المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408924
يتصفح الموقع حاليا : 345

البحث

البحث

عرض المادة

أرض بـــلا شــــعب وشعب بلا ارض : منظــــور إســــرائيلي

أرض بـــلا شــــعب: منظــــور إســــرائيلي
Land without a People: Israeli Perspective
رغم الحديث المستمر عن الانتصارات الإسرائيلية الساحقة، والتقدم الاقتصادي المذهل، والقوة العسكرية المتزايدة إلا أن الإسرائيليين يشعرون في أعماق أعماقهم بما سماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون «عقم الانتصار». أو كما قال المثقف الإسرائيلي شلومو رايخ: "إن إسرائيل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى هزيمتها النهائية المحتومة"، وكما قال الجنرال الفرنسي بوفر، الذي قاد القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إنه حين ذهب يهنئ إسحق رابين بانتصاره العسكري في يونية 1967 بعد انتهاء المعركة بعدة أيام، وكانت القوات الإسرائيلية المشتركة لا تزال في طريق العودة إلى قواعدها، فوجئ أن الجنرال الإسرائيلي يقول وهو في قمة انتصاره: "ولكن ماذا سيتبقى من كل هذا؟". فالانتصارات الإسرائيلية لم تؤد إلى الهيمنة الإسرائيلية المرجوة ولم تؤد إلى تطبيع الحالة الصهيونية الإسرائيلية، فالدولة الصهيونية لا تزال دولة/شتتل، قلعة مدججة بالسلاح في حالة حرب نفسية مع كل جيرانها، وفي حالة حرب فعلية مع بعضهم، ولا يزال الشعب الفلسطيني يرفضها رفضاً كاملاً (ولذا نتحدث عن "الانتشارات" الإسرائيلية بدلاً من "الانتصارات" الإسرائيلية، فهو تحدد أفقي في المكان لا معنى له، وليس تطوراً رأسياً في الزمان يحدث تغييرات ذات معنى)، وفي حالة اعتماد مذل على الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كانت الدعاية الصهيونية المصقولة تتحدث عن الصابرا المتفائل المقاتل، فإن الوجدان الإسرائيلي يحكي قصة مغايرة تماماً، فهو وجدان مدرك للورطة التاريخية التي وضعت الصهيونية فيها المستوطنين الصهاينة، وهي ورطة لها أبعادها المختلفة، المترابطة المتعددة. وهذا الإحساس بالورطة يعبِّر عن نفسه أحياناً بطريقة مأساوية، وأحياناً أخرى بطريقة ملهاوية حين يتحول الإحساس بالنكبة إلى نكتة.


والمشاكل التي يدركها الإسرائيليون تماماً هي أن فلسطين ليست "أرضاً بلا شعب" كما زعمت الدعاية الصهيونية، وأن الفلسطينيين ليسوا مجرد عرب، وإنما هم كيان محدد داخل التشكيل الحضاري القومي العربي. وهذا الإدراك يدمر شرعية الوجود الصهيوني ويسحب من تحته البساط، مهما كان حجم الانتصارات التي تحققها إسرائيل ومهما كان صخب دعايتها. وحتى إن غيَّرت منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقها لتؤكد للمستوطنين أنها لا تنوي تحطيم دولتهم الصهيونية فهذا لا يغيِّر الحقائق البنيوية، الحضارية والإنسانية والمادية القائمة، فالفلسطينيون هناك يقرعون الأبواب في سلام غاضب أحياناً، وأحياناً أخرى بالأحجار أو حتى بالنار، ليذكِّروا الإسرائيليين بأن كيانهم الصهيوني يستند إلى أكذوبة تاريخية.

ولهذا، فإن الإسرائيليين، كما يقول عاموس إيلون "أصبحوا غير قادرين على ترديد الحجج البسيطة المصقولة وأنصاف الحقائق المتناسقة التي كان يسوقها الجيل السابق" (تتصل بأن فلسطين أرض بلا شعب). وقد عبَّر الشاعر الإسرائيلي إيلي إيلون عن هذه القضية بقوله: "إن البعث التاريخي للشعب اليهودي، وأي شيء يقيمه الإسرائيليون مهما كان جميلاً، إنما يقوم على ظلم الأمة الأخرى. ولسوف يخرج شباب إسرائيل ليحارب ويموت من أجل شيء قائم أساساً على الظلم، إن هذا الشك، هذا الشك وحده، يشكل أساساً صعباً للحياة".

وتتناول قصة "في مواجهة الغابة" التي كتبها الروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشوا، التي وُصفت بأنها هدامة وانتحارية، بعض الأحداث في حياة طالب يكتب دراسة عن حروب الفرنجة (وهذه تجربة تاريخية أخرى عقيمة وعاجزة تطارد العقل الإسرائيلي، فقد فشلت تماماً في تحقيق وجودها وكان مآلها الاختفاء). وقد عُيِّن بطل القصة الإسرائيلي حارساً لغابة غرسها الصندوق القومي اليهودي في موقع قرية عربية أزالها الصهاينة مع ما أزالوه من قرى ومدن، وكانت كل شجرة في الغابة تحمل اسم أحد المساهمين المتحمسين من الصهاينة التوطينيين من يهود الخارج. ورغم أن البطل ينشد الوحدة، إلا أنه يقابل عربياً عجوزاً أبكم من أهل القرية يقوم برعاية الغابة، وتنشأ علاقة حب وكراهية بين العربي والإسرائيلي، فالإسرائيلي يخشى انتقام العربي، ومع ذلك فإنه يجد نفسه منجذباً إليه بصورة غير عادية، بل يكتشف الحارس المعيَّن من قبَل الصندوق القومي اليهودي أنه يحاول، بلا وعي، مساعدة العربي في إشعال النار بالغابة. وفي النهاية، عندما ينجح العربي في أن يضرم النار في الغابة كلها، يتخلص البطل من كل مشاعره المكبوتة.

ومن أكثر النكت دلالة تلك النكتة العبثية التي أطلقها يعقوب أجمون المسئول عن احتفالات الذكرى الأربعين لتأسيس إسرائيل، إذ يقول: إن المشروع الصهيوني كله يستند إلى سوء فهم وخطأ إذ كان من المفروض أن يتم في كندا بدلاً من فلسطين. ويرجع هذا إلى تعثُّر لسان موسى التوراتي، فحينما سأله الإله أي بلد تريد كان من المفروض أن يقول «كندا» على التو ولكنه تلعثم وقال «كاكاكا - نانانا» فأعطاه الإله «أرض كنعان» (أي فلسطين) بدلاً من كندا. فهاج عليه بنو إسرائيل وماجو وقالوا له: "كان بوسعك أن تحصل على كندا بدلاً من هذا المكان البائس، الخرب، هذا الوباء الشرق أوسطي الذي تحيط به الرمال والعرب". والنكتة هنا تعبِّر عن إحساس عميق بالورطة التاريخية وبالطريق المسدود الذي يؤدي إلى العدمية الكاملة.

ونجد نفس الإحساس في هذه القصيدة القصيرة التي خطها مستوطن صهيوني على حائط دورة المياه في الجامعة العبرية.

ليذهب السفارد إلى إسبانيا

والإشكناز إلى أوربا

والعرب إلى الصحراء،

ولنُعد هذه الأرض إلى الخالق -

فقد سبب لنا من المتاعب الكفاية

بوعده هذه الأرض لكل الناس.

والقصيدة مثل نكتة أجمون تعبير فكاهي عبثي عن رفض فكرة الوعد الإلهي التي يستند إليها الخطاب الصهيوني.

وتظهر العبثية في إحساس الإسرائيليين بحالة الحرب الدائمة كما يتضح في قصيدة الشاعر شاليف "صلاة على جرحى الحرب" حيث يخاطب الشاعر الإله قائلاً:

رب المصابين الساكنين في الجبس،

رب المصابين ممن يتنفسون الأوكسجين،

رب النفوس التي فوق أسرتها

أكياس الدم أرجوانية اللون

معلقة،...

ومن المعروف أن التصور الصهيوني يؤكد أن الإله تربطه علاقة خاصة بالشعب اليهودي (أو كما قال بن جوريون إذا كان الإله قد اختار الشعب فإن الشعب قد اختار الإله). ولهذا نجد أن كل المقدَّسات اليهودية ذات طابع قومي (وكل الظواهر «القومية»، مثل ظهور دولة إسرائيل، تحيطها هالة من القداسة في الوجدان الصهيوني). وتهدف استراتيجية الشاعر في هذه القصيدة إلى إزالة الغشاوة من على عيون الإسرائيليين وإخبارهم أن الإله لا تربطه بهم علاقة خاصة، وأنهم ليسوا شعباً مختاراً وإنما هم مثل بقية البشر تنزف دماؤهم ويحتاجون إلى نقل الدم. ومن هنا كانت الإشارات المتكررة للآلات والاصطلاحات الطبية الحديثة، ومن هنا أيضاً كان الابتهال الختامي في القصيدة الذي يختلف عن الابتهالات اليهودية التقليدية.

جل يا رب النفوس التي تعيش

ما بين عقاقير التهدئة وعقاقير التنويم

ما لا يقدر على تجليته للأرواح سواك.

ويظهر الإحساس بالورطة التاريخية في فقدان الإسرائيليين إحساسهم بالاتجاه كما يظهر في قصة ران أدليسط المعنونة أغنية الموت، وفي كلمات هذين الجندين الإسرائيليين الجالسين في الخنادق.

- هل ستسقط قنبلة،

- لقد سمعت أن الموقع البديل على طريق الإمدادات يشمل انتحاراً حقيقياً.

- ماذا إذن؟ هل سنظل هكذا للأبد!

- هل جننت؟

- هل ننسحب؟

- هل جننت؟

- حرب جديدة إذن؟

- هل الموقف مجرد من الأمل إلى هذا الحد؟

- هل تعرف ماذا تريد؟

- كلا.. وأنت؟

- كلا...

- واحسرتاه.. هيا بنا نفتش عن الموقع الثانوي.

- بوم!

إن حديث الجنديين المتفلسف يتخطى حدود موقفها ليشمل وضع الإسرائيليين ككل.

ونفس الإحساس بالعبث والحركة الدائرية التي تقود الإسرائيليين من حرب إلى أخرى تظهر في قصيدة الشاعر يعقوب باسار "الحرب المقبلة":

- الحرب المقبلة

ننشئها.. نربيها

ما بين حجرات النوم

وحجرات الأولاد..

والنعاس

آخذ في الاصطباغ بالسواد.

إن الشاعر يرى أن الجهد الإسرائيلي مُنصَّب على استنبات زهرات الحديد للحرب المقبلة "ما بين حجرات النوم/وحجرات الأولاد".

هذا الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين يتضح في ظهور موضوع «الخوف من الإنجاب» في القصص الإسرائيلي. فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما كوسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني، ولكن من المعروف أيضاً أن معدل الإنجاب في إسرائيل من أقل المعدلات في العالم. حتى أنهم فكروا في أن يعلنوا للإنجاب عاماً ينصرف فيه الإسرائيليون لإنجاب أطفال أكثر. وكان رد الإسرائيليين، كما هو متوقع، سريعاً وحاسماً وملهاوياً، إذ قال أحدهم إن على رئيس الوزراء أن يعود إلى منزله فوراً للقيام بواجبه الوطني مع زوجته. وهو واجب وطني بالفعل، فكما يقول أرنون سابير أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي: "إن السيادة على أرض إسرائيل لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة". ومن هنا الإشارة إلى المرأة الفلسطينية النفوض، التي تنجب العديد من الأطفال، بأنها "قنبلة بيولوجية". وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركُّز الإسرائيليين في المدن - علمنة المجتمع الإسرائيلي والتوجه نحو اللذة... إلخ). لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة. ففي قصة الحالمة للكاتبة بنيناه عاميت نجد أن البطلة سيطر عليها الخوف والكوابيس، فهي تحلم بالقنابل والمعارك والحرب، وحينما تسألها أمها "لماذا لا يكون لي حفيد في النهاية يا ابنتي؟" فإنها تلوذ بالصمت (والصمت هو الاستجابة الوحيدة المتاحة لكثير من أبطال القصص الإسرائيلية).

ومن القصص الإسرائيلية الطريفة قصة العَلمين ليعقوب شافيت التي تعالج موضوع الخوف من الإنجاب وتدور حوادثها حول رغبة أم إسرائيلية في التخلص من الجنين، ولكن إحدى الشخصيات (العمة إيطة) تثنيها عن عزمها عن طريق الوعد والوعيد والتهديد بالفضيحة، وراوي القصة هو الطفل الذي وُلد فيما بعد، والذي يبدأها بقوله "في أكتوبر 42 أنقذت عمتي إيطة البشرية". ويذكرنا الراوي أن في هذا اليوم كانت تدور رحى معركة العلمين (ولذلك تتخلل القصة فلاشات وصفية للمعركة والدبابات والدخان الأسود). والأم تحس بوضعها كإنسان ضعيف داخل هذا الإطار من الصراعات العالمية، ولذلك فهي تتساءل عن جدوى إنجاب الأطفال إذا كان مقدراً لهم أن يعيشوا حتماً داخل الحرب دون طعام حتى يقضون. ولكن العمة إيطة تخبر الأم أنه لابد من الإنجاب من أجل البشرية، فترد عليها قائلة "فلتلدهم البشرية إذن". والعمة إيطة شخصيـة ضيقـة الأفـق "منهكــة دائمــاً في إلقــاء موعظـة أخــلاقية تربوية"، "تفيض بالعزم والتصميم"، "لا تتحدث إلا لتُصدر أوامر" وهي تهاجم الأم "كأنها حيوان مفترس يهاجم دجاجة".

في داخل هذا العبث وفقدان الاتجاه، تسيطر السوداوية والحتمية والإحساس بأن حالة الحرب دائمة. ويظهر هذا الاستسلام الكامل في كلمات موشيه ديان في جنازة صديقه روي روتبرج، الذي قتله الفدائيون الفلسطينيون. فقد قال وزير الدفاع والخارجية الإسرائيلي السابق: "إننا جيل من المستوطنين، ولا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت، دون الخوذة الحديدية والمدفع؛ علينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الآلاف من العرب حولنا. علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا. إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".

ومنذ بضع سنوات لاحظ الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري بمرارة ما سماه «مركب إسحاق» وهو أن الإنسان الإسرائيلي يُولَد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، كما بيَّن جوري أن "هذا التراب (أي إسرائيل) لا يرتوي"، فهو يطالب دائماً "بالمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى"، كما لو كانت أرض إسرائيل آلهة ثأر بذيئة، لا مجرد قطعة أرض أو إقليم. كما لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عيزر أن الإسرائيليين الشباب، الذي يخدمون في الجيش، يشعرون أن أهلهم بالاشتراك مع الدولة يضحون بهم دون تعويض أو عزاء من عقيدة دينية تؤمن بالحياة بعد الموت، ولذا فهم يشعرون أن هذه الحروب هي "تضحية علمانية بإسحق"، أي أنها تضحية بشرية لا هدف لها ولا معنى.

ثم تظهر أساطير قومية تترجم هذا الوضع إلى بناء أيديولوجي أسطوري مُحكَم، ومن هنا ظهرت أسطورة ماساداه وشمشون. وفي كلا الأسطورتين ثمة حالة حصار نهائية مغلقة، لا يمكن الفكاك منها إلا بتدمير الذات وتدمير الآخر، فنهايتها ليست سعيدة وإنما إبادية للجميع. ومع هذا رغم كل هذا الحديث عن الحصار والدمار فإن الوجدان الإسرائيلي يتجاوز الأساطير الصهيونية المصقولة. فيشير يهوشوفاط هركابي إلى أن الإسرائيليين يميلون إلى تمجيد الوهم ويخفقون في إدراك أن الواقع مُحدَّد بحدود الممكن. ثم يشير إلى قصة صهيونية انتحارية أخرى هي قصة بركوخبا الذي تحالف مع بعض الحاخامات فأعلنوا أنه الماشيَّح وقرروا مواجهة الإمبراطورية الرومانية دون حساب موازين القوى أو معرفة مدى قوة الرومان فيما يعرف بالتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (132 - 125 ق.م). وبطبيعة الحال تم القضاء على المتمردين وعلى تمرُّدهم وعلى البقية الباقية من الوجود اليهودي الهزيل في فلسطين، أي أن النزعة الانتحارية الشمشونية هنا لم تؤد إلى القضاء على الآخر وإنما على الذات وحسب، ويُسمِّي هركابي هذا "أعراض بركوخبا"، فالنزعة الانتحارية مرض يصيب صاحبه وهي ليست بالضرورة ماساداه التي تدمر الذات والآخر.

ونفس النزعة نحو مراجعة أسطورة ماساداه توجد في قصيدة الشاعر حاييم حيفر التي كتبها أثناء الانتفاضة، فبدلاً من ماساداه يتحدث عن الطائرة المروحية الأمريكية، أي تلك الطائرة التي ستأتي حينما تحين لحظة النهاية وتحط فوق سطح السفارة الأمريكية (كما حدث في فيتنام) لتأخذ فلول المستوطنين وعملاء الولايات المتحدة. تبدأ القصيدة بالتصويت في الكنيست على الخروج الأخير ولذا "فلنرحل إلى أمريكا الآن/فلقد لملمنا حقائبنا وأمانينا". ويتدافع الجميع دون نظام ("لا تتزاحموا.. لكل مكانه/عفواً لا تضغطوا هكذا"). ويتصور رئيس الوزراء عملية الخروج السريع هذه وهو يجلس في مقعده في الطائرة "ويروق له المقام/يعلن أنه لا مكان للباقين" هنا، فلسان حاله وحال وزرائه هو "نحن ومن بعدنا الطوفان". إن الصورة السائدة هنا عكس صورة البطل الشمشوني في ماساداه الذي يهلك مع رفاقه:

وبسرعة أخذت الطائرة.. تطير

أما الدولة

فقد هُجرت

وحيدة.. تُركت.. إسرائيل.

وبعد بضعة بيوت وعظية احتجاجية ركيكة (أفلا يمكننا أن نحاول ثانيةً؟/أم أننا لسنا مواطنين مخلصين؟) نكتشف أن الطائرة قد طارت بالوزراء والأحلام:

فإن كنا حقاً هكذا.

وعليه حزمت حكومتنا لأمريكا حقائب الرحيل

فإنا جميعاً كذلك

في الرحيل إليها.. راغبين.

بعيداً عن ماساداه المتهالكة، بعيداً عن صهيون التي اشتعلت فيها النيران، إلى الولايات المتحدة الوطن القومي الآمن وربما الحقيقي.

ورنة الحزن الكامنة في النكت والقصائد الفكاهية تصبح واضحة في الأغاني الإسرائيلية فهي مليئة بالعدمية والحديث عن الدمار والفقدان والضياع والعزلة. ففي أعقاب انتصار عام 1967 لاحظ أفنيري أن من أكثر الأغاني شيوعاً أغنية تقول وبفرح شديد، "العالم كله ضدنا". والفرح هنا تعبير عن إحساس المستوطن الصهيوني بمفارقة موقفه، فهو بعد انتصاره (الذي يعبِّر عن "اختياره") يجد نفسه معزولاً عن العالم، فالأغنية تشبه تلك العبارة: "الحمد لله فأنا مكروه تماماً من كل الناس!".

وقد ازداد الإحساس بالضياع بعد عام 1973، ولنأخذ على سبيل المثال أربيل زلبر، المغني الذي انضم إلى يهودا أدر وشالوم هانوخ وكوَّنوا جماعة غناء روك تُسمَّى «تموز». والصورة العامة التي تشيعها هذه الجماعة هي صورة الشاب الشريد. وزلبر نفسه فقد ساقه وهو يلعب بقنبلة يديوية حين كان صبياً. وأهم أغانيه «هوليخ باطل» (حرفياً: صار أو راح باطلاً أو أصبح غير مجد أي بالعامية المصرية «مافيش فايدة») وتتحدث الأغنية عن متشرد يبحث عن المخدرات والجنس وقطع غيار السيارات المسروقة.

كما تتحدث الأغاني عن أبطال العهد القديم وأنبيائه بطريقة تنم عن الاستخفاف الشديد، وهؤلاء الأبطال والأنبياء هم الرموز القومية اليهودية الصهيونية الأساسية. ففي أغنية داني ساندرسون يتحدث عن داود يهزم طالوت "وتخرج أسفار موسى الخمسة لتشجع... إن كنت تريد أن تصبح ملكاً علينا، في سن السادسة فلتصنع لنا حلبة صراع". وتسخر أغنية زلبر الأخرى من شمشون وتشير إليه باعتباره «عاملاً في عربة قمامة». أما داود فهناك مسرحية تتحدث عنه باعتباره شاذاً جنسياً. ومعظم المغنين من نتاج الكيبوتس وقد ظهروا بعد عام 1973 مع إدراك الصهاينة بداية أزمتهم.

ومن أشهر الأغاني في إسرائيل في الثمانينيات أغنية مائير باناي، وهي أغنية جميلة حزينة تعبِّر بشكل دقيق عن تساقط الشرعية الصهيونية وإحساس المستوطنين بذلك:

كلهم ذاهبون إلى مكان ما،

يرنون للمستقبل العذب،

أما أنا، فأستيقظ في الصباح

وأركب الحافلة رقم 5 المتجهة للشاطئ،

الحافلة مليئة بالدخان،

وعجوزان،

والكمساري.

وهناك كتابة على حائط أسمنتي:

ماذا حدث للدولة؟

انظر إلى الدولة وانظر إلى الأسمنت!

تغنّي الطيور «صباح الخير»

لعله يمكنني أن أطير معها بعيداً، ولا أسقط.

إن فراغ الحافلة رمز جيد لأزمة المستوطن الصهيوني السكانية، فليس فيها سوى عجوزان (لعلهما رمزاً «للشعب اليهودي» المسن). ويتساءل المغني عما حدث للدولة المكتوب اسمها على الأسمنت، وهو رمز للجمود والموت. مقابل كل هذا هناك غناء الطيور التي تبشر ببداية جديدة، خارج الحافلة الفارغة والأسمنت الصلب. ويود المغني أن يطير بعيداً، أن ينزح عن كل هذا، ولكن الأغنية مع هذا تعبِّر عن عدم اليقين من إمكانية الفرار، فالسقوط احتمال وارد! أي أنه لا مكان للتقدم للأمام ولا التراجع للخلف!

ثمة إحساس إذن بفشل المشروع الصهيوني وخيبة أمل وإحباط نتيجة هذا، وهي أحاسيس عبَّرت عن نفسها في مجموعة من النكت الساخرة، والأغاني الحزينة والتي تحاول كلها الإفصاح عن وضع تاريخي مركَّب جداً لا مخرج منه، فالصهيوني غير قادر على الخروج من وضعه وأثبتت الأيام أنه قد يكون قادراً على إلحاق بعض الأذى بالعرب ولكنه غير قادر على تطبيع موقف والوصول إلى النهاية السعيدة: أي تفتُّت العرب، واختفاء الفلسطينيين.

وتدور أحداث قصيدة الشاعر إفرايم سيدون (التي رفض التليفزيون الإسرائيلي إذاعتها) في غرفة صالون يجلس فيه أربعة أشخاص، الأب والأم والطفل، أما رابعهم فهو الجندي الصهيوني، وبالتالي فهي خلية استيطانية سكانية مسلحة. وقد اندلع خارج المنزل حريق (رمز الانتفاضة وظهور الشعب الفلسطيني) وبدأ الدخان يدخل البيت عبر النافذة، إلا أن الأربعة يجلسون بهدوء ويشاهدون مسلسلة تليفزيونية ولا يكترثون بشيء. ثم ينشد الجميع:

هنا نجلس جميعاً

في بيتنا الصغير الهادئ،

نجلس في ارتياح جذل.

هذا أفضل لنا، حقاً إنه أفضل لنا.

- الأم: جيد هو وضعنا العام.

- الجندي: أو باختصار إيجابي.

- الأب: والوقت "عامل" لصالحنا.

- الطفل: إذا كان الوقت "عاملاً" فهو بالتأكيد عربي.

حينئذ يصفع الأب الطفل ويقول "أسكت يا وقح". وتعليق الطفل إشارة فكاهية للحقيقة المرة التي يدركها الإسرائيليون جيداً، أي تغلغل العمالة العربية في الكيان الإحلالي الصهيوني.

ثم تبدأ الأسرة تتحدث عن الحريق، أو بالأحرى تنكر وجوده:

- الأب: وإذا كانت هنا جمرة تهدد بالحريق.

- الأم: طفلي سينهض لإطفاء الحريق.

- الأب: وإذا اندلعت هنا وهناك حرائق صغيرة.

- الأم: سيسرع ابني لإطفائها بالهراوة.

- الأب: انهض يا بني اضربها قليلاً.

ويخاطب الأب النار فيخبرها أنها مسكينة، وأنها لن تؤثِّر فيه من قريب أو بعيد، وأنه سيطفئها في النهاية. وحينما تأكل النيران قدميه لا تضطرب الأم، فالأمر ليس خطيراً، إذ لديه "قدم صناعية" [لعلها مستوردة من الولايات المتحدة]، فالوقت - كما يقول الأب - "يعمل لصالحنا". ولكن الطفل ينطق بالحقيقة المرة، مرة أخرى:

- الطفل: بابا، بابا، لقد حرقنا الوقت [الزمن[.

- الأب: أسكت.

- الأم: إن من ينظر حولنا ويراقب، يرى كم أن الأب لا ينطق إلا بالصدق كعادته.

- الأب والأم: لقد أثبتنا للنار بشكل واضح.. من هو الرجل هنا، ومن هو الحاكم.

- الطفل: ولكن بابا... البيت...

- الأب: لا تشغلنا بالحقائق.

- الطفل والجندي: شعاري: إجْلس في صمت ولا تتعب.

- الرجال: لا تتحرك، لا تتزحزح، لا تفقد أعصابك.

- الجميع: فكهذا تُحارب النار.

وهذه القصيدة الفكاهية، شأنها شأن النكت، تخبئ رؤية متشائمة بشأن مستقبل ما يُسمَّى «الشعب اليهودي» الذي أصبح مستقبل المستوطنين الصهاينة الذين يستقرون في المكان وينكرون الزمان فتحرقهم الحقيقة وهم جالسون يراقبون مسلسلة تليفزيونية في هدوء وسكينة أو يستمعون إلى الدعاية الصهيونية في رضا كامل!

شــــعب بـــلا أرض: منظــــور إســــرائيلي
People without a Land: Israeli Perspective
ترى الصهيونية أن اليهود يكونون شعباً، شعباً واحداً، ولكنه شعب يتسم بالطفيلية والاستهلاكية. وقد زعمت الصهيونية أن مثل هذه الظواهر المرضية إن هي إلا من ظواهر المنفى وحسب وأنه حينما تنشأ الدولة الصهيونية فسيعود اليهودي إلى أرضه المقدَّسة أو القومية ليزرعها فيخلصها من العرب ويخلِّص نفسه من أدران المنفى التي علقت به وأعطت مبرراً لأعداء اليهود واليهودية أن يطلقوا اتهاماتهم المختلفة. وهذا ما يُسمَّى عقيدة «العمل العبري» التي تحولت إلى «عقدة العمل العبري» بعد أن فشل هذا الجانب من الحلم الصهيوني.


ويبدو أن هذا الموضوع (العمل العربي الحقيقي بدلاً من العمل العبري المزعوم) يلح على الوجدان الإسرائيلي إلحاحاً شديداً. ففي نكتة إسرائيلية نجد عجوزاً إسرائيلياً يجلس مع حفيده ويحكي له عن ذكرياته في الماضي. ويتصفح الاثنان ألبوم الصور، ويشير الجد إلى صورته في الثلاثينيات حين كان يبني بيته بنفسه، فيجيبه حفيده: "هل كنت عربياً في الماضي؟" فمهنة البناء لا يقوم بها سوى العرب، واستخلص الطفل نتائجه تأسيساً على تجربته لا تأسيساً على الادعاءات الصهيونية. ويقول الإسرائيليون تعليقاً على تغلغل العمالة العربية في القطاع الزراعي: "لماذا تطالب منظمة التحرير الفلسطينية باسترجاع الأرض الفلسطينية بكل هذا الإصرار؟ ألم يلاحظوا أن الفلسطينيين قد استعادوها بالفعل". فالأرض كما يعرف الصهاينة جيداً لمن يزرعها.

ولعل تغلغل العرب في قطاعات مثل الزراعة والبناء يعني أنهم يقومون بالأعمال الإنتاجية الأمر الذي حوَّل المستوطنين الصهاينة إلى وسطاء وطفيليين أو عاملين بالمهن الفكرية، شأنهم في هذا شأن يهود الجيتو (حسب التصوُّر الصهيوني). فالإنسان الإسرائيلي منشغل تماماً بالمضاربات وأسعار البورصة وأسعار التحويل. كما أن عدد العاملين بالمهن (الفكرية) أخذ هو الآخر في التزايد، وقد تصاعدت معدلات الاستهلاكية بشكل ملحوظ، وقد أصبح كل هذا موضع نكات الإسرائيليين، فهم يصفون المواطن الإسرائيلي بأنه «روش قطان» أي «الرأس الصغير». وصاحب الرأس الصغير، في المجاز الإسرائيلي، هو الإنسان ذو المعدة الكبيرة الذي لا يفكر إلا في مصلحته ومتعته واحتياجاته الشخصية وينصرف تماماً عن خدمة الوطن أو حتى التفكير فيه. إنه إنسان استهلاكي مادي لا يؤجل متعة اليوم إلى الغد. فسياسة الدولة الصهيونية - حسب إحدى النكات الإسرائيلية - هي تزويد جماهيرها بال T. V. C.، وهي الأحرف الأولى ل T.V., Video, and Cars وحسب الحلم الصهيوني كان من المفروض أن تصبح إسرائيل نوراً للأمم (ذات فولت عال جداً)، ولكنها أصبحت - حسب قول أحد الصحفيين الإسرائيليين - مجتمع الثلاثة ف (V): الفولفو والفيديو والفيلا. وأشار الصحفي الإسرائيلي مكابي دين (في الجيروساليم بوست) إلى أن الإسرائيليين يعملون مثل شعوب أمريكا اللاتينية (أي لا يعملون)، ويعيشون مثل شعوب أمريكا الشمالية (أي يتمتعون بمستوى معيشي عال)، ويدفعون الضرائب مثل الإيطاليين (أي يتهربون منها) ويقودون السيارات مثل المصريين (أي بجنون).

وتتضح هذه الاستهلاكية في التكالب الشديد على السلع الأمريكية والرغبة في الهجرة إلى الولايات المتحدة، أرض الميعاد الحقيقية. وقد نشرت مجلة عل همشار مقالاً بعنوان "خروج صهيون"، وكلمة "خروج" في الوجدان الديني اليهودي تعني "الخروج من مصر" و"الصعود إلى صهيون أو إرتس يسرائيل" أي فلسطين. ولذا فاستخدامها للحديث عن "الخروج" من صهيون يحمل قدراً كبيراً من السخرية النابعة من الإحساس بالمفارقة المتضمنة في الموقف. وقد أشار المقال الذي كُتب عام 1987 إلى أن عدد النازحين سيبلغ 800 ألف إسرائيلي بعد 12 عام (في الواقع يُقال إن العدد قد وصل إلى مليون عام 1997). ثم علق كاتب المقال بقوله: إذا وضعنا في الاعتبار أن هيئة الأمم قد قررت الاعتراف بحق اليهود في أن تكون لهم دولة خاصة بهم في الوقت الذي كان عدد المستوطنين في البلاد يُقدر بحوالي 600 ألف، فإننا سنفهم المغزى لهذه المعلومة المفجعة!
ولا يَسْلم المستوطنون بطبيعة الحال من النكت الإسرائيلية الخاصة بالطفيلية. فقد أشار زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي إلى الاستيطان في الضفة الغربية بأنه "استيطان دي لوكس" فالمستوطنون هناك استهلاكيون وليسوا مقاتلين، يتأكدون من حجم حمام السباحة ومساحة الفيلا قبل الانتقال إلى المستوطنة. ولذلك تشير الصحف الإسرائيلية إلى هذا الاستيطان "باعتباره الصنبور الذي لا يُغلَق أبداً"، بل إنهم يشيرون إلى "محترفي الاستيطان" (بالإنجليزية: ستلمنت بروفشنالز settlement professionals) وهم المستوطنون الذين يستوطنون في الضفة الغربية انتظاراً للوقت الذي تنسحب فيه القوات الإسرائيلية ليحصلوا على التعويضات المناسبة (كما حدث في مستوطنة ياميت في شبه جزيرة سيناء). كما يشير الإسرائيليون إلى الاستيطان المكوكي (بالإنجليزية: شاتل ستلمنت shuttle settlement) وهي إشارة للمستوطنين الذين يستوطنون في الضفة الغربية بسبب رخص أسعار المساكن وحسب ولكنهم يعملون خلف الخط الأخضر وهو ما حوَّل المستوطنات إلى منامات يقضي فيها المستوطنون سحابة ليلهم. أي أنهم ينتقلون كالمكوك بين المستوطنات التي يعيشون فيها في الضفة الغربية ومكاتبهم التي يعملون فيها في المدن الإسرائيلية وراء الخط الأخضر.

ومن حق أي شعب أن يستهلك بالقدر الذي يريد طالما أنه يكد ويتعب وينتج ثم ينفق، ولكن الوضع ليس كذلك في إسرائيل فهم يعرفون أن الدولة الصهيونية "المستقلة" لا يمكن أن توفر لنفسها البقاء والاستمرار ولا أن توفر لهم هذا المستوى المعيشي المرتفع إلا من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأمريكي المستمر طالما أنها تقوم بدور المدافع عن المصالح الأمريكية، أي أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية، تُعرَّف في ضوء الوظيفة الموكلة لها. وقد وصف أحد الصحفيين الإسرائيليين الدولة الصهيونية بأنها "كلب حراسة، رأسه في واشنطن وذيله في القدس"، وهو وصف دقيق، صريح وقاس.

ولكن هناك دائماً الإحساس بالنكتة. فعندما طرح يعقوب أريدور خطة «دولرة» الشيكل أي ربطه بالدولار (وهي خطة رُفضت نظرياً في حينها وإن كانت نُفِّذت عملياً) اقترحت جيئولا كوهين، عضوة الكنيست، أن توضع صورة إبراهام لنكولن على العملة الإسرائيلية جنباً إلى جنب مع صور زعماء إسرائيل ونجمة داود، وأن يُدرَّس التاريخ الأمريكي للطلاب اليهود بدلاً من «التاريخ اليهودي».

وأوردت الجيروساليم بوست الحوار الخيالي التالي بين وزير المالية وشخص آخر:

الوزير: الخطوة الأولى هي أن نُخفِّض الميزانية، أما الثانية فهي تحطيم الشيكل واستخدام الدولار.

الآخر: وما الخطوة الثالثة؟

الوزير: الأمر واضح جداً، ننتقل إلى بروكلين (أحد أحياء اليهود في نيويورك)

وقد كتب أحد القراء لجريدة الجيروساليم بوست معلقاً على طفيلية الشخصية الإسرائيلية وعلى مدى اعتماد الدولة الصهيونية على الولايات المتحدة. يشير القارئ (في يناير 1985) إلى أن الدولة الصهيونية طلبت خمسة بليون دولار كمنحة من الولايات المتحدة، ثم يقترح ما يلي:

"بدلاً من نقل النقود للخزانة الإسرائيلية التي ستبددها في دعمها لصناعات غير كفء وبالتالي مفلسة، ولتعويض المضاربين سيئي الحظ في أسهم البورصة، ولدفع مبالغ من المال للصيارفة النهمين وفي محاولة تمكين سكان إسرائيل من أن يستمروا في أسلوب الحياة الذي تعوَّدوا عليه ولدفع مصاريف بيروقراطيتنا الوقحة التي تحتسي الشاي بشراهة، أرجو أن تسمحوا لي أن أقترح ما يلي على دافع المعونة:

يبلغ عدد سكان إسرائيل في الوقت الحالي 4.235.000 مكوَّنين من 1.160.000 أسرة، دخل كل أسرة الإجمالي هو 6.120 آلاف دولار.

فإذا قامت الحكومة الأمريكية بإرسال شيك لكل أسرة بما يعادل هذا المبلغ عن عام 1985، فإننا سنحصل على المزايا التالية: سنوفر على دافع الضرائب الأمريكي 385.52 مليون دولار، وبإمكان إسرائيل بأسرها أن تمكث في الفراش، وتلعب الجولف أو الطاولة أو تذهب لصيد السمك طوال العام. ويمكن أن نتخلص من البيروقراطيين الذين سيستفيدون أيضاً - فعدم العمل والحصول على راتب أمر طبيعي جداً بالنسبة لهم، وسينتهي العجز في الصناعات.

وشركة العال للطيران التي تخسر الكثير لأنها لا تطير يوم السبت، لن تخسر شيئاً على الإطلاق بأن تكف عن الطيران تماماً. ويمكننا حينئذ أن نزيد مدة الخدمة العسكرية (دون دفع أي مقابل) حتى نعطي الناس شيئاً يفعلونه. في الواقع سيكون العصر الألفي قد وصل "فالفهد (حيث لا يوجد عنده شيء آخر يفعله) سيرقد مع الكبش" وفي هذه الحالة سنتبع خطى يورام أريدور في طريق الدولرة وستتحقق النبوءة "وسيقودهم طفل صغير" (أشعياء 11/6).

وبعد حادثة بولارد واعتراض الولايات المتحدة على ترقية بعض الضباط الإسرائيليين المتورطين في الحادث وخضوع إسرائيل اقترح أحد الصحفيين الإسرائيلين أن تنتقم الدولة الصهيونية بتعيين بولارد نفسه سفيراً لإسرائيل لدى الولايات المتحدة، أي أن تنتحر الدولة الصهيونية تماماً.

ويدرك الإسرائيليين ورطتهم التاريخية كدولة استيطانية ليهود العالم الذين يرفضون الحضور إليها، فغالبيتهم الساحقة صهاينة توطينيون، أي أنهم على استعداد كامل لأن يطلقوا الشعارات الصهيونية الملتهبة عن الوطن القومي وأن يتظاهروا من أجله وأن يدفعوا التبرعات له، ولكنهم لا يظهرون أي استعداد للاستيطان فيه. وقد وصف المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف هذا النوع من الصهيونية بأنه «صهيونية الصالونات»، كما أشار لها آخر بأنها «صهيونية بدون استيطان». وهذه المفارقة لا يمكن أن يتعامل معها الإسرائيليون إلا من خلال النكتة، فدولتهم الصهيونية تؤسس مستوطنات في الضفة الغربية تُسمَّى «مستوطنات الأشباح» (بالإنجليزية: دمي ستلمنت dummy settlements) إذ لا يوجد فيها مستوطنون. فيقول الإسرائيليون في إشارة واضحة ليهود الولايات المتحدة، إن أهم «دولة يهودية» في العالم هي «دولة نيويورك اليهودية» the Jewish State of New York. وفي هذا لعب بالألفاظ، فكلمة State الإنجليزية تعني «دولة» و«ولاية» في الوقت نفسه. كما يشير الإسرائيليون إلى يهود أمريكا باعتبارهم Jewish Wasps، وكلمة «واسب»، والتي تعني «دبور»، هي اختصار للعبارة الإنجليزية white Anglo-Saxon Protestant أي «بروتستانتي أبيض من أصل أنجلوساكسوني»، فكأن يهود أمريكا أمريكيون لحماً ودماً وقلباً وقالباً ولكنهم يتمسحون في الهوية اليهودية.

ويرى بعض الإسرائيليين أن يهود الولايات المتحدة ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها «ديزني لاند» يهودية، أي مدينة ملاه يهودية يقصدونها بهدف الترويح عن النفس. وقال آخر إنها بالنسبة لهم بمنزلة «متحف قومي يهودي» يدخلونه ويقضون فيه بضع سويعات ويخرجون مليئين بالحماس الوطني ويعودون بعدها إلى بيوتهم وأوطانهم الحقيقية. وقد استخدم أحد المثقفين اصطلاح «فندق صهيون» ليصف علاقة يهود العالم بإسرائيل، فهم لا يحضرون إلى إسرائيل إلا حينما يكون الجو حسناً في الربيع والصيف، ويتركونها في الخريف والشتاء لعمال الفندق (من الصهاينة الاستيطانيين) ليغلقوا الأبواب والنوافذ ويقوموا بأعمال الصيانة والتحسينات إلى أن يعود السياح من الصهاينة التوطينيين أحباء فندق صهيون (وعلى كل يعود اصطلاح «صهيونية» لفعل «يصون»، حسب أحد التفسيرات، ولذا إذا قام الصهاينة بأعمال الصيانة فإن هذا أمر منطقي).

أما دفع المعونات للوطن القومي فهو هدف كثير من النكت التفكيكية. وقد أشار أحد المعلقين إلى ما سماه «يهودية دفتر الشيكات» وهو اليهودي الذي يعتقد أن بوسعه تحقيق هويته اليهودية بأن يدفع التبرعات للمؤسسات اليهودية والصهيونية. وهو يدفع هذا الشيك ليريح ضميره وحتى يمكنه بعد ذلك أن يتمتع بحياته الأمريكية الاستهلاكية غير اليهودية دون أي حرج وبشراهة بالغة.

وهناك من يذهب إلى أن دفع المعونات للوطن القومي يتم خوفاً منه لا حباً فيه. ومن هنا سمَّى الحاخام آرثر هرتزبرج يهود الولايات المتحدة «يهود النفقة»، أي أنهم يدفعون التبرعات للدولة الصهيونية لا حباً فيها وإنما اتقاءً لشرها ولشراء سكوتها عنهم. وقد استخدم إسرائيلي آخر صورة مجازية مغايرة تماماً، ولكنها تعبِّر عن نفس المعنى، أي الاتصال المؤقت وعدم الالتزام، حينما قال: إن يهود الخارج يغدقون الأموال على إسرائيل مثلما يغدق الرجل الأموال على عشيقته التي تعطيه بضع سويعات من السعادة الملونة، ولكنه يعود في نهاية الأمر لزوجته الأمريكية - الحقيقة الدائمة!

لكل هذا عُرِّف الصهيوني بأنه يهودي يجمع المال من يهودي ثان لإرسال يهودي ثالث إلى أرض الميعاد، والصهيوني هنا هو الصهيوني التوطيني. وقد شبَّه أحد المفكرين اليهود الصهاينة التوطينيين بأعضاء فرق الإنشاد العسكري الذين ينشدون بحماس شديد عبارات مثل "تقدموا! تقدموا!" ولكنهم واقفون في أماكنهم لا يبرحونها ولا يتقدمون خطوة واحدة.

وحتى حينما يأتي اليهود من الخارج للاستيطان، فالأمر لا يخلو من المشاكل. فعلى سبيل المثال هناك مشكلة السفارد والإشكناز الذين يتبادلون الاتهامات والنكات. فيشير الإشكناز للسفارد باعتبارهم "شفارتز" أي "سود" ويقولون إن "الفرانك كرانك" أو "شحوريم"، أي إن "السفارد مرض"، ويرد السفارد بدورهم بالحديث عن "إشكي نازي". وهناك نكتة تبادلها السفارد عن طفل سفاري سئل عما يود أن يصبح حينما يكبر فكان رده "إشكنازي"! ولم يختلف الأمر كثيراً مع حضور المهاجرين السوفييت. فقد لاحظ الإسرائيليون أنهم صهاينة استيطانيون قالباً، أما قلباً فهم مرتزقة تماماً، باحثين عن الحراك الاجتماعي بأي ثمن وفي أي مكان، حتى لو كان أرض الميعاد. فهم جاءوا إلى صهيون لا بسبب قداستها وإنما بسبب أسعارها والفرص المادية المتاحة لهم. وتتناقل الصحف الإسرائيلية تصريحاتهم التي تعبِّر عن موقفهم النفعي تماماً. فواحد منهم يقول إنه لم يأت لاقتناء سيارة، فقد كان عنده سيارة في روسيا، وإنما أتى لاقتناء سيارة أكبر. وآخر يشكو من أن أرض الميعاد حارة جداً، وثالث، رغم ادعاءاته اليهودية، يظهر أنه لا يعرف عن عقيدته المزعومة سوى أن اليهود يوقدون الشموع في أحد أيام الأسبوع: الثلاثاء أو السبت، ورابع يسخر من حائط المبكى (بالعبرية: كوتيل) ويشير إليه بأنه «ديسكوتيل». وقد وصفت إحدى الصحف الإسرائيلية هؤلاء المهاجرين بأنهم يجلسون على حقائبهم، أي أنهم يتحينون الفرصة السانحة كي يفروا من صهيون، إلى أي مكان آخر يحقق لهم قدراً أكبر من الحراك الاجتماعي.

وقد كتب صحفي إسرائيلي خبيث، مقالاً فكاهياً في باب كان يُسمَّى «العمود الخامس» (بالإنجليزية: ففث كولامن Fifth Column) في الجيروساليم بوست (وهي عبارة يمكن ترجمتها أيضاً إلى «الطابور الخامس») معلقاً على وضع المهاجرين الجدد.

يبدأ المقال في مكتب التوظيف في إسرائيل ويدخل شاب تبدو عليه علامات الذكاء فيسأله الموظف: ماذا تعمل؟ فيقول "مهاجر جديد" فيفهم الموظف من إجابته هذه أنه من الوافدين ويسأله أي وظيفة تود أن تشغلها؟ فيجيبه الشاب "مهاجر جديد".

- نعم فهمت أنك "مهاجر جديد" ولكن ما نوع العمل الذي تود تأديته؟

- "مهاجر جديد".

فيبتسم الموظف إذ يتحقق من أن الشاب لا يفهم العبرية ويتحدث معه ببطء شديد.

- أأ نـ نـ ت

مـ مـ هـ هـا جـ جــ ر

جـ د يــ يـ د

حسناً أين ولدت؟

فيجيبه الشاب: "بتاح تكفا". وعند سماع هذه العبارة تغمر الدهشة وجه الموظف تماماً، إذ أن بتاح تكفا هي أول مستوطنة صهيونية في فلسطين والمولود فيها لا يمكن أن يكون وافداً فقد وُلد على أرض فلسطين المحتلة، وأن لغته الأولى هي العبرية، وحينما يطلب الموظف من الشاب تفسيراً يجيب هذا بقوله:

سمعت أن لديكم وظائف للمهاجرين الجدد. وأنا عاطل عن العمل. ولذا قررت أن أكون مهاجراً جديداً.. وقد سمعت أن هناك مئات الملايين من الدولارات لتأهيل المهاجرين الجدد. لمَ لا يُعاد تأهيلي حتى أصبح مهاجراً جديداً؟ فمثلاً يمكنني أن أتعلم كيف أتحدث بالعبرية الأساسية. ويمكن أن أتحدثها بلهجة رديئة، وسأرتدي ملابس مضحكة مثل المهاجرين الجدد. انظر، أنا مستعد أن أضحي بكل هذه الأمور، لقد سُرحت من الجيش منذ عام ولم أعثر بعد على عمل. أسمع أن كثيراً من أصدقائي ينزحون عن هذا البلد ولا أريد أن أفعل ذلك فأنا مؤمن بالصهيونية، وأحب هذا البلد، وإذا كانت الطريقة الوحيدة للبقاء هنا هي أن أصبح "مهاجراً جديداً" محترفاً حسناً إذن سأفعل ذلك. أعرف أن هذا يعني أنني سأصبح عضواً في أقلية محتقرة وأن أشعر بالحنين نحو وطني الأصلي.. كل شيء.. لا مانع عندي! إذا كان هذا هو المطلوب فأنا على استعداد للقيام به، سأكون مهاجراً جديداً مثالياً.. سأقضي وقتاً قصيراً في معهد تعليم العبرية. وسأتكيف تماماً في الجيش، وأعدك أن أطلب كل شيء مثل المهاجرين الجدد، وسأبقي هيئة الاستيعاب في حالة قلق حيث أنني لن أكف عن الشكوى بخصوص كل ما أحتاج إليه.

وقد رسم لنا الكاتب صورة فكاهية دقيقة للمهاجر الجديد وموقفه الاستهلاكي وبحثه عن الترف وشكواه المستمرة، عند هذه النقطة يُظهر الموظف تعاطفاً نحو الشاب ولكن تظهر مشكلة وهي أن حفيظة النفوس الخاصة به تدل على أنه وُلد في بتاح تكفا وبالتالي من المستحيل تصنيفه "مهاجراً جديداً"، فيخبره الشاب أنه لا يوجد مشكلة البتة ويطلب ستكر (ورقة لاصقة). وحينما يستفسر الموظف عن السبب يخبره الشاب أن وزارة الداخلية تصدر ورقات لاصقة تقول إن المعلومات الواردة بحفيظة النفوس ليست دليلاً قانونياً على القومية. عند هذه النقطة يرفض الموظف ويعرفه أن الورقات اللاصقة التي تصدرها وزارة الداخلية تشير إلى قضية من هو اليهودي، وتعني أن مَنْ يسجل نفسه يهودياً فيها لا يعني بالضرورة أن قد تهود حسب الشريعة فالإشارة هنا - كما يقول الموظف - إنما هي إلى التهود غير الشرعي، وهنا يقول الشاب: وماذا عن وصمة الانتماء إلى جيل الصابرا طيلة حياتي؟

والعبارة الأخيرة تلخص الموقف تماماً، وتبين الصراع المرتقب بين الوافدين والمستوطنين القدامى.

ويكتب نفس الكاتب مقالاً فكاهياً آخر، يُعلق فيه على مصير الصهيونية ككل ووضعها وما آلت إليه. وعنوان المقال هو «الصهيونية الخالدة» والمقال عبارة عن حوار بين متشائم ومتفائل. وحين يعلن الأول عن موت الصهيونية يؤكد له الثاني خلودها ثم يقدم له الأدلة الدامغة والبراهين القوية، مؤكداً له أن الهجرة الصهيونية من الولايات المتحدة لا تزال على قدم وساق". وبنبرة كلها يقين يقول "إن القنصلية الإسرائيلية في نيويورك أرسلت مائة نعش - إذ أن يهود أمريكا يحبون أن يُدفَنوا في إسرائيل" (وهذه ليست نكتة وإنما حقيقة تشكل استمراراً للتقاليد الدينية اليهودية). المهاجرون يحضرون إذن - كما يقول المتفائل - ولكن في قسم البضائع، والتظاهرات الصهيونية لا تزال تُعقَد ولكن في مكاتب الجنازات، وهي تطرح الشعار التالي: "اعطوني المؤمَّن عليهم، الموتى، الموميات، التي تود أن ترقد حرة" (وهذه معارضة ساخرة للشعار المكتوب على قاعدة تمثال الحرية في الولايات المتحدة). "ورغبة يهود أمريكا أن يُدفَنوا في إسرائيل تقوم دليلاً على أنهم قد يعمدون بوجودهم الزمني أو الدنيوي للولايات المتحدة، ولكن حينما يتصل الأمر بالأبدية فإنهم يعرفون أن وطنهم الحقيقي هو إسرائيل. ومن هنا «الصهيونية الخالدة». "كان بوسعهم أن يُدفَنوا في إحدى المناطق كثيفة الأشجار في الولايات المتحدة، ولكنهم يفضلون الريادة في أرض الميعاد بين شعبهم في تابوت خشبي... ويا لهم من مهاجرين مخلصين.. لا تراهم قط يتألمون من مفارقة أوطانهم ولا من أنه لا يوجد «كنتاكي فرايد تشيكن» في إسرائيل، بل إنك لا تراهم على الإطلاق، حمداً للسماء كنا نظن أن الهجرة من الولايات المتحدة قد انتهت... ولكننا نعرف الآن الحقيقة... إن الأمريكيين يموتون من أجل الحضور لإسرائيل".

الحمائم والصقور والنعام والطيور الإدراكية الأخرى: الاستجابة الاسرائيلية للانتفاضة
Hawks, Doves, Ostriches and Other Cognitive Birds: The Israeli Response to the Intifada
تم رصد استجابة المستوطنين الصهاينة للانتفاضة من خلال مقولتين اثنتين وحسب: الاعتدال والتشدُّد اللذين يُشار لهما بالحمائم والصقور. وهذه طريقة متعسفة جداً في الرصد، ولعلها تعود إلى تبسيطات النموذج المادي الإدراكي الذى يحوِّل الإنسان المركب إلى مادة بسيطة ثم ينظر لها من الخارج كما لو كانت مجرد حركة دون دوافع أو وعي. وتميل التصنيفات المادية إلى تصنيف الواقع بأسره إلى سالب وموجب والنظر إليه بشكل كمي براني.


وقد يكون من المفيد توسيع النموذج الإدراكي بما يتفق مع تركيبية الظاهرة الصهيونية فتضم للحمائم والصقور طيوراً إدراكية أخرى مثل الدجاج والنعام (وتنويعات عليها). والحمائم كما يُقال مسالمة دئماً، والصقور يُفترَض فيها أنها عدوانية شرسة. أما الدجاج فهو متخصص في الهرب، ويجيد النعام فن دفن رأسه في الرمال. والنعام هو أكثر أنواع الطيور الإدراكية انتشاراً في المُستوطَن الصهيوني وبخاصة بعد الانتفاضة، وإن كنا لا نعدم عدداً كبيراً من الدجاج الذى يتحدث كالصقور، وتوجد قلة نادرة من الحمائم ليس لها وزن كبير (على عكس ما تصوره الشائعات)، وإن كان يوجد عدد كبير من الصقور التى تتحدث كالحمائم. ويقول الدكتور قدري حفني: إن اليهود الشرقيين مثلاً هم حمائم تود أن تكون صقوراً لتثبت إخلاصها للنخبة الحاكمة الإشكنازية. وقد أسقط كثير من المعلقين السياسيين كل التدرجات والتداخلات من إدراكنا لأن نموذجهم المعرفي قاصر ساذج يحوى مقولتين اثنتين، ولذا لم نر الدجاج أو النعام ولا عشرات الطيور الإسرائيلية الأخرى القابعة التى تنتظر من يكتشفها ويرصدها.

1 ـ الحمائم:

وجهت صحيفة حداشوت سؤالاً إلى عدد من الإسرائيلين البارزين الذين يمثلون مختلف التيارات السياسية والثقافية. يقول: ماذا كنت تفعل لو كنت فلسطينياً؟ فجاء رد معظمهم بأنهم كانوا سيفعلون ما يفعله الفلسطينيون الآن، أى الانضمام للانتفاضة. بل أضاف أحدهم أنه «كان سيفعل أكثر من ذلك بعشرة أضعاف، وقبل هذا الوقت بكثير. وكنت سأفعل ذلك في ديزنجوف (أحد شوارع تل أبيب الرئيسية) بدلاً من نابلس. فهناك سيكون تأثيره أقوى». وهذا التصريح المسالم لا يؤدي بالضرورة إلى سلوك حمائمي، فموشي ديان كان مدركاً تماماً "لعدالة" المطالب العربية، وأن العرب سيثورون حتماً ويقاتلون ضد الصهاينة. ولكن مثل هذا الإدراك لا يؤدي بالضرورة إلى الانحياز للمظلومين المنتفضين، فما يحدِّد السلوك النهائي ليس الإدراك وحسب، وإنما موازين القـوى أيضاً ومجموعـة هائلة من العناصر الأخرى المادية والمعنوية. فإن كان العربي ضعيفاً خاملاً، فإن إدراك «عدالة» مطالبه قد يؤدي إلى مزيد من التشدد لأن صاحب المطالب العادلة قد يتحرك في أىة لحظة للحصول عليها، ولذا لابد من ضربه بيد من حديد قبل أن يصبح قوياً وقبل فوات الأوان. وهذا هو موقف بن جوريون وجابوتنسكي وشلومو أرونسون وغيرهم. ولذا يمكن القول بأن المثقفين الإسرائيليين الذى عبَّروا عن تفهمهم لموقف العرب ليسوا «حمائم بالفعل» وإنما «هم حمائم بالقوة» بالمعنى الحرفي والفلسفي. وهذه الاستجابة الحمائمية محصورة في أوساط المثقفين وبعض الشخصيات السياسية التي ليس لها وزن كبير، ولا أعتقد أنها تؤثر في الرأي العام الإسرائيلي أو في صنع القرار الإسرائيلي.

2 ـ الدجاج:

الدجاج موجود بكثرة، مثل يائيل إسكيد الذي قرر أنه «لا يذهب الآن إلى غزة سوى الحمقى المستوطنين. ولا يذهب أحد إلى الضفة إلا لسبب وجيه، سبب وجيه جداً. فنحن خائفون». وعملية «تدجين» المواطنين على يد جنرالات الحجارة لا تزال قائمة على قدم وساق. وقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن المستوطنين في زمن الانتفاضة لا يسافرون إلا فيما ندر، ولا يتركون الأطفال بمفردهم ولا يخرجون إلا لأمور ضرورية. وشاهدت العائلات اليهودية جدلاً حاداً إذا ما أرادت السفر. فإذا سافر مستوطن وحده، فهو «مغامر» أما إذا اصطحب زوجته وأطفاله، فهو «مجنون».

وأكدت مستوطنة صهيونية أن بريق المستوطنات قد خفت وحينما تمر حافلة المستوطنين بجوار مخيم عاناتا (الفلسطيني) فإنها تسرع بطريقة مجنونة لتتحاشي الأحجار. وبدأ المستوطنون يسدلون الستائر ويغلقون المداخل بعد أن كانت المستوطنة تتمتع بجو انفتاحي بهيج. فالوضع، كما تقول السيدة، مخيف، وخصوصاً أنها تعرف أن الجنود الإسرائيليين أوقفوا مظاهرة من 600 عربي كانت متجهة نحو المستوطنة: "ماذا كان يمكن أن يحدث لنا لو أن الجنود فشلوا في إيقافهم؟ ماذا كان يمكن أن يحدث لأطفالنا؟".

والخاصية «الدجاجية» للمستوطنين تبدت في محاولتهم الظهور بمظهر الصقور. فسائق الحافلة رقم 25 (من القدس للضفة) يشيد بركابه من المستوطنين الذين لا يهلعون من الحجارة ويجيدون فن الاستجابة فهم كما يقول: "يتوقعون الهجوم في أىة لحظة، معتادون عليه". وعندما يبدأ الهجوم فهم يتصرفون "كالجنود المدربين، على ما يجب عمله" إذ ينبطحون في أرض الحافلة. والصورة الكامنة هنا هى صورة إنسان قلق يتوقع الهجوم ويجيد فن الاختباء.

ولنأخذ المستوطن ليمودي جنيان، كمثال آخر، فهو، يهودي أرثوذكسي عجوز يعمل خياطاً، وهو صقر لا شك فيه يطالب بضرب العرب وتحطيمهم ثم يقول: "نحن نفعل ذلك عند الحدود. والأمر لا يختلف هنا [في المناطق المحتلة] فتلك حدود، وهذه أيضاً حدود. كل البلد حدود". وإدراك هذا المُستوطن العجوز لفلسطين المحتلة كبلد كلها حدود هو إدراك طريف جداً يبين مدى الهلع والإحساس بانعدام الأمن.

ومن أيسر الطرق لتحديد استجابة المستوطنين دراسات علماء النفس الإسرائيلين. وقد لاحظ بعض علماء النفس الأمريكيين انتشار ما سموه «أعراض فيتنام» بين الجنود الإسرائيليين، وهو الإحساس بالإحباط لدخولهم حرباً غير كريمة لا معنى لها، لا يمكنهم كسبها أو الانسحاب منها، فيهاجمهم اليمين الإسرائيلي لتقاعسهم ولأنهم لا يستخدمون مزيداً من العنف، ويهاجمهم يهود العالم وبعض الحمائم الإسرائيليين لأنهم يحطمون عظام المنتفضين، ولكن لا اليمين ولا اليسار يطرح على الجنود البديل. وقد ذكرت صحيفة هآرتس أن نسبة المستوطنين الصهاينة الذين يرتادون العيادات النفسية قد ارتفع ثلاثة أضعاف بسبب القلق الذى أصابهم من جراء استمرار الانتفاضة. وقد عُقد اجتماع في بلدية القدس لمناقشة هذه الظاهرة فأشار مدير إحدى المدارس الثانوية إلى خوف المعلمين من الوصول إلى مدارسهم "بسبب خوفهم الشديد من تساقط الحجارة على الحافلات وعلى رؤوس الركاب". "كما عبَّر مدير مدرسة آخر عن خوفه من تسرُّب هذا الخوف والمرض النفسى من المعلمين والطلبة ليشمل الصهاينة كافة في الأراضى المحتلة". وعلى كل ليس من السهل رَصْد استجابات المستوطنين ومخاوفهم بالطريقة التقليدية فقد جاء في الجيروساليم بوست أن أحد علماء النفس الإسرائيليين صرَّح أنه بعد 40 عاماً من الاحتلال لم تظهر أىة حالات بين المرضى النفسيين تعبِّر عن قلقها من العرب، وكأن عملية الكبت كاملة نظراً لأن التهديد العربي كامل، ولا يستطيع الجهاز العصبي للمستوطن الصهيوني أن يواجه العربي بشكل مباشر ولو على مستوى اللاوعي. وعلى كل من يحب أن يعترف أنه دجاجة؟ ولذا فمن الواضح أن نتائج بحوث الدراسات الإسرائيلية هى نتائج استخلصها الباحثون وجرَّدوها من أقوال المرضي الذين أبى معظمهم أن يعيِّن العرب كمصدر لمخاوفه.

3 ـ النعام:

أن يرفض المــرء أن يكـون «دجاجة» فهذه مسألة إرادية واعية، ولكن أن يتحـوَّل المُستــوطَن إلى نعـامة فهذا أمر يتم رغم إرادته، ولا يلاحظها هـو وإنمــا يلاحظـها البـاحث الذي ينظر إليه من الخارج .

والنعام في المُستوطَن الصهيوني كثير، مثل المدعو جاباى، وهو صاحب مطعم صغير في أحد المستوطنات أسكت خوفه بقوله: "أهم الأشياء الآن أن نوقف العنف من الطرفين وأن نجلس سوياً ونشرب القهوة ونحل مشاكلنا كبشر"، وهو لم يتحدث قط عن طريق التوصُّل لهذا السلام وكيف سيمكن الوصول لتسوية ما (الجيرو ساليم بوست).

وقد حدَّد أحد الضباط الإسرائيلين هذا الموقف النعامي بدقة بالغة حين صرح لصحيفة حداشوت بأن اختفاء ظاهرة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بعصا سحرية (أى على طريقة النعام) هو مجرد تعبير عن آمال وأوهام يجب أن يستيقظ منها الإسرائيليون (بدلاً من دفن رؤوسهم في الرمل أو في أرض فلسطين).

ولعل هذه العصا السحرية توجد في أحد مبانى حزب الليكود، إذ أن شارون صرَّح عام 1988 بأن الانتفاضة سوف تنتهى فور وصول الليكود إلى السلطة في نهاية العام. ولكن شارون يعنى بطبيعة الحال حَمّامات الدم غير السحرية. ولكن حتى لا نصنفه نعامة كان عليه أن يقدم لنا الإجراءات، لأن حمامات الدم تؤدى أحياناً إلى تصعيد الانتفاضات والثورات، كما يعرف الأمريكيون عن فيتنام والفرنسيون عن الجزائر.

وبعد الانتفاضة ترجم إدراك النعام نفسه إلى تركيز على الجانب الفنى لقمع الانتفاضة كما لو كانت المسألة مجرد إجراءات يتم تنفيذها أو خطوات يتم اتخاذها بحيث تتحوَّل القضية برمتها إلى مسألة إجرائية. (هل الرصاص المطاطي ومدافع المياه كفيلة بالقضاء على الانتفاضة أم لا؟) دون التوجه للأسئلة النهائية. وقد اشتكى شمعون بيريز من أن الوزارة الإسرائيلية تتحلى بنفس الموقف الذي نسميه بالنعامي فهى تناقش النقط الدقيقة الفنية الخاصة بإجراءات الأمن وطريقة التصدي للانتفاضة وتتجاهل تماماً الحلول السياسية اللازمة. وأضاف: "في المسـتقبل حينما يقرأ أحد محـاضر جلسات الوزارة فإنه لن يصدق عينيه".

وقد كتب ب. مايكيل في هآرتس مقالاً بعنوان «عيد ميلاد سعيد» وصف فيه بشكل كوميدى إدراك النعام هذا، فقال: "الحمد لله أصدرت الحكومة بياناً أكدت فيه أنه لا يوجد عصيان مدنى في إسرائيل". وقد اقترح الكاتب إصدار قانون باسم «قانون غياب العصيان» يقضى بمعاقبة كل من تسوِّل له نفسه أن يدَّعي أو يكتب أو حتى أن يلمح بأن هناك عصياناً مدنياً. ولكن مع هذا تبقى مشكلة صغيرة وهى ماذا يحدث هناك إذن في المناطق المحررة من أرض إسرائيل؟. ثم يحاول الكاتب أن يصف الانتفاضة بطريقة كوميدية تقرر ما يحدث وتنكره في ذات الوقت، أى يقول الشيء وعكسه: "ثمة مجموعات من الأطفال المدربين بعناية الذين يفتقرون إلى المبادرة، يتصرفون بتلقائية ويتم توجيههم من الخارج من قبل المنظمات الإرهابية التى لم تنجح في اختراق المناطق بسبب المعركة المستمرة التى خاضتها قوات الأمن ضدهم. ولذا يمكن أن نقرر أن هذه المنظمات وحدها وراء هذه الانتفاضة التلقائية، التى تظهر وراءها بوضوح اليد الموجهة التى يدل وجودها على فشل منظمة التحرير الفلسطينية في أن تكسب دعم الجماهير المحلية القانعة بالاحتلال الإسرائيلي لو تُركت وشأنها، فالاضطرابات ليست سوى حدث عابر مستمر، ولكنها ليست عصياناً مدنياً".

إن إدراك النعام هـو العنـصرية الصـهيونية مقلـوبة حرفياً على رأسها، فالعنصرية الصهيونية تعبير عن الرغبة الصهيونية في إحلال العنصر اليهودى محل العرب. ولذا فهى تهدف إلى تغييب العرب، ولكن إن عاد العربي بهـذا العنف، وإن ظهر على شاشـة الوعي ورفــض الغياب، فما العمل إذن، وما الحل؟ الحل النعامي ـ بطبيعة الحال ـ أن يدفن المُستوطَن رأسه في الرمل فيغيب العربي مرة أخرى.

4 ـ الصقور:

والصقور، كما هو متوقَّع، كثيرون، فرئيس الوزراء الإسرائيلي شامير صرح بأنه لا توجد قوة في العالم "لا المتظاهرون ولا الإرهابيون ولا الضغط يمكنها أن تمنع إسرائيل من الاستيطان في كل أجزاء أرض فلسطين". وغنى عن القول أن عملية الاستيطان لا يمكن أن تتم عن طريق الحب والإخاء والإقناع الهادئ، فالعرب ولا شك غير موافقين أن تؤخذ أراضيهم. وقد أضاف شامير قائلاً: "أما أولئك الذين يقولون: إننا نحن الإسرائيليين غزاة، وإن قال مثيرو القلاقل والقتلة والإرهابيون: إنهم أصحاب الحقوق الحقيقية، فإننا نقول لهم من أعالي هذا الجبل ومنظور آلاف السنين من التاريخ: أنهم مجرد جراد بالقياس لنا". وكلنا يعرف ماذا يُفعَل بالجراد، فالصورة المجازية هنا تحوي داخلها مؤشرات نحو الإبادة. وقد صرَّح رابين بأن إسرائيل لم تستخدم كل أسلحتها بعد وأنها "ستعيد فرض الأمن حتى ولو كان موجعاً". وحسب تجربة الفلسطينين العرب، نجد أن الأمن الإسرائيلي دائماً موجع. وقد أشار رابين إلى بعض الطرق التى يجب استخدامها لفرض هذا الأمن الموجع. فقد حذر المنتفضين أن كل من يتحدى إسرائيل "سيحطم رأسه على صخور هذه القلعة وحيطانها".

وصرَّح إسحق مردخاى بقوله: "إن قوات الأمن ستتخذ جميع الإجراءات اللازمة من أجل إعادة الأمن إلى نصابه. ولن تتوانى في استعمال جميع الوسائل من أجل تحقيق هذ الهدف". وتلجأ القوات الإسرائيلية لكسر العظام وإطلاق النار وترحيل قواد الانتفاضة خارج الوطن. بل إن الإبداع الصهيوني في القمع بدأ يأخذ أشكالاً جديدة. فهناك ما يُسمَّى «بحظر التجول النشيط» ويتلخص في اقتحام المنازل في الظلام أثناء حظر التجول حيث يجرى الجنود الصهاينة تفتيشاً عنيفاً داخل البيوت وينهالون بالضرب على رب العائلة والابن الأكبر.

وقد علَّل قائد الجيش هذا الأسلوب الجديد في القمع بأنه محاولة لإعادة بث الرعب من الجيش في قلوب الفلسطينين، فالهدف ليس النظام الخارجى وحسب، وإنما إعادة الثقة الذاتية للجنود، بعد أن أصبحوا أضحوكة طوال أسابيع. ويبدو أن اجتياح لبنان («عملية القانون والنظام» كما يسميها الإسرائيليون) تهدف إلى نفس الشيء. فقد وصفت الصنداى تايمز هذه الحملة بأنها تشكل محاولة من جانب إسرائيل لاستعادة زمام المبادرة بعرض عضلاتها وإظهار أنها عادت إلى مقعد السائق. وقال مردخاي غور: "سيذكِّر الاجتياح سكان الأراضي المحتلة بأن الجيش ليس مفككاًً".

وقد اقترح شلومو جازيت (رئيس المخابرات الأسبق) أنه يجب عدم الاكتفاء بهدم منزل الإرهابى كعقوبة، بل يجب هدم كل شئ في محيط قطره 200 ـ 400 متر من منزله. وحينما وقعت فتاة صغيرة من إحدى المستوطنات الصهيونية الواقعة بالقرب من قرية بيتا العربية (من قضاء نابلس) صريعة رصاص أحد المستوطنين وأُشيع أنها رُجمت بالحجارة طالب وزير الأديان وزعيم الحزب الديني (المفدال) بأن تقوم قوات الشرطة الاسرائيلية بإزالة قرية بيتا من على وجه الأرض تماماً وإقامة مستوطنة تحمل اسم الفتاة اليهودية التى قُتلت فوق أنقاضها، ويجب أيضاً طرد وإبعاد مئات المواطنين العرب من سكان القرية.

وقد أدرك رفائيل أيتان رئيس أركان القوات المسلحة الإسرائيلية الأسبق ومؤسس حزب أن الانتفاضة هى الطلقة الأولى في الحرب القادمة، وعلَّق على دجاجية الجنود الإسرائيلين وكيف يولون الأدبار أمام الأحجار، وكيف ينظر العالم كله ليرى ذلك المنظر: "منظر جيش ضعيف وحكومة ممزقة ولا تعمل". وقد قرر إيتان أن يقدم اقتراحاته للقضاء على الانتفاضة، وهى تتسم بكل تبسيطات النماذج المادية العملية: "فإذا أشعل العرب إطاراً في شارع رئيسى يجب جر هذا الإطار إلى أقرب بيت في المنطقة من مكان اشتعاله. وخلال ثوان يخرج سكان البيت ويطفئوا الإطار؛ لأنه سيؤدي إلى حرق بيتهم إذا لم يفعلوا ذلك". واقترح أن تُمنَع سيارات العرب من السير في الشارع المغلق بواسطة حاجز من الحجارة لمدة شهرين. وهذا لا يحتاج جيشاً كاملاً بل شرطيين يقفان على حافة الطريق. وأشار إيتان إلى حقيقة مهمة وهو أنه بين عام 1967و1977 تم إبعاد (أى تغييب) 800 عربي محرض، (أثناء حكم المعراخ المعتدل) ويجب إبعاد 400 ـ 500 محرض، بل إبعاد أمهاتهم وأبناء عائلاتهم. ولا يوجد أي إبداع قمعى في اقتراحات إيتان. وعلى كل من يود أن يحصل على اقتراحات مماثلة أن يدرس تاريخ الإرهاب النازي وسيجد أفكاراً أكثر إبداعاً وأكثر منهجية وأعلى كفاءة، فمفهوم العقاب الجماعي ليس من اختراع الصهاينة وإنما هى ممارسه استعمارية غربية قديمة وتقليد راسخ.

ويغوص المستوطنون أيضاً في التشدد، فمنهم من يرى ضرورة ضم القطاع والضفة تماماً. وكما قالت جريدة فرانكفورتر الجماينة: "إن معظم الإسرائيلين مع خط شامير المتشدد"، وإن «هدفهم إنهاء الوجود العربي في فلسطين»، وقعت إحدى الحوادث الفدائية بالقرب من إحدى القرى العربىة "طالب المستوطنون اليهود بتدمير القرية على رؤوس سكانها وتسوية القرية بالأرض. وشطبها نهائياً من الخريطة حتى تكون عبرة للغير". ومن المستوطنين من يرى ضرورة تسوية الحساب مع العـرب كما سـوَّاه الأمريكيون مع الهنود الحمر، بشرط أن يتم ذلك بعيداً عن عدسات التليفزيون.

لقد اقتبسنا حتى الآن كلمات الصهاينة المتشددة وحسب، ولكن يجب أن نفرِّق بين الأقوال والأفعال. فالأقوال لا تعبِّر عن الموقف المتكامل وإنما تعبِّر عن تشـدُّد الإنسـان اللفظي وعن نيته وقصده وعن حالته العقلية، أى عن جزء من كل. ولدراسة مدى تشدُّد الإسرائيليين الفعلى وفي كليته، علينا تجاوز النية والقصد والديباجات لنرصد عناصر أخرى مركبة تتجاوز إرادة القائل نفسه، فالتشدُّد اللفظي، أى الموقف الصقري الكلامي، قد يكون أحياناً بمنزلة غطاء لتغطية الموقف الدجاجي أو النعامي الفعلي.

خذ مثلاً رغبة إيتان أن يمنع مرور السيارات ويكتفي بجنديين يقفان على ناحية الشارع. هل درس إمكانية إلقاء الحجارة عليهما واحتمال احتياجهما إلى فرقة عسكرية كاملة لحمايتهما؟ أما فيما يتصل برحيل مئات القيادات، ألا يحتاج الأمر لآليات معينة وآلة قمعية معينة لأن قاعدة هؤلاء القادة في حالة استنفار؟ ولكن هذه الأسئلة تفترض أن صاحب الإقتراح عنده الصورة الكلية، والأمر ليس كذلك فالنموذج الإدراكى المادى يجتزئ مجموعة من الحقائق ويستبعد الحقائق الإنسانية والتاريخ، ولذا يتحوَّل الصقر الهائج من منظور الممارسة إلى نعام مضحك. خذ مثلا رغبة هذا المستوطن الذى يود ذبح العرب وإبادتهم بعيداً عن كاميرات التليفزيون، تماماً كما فعل الأمريكان في تجربة استيطانية مماثلة، وهذه هى شهوة الصقور. ومع هذا بعد التدقيق نجد أن موقفه هذا نعامى تماماً، فهو يعرف أن التجربة الأمريكية الاستيطانية الإحلالية تمت إبتداء من القرن السابع عشر في منطقة لم تكن فيها الكثافة السكانية كبيرة، تسكنها عدة «أمم» من الهنود، تتسم حضارتهم بعدم التركيب، رغم جمالها ورقتها، ومن هنا كان من السهل إبادتهم بعيداً عن عين التلفزيون الشيطانية التي لم تكن قد اختُرعت بعد. أما هذا المُستوطَن الصهيوني فقد تمت تجربته الاستيطانية ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر في منطقة تعج بالسكان الذين تحيط بهم ملايين من إخوانهم ينتمون لتراث حضاري قديم مركب. وعلاوة على كل هذا أصبح في وسعهم الآن الحوار مع الكاميرا بكفاءة غير عادية، فالتشدد هنا هو من قبيل ما يمكن تسـميته «العادة السرية السـياسية»، والحلم بالمستحيل اللذيد.

ويجب أيضاً أن نرى التشـدُّد باعتباره تعـبيراً عن أزمة حقيقية وعميقة، فالصهاينة ـ كما أسلفنا ـ على استعداد لإظهار قدر كبير من التسامح حيال العربي إذا قبل هذا بالتطبيع وبأن يكون قطعة غيار يمكنه استخدامها وتوظيفها. حينئذ يمكن أن يُمنَح العربي كثيراً من الحقوق المدنية وبعض الحقوق السـياسية ويمكنـه أن يلعب ما شـاء من الطاولة أو حتى تنس الطاولة، أى أن يمارس هواياته إذا كان بلا هوية.

إن غاب العربي، وإن قنع وخنع ولم يتحد الشرعية الصهيونية، فبوسع الصهيوني أن يتخذ موقفاً معتدلاً تجاه دجاج عربي مستأنس تم تطبيعه، أما إن تحوَّل العربي إلى صقر ذي هوية يهاجم دفاعاًَ عنها فإن الاعتدال يختفي ويتخلى العدو عن ديموقراطيته الغريبة المزعومة، ويضرب بيد من حديد.

  • الثلاثاء PM 12:04
    2021-05-18
  • 1285
Powered by: GateGold