المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409006
يتصفح الموقع حاليا : 336

البحث

البحث

عرض المادة

هل كان الصحابي أبو ذر الغفاري اشتراكيا؟

كتاب الأعلام للزِّركلي (1893م-1976م) من أهم كتب التراجم المؤلَّفة في العصر الحديث، ولا يكاد الباحث يستغني عنه، ومع الفوائد الجليلة للكتاب، لكنه لم يخلُ من انتقادات، وهنا سأعرض لواقعة تاريخية أخرجها الزِّركلي من سياقها التاريخي، ربما لمَنزعِ "القومية" التي  تبنَّاها وناضل من أجلها.

 

قال الزِّركلي في ترجمته لأبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه[2]: "فسَكن دمشقَ، وجعل ديدنَه تحريضَ الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم، فاضطرب هؤلاء، فشكاه معاويةُ رضي الله عنه (وكان والي الشام) إلى عثمانَ (الخليفة)، فاستقدَمه عثمان رضي الله عنه إلى المدينة، فقدِمها، واستأنف نشرَ رأيه في تقبيح منع الأغنياء أموالَهم عن الفقراء، فعَلَتِ الشكوى منه، فأمره عثمان بالرحلة إلى الرَّبَذَةِ (من قرى المدينة)، فسكنها إلى أن مات.

 

وكان كريمًا لا يخزن من المال قليلًا ولا كثيرًا، ولما مات لم يكن في داره ما يكفَّن به، ولعله أولُ اشتراكيٍّ طاردته الحكومات"؛ اهـ كلامه.

 

والهدف من هذه الورقة بيانُ خطأ ما ورد من إساءة لعثمانَ ولأبي ذرٍّ ولمعاويةَ رضي الله عنهم، وبيان أن ما ذكره الزِّرِكلي محضُ خطأ بسبب انتزاع الحدَث من سياقه التاريخي، وتنزيله منزلةَ حوادث عصره؛ عصر الثورات العربية المبنيَّة على القوميَّة والاشتراكيَّة، ومن المعلوم أن الزِّرِكلي كان من الأبناء البرَرَة لتلك الأفكار، هذه الأفكار التي ملأت عقلَه طغَتْ عليه في تفسير هذه الواقعة، فانتزعها من سياقها إلى سياق مُنبتٍّ عنها تمامًا.

 

وواقع الأمر بعيد جدًّا عما توهَّمه الزِّرِكلي، وكأنه يروي قصة من نسج خيالِه، فقد كان أديبًا يقرض الشعر! وهذا الأسلوب الثوريُّ السياسي وليدُ ذهنية ثوريَّة قوميَّة عروبيَّة متشددة، هذه الذهنيَّة التي منعت الزِّرِكليَّ من الترجمة لأي من السلاطين العثمانيِّين في كتابه الأعلام؛ بسبب موقفه السياسي المعارض للخلافة.

 

وهنا نجد أن الصورةَ التي تصورها المؤلِّف عن قصة الصحابي أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه ليست صحيحة تاريخيًّا؛ إنما الأمر أن أبا ذرٍّ رضي الله عنه كان يفسِّر آية من كتاب الله تفسيرًا مغايرًا لتفسير معاوية رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه، بل خالف في تفسيره لها معظمَ الصحابة رضي الله عنهم، ويحكي لنا البخاريُّ رحمه الله هذا الخلاف في صحيحه عن زيدِ بن وهبٍ قال:

"مرَرْتُ بالرَّبَذَةِ فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلَك هذا؟ قال: كنت بالشأم، فاختلفت أنا ومعاويةُ رضي الله عنه في: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34]، قال معاوية رضي الله عنه: "نزلَتْ في أهل الكتاب"، فقلت: "نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمانَ رضي الله عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمان رضي الله عنه: أن اقدمِ المدينةَ، فقَدِمْتُها، فكثر عليَّ الناس، حتى كأنهم لم يروني قبلَ ذلك، فذكرتُ ذاك لعثمان رضي الله عنه، فقال لي: إن شئتَ تنحَّيْتَ، فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيًّا، لسَمِعْتُ وأطَعْتُ"[3].

 

ولذلك كان أبو ذرٍّ رضي الله عنه يحرِّض الأغنياء أن ينفقوا أموالهم، وليس كما قال الزركلي أنه "جعل ديدنَه تحريضَ الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم"، وكان الدافعُ له هو الخوفَ على الأغنياء من أن يصيبَهم الوعيدُ في الآية؛ لأنه يرى أنه لا يجوز كنزُ المالِ فوقَ حاجة الإنسان، فلم يكن هدفُه شركةَ الفقراء في أموال الأغنياء، ولم يكن هدفُه إغناء الفقراء؛ لأن رؤيته تقتضي أن الفقراء لا ينبغي لهم كنزُ المال إن حصلوه.

 

وأما الحكومة التي قال عنها المؤلِّف: إنها الحكومة التي تطارد الاشتراكيِّين، فإنما كانت خلافةً راشدة في المنظور الإسلامي، ولكن الزِّركلي يعيش حالةَ عداءٍ ذهنيٍّ مع مسمَّى الخلافة؛ لعدائه الشخصي مع الخلافة العثمانية! وهذه الخلافة الراشدة في واقع الأمر لم تُطارِدْ أبا ذرٍّ رضي الله عنه، بل هو الذي آثر الخروجَ من المدينة، ولم يطرُدْه الخليفةُ عثمان رضي الله عنه، وذكر الحافظ ابن حجرٍ في شرحه للحديث المذكور ما يبيِّن الأمرَ على حقيقته، فقال رحمه الله:

"قوله: (بالرَّبَذةِ) بفتح الراء والموحدة والمعجمة: مكانٌ معروف بين مكَّةَ والمدينة، نزل به أبو ذرٍّ رضي الله عنه في عهد عثمان رضي الله عنه ومات به، وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله، وإنما سأله زيدُ بن وهب عن ذلك؛ لأن مُبغِضِي عثمانَ رضي الله عنه كانوا يشنِّعون عليه أنه نفى أبا ذرٍّ رضي الله عنه، وقد بيَّن أبو ذر رضي الله عنه أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره، نعم أمَرَه عثمان رضي الله عنه بالتنحِّي عن المدينة؛ لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبِه المذكور، فاختار أبو ذرٍّ رضي الله عنه الرَّبَذَةَ.

 

وقد كان يغدو إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه، وفيه قصةٌ له في التيمُّم.

 

ورُوِّينا في فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبدالله بن الصامت قال:

"دخلتُ مع أبي ذرٍّ رضي الله عنه على عثمانَ رضي الله عنه، فحسَر عن رأسه، فقال: والله ما أنا منهم - يعني: الخوارجَ - فقال: إنما أرسلنا إليك لتجاورَنا بالمدينة، فقال: لا حاجةَ لي في ذلك، ائذَنْ لي بالرَّبَذةِ، قال: نعم"؛ ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره.

 

وقال بعد قوله: "ما أنا منهم":

"ولا أدركهم، سيماهم التحليقُ، يَمرقون من الدين كما يمرقُ السَّهْمُ من الرميَّة، والله لو أمرتَني أن أقوم ما قعدتُ"[4].

وفي "طبقات ابن سعد"  من وجه آخرَ أن ناسًا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذرٍّ رضي الله عنه وهو بالرَّبَذة:

"إن هذا الرجلَ فعل بك وفعل، هل أنت ناصبٌ لنا رايةً - يعني: فنقاتله -؟ فقال: لا، لو أن عثمانَ رضي الله عنه سيَّرني من المشرق إلى المغرب، لسمعتُ وأطَعْتُ"؛ انتهى كلام ابن حجر رحمه الله[5].

 

وزاد ابن سعد[6] على ما نقله ابن حجر: "واللهِ، لو أن عثمان صلَبَني على أطول خشبةٍ، أو أطول جبل، لَسمِعْتُ وأطعْتُ، وصبرتُ واحتسبتُ، ورأيت أن ذاك خير لي، ولو سيَّرني ما بين الأفق إلى الأفق - أو قال: ما بين المشرقِ والمغرب - لسَمِعْتُ وأطَعْتُ، وصَبرْتُ واحتسَبْتُ، ورأيت أن ذاك خير لي، ولو ردَّني إلى منزلي، لسَمِعْتُ وأطَعْتُ، وصَبَرْتُ واحتسبت، ورأيت أن ذاك خير لي".

 

فالأمرُ إذًا بعيدٌ كلَّ البعد عن تفسيرات الزركلي، وهذا ما أردتُ بيانه، وإنما وقع في ذلك؛ لأنه انتزع الخبرَ من سياقه التاريخي، واحتكمَ في تفسيره لمعهودِ عصرِه؛ عصرِ القوميَّة العربيَّة والنَّزْعة الاشتراكيَّة.



[1] باحث في التراث الإسلامي.

[2] الأعلام (2/ 140).

[3] البخاري، حديث: 1406.

[4] مسند الطيالسي، حديث: 451.

[5] فتح الباري (3/ 274).

[6] الطبقات الكبرى (4/ 227).

 

  • الجمعة PM 07:12
    2021-02-12
  • 1858
Powered by: GateGold