المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414293
يتصفح الموقع حاليا : 214

البحث

البحث

عرض المادة

بولنـدا حتـى القـرن السـادس عشـر

بولنـدا حتـى القـرن السـادس عشـر
Poland, to the Sixteenth Century
كانت حدود بولندا عبر تاريخها غير مستقرة لعدة أسباب من بينها موقعها الجغرافي بين القبائل الألمانية والقبائل الليتوانية والسلاف. ثم إنها واقعة على الحدود بين ثلاث دول عظمى (ألمانيا والنمسا وروسيا)، بل على حدود الدولة العثمانية في نهاية القرن السابع عشر. كما أن غياب أية عوائق طبيعية تحيط بها، وكونها أساساً أرضاً مستوية يجعلها عرضة للغزوات المسـتمرة. ولم يكن العنـصر السكاني في بولندا متجانساً، فالعناصر غير البولندية كانت تشكل نسبة مئوية كبيرة تصل أحياناً إلى أكثر من الثلث. وبولندا، بذلك، فريدة بين دول العالم الغربي التي تتسم بتجانسها السكاني الشديد. ويُلاحَظ أن تاريخ بولندا السياسي العاصف وكذلك موقعها كمعبر وساحة للصراع بين القوى يجعلانها تشبه فلسطين قبل الفتح الإسلامي من بعض الوجوه. ولا يمكن دراسة تاريخ الجماعة اليهودية في بولندا إلا بأخذ كل هذه العناصر في الاعتبار.


وإذا كانت حدود بولندا غير مستقرة، فإن مصطلح يهود بولندا نفسه غير واضح، فهو مصطلح فضفاض للغاية له معنيان أساسيان:

1 ـ المعنى الضيق: اليهود الذين يقطنون بولندا الكبرى (بوزنان) والصغرى (كراكوف)، وهي الأجزاء الأساسية في بولندا.

2 ـ المعنى الواسع: اليهود الذين كانوا يعيشون في المنطقة الشاسعة التي كانت تضمها مملكة بولندا وليتوانيا المتحدة.

وبالتالي، فإن هذا المعنى الأخير يشير إلى اليهود الذين وقعوا تحت الحكم البروسي والروسي والنمسوي بعد تقسيم بولندا، وهذا هو التعريف الذي سنأخذ به. وهو، بهذا المعنى، مرادف تقريباً لمصطلح «يهود اليديشية».

ولم يكن يهود بولندا عنصراً واحداً متجانساً بل كان يُشار إلى أقسام ثلاثة أساسية منهم باليديشية «البولاك»، وهم: يهود بولندا، و«الليتفاك» وهـم يهـود ليتوانيا الذين كانت معظـم القيادات الصهـيونية منهم، و«الجاليسيانر». وهم يهود جاليشيا.

ويعود تاريـخ بولنـدا إلى القرن العاشر حين قامت أسرة بياست بتوحيدها. ويُعَدُّ عام 966 عام تأسيس بولندا إذ اعتنق مايسكو الأول (963 ـ 992) فيه المسيحية. وخضعت بولندا لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية في روما عام 990 حتى لا تخضع للكنيسة الألمانية.

وأدَّى الغزو التتري لبولندا في 1241 ـ 1242 إلى تدميرها تماماً، كما قام الليتوانيون الوثنيون بالغارات عليها. وفقدت بولندا كثيراً من أراضيها، ولكنها استعادت وحدتها، مع بداية القرن الثالث عشر، وبدأت حركة لإعادة بناء الاقتصاد وتشييد المدن. ففي حكم كاسيمير الثالث ـ الأعظم (1333 ـ 1370)، تم بناء سبع وأربعين مدينة جديدة. وأقيمت في المدن مبان حجرية على النمط القوطي، كما شيدت قلاع حجرية للدفاع عن المدن. ولذا، يشار إلى كاسيمير في التاريخ البولندي بأنه « وجد بولندا خشباً وتركها حجراً ». وقد عُيِّن كاسيمير حاكماً ملكياً لكل مقاطعة يُسمَّى باللاتينية «ستاروستا كابيتانيوس Starosta Capitanus»، ويُسمَّى بالبولندية «فويفود»، وظل هذا أهم المناصب الإدارية مدة 470 عاماً. وجمع كاسيمير القوانين وصنفها في القانون البولندي (إيوس بولونيكم Ius Polonicum) والقـانون التيــوتوني (إيوس تيوتونيكم Ius Teutonicum). وكان الأول يطبـق على النبـلاء والثاني على سكان المـدن. ووسـع كاسيمير أطراف مملكته، وأصبحت إمــبراطــورية تعددية تضم بولنديين كاثوليك وألمان وروثينيان (سـكان أوكرانيا، أو روثينيا، الأصليون)، كما ضمت الأرثوذكـس والفلمنك واليهود والأرمن والتتر المسلمين واليهود القرّائـين ممن كـانوا من أصـل خــزري ويتحـدثون التـركيــة، أي أن السـكان كانوا يتبـعون عــدداً كبيراً من الديانـات وكـانوا يتحدثون اثنتى عشرة لغة. وتأسست أسرة ياجيلون (1386 ـ 1572) حينما تُوِّجت يادفيجا « ملكاً » لبولندا عام 1384 وتزوجت من دوق ليتوانيا الوثني الذي اعتنق المسيحية بعد موتها. وقد ظلت الوحدة أساساً وحدة بين أسرتين مالكتين ولكنها مع ذلك أدَّت إلى تحويل بولندا إلى دولة كبيرة بلغت أربعة أضعاف حجمها الأصلي. وتُعَدُّ إمبراطورية ياجيلون أكثر تعددية من سابقتها إذ ضمت عناصر سكانية جديدة. وأدَّى الاتحاد إلى حماية بولندا من هجمات التتار، ولكنه كان يعني أيضاً الاشتباك مع فرسان التيوتون الذين كانوا يهددون ليتوانيا. وقد ضمت بولندا روسيا الحمراء (جاليشيا) وبودوليا، وأكدت سيادتها على دوقية مولدافيا، وامتدت حدودها من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، أو «من البحر إلى البحر». ومع سقوط القسطنطينية في يد القوات العثمانية عام 1453، أصبحت بولندا معبراً أساسياً للتجارة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وخصوصاً أنها كانت تضم كثيراً من الأنهار التي تربط بين أراضيها وموانيها على البلطيق وتسهل انتقال السلع. وبذلك سيطرت بولندا على تجارة أوربا الدولية.

عاش اليهود في بولندا منذ القرن التاسع. لكن مصدرهم غير معروف على وجه الدقة، هل جاءوا من ألمانيا وبوهيميا أم من الإمبراطورية البيزنطية وكيف؟ والأرجح أن بعض يهود الخزر انضموا إليهم، بل ويذهب آرثر كوستلر إلى أن معظم يهود بولندا، في واقع الأمر، من أصل خزري. وكان المستوطنون الأوائل من التجار. وتدل النقوش العبرية التي ظهرت على بعض العملات على مدى أهميتهم في عالم المال.

ويبدأ الوجود اليهودي الحقيقي في بولندا بعد الغزو التتري الذي أفرغ بعض المناطق من سكانها. وفي محاولتهم إعادة تعمير بلدهم قام ملوك بولندا، بتشجيع تجار ألمانيا على الهجرة لتأسيس مدن تتبع قانون ماجدبرج الألماني (الأمر الذي كان يعني استقلالها النسبي) وأُصدرت لهم المواثيق حسب هذا القانون. وكان من بين المهاجرين الألمان تجار يهود هاجروا ومعهم لغتهم الألمانية (التي أصبحت اليديشية فيما بعد) والتلمود والطقوس الإشكنازية في العبادة. ومما شجع اليهود على الهجرة إلى بولندا، تدنِّي وضعهم في أوربا الغربية إبّان حروب الفرنجة، وفقدانهم وظيفتهم كتجار، وتَحوُّلهم إلى مرابين وتجار صغار. كما أن بولندا كانت البلد الوحيد تقريباً في أوربا الذي لا يتوقف فيه حق المواطنة على الانتماء إلى الكنيسة، كما كان الحال في بقية أوربا. وقد أصدر بوليسلاف التقي ميثاقاً عام 1264 يعرف باسم «ميثاق كاليسكي» لتنظيم الأحوال القانونية لأعضاء الجماعة اليهودية وتحديد إطار التعامل الاقتصادي والثقافي بينهم وبين المسيحيين، وكذلك حمايتهم وحماية أملاكهم. وكان هذا الميثاق نفسه ميثاقاً مهاجراً مثل الجماعة اليهودية، إذ كان على نمط ميثاق فريدريك الثاني دوق النمسا والمواثيق المماثلة التي مُنحت لأعضاء الجماعة في وسط أوربا في بوهيميا والمجر. وضمن لهم الميثاق حرية الإقامة في أي مكان والحرية الدينية وحرية الاتجار وحرية التقاضي، كما حرَّم اتهام اليهود بتهمة الدم دون سند قوي. ثم قام كاسيمير الثالث بتوسيع نطاق هذا الميثاق عام 1334 بحيث أصبح يتمتع به يهود روسيا البيضاء وبولندا الصغرى ثم يهود ليتوانيا (1388) وسائر يهود المملكة. وأُعفي اليهود من الخدمة العسكرية، ولم يكن عليهم تزويد الجنود بالمؤن في زمن الحرب، ولكن كان يتعين عليهم دفع ضريبة إضافية نظير ذلك، وهو الوضع الذي استمر حتى تقسيم بولندا. وفي حالة التقاضي، لم يكن للبلديات أو الكنيسة سلطة قضائية عليهم، إذ كانوا خاضـعين للملك مباشـرة من خلال وكيله أي الحـاكم الملكي (فويفود). وكان الحاكم الملكي يضطلع بنفسه بوظيفة قاضي اليهود، أو يُعيِّن أحد النبلاء للقيام بهذه المهمة. وكل هذه القوانين تفترض أن اليهود جماعة متماسكة، وطبقة اجتماعية منفصلة عن كل الطبقات الأخرى تتمتع بوصاية التاج مباشرة وتقوم أساساً بالعمليات المالية، وخصوصاً جمع الضرائب والإقراض. ومعنى هذا أن أعضاء الجماعة اليهودية أصبحوا أقناناً للبلاط الملكي برغم أن هذا المصطلح نفسه لم يكن مستخدماً.

ولعب أعضاء الجماعة اليهودية نتيجةً لذلك دوراً مهماً في اقتصاد بولندا. وتُوجَد إشارات إلى أنهم كانوا يشتغلون بالزراعة وأنهم امتلكوا الضياع وأداروها. ولكن دورهم الأساسي كان في تطوير الاقتصاد النقدي والتجاري، فكانت معظم التجارة الداخلية والدولية في يدهم، وكانوا يُصدِّرون المحاصيل الزراعية المحلية مثل: الماشية والحبوب والجلود والأخشاب وخيوط القنب، وكانوا يستوردون السلع المصنوعة من الغرب وسلعاً أخرى مثل: التوابل والأصباغ والحرير والمنسوجات القطنية من الشرق. كما احتفظوا بعلاقات تجارية نشيطة مع ألمانيا والدولة العثمانية ومدن شبه جزيرة القرم وجنوا والبندقية. وكانوا إما منافسين للنبلاء في التجارة الدولية أو وكلاء لهم، وأصبحوا ملتزمين بجمع الضرائب، كما استأجروا مناجم الملح. وكان الإقراض بالربا من أهم وظائفهم. ومع هذا، لم تكن هذه الوظيفة حكراً عليهم. كما كان يوجد بين اليهود جزارون وخياطون. وقد بلغ ازدهار اليهود في بولندا درجة أن أحد الحاخامات فسَّر اسمها (من قبيل اللعب بالألفاظ) فقال: إن بولندا بالعبرية هي «بوه لين»، أي «هنا ستستريح».

أدَّى استقلال أعضاء الجماعة اليهودية، وتمتعهم بحماية التاج، وتنظيمهم كجماعة تجارية، إلى تَحوُّلهم إلى طبقة ثالثة لها نشاطها وحيويتها ووجودها الملحوظ في كل المجالات التجارية والمالية. ووجد التجار البولنديون أن من الصعب التنافس مع التجار من أعضاء الجماعة اليهودية، وخصوصاً أنهم كثيراً ما كانوا يجدون ثغرات في القانون يتسـللون منها، كما كانت لهم شـبكة اتصالات بتجـار آخرين خارج بولندا، الأمر الذي يَسَّر لهم عملية التصدير والاستيراد. كما كان التجار اليهود يتسمون بالجسارة التي تقترب من الوقاحة في عملية التسويق، فكانوا لا يتورعون عن الذهاب إلى منازل الزبائن، وكان هذا يُعدُّ أمراً مشيناً حينذاك لا يليق بتاجر يحترم نفسه. كما كانوا يحتكرون بعض المواد الخام التي يحتاج إليها الحرفيون، ويستوردون من الخارج سلعاً أرخص من السلع المنتجة محلياً. وأدَّى هذا الوضع إلى ظهور التوترات بينهم وبين معظم الطبقات الأخرى في المجتمع. فحاول التجار الألمان والبولنديون الحد من نطاق التجارة اليهــودية، كما أن البلــديات كانت تقــف ضد توســيع حــدود الجيتــو، كما حدَّت من عدد البيوت التي يمكنهم تَملُّكها. كمـا أن الكنيســة الكاثوليكيــة كانت تطالب بعزلهم عن المجتمع المســيحي. وانعكس ذلك الصراع في شكل توجيه اتهــامات الـدم وتدنيـس خبــز القربـان إلى اليهود. وفي عام 1454، تعرَّض التجار في بعض المدن لبعض الهجمات، وخصوصاً في الأماكن التي كانوا يمثلون فيها منافسة اقتصادية للتجار المحليين، ثم طُردوا من وارسو عام 1483 ومن كراكوف بعد ذلك بفترة وجيزة.

ويُلاحَظ أن هذه الفترة شهدت ظهور طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) التي قُدِّرت لها السيطرة في مراحل لاحقة على الحياة السياسـية في بولندا وارتبط بها أعضـاء الجماعـة اليهـودية ارتباطاً كاملاً. ولكن السلطة المركزية الملكية نجحت في هذه المرحلة في تأكيد نفسها والسيطرة على بولندا والمجتمع البولندي. ولأن اليهود، كجماعة وظيفية وسيطة، يرتبطون دائماً بالطبقة الحاكمة، فإننا نجد أنهم كانوا تابعين للتاج في هذه الفترة وأن علاقتهم بالنبلاء كانت أحياناً كثيرة تتسم بالعداء.

بولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق
Poland, from the Sixteenth Century to the Uprising of the Cossacks
كان يوجد في بولندا وليتوانيا في نهاية القرن الخامس عشر نحو ستين جماعة يهودية. وبلغ عدد اليهود الإجمالى فيها 16 ألفاً، منهم 13 ألفاً في المدن و3 آلاف في القرى. وقد تحسَّن وضعهم حينما اعتلى الملك ألكسندر (1501 ـ 1506) العرش، فبعث ميثاق بوليسلاف الثاني لليهود وجعله جزءاً من قوانين بولندا عام 1506. وفي العام الذي سبقه، فرض النبلاء البولنديون (شلاختا) على الملك أن يقبل أن يكون البرلمان (سييم) مصدراً وحيداً للتشريع.


وتحت حكم سيجسموند الأول (1506 ـ 1548) ملك بولندا ودوق ليتوانيا، انتشرت البروتستانتية في بولندا الأمر الذي أدَّى إلى خلق جو من التعددية والتسـامح. واسـتمر سيجسـموند في سياسة تشجيع التجارة، فأصدر مراسيم تؤكد المزايا التي حصل عليها أعضاء الجماعة اليهودية. وأكد سيجسموند الثاني (1548 - 1572) حقوق أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت أهمية الدور الذي كانوا يلعبونه في الأعمال المالية كملتزمي ضرائب وصيارفة يعملون في الأمور المالية، وكان منهم عدد كبير من الأطباء.

وكان أعضاء الجماعة اليهودية حتى ذلك التاريخ يعتمدون اعتماداً كاملاً على الملك، فكانوا يحصلون منه على المزايا والامتيازات ويتبعونه بشـكل مباشـر، وكان هـو يزودهم بالحماية من بطش الطبقات المعادية لهم. وكانت مجالس القهال الإطار التنظيمي الذي مارس اليهود من خلاله الإدارة الذاتية. وازدادت قوة القهال الاقتصادية وتم تنظيمها في إطار مجالس البلاد الأربعة، وهو ما أدَّى إلى زيادة مقدرتها على التنافس مع المدن البولندية. وأدَّى وضع أعضاء الجماعة اليهودية المتميِّز، بقربهم من الملك، إلى زيادة التوتر بينهم وبين الكنيسة وطبقات المجتمع الأخرى سواء طبقة النبلاء (شلاختا) أو سكان المدن أو الكنيسة. وفي منتصف القرن السادس عشر، بعد موت سيجسموند الثاني، تحوَّلت بولندا إلى «جمهورية ملكية» يُنتَخب فيها الملك من قبل برلمان يضم كل النبلاء ولا يرث أبناؤه العرش. وكانت معظم القرارات تُتَخذ داخل البرلمان، وانتقلت السلطة الفعلية إلى أيدي كبار النبلاء. وتزامن هذا التطور مع ظهور الملكيات المطلقة في أوربا التي أسَّست حكومات مركزية قوية تُعَدُّ نواة الدولة القومية الحديثة. وهذه الحكومات اهتمت بالتجارة المحلية والدولية وشجعتها فيما يُعدُّ تعبيراً عن الثورة التجارية التي خرجت من رحمها حركات الاكتشاف والاستعمار من إسبانيا والبرتغال ثم إنجلترا وهولندا وفرنسا، الأمر الذي حوَّل طريق التجارة وجعل الدول الأطلسية مراكز للتجارة العالمية. وقد أدَّى ذلك إلى اضمحلال المدن البولندية في بادئ الأمر ثم إلى اضمحلال بولندا نفسها.

وازدادت الدول المحيطة ببولندا قوة في تلك الحقبة أيضاً، كما كان هناك السويد والإمبراطورية النمساوية التي كان لها أطماع في الأراضي البولندية. ولكن بزوغ نجم بروسيا من ناحية، وتَعاظُم القوة الروسية من ناحية أخرى، كانا العنصر الحاسم في مسار التاريخ البولندي إذ أن التفكك الذي أصاب بولندا كان يقابله تَزايُد في تماسك الكتل السياسية المحيطة وتَعاظُم قوتها. لذا، لم يكن من الغريب أن يتم تقسيم بولندا في أواخر القرن الثامن عشر وأن تختفي تماماً ككيان سياسي مستقل خلال القرن التاسع عشر كله.

وقد انتُخب الدوق ستيفن باثوري (1576 - 1586) ملكاً لبولندا، فكان ثاني الملوك المنتخبين. ورغم أنه كان متعصباً دينياً وصديقاً لليسوعيين، فإنه تَبَنَّى سياسة التسامح تجاه اليهود وأكد كل المواثيق الممنوحة لهم، وأصدر عام 1576 قرارات تُحرِّم تهمة الدم. ورغم استمرار سياسة التسامح هذه، استمر تدهور وضع أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت محاولات الحد من نشاطهم التجاري والحرفي، وبدأت المدن تعطي نفسها السلطة القضائية على اليهود فأصدرت قرارات للحد من حرية إقامتهم فيها. وفي عام 1633 أُسِّس أول جيتو. ونتيجة ضعف نفوذ الملك، وتَصاعُد نفوذ النبلاء (شلاختا)، أصبح هؤلاء حماة الجماعة اليهودية واقترنت مصالح الأرستقراطية الاقتصادية بأعضاء الجماعة. وأدَّى هذا التقارب بين النبلاء واليهود إلى تغيير وضع يهود بولندا بشكل جوهري، وهو الوضع الذي وسمهم بميسمه. ولا يمكن فهم التطورات اللاحقة التي أدَّت إلى ظهور الصهيونية إلا بفهم طبيعة هذا التحول.

كان النبلاء في بولندا، برغم سطوتهم وقوة نفوذهم، يتبعون قوانين جامدة، فكانوا يتمتعون بمكانتهم (إذا كانوا من صلب إحدى الأسر النبيلة) ماداموا لا يعملون بالتجارة، وكان اشتغالهم بالتجارة يعني فقدانهم مكانتهم ووضعهم. ولذا، كان يوجد نبلاء فقراء (النبلاء الحـفاة) معدمـون يفضـلون الجـوع والفاقة على العمل بالتجارة. وأدَّى ذلك إلى التحالف بين قطاعات منهم وبين اليهود كعنصر تجاري نشيط يمتلك الخبرات والأموال المطلوبة للأعمال التجارية. وبلغت أهمية أعضاء الجماعة اليهودية درجة كبيرة حتى أنه حينما فكرت أعداد منهم في الهجرة إلى الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، منعهم ملك بولندا بالإقناع والقوة.

ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون أية خطورة على النبلاء لأنهم لم يكن بوسعهم، كعنصر غريب أجنبي، المطالبة بنصيب في السلطة السياسية يتناسب مع وزنهم الاقتصادي، وذلك على عكس العناصر البورجوازية المحلية التي عادةً ما تطالب بمزيد من الحقوق كلما تزايدت قوتها الاقتصادية. وشهدت الفترة 1539ـ 1549 قيام النبلاء الإقطاعيين بتوزيع السلطة القانونية على أعداد كبيرة من اليهود الذين لم يعودوا تحت الحماية الملكية. وبلغ عدد اليهود الذين يعيشون على أراض يملكها النبلاء الإقطاعيون ما يزيد على نصف أعضاء الجماعة الذين أصبحوا منقسمين إلى نصفين: يهود النبلاء ويهود الملك. وكان لكليهما إطاره القانوني. ولكن عدد يهود النبلاء أخذ في الزيادة، ومع منتصف القرن الثامن عشر، بلغ عددهم ثلاثة أرباع يهود بولندا. فكان إذا طردت إحدى المدن الملكية اليهود منها انتقلوا إلى مدن النبلاء أو إلى جيوب شبه حضرية داخل ضياع النبلاء. وبدأ أعضاء الجماعة اليهودية يستقرون في مدن صغيرة أسسها النبلاء، فكانوا يمنحونهم حق السكنى فيها نظير الدفاع عنها، وهي المدن التي عُرفت باسم «الشتتل». وكان سكان هذه المدن من اليهود أساساً. والواقع أن التطور الأساسي الذي ربط مصير أعضاء الجماعة اليهودية بالنبلاء البولنديين هو إبرام اتحاد برست ليتوفسك (ويُسمَّى أيضاً اتحاد لوبلين) عام 1569 بين ليتوانيا وبولندا. وهو الاتفاق الذي حوَّل الوحدة الإسمية (وحدة الأسرتين المالكتين) بين البلدين إلى وحدة حقيقية. وقامت بولندا بضم أوكرانيا نتيجة هـذه الوحـدة. وكانت أوكرانيـا، حتى ذلك الوقـت، تُسمَّى «روثينيا». أما كلمة «أوكرانيا» فتعني «منطقة الحدود»، وتمتد من جاليشيا إلى نهر الدون حتى البحر الأسود، وتقع بين روسيا وبولندا والدولة التترية في القرم.

وكانت أوكرانيا النقطة التي التقت فيها عناصر عديدة غير متجانسة أهمها النبلاء البولنديون الإقطاعيون الكاثوليك والفلاحون الأوكرانيون الأرثوذكس والتجار اليهود غير المنتمين لهذا أو ذاك، إلى جانب الغجر والتتار وبعض الأرمن. ثم بدأت عملية استيطان بولندية في أوكرانيا، وكانت تتطلب خبرات ورؤوس أموال كبيرة لاستصلاح الأراضي وتأمين الطرق، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور ما نسميه «نظام الإقطاع الاستيطاني». وكانت حاجة النبلاء الإقطاعيين إلى المال تزداد يوماً بعد يوم، فكانوا يقترضون من اليهود. وأدَّى هذا كله إلى ظهور نظام الأرندا (الاستئجار) كشكل أساسي من أشكال الإقطاع الاستيطاني. فكان النبيل الإقطاعي يستدين من المرابي اليهودي مبالغ طائلة للوفاء باحتياجاته بضمان ضيعته وغلتها وعوائدها. وبالتدريج، اضطلع أعضاء الجماعة اليهودية بعملية استئجار المزرعة وإدارتها نيابةً عن النبيل الإقطاعي الغائب في وارسو، والذي كان يترك زمام الأمور في يد الوكيل. وكانت مدة عقود الإيجار تصل أحياناً إلى عدة سنوات. وأدَّى هذا إلى تَحوُّل الأرندا إلى نظام استثمار تجاري استغلالي لا تخفف من حدته الروابط الإقطاعية بما تحمل من مسئولية أخلاقية مباشرة من النبيل الإقطاعي تجاه فلاحيه وأقنانه وتراث ثقافي وديني مشترك، فهو إقطاعي في علاقاته الاقتصادية الأساسية بين النبيل والأقنان، ولكنه إقطاع بلا علاقات اجتماعية أو ثقافية إقطاعية، إذ أن الطبيعة الاستيطانية للنظام ووجود عنصر سكاني غريب يكون بمنزلة همزة الوصل بين الإقطاعي وفلاحيه قضيا على احتمال قيام مثل هذه العلاقات المباشرة وقضيا على الرقعة الثقافية والدينية المشتركة. ولا شك في أن النبلاء البولنديين كانوا ينظرون إلى أعضاء الجماعة كعنصر ريادي استيطاني كفء ونافع يساهم في تعمير المناطق غير المأهولة بالسكان وكأداة تُستخدَم لتنشيط الاقتصاد الزراعي الخامل وإدخال بعض النشاطات التجارية فيه حتى يزيد ريع الأراضي الزراعية.

لكل ما تقدَّم، أصبحت السلطة المباشرة شبه المطلقة في يد اليهودي الذي كان يدير الضيعة، فهو الذي يُطبِّق القانون ويقرر العقوبات والغرامات وينفذها بمساعدة الجنود البولنديين. وكان الملتزم أو الأرنداتور اليهودي يحصل على كل الامتيازات الممكنة مثل إدارة الحانات وطواحين الغلال ومعامل الألبان ومعامل التقطير وصناعة الكحول ومناجم الملح وقطع الأخشاب وصنع الغراء ودبغ الجلود وصنع الصابون. كما كانوا يجمعون ضرائب المرور على الكباري والبوابات. بل لم تكن إقامة الصلوات الأرثوذكسية ممكنة إلا بعد العودة للوكيل اليهودي إذ لم يكن بمقدور القساوسة الحصول على مفتاح الكنيسة أو استعارة ردائهم الكهنوتي لإقامة شعائر الصلاة إلا بعد دفع ضريبة. وكان اليهود يشترون أيضاً المحصولات من الفلاحين. ولأنهم كانوا يمتلكون وسائل النقل النهري، فقد كانوا هم أيضاً الذين يقومون بنقلها. وكان أعضاء الجماعة اليهودية هم أيضاً تجار القرية الذين يبيعون الفلاحين ما يريدونه من السلع الضرورية مثل الملح والسلع التَرَفية. وأصبح بعض يهود بولندا وروسيا من كبار تجار الأخشاب والحبوب في أوربا. ونشأت علاقة قوية بين يهود البلاط في دول أوربا الوسطى، ويهود الأرندا إبّان حرب الثلاثين عاماً، حيث كان يهود البلاط يستوردون الحبوب من بولندا. وكان يهود الأرندا يقومون بتدبير الغلال المطلوبة التي كانت تتزايد حاجة أوربا إليها. وهذا يبين كيف كانت العلاقات بين الجماعات اليهودية تسهل اتصالاتهم وتجعلهم شبكة قوية ووحيدة للتجارة الدولية.

وساهم الوضع الاقتصادي العام في أوربا آنذاك في تحسين وضع بولندا، إذ كان سكان أوربا الغربية آخذين في الزيادة وهو ما اضطر دول هذه المنطقة إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب. واستفادت بولندا من هذا الوضع، فأصبحت في الفترة من 1577 إلى 1654 بمنزلة المصدر الأساسي للقمح في أوربا. فكان يتم تصدير القمح البولندي إلى فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، وأحياناً إلى العالم الإسلامي من خلال أمستردام حيث كانت هناك أهم بورصة لبيع الحبوب. وأصبحت جدانسك أهم مدينة تجارية في أوربا بعد أمستردام إذ كانت تُصدِّر مواد عديدة مثل الحبوب والأخشاب والكتان والقنب والبوتاس والماشية.

واحتكر النبلاء البولنديون هذه السلع وطوروا ضياعهم لإنتاجها فشددوا قبضتهم على الأقنان وحولوهم إلى عبيد تقريباً. فكان كبار النبلاء الإقطاعيين يمتلكون الأرض في أوكرانيا ويؤجرونها، والألمان يديرون الموانئ على بحر البلطيق، والهولنديون يمتلكون السفن البحرية لنقل السلع. أما أعضاء الجماعة اليهودية، فقاموا ببقية العملية ومن بينها نقل المحاصيل بوسائل النقل النهري التي كانوا يمتلكونها. وقبل اتحاد ليتوانيا وبولندا عام 1569، كان لا يوجد سوى أربعة وعشرين تجمعـاً يهـودياً في أوكرانيا لا يزيد عـدد أعضائها على أربعة آلاف. ولكن، مع حلول عام 1648، كان عدد التجمعات 115 تجمعاً يبلغ عدد سكانها 51.325، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية زاد عددهم 13 مرة خلال ثمانين عاماً. ونظراً لأن أعضاء الجماعة اليهودية لم يكونوا مسلحين، فقد كانت تساندهم فرق مسلحة بولندية حتى يمكنهم الاستمرار في استغلال الفلاحين.

وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية بعلاقتهم القوية مع النبلاء والقوى التجارية الدولية محميين من تقلبات المجتمع الإقطاعي ومن غش وخداع البلديات والموظفين الملكيين، ووجدوا المناخ المستقر الذي يحتاج إليه النشاط التجاري والمالي دون ضغوط وتهديد. وتَحسَّن وضعهم ودخلوا دورة اقتصادية جديدة. وربما يُفسِّر سبب بقاء واستمرار الجماعة اليهودية وسبب استمرار أعضائها أهم عنصر في الاقتصاد النقدي رغم عمليات الطرد في أواخر القرن الخامس عشر. وقد ازدهرت الدراسات الدينية بحيث أصبحت بولندا مركز الدراسات التلمودية لا في العالم الغربي فقط وإنما في العالم بأسره. ولكنهم رغم ازدهارهم، بل وبسببه، ظلوا في نهاية الأمر عنصراً تجارياً إدارياً غريباً يعيش في بيئة فلاحية، وتحولوا إلى أداة استغلال كاملة مباشرة في يد الأرستقراطية الإقطاعية الغائبة المستفيدة من هذا الاستغلال، ومَثَّل هذا وضعاً متفجراً يتسم بعدم الاستقرار.

تسبَّب نظام الأرندا في عزل أعضاء الجماعة اليهودية داخل الشتتلات وإلى تَزايُد غرورهم تجاه الفلاحين، كما تزايد اعتمادهم على السلطـة الحاكمة، وعلى القـوة العسـكرية البولنديـة. وكان القانون البولندي، بسبب الوضع المتفجر، يُلزم رب العائلة اليهودية بالاحتفاظ ببنادق بعدد الذكور، وبثلاث خرطوشات وثلاثة أرطال من البارود.

وكان أعضاء الجماعة اليهودية يبنون معابدهم على هيئة حصون تُوجَد بحوائطها كوات تخرج منها فوهات البنادق وتُنصَب فوقها المدافع ضد الأقنان والعبيد. ومع نهاية القرن السادس عشر، كان عدد كبير من يهود بولندا الموجودين في أوكرانيا يقوم بعملية الاستغلال هذه ويشكل جسماً غريباً يتحدث أعضاؤه اليديشية (في وسط سلافي) ويؤمنون باليهودية ويمثلون النبلاء البولنديين الكاثوليك (في وسط أوكراني أرثوذكسي) ويقومون بأعمال تجارية (في وسط زراعي فلاحي) مستغرقين إما في الدراسات التلمودية التي أصبحت شكلية وخالية من المضمون والروح منفصلة عن الحياة وإما في التأملات القبالية التي تمنح اليهود مركزية في الكون لا أساس لها في الواقع. وتواجد أعضاء الجماعة اليهودية بأعداد كبيرة في مدنهم التجارية الصغيرة (الشتتلات) الأمر الذي كرَّس عزلتهم بشكل يكاد يكون كاملاً. ويُلاحَظ مدى تَداخُل الانتماء الإثني والديني والطبقي في أوكرانيا وبولندا. ولعل هذا الوضع يشكل الأساس المادي لمقولة أبراهام ليون الخاصة بالشعب/الطبقة، ولبعض المقولات الصهيونية كقولهم " من الطبقة إلى الأمة "، ولحديث بوروخوف عن الهرم الإنتاجي المقلوب عند اليهود. ولكننا نفضل استخدام مفهوم الجماعة الوظيفية (المالية/الاستيطانية) في هذه الحالة.

ومن المفارقات التي تستحق التأمل أن يهود الشتتل كانوا بمنأى عن الثقافة اليهودية الرفيعة (مقابل الثقافة الشعبية) التي كانت توجد مراكزها في المدن حيث كانت توجد المدارس التلمودية العليا (اليشيفات). وقد بدأوا يتفاعلون مع محيطهم الثقافي واستوعبوا كثيراً من العادات والمعتقدات الفلاحية الشعبية المسيحية السلافية. وكان لهذا أعمق الأثر في التطور اللاحق لليهودية إذ أن الدراسات التلمودية الجافة لم تَعُد تلائم هذا الجو المشبع بالأساطير والخرافات.

وقد أخذ عدد أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا في التزايد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر زيادة كبيرة، فكان عددهم عام 1500 يتراوح بين 25 و30 ألفاً من مجموع خمسة ملايين بولندي. وفي عام 1575، زاد عدد سكان بولندا إلى سبعة ملايين نسمة. ولكن عدد أعضاء الجماعة اليهودية زاد إلى 150 ألفاً. ومع منتصف القرن السابع عشر، بلغ عددهم 350 ألفاً (ويُقال 500 ألف) يشكِّلون 5% من مجموع سكان بولندا. وحتى عام 1550، لم يكن هناك يهود يعيشون بشكل قانوني في إنجلترا أو فرنسا أو هولندا أو إسبانيا أو البرتغال أو الدول الإسكندنافية أو إمارة موسكوفي. وكان يهود أوربا كافة مركزين أساساً في بولندا وبعض أجزاء من ألمانيا أو إيطاليا بحيث كان يوجد، في القرن السابع عشر، مركزان أساسيان في العالم لليهود: أحدهما في الإمبراطورية العثمانية وهو الذي استوعب العديد من اليهود الذين طردوا من أوربا الغربية وشبه جزيرة أيبريا، وثانيهما في بولندا وليتوانيا. واستمر يهود بولندا في الزيادة، حتى أن أغلبية يهود العالم في بداية القرن العشرين كانت من نسل يهود بولندا.

  • الثلاثاء PM 06:14
    2021-04-20
  • 877
Powered by: GateGold