المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413469
يتصفح الموقع حاليا : 259

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629126511223.jpg

الأحوال الصوفية وثمرة الحرية

يمكن القول أن المقامات الصوفية السابقة هى بمثابة الإعداد النفسى والروحى الذى يهيئ العبد من خلال المجاهدات والرياضات لكى تصح بدايته وتنصقل إرادته ، وهذه المهمة تعد وصفا للمبتدئين والمريدين عند أوائل الصوفية ، وللسراج الطوسى عبارة يمكن أن تلخص تلك المرحلة حثن يوضح تدرج المبتدئ والمريد فى طريقهما إلى الانقطاع إلى الله والتحرر مما سواه حيث يقول :

   ( المبتدئ هو الذى يبتدئ بقوة العزم فى سلوك طريق المنقطعين   إلى الله ويتكلف لآداب ذلك ، ويتأهب بالخدمة والقبول من     الذى يعرف الحال الذى ابتدأ به وأشرف عليه من بدايته إلى نهايته  والمريد هو الذى صح له الابتداء ودخل فى جماعة جملة المنقطعين إلى الله تعالى وشهدت له قلوب الصادقين بصحة الإرادة ) (1) .

   وهو فى كل مرحلة يقطعها تنفك عنه القيود شيئا فشيئا حتى تتلاشى بوصوله إلى عبودية الله أو الحرية التى هى آخر المقامات ، وأيا كان اختلافهم فى ترتيب المقامات ، فإن هذه المرحلة تعتمد على الجهود ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 47 ، 48 .

الكسبية التى يمارسها العبد ، فإذا استوفى العبد شرائطها وأحكامها يصبح مستحقا لاجتناء ثمارها ، فكما يشعر العابد بحلاوة الطاعة إذا   قام بما فرض عليه من عبادات ، وكما يشعر الإنسان براحة الضمير    إذا نهض بعمل من أعمال الخير ، كذلك يستشعر المزيد إذا خلصت إرادته بذوق ما يجد من المعانى الروحية السامية والتى تتمثل فى حلاوة الإيمان وثماره .

* الثمرة الأولــى للحرية :

   وأول هذه الثمار عند أوائل الصوفية ثمرة الحب يقول المحاسبى :

 ( المحبة ميلك إلى الشئ بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك فى حبه ) (1) 

    وقال محمد بن الفضل (2) : ( المحبة سقوط كل محبة من القلب     إلا محبة الحبيـب ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 2 ص 618 .

2- هو أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس بن حفص البلخى ، سكن سمرقند وأصله من بلخ ، وهو من كبار المشايخ بخراسان ، صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ توفى سنة 319 هـ انظر شذرات الذهب حـ 2 ص 282 ، المنتظم حـ 6 ص 239 ، حلية الأولياء حـ 10 ص232 ، معجم البلدان حـ ص 713 .

3- انظر الرسالة حـ 2 ص 617 .

      وللحب أحوال تبدأ بعد تمام الرضا ، أو قبيل أن يتم الرضا بوقت لأن بداية الرضا عندهم من المقامات ونهايته من الأحوال كما سبق .

     فإذا اجتاز العبد منطقة الرضا ، وثبت حبه على أساس يلتقى      فيه الصدق والتجرد عما سوى الله أصبح جديرا بأن تنهال عليه   أحوال الحب .

     ومن لطف الله أن كل حال يؤدى بالعبد إلى الابتلاء يعقبه حال من الرخاء وكشف البلاء فبعد الهجر وصل وبعد القبض بسط وبعد الهيبة أنس وبعد الخـوف رجاء وبعد الفقر وجد وبعد البعد قرب وهكـذا مجموعــة مـن الثنائيـات تتسمى بحسب التغيرات النفسية التى تعقبها وتتفاوت فيها المسميـات وتختلـف فيها أنظار العابدين فكل يعبر عن حاله وعن إحساسه وشعوره ، وكل ذلك يرجع إلى أن الله يقلـب القلـوب فى جهتيـن بيـن إصبعيـن من أصابعه (1) .

     وفى الأحوال تتجدد مذاقات العارفين لحلاوة الإيمان ، فلكل   مذاق طعم يزيد على سابقه شيهة وحلاوة .

  • ويمكن أن نصل إلى ترتيب الأحوال عند أوائــل الصوفية بصــورة

ــــــــــــــــــــــــ

1- عوارف المعارف ص 327 ، لطائف الإشارات للقشيرى ص 109 .

2- الرسالة  حـ 1 ص 112 .

 

تقريبية إلى حد ما من خلال ما يأتى :

  • أولا : الخــوف والرجــاء

   ويعتبـرهما القشيـرى من أحوال البداية أى من أحوال الدرجة الأولى فى مجال الحب إذ يخاف العبد من العقوبة ويرجوا من الله المثوبة (1) ويترجم يحى بن معاذ هذا الشعور والإحساس بقوله مخاطبا ربه :

    ( يكاد رجائى لك مع الذنوب يغلب رجائى لك مع الأعمال   لأنى أجدنى أعتمد فى الأعمال على الإخلاص ، وكيف أحفظه وأنا بالآفة معروف وأجدنى فى الذنـــوب أعتمــد على عفــوك ، وكيف لا تغفــرها وأنــت بالجــود موصوف ) (2) .

      والخوف والرجاء هما كجناحى الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم الطيران ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبنا صار الطائر فى حد الموت (3) .

   وعندما ينتقل العبد من درجة إلى درجة أعلى فى حال الحب يأخذ الخوف والرجاء معانى جديدة عندهم تتفق وهذا الانتقال ، وفى ذلك يقول الواسطى : ( إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضيلة ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق  حـ 1 ص 110 .

2- السابق حـ 1 ص 358 .

3- السابق حـ 1 ص 357 .

    لرجاء أو لخوف ) (1) وذلك لأنه ينتقل إلى حال أعلى من حالى الخوف والرجاء .

  • ثانيا : القبـــض والبســـط

   وهما حالان بعد ترقى العبد عن حال الخوف والرجاء ، فالقبض للعارف بمنزلة الخوف للمريد والبسط للعــارف بمــنزلة الرجاء (2) .

    ومـن اجتهادهم فى الفصــل بيـن القبض والخوف والبسط والرجاء   أن الخوف إنما يكون من شئ فى المستقبل إما أن يخاف من فوت محبوب أو هجوم محذور وكذلك الرجاء إنما يكون بتأميل محبوب فى المستقبل أو بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه فى المريد المستأنف ، أما القبض فلمعنى حاصل فى الوقت وكذلك البسط ، فصاحب الخوف والرجاء تعلق قلبه فى حالتيه بآجله وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عليه عاجله (3) .

     ويذكر الجنيد بن محمد أن القبض والبسط بمعنى الخوف والرجاء ولكن الاختلاف فى تعلقهما بالآجل أو العاجل (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 349 .                

2- السابق حـ 1 ص 209 .

3- السابق حـ 1 ص 209 واللمع ص 419 .

4- اللمع ص 420 .

     وتتفاوت أوصافهم فى القبض والبسط حسب تفاوتهم فى أحوالهم فمن وارد يوجب قبضا ولكن يبقى مساغا للأشياء الأُخر لأنه غير مستوف ، ومن مقبوض لا مساغ لغير وارد فيه لأنه مأخوذ عنه   بالكلية بوادره  .

   وذلك كمـا قـال بعضـهم : ( أنـــا ردم )  بمعنـى مردوم أى لا مساغ فــيه (1) .

    وكذلك المبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شئ بحال من الأحوال (2) .

  • ثالثا : الهيبـــــة والأنــــس

     وهما درجتان فى أحوال الحب أعلى قدرا من الخوف والرجاء  ومن القبض والبسط ، فالهيبة أعلى من القبض وحق الهيبة عند   القشيرى الغيبــة ، فكـل هائب غائب ، والأنس أتم من البسط وحق الأنس صحو بحق ، فكل مستأنس صاح ، ثم يتباينون حسب تباينهم فى الشرب (3) .

    قال الجنيد : كنت أسمع السرى السقطى يقول : ( يبلغ العبد إلى ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 210 .          

2- السابق حـ 1 ص 210 .

3-  السابق حـ 1 ص 213 . 

ربه إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر ) وكان فى قلبى منه شئ حتى بان لى أن الأمر كذلك (1) .

    فالهيبة تنشأ من القبض الناشئ من الخوف لأن من خاف الله وعرف تقصيره فى حقه تعالى انقبض قلبه وبقى مشغولا بالله فتحصل له الهيبة منه ومن أمل وصوله إلى الخير بالرخاء انبسط قلبه ، وبقى مشغولا بالله فيحصل له الأنس به ، وحال الهيبة والإنس وإن جلتا ، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد ، فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغيير والتلوين (2) .

  • رابعا : التواجد والوجد والوجود

[1] - التواجــــد : يقول القشيرى : فالتواجد استدعاء الوجد بضرب

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 213  قلت : الأمر عند أوائل  الصوفية فى المقامات والأحوال مبنى على التجربة الإيمانية ووصف أدائهم للعبودية ، فأحدهم يعبر ببعض الألفاظ عن إحساس ما وجده فى الصلاة مثلا أو قيام الليل أو الذكر أو غير ذلك ، والآخر يفعل مثله كذلك ، فقد يتفقوا فى الرأى وقد يختلفوا وهكذا حتى تتشكل ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم فى الأحوال والمقامات بالقاسم المشترك عند أغلبهم ، فكلام السرى السقطى دليله فيه العقل والتجربة الإيمانية واستبيان الجنيد من كلامه ثم تصديقه إياه دليله أيضا العقل والتجربة ، وهذا الكلام قد يصح أو لا يصح لأنه رأى بشر قابل للخطأ والصواب ، أما إذا عارض الدليل الشرعى فلا .

2- السابق حـ 1 ص 214 .   

         اختيـار ، وليس لصاحبه كمال الوجــد إذ لو كان ، لكـان واجدا (1) فهو أقرب ما يكون إلى الكسيبات التى تؤدى إلى الأحوال وفى هـذا يذكر القشيرى حديثا نبويا : ( ابكـوا فإن لــم تبكــوا فتباكـوا ) (2) .

[2] - الوجــــــــــــــد :

           وهو ما يصادف القلب ويرد عليك بلا تعهد ولا كلفة ، وهو يعقب التواجد فى الدرجة (3) ويربط الدقاق بين الوارد والورد أى بين الباطن والظاهر ليثبت ارتباط مذاقات الحب بالطاعـات ، وبأن الكسبيات وسائل لاستجلاب الوهيبات  فيقول : ( من لا ورد له بظاهره ، لا وارد له فى سرائره  وكما أن ما يتكلفه العبد من معاملات ظاهـرة يوجب له حلاوة الطاعات ، فما ينازله من أحكام باطنة يوجب له المواجيـد ، فالحلاوة ثمرات  المعاملات والمواجيد نتائج المنازلات ) (4)  .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 215 وانظر اللمع ص 418 .

2- رواه ابن ماجه فى كتاب الزهد برقم (19) .

3- الرسالة حـ 1 ص 217 .

4- السابق حـ 1 ص 217 .

[3] - أما الــوجــود : فهو حالة أرقى من الوجد ، ولا يكون وجود الحق إلا بعد خمود البشرية لأنه لا يكون للبشرية بقاء عند ظهور سلطان الحقيقـة .

            وهذه الدرجات الثلاث يشبهها القشيرى بمن شهد البحر ثم ركب  البحر ثم غرق فى البحـر ، فالتواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة بين البداية والنهاية (1)  .

 

             فالعبد يغرق فى بحـار الحـب حتـى يصـل إلـى الثمـرة الثانيـة وهى محصلـة لطريقيـن :

 

         الأول : الطـريق إلى الحرية وهو طريق الجهـد والكسب    من خلال المقامات التى يدفع فيها كل محاولة لاســترقاقه .

         الثانى : طريق الحب وهو ثمرة للطريق الأول يؤثر فى      العبد من خلال الأحوال .

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 217 .

 

* شكل تلخيصى للثمرة الأولى من ثمرات الحرية  :

                             ( الثمرة  الأولى  للحرية )

 

                                    [5]      ــــــــــــ الفنـاء والبقــــــــاء

                            [4]       ـــــــــــ التواجد والوجد والوجود

                     [3]        ـــــــــــــــ الهيبــــــة والأنـــــــس

               [2]       ـــــــــــــــ القبــــــــض والبســـــــط

         [1]       ــــــــــــــ الخـــــــوف والرجــــــــاء

  ــــــــــــــــ

 [ طريق  الحب ]                     [ نهاية  الحــــب بداية  الفنـــــاء ]

 

* الثمرة الثانية للحرية : أحوال الفناء

      انتهينا إلى أن أوائل الصوفية وصلوا إلى درجة فى الحب يغرق المرء فيها فى بحار ه لوجود الإيمان بالحق  سبحانه وتعالى وفى المقابل نرى خمود البشرية وفنائها ، فالعبد قد يكون عالما بالتوحيد من خلال الاستدلال بالآثار ولا يكون واجدا له مستشعرا لحلاوته فى القلب  فوجوده الحقيقى لا يبقى للعبد معه إحساس بنفسه فضلا عن علمه به واستدلاله عليه ، فترتيب أمر الأحوال للوصول إلى المعرفة بتوحيد الله يفصح عنه القشيرى بقوله :

      وترتيب هذا الأمر قصود ثم ورود ثم شهود ثم جمود ثم خمود  وبمقدار الوجود يحصل الخمود .

      وصاحب الوجود له صحو ومحو   فحال صحوه بقاؤه بالحق  وحال محوه فناؤه بالحق ، وهاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عليه فإذا غلب عليه الصحو بالحق ، فبه يصول وبه يقــول قال صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن الحق :

        ( فبـــى يسمـــع وبـــى يبصــــر ) (1) .

   وهذا الكلام يعنى أنه بمقدار تضاؤل إحساس العبد بنفسه يكون الوجود الحق للعبد .

    وفى سبيل أن يوضح القشيرى موقف المشايخ من تدرج هذا التضاؤل شيئا فشيئا عرض لنا نماذج من الأحوال التى تتآلف كأحوال الحب من أزواج  تبدأ من الفناء وتنتهى عند التحقق .

[1] - أولهـــا : الفنــــاء والبقـاء :

   ويمكن القول أن أوائل الصوفية يميزون بين نوعين من الفناء :

   1- أحدهما يمكن اكتسابه بالمران المنظم والتدريب الروحى ويكون ذلك بالجهد المستمر فى المقامات (2) .  

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 219 .

2- السابق حـ 1 ص 218 .

2- والثانى لا ينال بمران بل يطرأ على القلب ويأتى قاهرا جبارا يفقد الإنسان إحساسه بالعالم من حوله (1) .

* فالأول : فناء فى امتثال الأمر التشريعى الذى يعرف به المحمود والمذموم من الأفعال يقول فيه القشيرى :

         ( أشار القـوم بالفناء إلى سقوط الأوصاف المذمومة وأشاروا بالبقــاء إلى قيـام الأوصاف المحمــودة ) (2) .

        ومعلوم أنه إذا لم يكن أحد القسمين كان القسم الآخر لا محالة   وهذا يتوقف أساسا على دور الإرادة نحو أى منهما ، فالوجود الذاتى للإنسان كائن من خلال اختياره الحر للتصرف المحمود فى أفعاله وبقائه دائما على الصفات الحميدة .

          فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشريعة يقال :       

           ( إنه فنى عن شهواته ، فإذا فنى عن شهواته بقى         بنيته وإخلاصه فى عبوديته ومن زهد فى دنياه بقلبه فنى       عن رغبته ، ومن فنى عن رغبته فيها   بقى بصدق إنابته  فيكون بذلك فانيا بأفعاله ، ومن عالج أخلاقه فنفى عن       قلبه الحسد والحقــد والبخـــل والشـــح والكـــبر والعجــب

ــــــــــــــــــــــ

1- التعريفات للجرجانى ص 185 .

2- الرسالة حـ 1 ص 229 .

   وأمثـال هـذا مـن رعـونات النفـس فإنه بذلك يكون فانيـا بأخـلاقـــه ) (1) .

* أما الثــــانى : فهو فناء فى الأحوال ، وفلسفته أن من شاهد الربوبية فى جربان القدر وتصاريف الأحكام فنى عن أى حسبان ، فإذا فنى عن توهم الآثار من الأغيار بقى بصفات الحق ، فلا يشهد   من الأغيار عينا ولا أثرا ولا رسما ولا طللا لانعدام أثرها عليه  وعند ذلك يقال فى عرفهم : ( إنه فنــى عـــن الخلــق وبقــى بالحــق ) (2) .

       وهذا الفناء لا يعتبر مسلكا سلبيا أو انمحاء مطلقا للذات الإنسانية فالصوفى لا يصل إلى النوع الثانى إلا إذا اجتاز النوع الأول من خلال المقامات السابقة ومن ثم نبه القشيرى إلى أن الفناء الصوفى لا يؤدى إلى الحلول أو إلى الاتحاد بالذات الإلهية ، فإذا قيل : فنى عن نفسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون ولكنه لا علم له بهم ولا به ولا إحساس ولا خبر فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة ص 229 بتصرف .

2- السابق ص 229 بتصرف ، وانظر التعرف ص 152 ، 152 .

3- السابق حـ 1 ص 330 بتصرف .

           وهذا وإن كان يحدث للبعض إذا دخل على سلطان من أهل الدنيا فيصيبه الذهول وتهيمن عليه الدهشة حتى يغفل عن مجلسه وهيئته ، وإذا سئل بعد خروجه عن شئ كان فى موقفه لما تمكن من الجواب ، فإذا كان هذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق ، فما الظن لو أنه فنى عن كل شئ فجأة إذا كاشفه شهود الحق حال الذكر والطاعة (1) .

          ويرى سهل بن عبدالله التسترى أن الفناء نوع من الاتصال الدائم بالله لإحساس العبد بمعية الله فى كل وقت أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح  : ( أن تعبــــد اللـــه كأنك تـــراه ) (2) .

        فالأقوال والأفعال يحددهما الشعور المتصل بمراقبة الله فى كل آن ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1ص 330 بتصرف .

2-الحديث أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) وأبو داود فى كتاب السنة ، باب فى القدر برقم (4695) وأخرجه الترمذى فى كتاب الإيمان ،  باب ما جاء فى وصف جبريل للنبى الإسلام والإيمان برقم (2610) والنسانئ حـ 8 ص 97 وابن ماجه فى المقدمة ، باب فى الإيمان برقم (63) وابن حبان فى كتاب الإيمان ، باب فرض الإيمان برقــم (168) وأحمد فى المسند حـ 1 ص52 .

   وانظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 311 .     

  من خلال التزامه بالعبودية على وجهها الأمثل ، يقول سهل بن     عبد الله : ( مـن لم يكـن يعبد الله كـأنـه يــراه أو علم العـبد بأن اللـه يراه فهـو غافـل ) (1) .

     ومن ثم فإن العلاقة بين الفانى وبين ربه هى علاقة مشاهدة   ومراقبة تدفعه إلى مزيد من الحرية والانضباط فى العبودية دون خلط بين العبد وربه .

     ومن صفات الفانى عند سهل بن عبد الله ، أنه عبد لا يغفل عن ذكر حبيبه آنس نفسـه بأن الله مشاهده فوقع بصره على مقامه من إيمانه حتى استمكن مقامه من القرب منه ، وأوصل أذنه بالاستماع إليه  وصير لسانه رطبا من ذكره ، وطلب مرضاته وأقام عروقه وعصبه وأعضاءه وعظامه وجميع جوارحه وحركاته وسكونه بطاعتة حتى أدركه المدد بالمزيد من ربه فصار قلبه فى رحمة الله كما قال عــز وجل :

   { إن الذيــن هم مــن خشية ربهـم مشفقــون } (2)  .

    فاستغراق العبد من ذكـر محبوبه يجعله منصرفا عن كــل لفظ يردده اللسان إلى حضور قلبى ينسى الذاكر فيه نفسه ، ويتأنس بحضوره مع

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 312 .

2- المؤمنون / 57  .                

وانظر تفسير التسترى ص 10 .

ربه فيفنى عن نفسه ببقائه مع ربه ، يقول سهل : ( حياة الـروح بالذكــر ، وحياة الذكر بالذاكر ، وحياة الذاكر بالمذكور ) (1) .

    ويلاحظ أن كلام التسترى فى الفناء يدور فى فلك المحبة واقتطاف الثمرة الأولى للحرية من جهة واتباع السنة والارتقاء بالنفس البشرية إلى مكانها الصحيح من جهة أخرى .

    فعنـد التستـرى أن مـن اقتـدى بالنبى صلى اللـه عليه وسلم لم يكـن فى قلبـه اختيـار لشئ من الأشياء سوى ما أحب الله ورسوله (2) .

     وإذا كان الفناء عند التسترى مرتبطا بالمحبة وأثره قائم عليها ، يظهر ذلك مـن أفعال المحب ، وأثر المحبة على الجوارح فى اتباع أوامر المحبوب واجتناب نواهيه بحيث تتحد رغبة المحب مع رغبة المحبوب ، فإن الفناء عند الجنيد يأخذ طريقا آخر حيث يرتبط الفناء بالتوحيد بصورة تتسق فى النهاية مع مفهوم التسترى .

     فالفناء الذى دعا إليه لا علاقة له بفنـــاء الحلول والاتحاد ، وإنما يحتفظ بالصحو ويرفض الشطح ويؤثر البقاء (3) .

    وذلك لأنه دعا فى التوحيد إلى تطابق الإرادات ، إردة العبد وفنائه

ــــــــــــــــــــــــ

1- حلية الأولياء حـ 10 ص 190 مرآة الجنان حـ 2 ص 148 .

2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 19 .

3- الرسالة حـ 1 ص 584 .

مع إرداة الله الدينية الشرعية ، وذلك يدخـل تحت إرادة الله الكونية وهو نهاية التوحيد الحقيقى الذى عبر عنه بقوله :

      ( أن يكون العبد شبحا بين يدى الله سبحانه وتعالى ، تجرى عليه تصاريف تدبيره فى مجارى أحكام قدرته ، فى لجج بحار توحيده  بالفناء عن نفسه وعن دعوى الخلق لـه ، وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته فى حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته لقيام الحق سبحانه فيما أراد منه ) (1) .

    وهو يشير بذلك إلى الحديث القدسى :

    ( فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به  ويـده التى يبطش بها ، ورجله التى يمشى عليها ) (2) .

   وإذا أضفنـا لقولــه السابــق قولــه : ( التــوحيـد هــو إفـراد القديـم عـن الحـدث ) (3) .

    علمنا بأنه إنما يريد التحرر من رق الأغيار وشهودها لاستغراق القلب فى الذكر والمداومة عليه بغية الوصول إلى نهاية العبودية  والتحقق .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 584 .

2- سبق تخريجه  .        

3- انظر ص 87 .

وقد بين ذلك باستفاضة فى كتابه الفنـاء (1) .

  ومن ثم فهو لا يعنى إسقاط الإرادة الدينية لرؤيتـة للإرادة الكونية وإنما يعنى تمام القيام بالإرادة الدينية التى يخضع من خلالها لله كما تخضع سائر الأشياء لإرادته الكونية .

     وقد دافع الكلاباذى والسراج الطوسى عن مفهوم الصوفية للفناء حتى القرن الرابع الهجرى ، وردوا أى خروج عن الحد السابق ، بل أعلنوا براءتهم ممن قال بفناء الحلول والاتحاد ، ووصفوه بالجهل   والضلال (2) .

    وتجدر الإشارة إلى حقيقة هامة فى فهم السبب الذى أدى إلى القول بالحلول أو الاتحـاد ، ففى مرحلة شرح التجربة التى خاضها الصوفى فى آدائه العبودية الله والتعبير عنها كنظرية مطعمة بالعناصر الفلسفية ، شاع الاضطراب والخلط والتعقيد مما نجم عنه أخطاء وانحرافات فكرية جمة .

    فمثلا كان يقصد بالصفات الإنسانية التى يجب أن تقتلع أو تهجــر   ويجب على الصوفى أن يتحرر منها ويفنى عنها ، تلك الصفات التى تحول بين الإنسان وكماله الروحى ، تلك الصفات التى تشد الإنسان ــــــــــــــــــــــــ

1- كتاب الفناء للجنيد ص 350  ضمن نصوص صوفية إسلامية نشرها د. كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقة وتجربة ومذهبا .

2- التعرف ص 151 واللمع ص 541 : 544 .

إلى الرغبة والشهوة والطمع ، وتجعله يخلد إلى الأرض ويتبع هواه ، وإلى هذا الحد فالهـدف قرآنى محض لا اعتراض عليه ، ولكن سرعان ما فهم المقصود بالصفات الإنسانية هنا الطبيعة البشرية ، ومن ثم فقد ادعى بعضهم أن بالإمكان الانسلاخ من الطبيعة البشرية والتحقق بالصفات الإلهية ، وقد يؤدى هذا إلى تأليه الإنسان وجعله إلها آخر (1) .

    ويفرد السراج الطوسى بابا فى ذكر من غلط فى فناء البشرية بين فيه أن الذين غلطـوا فى فناء البشرية سمعوا كلام المتحققين فى الفناء  فظنوا أنه فناء البشرية ، فوقعوا فى الوسوسة ، فمنهم من ترك الطعام والشراب وتوهم أن البشرية هى القالب والجثة إذا ضعفت زالت بشريتها ، فيجوز أن يكون موصوفا بصفــات الإلهية (2) .

     يقــول السراج : ( ولم تحس هذه الفرقة الجاهلة الضالة أن تفرق بين البشرية وأخلاق البشرية ، لأن البشرية لا تزول عن البشر    كما أن السواد لا يزول عن الأسود ولا لون البياض عن       الأبيض ، وأخلاق البشرية تتبدل وتتغير بما يرد عليها من أنوار الحقائق ، وصفات البشرية ليست هى عين البشرية ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 231 .

2- اللمع ص 543 .

3- السابق ص 543 .

     وتعد هذه النقطة من النقاط الهامة التى تفصل بين معنى إرادة الحرية وتنقية الأوصاف البشرية المذمومة بالفناء عنها وبين الجبرية وانعدام الإرادة الإنسانية أو انمحاء الطبيعـة البشريــة .

[2] - ثانيها : الجمـــــــع والفـــــــرق :

     فالجمع فى تعريف أبى على الدقاق ما سلب عنك والفرق ما نسب إليك (1) ومعنى ذلك أن ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحـوال البشرية فهـــو فرق ، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع ، فمن أشهده الحق سبحانه وتعالى أفعاله من طاعاته وانتقاء مخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة ، ومن أشهده الحق ما يوليه من أفعـال فهو عبد بشاهد الجمع ، فإثبات الخلق من باب التفرقة ، وإثبات الحـق نعت الجمع ، ولا بد للعبد من     الجمع والفرق ، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له        لا معرفة له (2) .

      ويطبق القشيرى فكرة الجمع والفرق فى تفسير قوله تعالى :      { إيــاك نعبد وإيــاك نستعيـن } حيث يقول : ( إياك نعبد إشارة إلى الفرق   وإياك نستعين إشارة إلى الجمع ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 218 .           2- السابق حـ 1 ص 222 بتصرف . 

3- لطائف الإشارات ص 226 .      

فالفرق إبراز لتوحيد العبادة على وجه الكمال ، والجمع إبراز لتوحيد الربوبية على وجه الكمال ، يقول القشيرى :

   ( فالفرق صفة العبودية والجمع نعت الربوبية ، وكل فرق لم    يكن مضمنا بجمع وكل جمع لم يكن فى صفة العبد مؤيدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة ، وإن الحق سبحانه وتعالى يكل الأغيار إلى ظنونهم فيتيهون فى أودية الحسبان ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم وذلك منه سبحانه وتعالى مكر بهم ) (1) .

       وهو يغمز الجبرية والقدرية ويدعوا إلى السلفية وإلى إثبات الحرية الإنسانية ، وتعويل المسئولية على أفعال الإنسان واعتقاد خلقها لله من جانب آخر ، وقد تقدم جواب سهل بن عبد الله لما سئل عن الجمع والفرق فقيل له :

   ما تقول فى رجل يقول : أنا مثل الباب لا أتحرك إلا أن يحركونى ؟

فقال سهل : هذا لا يقوله إلا أحد رجلين : إما رجل صديق وإما رجل زنديق (2) .

     ويذكر السراج الطوسى أن المعنى فيما قال سهل رحمه الله أن الصديق يرى قوام الأشياء بالله ويرى كل شئ من الله تعالى ويرجع فى ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 226 .

2- اللمع ص 549 .

  كل شئ إلى الله عــز وجل ، مع معرفة ما يحتاج إليه من الأصول والفروع والحقوق والحظـوظ والمعرفة بين الحق والباطل ومتابعة الأمر والنهى وحسن الطاعات والقيام بشرط الأدب وسلوك المنهج على    حد الاستقامة .

     وأما معنى قول الزنديق بهذه المقالـة فإنما يقول ذلك حتى لا يزجره شئ عـن ركوب المعاصى ، وأنه أداه جهله إلى الجسارة والاعتداء بإضافة أفعاله وجميع حركاته إلى الله تعالى ، حتى زال اللائمة عن نفسه فى ركوب المآثم بغواية الشيطان وتسويله وتأويله الباطل (1) .

    ولذلك عاب السراج الطوسى على جماعة غلطوا فى عين الجمع فلم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله تعالى إليهم ، ولم يصفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه وظنوا أن ذلك منهم احتراز حتى لا يكون مع الله شئ سوى الله عز وجل فأداهم ذلك إلى الخروج من الملة  وترك حدود الشريعة لقولهم إنهم مجبورون على حركاتهم حتى أسقطوا اللائمة عن أنفسهم عند مجاوزة الحـدود ومخالفة الاتباع ومنهم من أخرجه ذلك إلى الجسارة على التعدى والبطالة وطمعته نفسه على أنه معذور فيما هــو عليه مجبور ، وإنما غلط هؤلاء لقلة معرفتهم بالأصول والفروع ، ولم يعـرفوا الجمع والتفرقة ، فأضافوا إلى الأصل ما هو ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 549 بتصرف .

 مضاف إلى الفرع ، وأضافوا إلى الجمع ما هو مضاف إلى التفـرقة فلم يحسنوا وضـع الأشياء فى مواضعها فهلكوا (1) .

    وهذا الاتجاه الصوفى يكشف عن تأثير مصطلح الحرية فى التوفيق بين القدر واتباع الشرع ، وفى حل المشكلات التى استمرت بين طوائف المتكلمين وأثقلت المسلمين دون جدوى أو طائل .

[3] - ثالثها : الغيبة والحضـــور :

    حالان متقابلان أرقى نوعا ما مما سبق ، فالغيبة هى غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق ، لاشتغال الحس بما ورد عليه ، ثم قد يغيب إحساسه بنفسه وغيره بوادر من تذكر ثواب أو تفكر عقاب  والحضور قد يكون حاضرا بالحق لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق على معنى أنه يكون كأنه حاضر ، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه   فهو حاضر بقلبـه بين يدى ربه .

     وعلى حسب غيبته عن الخلق يكون حضوره بالحق ، فإن غاب بالكلية كان الحضور على حسب الغيبة ويكون مكاشفا فى حضوره على حسب رتبته بمعان يخصه الحق سبحانه بها (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 549 ، 550 بتصرف .            

2- الرسالة حـ 1 ص241 .

 

[4] - رابعها : المحــــــو والإثبـــــات

وهما على نوعين :

  [1- محو وإثبات يتعلقـان بالمقـامـات :

     فالمحـو رفع أوصاف العادة ، والإثبات إقامة أحكام العبادة فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة وأتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة فهو صاحب محو وإثبات ، وتدخل ضمن الخصال الذميمة الزلة فى الظاهر والغفلة فى الضمائر والعلة فى السرائر ، وعلاجها باثبات المعاملات والمنازلات والمواصلات فالمحو والإثبات هنا لهما صبغة أخلاقية مكتسبه للعبد .

[2 - محو وإثبـات يتعلقـان بالأحــوال :

      فحقيقة المحو والإثبات فى الأحوال صادرة عن القدرة ، فالمحو ما ستره الحق ونفاه ، الإثبات ما أظهره الحق وأبداه ، والمحو والإثبات مقصورات على المشيئة (1) قال أبو الحسين النورى : ( الخاص والعام فى قميص العبودية إلا مـن يكون منهم أرفع ، جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهــم فى حركاتهم وأثبتهم عند نفسه بنظرهـم الى قيام الله لهـم فى أفعالهـم وحركاتهـم ) (2) .

 ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ ص 242 .

2- اللمع ص 431 .

  ومحو الحق لكل أحد وإثباته على ما يليق بحاله (1) .

[5] - خامسها : التلــــوين والتمكـين 

   وهما حالان يلقيان الضوء على أرباب المرحلة الختامية من مراحل السفر فى التجربة الإيمانية لأوائل الصوفية ، فالتلوين صفة أرباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق ، فما دام العبد فى الطريق فهو صاحب تلوين ، لأنه يرتقى من حال إلى حال وينتقل من وصف إلى وصـف ، ويخرج إلى مرحلة أخرى ، فإذا وصل تمكن ، وصاحب التلوين أبدا فى الزيادة ، وصاحب التمكن وصل ثم اتصل ، وأمارة أنه اتصل ، أنه بالكلية عن كليته بطل (2) .

   يقول القشيرى :

     ( العبد مادام فى الترقى ، فصاحب تلوين يصح فى نعته الزيادة فى الأحوال والنقصان منها ، فإذا وصل إلىالحق بانخناس أحكام البشرية مكنه الحق سبحانه وتعالى بألا يرده إلى معلولات النفس فهو متمكن فى حاله على حسب حاله واستحقاقه ) (3) .

     فالتمكين يدل على مقام السالك الروحانى فى أفق الكمال وأعلى ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 242 .         

2- السابق حـ1 ص 252 .

3- السابق حـ ص 255 .           

الدرجات ، فمن كانوا فى مقاماتهم وأحوالهم أمكنهم الانتقال من مقام إلى آخر ومن حال إلى آخر ، لكن صاحب التمكين ثابت لا ينتقل  فالمقام رتبة أهل البداية ، والتمكين هو سكن أهل النهاية (1) .

   يقول الهجويرى مشبها حال التمكين وما قبله : ( الماء يجرى فى مجرى النهر حتى يصل إلى المحيط ، فإذا وصل إلى المحيط وقف تياره وتغير طعمه ، فمن طلب الماء لشربه ابتعد عنه ، أما فى طلب اللؤلؤ فإنه يجاهد نفسه ويضع حبل الطلب فى رأسه ويغوص تحت الماء برأسه مجدا فى نيل اللؤلؤ  فإما يجده وإما يفقــد نفسه العزيزة ) (2) .

     ففى التمكين رفع التلوين (3) لأن العبد انتقل إلى درجة النهاية التى يتلقى فيها الأفضال الإلهية التى لا نهاية لها (4) .

*  بين الفنــــــــاء والتحقــــق :

    يوضح الهجويرى موقع مرحلة الفناء بالنسبة للمراحل التى تسبقه والتى تليه فى السلسلة المتدرجة للتصوف فيقول : ( الفناء درجة كمال يبلغها العارفون الذين تحرروا من آلام المجاهدات وخلصوا من سجن ــــــــــــــــــــــــ

1- كشف المحجوب ص 450 بتصرف .

2- السابق ص 450 .

3- السابق ص 451 .

4- الرسالة حـ 1 ص 255 .

المقامات والأحوال وانتهى بهم الطلب إلى الكشف والحقيقة      فرأوا  كل مرئى وسمعوا كل مسموع وأدركوا كل أسرار القلب  وأعرضوا عن كل شئ وفنوا عن مقصدهم ، فثبت فى هذا المقصد كل مقاصدهم ) حتى ظهر فيهم قوله : ( كنــت له سمعا وكنـت له بصـرا ) (1) .

    فالفناء بدايته نهاية طريق الحب ويزادد بالأحوال السابقة قوة حتى تذهب المحدثات فى شهود العبد وتغيب فى أفق العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل (2) .

   وقد نبه الهجويرى إلى الاحتفاظ بالكينونة الذاتية للإنسان دون تلاشى أو اضمحلال فقال : ( إذا قالوا إن إرادة العبد قد فنيت فى إرادة الله فليس معنى ذلك فناء وجود العبد فى وجود الله ، تماما كما يذوب الحديد فى النار ، لأن النار قد تؤثر فى صفات الحديد ولكنها لا تمس جوهره أو تغيره ) (3) .

     فهو ينفى عن الفناء كل ما من شأنه أن يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد ، فالفناء فناء شهودى ذوقى وليس فيه أثر لتداخل البشرية ــــــــــــــــــــــــ

1- كشف المحجوب ص 243 .

2- مدارج السالكين حـ 1 ص 80 .

3- كشف المحجوب ص 243 .

فى الذات الإلهية على أية صورة من الصور ، ونهاية الفناء تؤدى إلى التحقق ، والتحقق هو المرحلة النهائية فى الحياة الصوفية ، وما كانت المرحلتان السابقتان إلا مقدمتين لهذا التحقيق .

* فالمـــــرحلة الأولــــــــى :

    مرحلة المقامات التى تنتهى بمقام الحرية ، حيث يبدأ الصوفى اجتياز الطريق بالرياضيات والمجاهدات وتصفية النفس من كدورتهــا ومحو الأوصاف الذميمة عنها حتى يتحرر من رقها .

* المرحلـــــــــــة الثــانيــة :

    مرحلة الأحوال والتذوق حيث يجنى منها الصوفى ثمرة المرحلة الأولى فيستشعر حلاوة الإيمان من خلال الأذواق والمواجيد التى تظهر فى طريق الحب ثم طريق الفناء .

  وبعد ما تهيأ الأمر إلى أن خضعت حياته الروحية بأسرها لحقيقة واحدة استوعبته وأخضعته لسلطانها قلبا ولسانا وجوارحا أصبح مستحقا لتلقى المعارف والحقائق التى ينور الله بها قلبه ، فيرى بنور الله ويتحرك فى ولايته .

 

 

 

* شكل تلخيصى للثمرة الثانية من ثمرات الحرية

 

[  طـــريق  الفناء  ]

                                       [6]     ـــــــــــــــ الحقيقة والشريعة

                                [5]      ـــــــــــــــ التلوين والتمكين

                         [4]      ـــــــــــــــ المحو والإثبــــات

                   [3]     ـــــــــــــــ الغيبة والحضور

             [2]     ـــــــــــــــ الجمع والفــرق

       [1]     ـــــــــــــــ  الفنـاء والبقـاء

ــــــــــــــ                                                   

[ بداية  الطريق  ]                               [  نهاية  الفنــاء بداية  الحقيقة  ]

 

* الحقيقــــــــة والشريعـــــــــة :

     تتضح ملامح الشخصية النموذجية التى يسعى أوائل الصوفية لتحقيقها من خلال الترابط بين الحقيقة والشريعة ، فالشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية ، والشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده ، والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قصى وقدر (1) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 261 .

    وليس معنى هذا أن الشريعة فى جانب والحقيقة فى جانب آخر  ولكنهما يلتقيان ويرتبطان ويترتب أحدهما على الآخر ، فكلاهما واجب بأمر الله ، فلن يصل العبد إلى مرضاة الله إلا إذا سلم بنوعين من تدبير الله فى ملكه ، وفيهما ملتقى سعى أوائل الصوفية :

       1- أن يسلم بتدبيره الشرعى .

       2 - أن يسلم بتدبيره الكونى .

    ففى تدبيره الشرعى كانت محاولات الأوائل فى نفى تدبيرهم إلى تدبير الله ، ومن هنا يظهر الكمال فى تحقيق الحرية بإسقاط التدبير واتباع الشريعة .

    وفى تدبيره الكونى يظهر الرضا بقضاء الله وقدره ، ليشاهدوا الحقيقة الربانية فى فهم العلة الغائية من خلقه وخلق العالم بأسره وليدرك إبداع الله فى صنعه فى ترتيب الابتلاء وتدافعه وتلاحقه على العبد .

    يقول القشيرى : ( كل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول   كل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول ، والشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق ، وإذا علم أن الشريعة حقيقة من حيث أنها وجبت بأمره ، فالحقيقة أيضا شريعة من حيث أن المعارف به سبحانه وتعالـى وجبت بأمره ) (1) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 261 . 

    فالحقيقة والشريعة ركنان أساسيان فى الحياة عند أوائل الصوفية يدوران على فلك الحرية ، حرية عقائدية فى فهمهم لخلقهم وتركيبهم وإبداعهم أحرارا بوصف الحرية ، وحرية عملية تطبيقية فى التزامهم بمنهج  العبودية .

    فالأمر إفراد للـه وتوحيد له فى العبودية ، وإفراد لله وتوحيد له فى الربوبيـة والتزاما بقوله تعالى :  { إيـاك نعبــد وإيــاك نستعــين } فإياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة (1) .

    وإذا كانت الحقيقة الصوفية مبنية على المشاهدة والمعرفة ، والمشاهدة فيها أحوال ومعان صادقة ، والمعرفة فيها صفة من عرف الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وصدق فى معاملاته ، فالأمر كله لا يخرج عن الغاية السابقة فإذا صار العبد من الخلق أجنبيا ، ومن آفات النفس بريا  ومن المساكنات والملاحظات نقيا ، وصار ملهما من قبل الحق سبحانه وتعالى بمعرفة أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره فإنه يسمى عند ذلك عارفا ، وتسمى حالته معرفة (2) .

    وإلى هنا فيما أعتقد ينكشف مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية فإن وفقت فالحمد لله وإن أخطأت فأستغفر الله لذنبى وأدعو الله أن يهئ الأسباب لخدمة الكتاب والسنة .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 261 .       2- السابق حـ 2 ص 600 .   

                                          

  • الاثنين PM 06:08
    2021-08-16
  • 1702
Powered by: GateGold