المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416461
يتصفح الموقع حاليا : 204

البحث

البحث

عرض المادة

الرحلة في طلب الحديث

أ- فضل الرحلة في طلب الحديث والحاجة إليها:

تفرق الصحابة رضوان الله عليهم في الأمصار بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لبث العلم ونشر السنة وتفقيه المسلمين، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وكان السبيل الوحيد لجمع علم الصحابة وسماع الأحاديث المنتشرة في مختلف البلاد هو الرحلة في طلبها.

وكان الصحابة الكرام هم أول من تحمل المشاق في سبيل ذلك، فقد رحل جابر ابن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد([1])، ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر في مصر من أجل حديث واحد([2])، وقد صنف العلماء في الرحلة في طلب الحديث استقلالا وتبعا، ومن أشهر ما صنف في ذلك استقلالا كتاب: الرحلة في طلب الحديث لأبي بكر أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي (ت463) ([3])، كما ضمن مبحث الرحلة لطلب الحديث في معظم مصنفات علوم الحديث، مثل كتاب علوم الحديث لابن الصلاح، وتدريب الراوي للسيوطي، وفتح المغيث للسخاوي.

وهكذا سن الصحابة الرحلة في طلب الحديث، وأخذها عنهم التابعون، وأصبحت أدبا ملازما للمحدثين على مر العصور، حتى إننا لانكاد نعثر على محدث لم يرحل إلا القليل، وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه بابا للخروج في طلب العلم([4])، وذكر الحافظ ابن الصلاح أن المحدث إذا فرغ من السماع عن شيوخ بلده فإن عليه أن يرتحل إلى غيره، وهذا أمر قد اتفق عليه أئمة صناعة الحديث، بل إن عدم الارتحال مما يشان به المحدث، فقد قال يحيى بن معين: "أربعة لا تؤنس منهم رشدا، حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث"([5]).

وقد تيمن سلفنا الصالح بالرحلة في طلب الحديث، واعتبروها من أسباب دفع البلاء، قال إبراهيم بن أدهم: "إن الله تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث"([6]).

ب- نماذج من رحلات الصحابة في الحديث:

1- رحلة أبي أيوب الأنصاري من الحجاز إلى مصر في حديث واحد: عن عطاء ابن أبي رباح قال: "خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة، فلما قدم منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري- وهو أمير مصر- فأُخبر فعجل عليه، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة، فابعث من يدلني على منزله قال: فبعث معه
من يدله على منزل عقبة، فأُخبر عقبة فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال: ما جاء بك
يا أبا أيوب؟، قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن ، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة"، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر"([7]).

2- رحلة جابر بن عبد الله مدة شهر إلى الشام لسماع حديث واحد: عن
عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب أن جابر بن عبد الله حدثه قال: "بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه، قال: فابتعت بعيرا، فشددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا حتى أتيت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري، قال: فأرسلت إليه أن جابرا على الباب، قال: فرجع إليّ الرسول، فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، قال: فرجع الرسول إليه فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته، قال: قلت: حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله العباد أو قال: يحشر الله الناس- قال: وأومأ بيده إلى الشام- عراة غرلا بهما، قلت: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، قال: فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا
الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى
اللطمة، قال: قلنا: كيف هو، وإنما نأتي الله تعالى عراة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات"([8]).

ج- نماذج من رحلات التابعين في طلب الحديث:       

ازدادت في عهد التابعين دواعي الرحلة في طلب الحديث، وكثر تتبع حفاظه من الصحابة وكبار التابعين في البلدان للأخذ منهم، ونماذج ذلك لا تحصى كثرة، منها:

1- عن سعيد بن المسيب أنه قال: "إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد"([9]).

2- وعن أبي عثمان النهدي أنه قال: "بلغني عن أبي هريرة حديث "إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" ، فحججت ذلك العام ، ولم أكن أريد الحج إلا للقائه في هذا الحديث، فأتيت أبا هريرة فقلت: يا أبا هريرة: بلغني عنك حديث فحججت ولم أكن أريد الحج إلا لألقاك.. " فحدثه به أبو هريرة رضي الله عنه([10]).

3- وعن عبد الله بن فيروز الديلمي قال: "بلغني حديث عن عبد الله بن عمرو، فركبت إليه إلى الطائف أسأله عنه.. " وكان ابن الديلمي بفلسطين([11]).

4- وعن أبي قلابة عبد الله بن زيد قال: "أقمت في المدينة ثلاثا، ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه حديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به"([12]).

5- وحدث الشعبي رجلا بحديث ثم قال له: "أعطيتكه بغير شيء، وإن كان الراكب ليركب إلى المدينة فيما دونه"([13]).

6- وعن سعيد بن جبير قال: "اختلف أهل الكوفة في قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنامتعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها}([14])، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها..." ([15]).

7- ورحل الحسن البصري من البصرة إلى الكوفة ليسأل كعب بن عجرة عما افتدى به عندما حلق رأسه في عمرته عام الحديبية لما آذاه رأسه([16]).

8- وعن بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: "إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه"([17]).

9-وتتبع شعبة بن الحجاج حديثا واحد،فرحل بسببه إلى مكة والمدينة والبصرة، وبعد هذه الرحلة الشاقة وجده غير صحيح فأسف لذلك وقال: "لوصح لي مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب من أهلي ومالي والناس أجمعين"([18]).

10- وقيل لعامر الشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد وبكور كبكور الغراب."([19]).

11- وقال مكحول الدمشقي: "كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل
فأعتقتني، فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها..."([20]).

ولايخفي ما لهذه الرحلات من الأثر الكبير في نشر السنة إضافة إلى فوائد أخرى سيأتي ذكرها في المطلب الرابع من هذا المبحث إن شاء الله.

د- نماذج من رحلات من بعدهم من أهل العلم([21]):

واظب المحدثون على أدب الرحلة إلى مختلف حواضر العالم الإسلامي يتتبعون حديث المصطفي صلى الله عليه وسلم لدى حفاظه، ويتثبتون في طرقه وألفاظه، وقد عانوا مشاق الرحلة محتسبين الأجر عند المولى عز وجل، ونماذج ذلك لا تحصى كثرة، منها:

1- عن المؤمل بن إسماعيل أنه ذكر عنده الحديث الذي يروى عن أُبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن، فقال: "لقد حدثني رجل ثقة- سماه- قال: أتيت المدائن فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث، فقلت له حدثني، فقال: الرجل الذي سمعنا منه هو بواسط.

قال: فأتيت واسطا فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن فدلني عليك
الشيخ، قال: إن هذا الذي سمعت منه هو بالكلاء.

قال: فأتيت البصرة فلقيت الشيخ بالكلاء، فقلت له حدثني، فقال: إن الشيخ الذي سمعت منه هو بعبادان.

قال: فأتيت عبادان فلقيت الشيخ، فقلت له: اتق الله ما حال هذا الحديث؟ أتيت المدائن- فقصصت عليه- ثم واسطا، ثم البصرة فَدُللت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا، فأخبرني بقصة هذا الحديث.

فقال: إنا اجتمعنا هنا فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، وزهدوا فيه، وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيها"([22]) , وهكذا أثمرت هذه الرحلة الطويلة بيان زيف هذا الحديث.

2- الهيثم بن جميل البغدادي (ت213): كان كثير الارتحال في طلب الحديث، روي عنه أنه أفلس في طلب الحديث مرتين([23]).

3- يعقوب بن سفيان الفسوي (ت277): رحل في طلب الحديث إلى الآفاق، وقال: "كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات، وقمت في الرحلة ثلاثين سنة"، وقال أبو زرعة الدمشقي: "قدم علينا رجلان من نبلاء الناس، أحدهما وأرحلهما يعقوب بن سفيان، يعجز أهل العراق أن يروا مثله"، وقال عن نفسه: "كنت في رحلتي فقلَّت نفقتي، فكنت أدمن الكتابة ليلا، وأقرأ نهارا. "([24]).

4- يحيى بن معين: الإمام الحافظ عالم الجرح والتعديل، قال الإمام أحمد: "كان ابن معين أعلمنا بالرجال"، وقد خلف له والده ثروة ضخمة مقدارها ألف ألف درهم وخمسون ألف درهم، فأنفق كل ذلك في طلب الحديث، لما توسع في رحلاته من أجله([25]).

5- الحافظ أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي (ت277): قال: "بقيت بالبصرة سنة 214 ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيت خال، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد وغدا علي رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني وانصرفت جائعا، فلما كان من الغد غدا علي، فقال: مُرَّ بنا إلى المشايخ ، قلت: أنا ضعيف لا يمكنني قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا، فقال: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء.." ([26]).

6- الحافظ الرحال الفضل بن محمد البيهقي (ت 282) قال ابن المؤمل: "ما بقي بلد لم يدخله الفضل في طلب الحديث إلا الأندلس"([27]).

7- الحافظ محمد بن المسيب (ت 315) قال: "ما أعلم منبرا من منابر الإسلام بقي علي لم أدخله لسماع الحديث"([28]).

8- محمد بن إبراهيم الأصبهاني (ت381): الإمام الحافظ محدث أصبهان ، طاف الشرق والغرب في الحديث أربع مرات، ودخل بيت المقدس عشر مرات([29]).

9- محمد بن إسحاق الأصبهاني: المحدث الحافظ المتقن، رحل إلى نيسابور وبغداد ودمشق ومكة ومصر وبخارى ومرو وبلخ، ودامت رحلته نحوا من أربعين عاما، وعاد إلى بلده ومعه أربعون حملا من الكتب والأجزاء، وكتب عن ألف وسبعمائة شيخ([30]).

10- أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507) قال: "بُلْتُ الدم في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد، ومرة بمكة، كنت أمشي في الحر فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري"([31]).

هذه نماذج قليلة من تاريخ ثري ناطق بجهود المحدثين في طلب الحديث، ولذة خدمته، حفظ الله بهم السنن، ونجى الأمة بسببهم من كثير من الفتن، وإنك لتزداد دعاء لهم وتقديرا لجهودهم إذا استحضرت وعورة المسالك في عهدهم وبدائية وسائل النقل، فتدرك على الحقيقة أن الله قد هيأهم لهذا الدور الجليل وهو خدمة السنة وصونها وحمايتها، وهم مع ذلك سعداء في الدنيا بما أعطاهم الله من لذة الإيمان، وراحة البال، وطمأنينة القلب، وأمن النفس، والسعادة الغامرة بالذود عن حمى الدين، فضلا عما ينتظرهم من جزيل الثواب وعظيم الدرجات في الآخرة، قال ابن الجوزي: "تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتنى لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت
عليه، ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم"([32]).

وقال الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في وصف المحدثين: "... قوم سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، قوم آثروا قطع المفاوز والقفار
على التنعم في الدمن والأوطار، وتنعموا بالبؤس في الأسفار، مع مساكنة أهل العلم والأخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار.. جعلوا المساجد بيوتهم، وأساطينها تكاهم وبواريها فرشهم... نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غداءهم الكتابة، وسمرهم المعارضة، واسترواحهم المذاكرة، وخلوفهم المداد، ونومهم السهاد، واصطلاءهم الضياء، وتوسدهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلم السنن سرورهم، ومجالس العلم حبورهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم"([33]).

وقال الحافظ الخطيب البغدادي: "وقد جعل الله تعالى أهل الحديث أركان
الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعوجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارىء متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير"، وقال: "وقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفي، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولا وفعلا، وحرسوا سنته حفظا ونقلا، حتى ثبّتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأنها، إذا صُدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله ألا إن
حزب الله هم المفلحون"([34]).

هـ- ثمرات الرحلة في طلب الحديث([35]):

للرحلة في طلب الحديث فوائد جليلة ومنافع جزيلة وأهداف سامية نبيلة تضافرت على خدمة السنة رواية ودراية، من أهمها ما يلي:

1- تحصيل الحديث:

إن جمع الحديث وسماعه من حفاظه يعتبر من أعظم أسباب الرحلة وفوائدها، وقد بدأ ذلك برحلة كثير من الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم برحلة الصحابة بعضهم إلى بعض، ثم برحلة التابعين إلى الصحابة عندما تفرقوا في الأمصار، ثم برحلة طلاب العلم إلى الآفاق يتتبعون حفاظ الحديث للأخذ عنهم.

2- نشر الحديث وإشاعة روايته:

فإن الصحابة انتشروا في الآفاق لنشر السنة، وكذا فعل كثير من التابعين، ومن بعدهم من أهل الحديث، فكثيراً ما يرحل المحدث إلى بلد فيسمع من أهلها ويحدث بها.

3- طلب علو الإسناد:

لقد عني أهل الحديث بطلب الإسناد العالي، واعتبروه من القربات لما فيه من القرب إلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، كما أن تقليل عدد الوسائط في سند الحديث يقل معه احتمال الخلل فيه، قال الإمام أحمد: "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف"([36]). وقال أبو الفضل المقدسي: "أجمع أهل النقل على طلبهم العلو ومدحه، إذ لو اقتصروا على سماعه بنزول لم يرحل أحد منهم "([37])، وقال أبو العالية: "كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالبصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم" ([38]).

4- تعدد طرق الحديث:

من ثمرات الرحلة الحصول على أسانيد متعددة للحديث الواحد، فتكثر طرقه، ويتقوى بعضها ببعض في حال وجود طرق ضعيفة، وقد تحصل زيادة ألفاظ في بعض الطرق، أو تصريح بالسماع بدل عنعنة في بعض الطرق، أو التصريح باسم راو ورد مبهما، ونحو ذلك من فوائد تعدد طرق الحديث.

5- انتشار المصنفات الحديثية في الأمصار:

إن الرحلة هي الوسيلة المستخدمة في نقل كتب الحديث من بلد إلى آخر، فشاعت بذلك مصنفات الحديث في مختلف البلدان، مثل الصحيحين وكتب السنن والمسانيد والجوامع والمجاميع والأجزاء الحديثية وغيرها.

6- البحث عن أحوال رواة الحديث:

وهو مطلب جليل، إذ عليه مدار التمييز بين الصحيح والسقيم من الحديث، وهو من أهم فوائد الرحلة، حيث يحتك المحدث بالنقاد، ويحضر مجالس جهابذة علم الرجال، ويسمع منهم، ويسألهم عن عدالة الرواة وضبطهم، ولذلك فقد كثرت كتب السؤالات في علم الرجال، مثل: سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني، بل قد يختبر المرتحل بنفسه أحوال بعض الرواة ، كما فعل يحيى بن معين في رحلته إلى أبي نعيم الفضل ابن دكين ليختبر حفظه وتيقظه([39])، وقد يسمع المحدث خلال رحلته جملة من كتب الجرح والتعديل وعلم الرجال، ويعود بها إلى بلده، مثل كتب: الضعفاء الصغير، والضعفاء الكبير، والتاريخ الكبير للإمام البخاري، وكتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي، والكامل في الضعفاء لابن عدي، وكتاب الثقات لابن المديني، والثقات للعجلي، والثقات لابن حبان، وغيرها.

7- معرفة معايير نقد الحديث:

وهو علم دقيق يحتاج إلى ملاقاة جهابذة نقاد الحديث وحفاظه العالمين بعلله ومعايير نقده سندا ومتنا، وحضور مجالسهم، ومذاكرتهم في ذلك، قال الخطيب البغدادي: "ولو كان حكم المتصل والمرسل واحداً لما ارتحل كتبة الحديث، وتكلفوا مشاق الأسفار إلى ما بعد من الأقطار"([40])،وقال الإمام الترمذي في آخر كتابه الجامع: "وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتب التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري".

8- معرفة فقه الحديث:

وهو الثمرة المرجوة من الحديث بعد ثبوت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يستخرج فقهه وتستنبط أحكامه وفوائده للعمل بها، وتطبيق ما دلت عليه مما تعبّدنا به الله عز جل، ولذلك كان من أهم أغراض الرحلة مذاكرة العلماء للوقوف على معاني الأحاديث، والبحث عن أغوارها، والكشف عن أسرارها، وإثارة ما فيها من الفقه ودقائق العلم، واقتباس ما أرشدت إليه من الهدي وحقائق الدين، وبيان غامضها ومشكلها وتقصي ألفاظها([41]).

 

 

المراجع المساعدة

1- الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي.

2- تدريب الراوي للسيوطي 2/161.

3- علوم الحديث لابن الصلاح 222.

4- الإلماع للقاضي عياض 233.

5- مدرسة الحديث في القيروان للحسين شواط 1/195.

أسئلة التقويم الذاتي:

1- ما وجه الحاجة إلى الرحلة في طلب الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟

2- ما منزلة الرحلة في طلب الحديث عند أهل العلم؟

3- اذكر ثلاثة نماذج من رحلات الصحابة في الحديث مع التعليق عليها.

4- تحدث عن نماذج من رحلات التابعين في الحديث مع التعليق عليها.

5- تحدث عن الرحلة بعد عصر التابعين، وماذكره العلماء في فضائل المحدثين المتعلقة بالرحلة.

6- ما هي ثمرات الرحلة في طلب الحديث، وما أثر ذلك في حفظ السنة وحمايتها.

7- ما الصلة بين الرحلة وبين صيانة السنة من الدخيل.

8- اذكر نموذجا مضافا لما في كتابك المقرر لرحلات كل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في طلب الحديث.

9- اكتب ثلاث صفحات بتعبيرك تضمنها حصيلة ما استفدته من هذا المبحث.

 

 

 

([1]) انظر : صحيح البخاري 1/27 ، مسند أحمد 3/495 .

([2]) انظر : مسند أحمد 4/153 .

([3]) وهو مطبوع ، وينصح طالب العلم بقراءته .

([4]) صحيح البخاري 1/27 .

([5]) علوم الحديث 223 ، الرحلة فى طلب الحديث 89 .

([6]) الرحلة فى طلب الحديث 90 .

([7]) مسند أحمد 4/153 ، جامع بيان العلم 1/93 .

([8]) مسند أحمد 3/465 ، مستدرك الحاكم 2/437 .

([9]) جامع بيان العلم 1/94 ، الكفاية 402 ، الرحلة فى طلب الحديث 128 .

([10]) مسند أحمد 2/521 ، الرحلة فى طلب الحديث 132 .

([11]) مستدرك الحاكم 1/30 ، الرحلة فى طلب الحديث 135-137 .

([12]) سنن الدارمى 1/136 .

([13]) جامع بيان العلم 1/94 .

([14]) النساء : (93) .

([15]) البخاري مع الفتح 9/133 ح 4590 .

([16]) الرحلة فى طلب الحديث 143 .

([17]) سنن الدارمى 1/136 .

([18]) سنن  الدارمى 1/136 .

([19]) تذكرة الحفاظ 1/81 .

([20]) سنن أبى داود 3/80 .

([21]) انظر : استدراك الزيادات على كتاب الرحلة فى طلب الحديث 187 .

([22]) الكفاية 401 ، تنـزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1/285 .

([23]) انظر : تهذيب التهذيب 11 / 90 .

([24]) انظر : التهذيب 11/385 .

([25]) انظر : تهذيب التهذيب 11/280 .

([26]) مقدمة الجرح والتعديل 363 .

([27]) تذكرة الحفاظ 627 .

([28]) تذكرة الحفاظ 789 .

([29]) تذكرة الحفاظ 973 .

([30]) تذكرة الحفاظ 973 .

([31]) تذكرة الحفاظ 973 .

([32]) صيد الخاطر 234 .

([33]) معرفة علوم الحديث 2 ، 3 .

([34]) شرف أصحاب الحديث 8-11 .

([35]) انظر : الرحلة فى طلب الحديث 17-28 ، مدرسة الحديث فى القيروان 1/226-240 .

([36]) انظر : معرفة علوم الحديث 5 ، 7 .

([37]) مقدمة الرحلة فى طلب الحديث 20 .

([38]) علوم الحديث 233 .

([39]) الرحلة فى طلب الحديث 207 .

([40]) الكفاية 402 .

([41]) انظر : مقدمة إكمال المعلم للقاضى عياض 72 .

  • الاحد AM 11:35
    2020-11-29
  • 7508
Powered by: GateGold