى، ووجه نسبته إلى الحق تعالى المجامع للتنزيه مجهول، لأن الصفات تنسب إلى كل ذات بما يليق بتلك الذات، وذات الحق ليس كمثله شيء، فنسبة الصفات المتشابهة إليه تعالى ليست كنسبتها إلى غيره عز وجل، لأن كنه ذات الحق ليس من مدركات العقول لتكون صفته من مدركاتها) (2) اهـ.

ومن المعلوم أن حقائق صفات المخلوقات متباينة مع اشتراكهم في الخلق، فكيف بالتباين بين الخالق والمخلوق.

فإذا قيل: يد الإنسان، ويد النملة، لم يلزم لغة أن تكون حقيقة يد الإنسان هي حقيقة يد النملة، بل لو قيل يد الباب، ويد الليل، لم يلزم تماثلهما في الحقائق. ومثل ذلك رأس الإنسان، ورأس الجبل، ورأس الأمر، ووجه الإنسان، ووجه الماء، ووجه الأمر، وهكذا، فكيف لا يلزم من إثبات حقائق الصفات للمخلوقات تماثلها، ويلزم في حق الله تعالى، سبحانك هذا بهتان عظيم.

ومن قال أن صفة اليد والوجه مثلاً عند الإطلاق لا يُفهم منها إلا وجه المخلوق، أو الجارحة، فإن هذا يأباه العقل والشرع واللغة، وهو مبني على دعوى باطلة وهي تجريد اللفظ عن القرائن بالكلية، والنطق به وحده، وحينئذ فيتبادر منه الحقيقة عند التجرد، وهذا هو الذي أوقع القوم فيما وقعوا فيه، فإن اللفظ بدون القيد والتركيب بمنزلة الأصوات التي يُنعق بها، لا تفيد فائدة، وهذه الصفات لا توجد مطلقة مجردة، بل لا توجد إلى مضافة لموصوف، فليست هناك يد مطلقة، ولا وجه مطلق، وإنما يُتصور هذا في الأذهان، وليس له حقيقة في الأعيان، فليس في الوجود إلا يد مضافة إلى ذي يد، ووجه مضاف إلى ذي وجه، فإذا أضيفت اليد أو الوجه علم معناها وحقيقتها.

فإذا قال القائل: ضربت الخادم بيدي، فُهم منه يد الإنسان الجارحة، وإذا قيل: خطت الثوب بيدي، فُهم من اليد آلة الخياطة، وإذا قيل: لفلان يد عندي لم أجزه بها، فُهم منها النعمة والإحسان. فهذه "يدٌ" اختلفت معانيها بحسب تركيبها وإضافتها، وفُهم من كل تركيب ما لم يُفهم في التركيب الآخر.

ومما يبطل هذه الدعوى أن يُقال: لو كانت صفات الله مجازاً لا حقيقة لها، لكان صدق نفيها أصح من صدق إطلاقها، ألا ترى أن صحة نفي اسم الأسد عن الرجل الشجاع أظهر وأصدق من إطلاق ذلك الاسم، لكون المجاز يصح نفيه. وبناءاً عليه يكون قول القائل: ليس لله يد، ولا وجه، ولا ينزل، ولا يضحك، ولا يرضى، ولا يجيء، أصح من قوله: لله يد، ووجه، وأنه ينزل، ويضحك، ويرضى، ويجيء. ولا ريب أن هذا عين المحادة لله تعالى، بل هو تكذيب صريح لله ولرسوله. تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

وأما من فرق بين صفة وصفة، فادعى في بعض الصفات أنها حقيقة، وفي الأخرى أنها مجاز، فتحكم محض، فإن هناك ألفاظاً تطلق على الخالق والمخلوق: أفعالها، ومصادرها، وأسماء الفاعلين، والصفات المشتقة منها:

فإن كانت حقائقها ما يُفهم من صفات المخلوقين وخصائصهم، - ولا ريب في انتفاء هذا في حق الله قطعاً - لزم أن تكون جمعيها مجازات في حقه لا حقيقة، فلا يوصف بشيء من صفات الكمال حقيقة، وتكون أسماؤه الحسنى كلها مجازات. وكفى بأصحاب هذه المقالة كفراً.

وإن فرق بين صفة وصفة، طولب بالطريق الذي اهتدى إليه، واستند عليه في التفريق بين النفي والإثبات؟ بالشرع أم بالعقل أم باللغة؟ فأي شرع أو عقل أو لغة يدل على أن المجيء، والاستواء، والضحك، والرضى، والوجه، واليدين، والعينين، والنزول، ونحوها من الصفات، حقيقة فيما يُفهم من خصائص المخلوقين، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والحياة، حقيقة فيما لا يختص به المخلوق!!!

وسيأتي مزيد من البيان في الفصل الخامس.

[إثبات لوازم الصفة مع نفي حقيقتها تناقض]

ومن غرائب الأشعريّيْن أنهما ينفيان حقيقة الصفة، ويثبتان لوازمها، وهذا لعمر الله من الممتنعات، إذ يمتنع ثبوت لازم الحقيقة مع انتفائها، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها، فإن الإحسان والثواب من لوازم الرحمة، فثبوت إرادة الثواب والإحسان لله مع انتفاء حقيقة الرحمة ممتنع، فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها ولذلك قال تعالى

{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} التوبة 21.

ففرق سبحانه بين رحمته ورضوانه وثوابه المنفصل، فالرحمة والرضوان صفته، والجنة ثوابه، وهذا يبطل قول الأشعريّيْن، بانتفاء صفة الرحمة لله، وإثبات لازمها من إرادة الثواب.

قال عثمان الدارمي في رده على المريسي: (وأما قولك: إن ضحكه رضاه ورحمته، فقد صدقت في بعض، لأنه لا يضحك إلى أحد إلا عن رضى، فيجتمع منه الضحك والرضا. ولا يصرفه إلا عن عدو، وأنت تنفي الضحك عن الله تعالى، وتثبت له الرضا وحده.) (3) اهـ.

ومثل ذلك لفظ اللعنة، والغضب، والمقت، هي أمور مستلزمة للعقوبة، فإذا انتفت حقيقتها انتفى لازمها. فتدبر!!

ولعل في الفصول القادمة تقرير لهذه المسائل، وتأصيل لها من الكتاب والسنة والإجماع، والعقل.


(1) سير أعلام النبلاء (13/ 299 - 300).
(2) غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب (ص؟؟؟).

(3) الرد على المريسي (2/ 773).

 

  • الجمعة AM 05:40
    2022-05-27
  • 1052
Powered by: GateGold