المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409004
يتصفح الموقع حاليا : 334

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى تعارض الأحاديث بشأن الزراعة والمحراث

دعوى تعارض الأحاديث بشأن الزراعة والمحراث(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين وجود تعارض بين الأحاديث التي جاءت في شأن الزراعة والمحراث وما يتعلق بهما.

ويستدلون على ذلك بورود أحاديث تدل على أن لهما فضلا عظيما؛ منها ما رواه أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة».

في حين أن هناك حديثا آخر يفهم منه ذم تلك الحرفة وكراهتها؛ فقد روى البخاري «عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- حينما رأى آلة الحرث؛ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل».

وقد ساقوا ذلك متسائلين: كيف يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذل لمن أدخل آلة المحراث بيته، ثم يدعونا إلى الغرس والزراعة، ويحثنا عليها، مع العلم بأن هذا لا يكون - غالبا - إلا باستخدام تلك الآلة أو ما شابهها؟!

هادفين من وراء ذلك إلى ضرب السنة بعضها ببعض، ومن ثم تشكيك المسلمين فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجه إبطال الشبهة:

  • إنالأحاديثالواردةفيبيانفضلالزراعةوالمحراثأحاديثصحيحةثابتةعنالنبي -صلىاللهعليهوسلم- ولايعارضهاحديثأبيإمامة -رضياللهعنه- في ذم آلة المحراث؛ فهو محمول على من انشغل بالزراعة والحرث، فألهاه ذلك عن أمور أخرى هي أهم وأفضل، كأمر الجهاد والدفاع عن الدين، وذلك ما جاء صريحا في رواية ابن عمر - رضي الله عنهما، التي أقر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- تسليط الذل على الأمة إذا تركت الجهاد، وانشغلت بزراعتها وشئونها الخاصة، أما إذا انتفى ذلك فلا شك أنها من أفضل الأعمال وأجلها.

التفصيل:

  • صحةالأحاديثالواردةفيالمحراثوالحثعلىالزراعة:

لقد ورد في شأن الزراعة والمحراث أحاديث كثيرة تدل دلالة واضحة على فضلها ومكانتها العظيمة، من هذه الأحاديث ما رواه الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة»[1].

وقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عدة روايات تؤكد ما للغرس والزرع من فضل كبير؛ فقد روى عنه: «دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أم معبد حائطا، فقال: يا أم معبد من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟ فقالت: بل مسلم، قال: لايغرس المسلم غرسا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة»[2].

وروى عنه رضي الله عنه - أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة»[3].

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهـ أيضا - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يغرس رجل مسلم غرسا ولا زرعا، فيأكل منه سبع أو طائر أو شيء، إلا كان له فيه أجر»[4].

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «أن رجلا مر به، وهو يغرس غرسا بدمشق، فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا تعجل علي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله، إلا كان له به صدقة»[5].

بل قد حث الله - عز وجل - المؤمنين على العمل، فقال في كتابه: )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون( (التوبة: ١٠٥)، بل لقد حث نبيه - رضي الله عنه - على إتقانه، قائلا: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»[6] ثم مدح من يأكل من عمل يده، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده» [7].

والزراعة من أجل الأعمال وأفضلها، وقد قال بعض العلماء قديما: إن الزراعة هي أفضل المكاسب، وقد جاءت مادة زرع في عدة مواطن في القرآن الكريم، منها ما جاء في سورة الواقعة، فقال الله عز وجل: )أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)( (الواقعة) فالزرع والغرس إنما ينبت بفضل الله ورحمته، حتى لا يظن ظان أن هذا الزرع من اجتهاده، بل كله بفضل الله، فما على الإنسان إلا أن يأخذ بالأسباب التي علمه الله إياها، من وضع البذر في الأرض، وريه، ومتابعته حتى ينمو بفضل الله عز وجل.

كما أن الزراعة من المهن العظيمة التي ذكرت بلفظها في القرآن والسنة، بل إن الله - عز وجل - قد نسبها لنفسه كما ذكرنا، ومن الأحاديث الشريفة التي حثت على الحرص على الزراعة والغرس والاهتمام بها إلى أن تقوم القيامة ما صح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة، فليغرسها»[8]. فإن هذا يعد أمرا من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الزراعة إلى قيام الساعة، مع العلم بعدم انتفاع أحد - في ذاك الوقت - بهذا الزرع.

وهذا الحديث في رأي الدكتور القرضاوي يمثل "تكريما للعمل لعمارة الدنيا في حد ذاته، وإن لم يكن وراءه منفعة للغارس أو لغيره من بعده، فلا أمل لأحد في الانتفاع بغرس يغرس والساعة تقوم! وليس بعد هذا تحريض على الغرس والانتاج ما دام في الحياة نفس يتردد، فالإنسان قد خلق ليعبد الله، ثم ليعمل وليعمر الأرض، فليظل عابدا عاملا حتى تلفظ الدنيا آخر أنفاسها.

وهذا ما فهمه الصحابة والمسلمون في القرون، ودفعهم إلى عمارة الأرض بالزراعة وإحياء الموات"[9].

  • لاتعارضبينالأحاديثالواردةفيالزراعةوالمحراث:

ولا يعارض ما ذكرنا من أحاديث بما رواه الإمام البخاري في صحيحه «عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنهقال - ورأى سكة[10] وشيئا من آلة الحرب ـ؛ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل»[11].

فليس المراد ظاهر الحديث، أن الإسلام يكره الزرع والغرس! وإنما المراد بإدخال الذل البيت هنا هو انشغال المسلمين بالزراعة والغرس وشئونهما، وترك الجهاد والحرب، وهذا ما جاء صراحة في أحاديث صحيحة أخرى، أقر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالذل على الناس إذا تركوا الجهاد، أما إذا لم تتجاوز هذه الصنعة (الحرفة) الحد الواجب لها، فلا ذل إذا، بل يصبح عملا صالحا يحث عليه الإسلام - كما بينا سابقا.

يتضح ذلك من الترجمة التي وضعها البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به".

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة، والحديث الماضي في فضل الزرع والغرس، وذلك بأحد أمرين: إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك، ومحله ما إذا اشتغل به فضيع بسببه ما أمر بحفظه (كأن يضيع أمر الجهاد الواجب)، وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه... وعن الداودي: هذا لمن يقرب من العدو، فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية؛ فيتأسد عليه العدو"[12].

وقد ترجم البخاري لأحاديث فضل الزرع والغرس بقوله: "باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، وقوله تعالى: )أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)( (الواقعة)".

يقول ابن حجر - رحمه الله -: "ولا شك أن الآية تدل على إباحة الزرع من جهة الامتنان به، والحديث يدل على فضله بالقيد الذي ذكره المصنف (وهو الأكل من هذا الزرع)، وقال ابن المنير: أشار البخاري إلى إباحة الزرع، وأن من نهى عنه - كما ورد عن ابن عمر - فمحله ما إذا شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة، وعلى ذلك يحمل حديث أبي أمامة"[13].

وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - رواه أبو داود في صحيحه بسند صحيح مرفوعا:«إذا تبايعتم بالعينة[14]، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»[15].

ذكر ابن حجر من فوائد حديث أنس -رضي الله عنه- في فضل الغرس والزرع، قال: "وفي الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها. وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة، وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين، فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا «لا تتخذوا الضيعة؛ فترغبوا في الدنيا»[16] الحديث.

قال القرطبي - رحمه الله: يجمع بينه وبين حديث الباب - حديث فضل الغرس والزرع - بحمله - أي: حديث ابن مسعود - على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين، وحمل حديث الباب على اتخاذهما للكفاف، أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها"[17].

فحديثا ابن عمر وابن مسعود -رضي الله عنهم- خير دليل على أن حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- في ذم المحراث ليس على ظاهره؛ بل محمول على من انشغل بشئون الزراعة والمحراث، وترك أمورا هي من صلب الدين؛ كأمر الجهاد والحرب.

جاء في "عون المعبود": «وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع» حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد (وتركتم الجهاد)؛ أي: المتعين فعله «سلط الله عليكم ذلا»... وسبب هذا الذل - والله أعلم - أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين، عاملهم الله بنقيضه، وهو إنزال الذل بهم"[18].

قال الشيخ الألباني - رحمه الله: "وقد وفق العلماء بين هذا الحديث - حديث أبي أمامة - والأحاديث المتقدمة بوجهين:

  1. أن المراد بالذل ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج أو عشر، فمن أدخل نفسه في ذلك فقد عرضها للذل.
  2. أنه محمول على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجبات؛ كالحرب ونحوه، وإلى هذا ذهب البخاري؛ حيث ترجم للحديث بقوله السابق، فإن المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب، ويحمله على التكالب على الدنيا، والإعراض عن الجهاد، كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء، ثم أيد هذا الوجه بحديثي ابن عمر وابن مسعود -رضي الله عنهم- السابقين[19].

يقول الدكتور يوسف القرضاوي عن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما: "هذا الحديث يكشف عن أسباب الذل الذي يسلط على الأمة، جزاء وفاقا؛ لتفريطها في أمر دينها، وإهمالها ما يجب عليها رعايته من أمر دنياها؛ فالتبايع بالعينة يدل على أنها تهاونت فيما حرمه الله وشدد فيه وآذن فاعله بحرب من الله ورسوله، وهو الربا، فتحايلت على أكله بصورة من التعامل، ظاهرها الحل وباطنها الحرام المؤكد.

كما أن اتباع أذناب البقر والرضا بالزرع يدل على الإخلاد إلى الزراعة والشئون الخاصة، وعلى إهمال الصناعات، وبخاصة ما يتصل منها بالنواحي العسكرية، أما ترك الجهاد فهو ثمرة منطقية لما سبق. وبهذه الأسباب مجتمعة يحيق الذل بالأمة، ما لم ترجع إلى دينها"[20].

ولا ريب أن الاشتغال بالزراعة وترك الجهاد وأعمال الفروسية من أسباب ذل هذه الأمة، ولقد كان في درس الأندلس أعظم العبر والعظات للمسلمين؛ حيث انصرفوا آخر أمرهم إلى الترف، والتأنق في العمارة، والاشتغال بالزراعة، وبناء الجسور والقنوات، وصناعة الآلات الرافعة، كالنواعير والدواليب، والمبالغة في الاهتمام بالأزهار والورود والعطور، وانصرفوا عن أخلاق الفروسية، وصناعة الآلات الحربية، وتركوا أشعار الحماسة والجهاد إلى أشعار الوصف والغزل، إلى أن دهمهم العدو المتربص، وأحاط بهم من كل جانب، فرزأهم في الأموال والأعراض، وفتنهم في دينهم. وهكذا أسدل الستار على مجد حافل، وعز طائل دام نحو ثمانية قرون[21].

يقول الشيخ المحدث أبو إسحاق الحويني: "إنه - أي المدعي - عمي أو تعامى عن تبويب الإمام البخاري - رحمه الله - لهذا الحديث، وقال: باب ما يحذر من الاشتغال بآلة الزرع - أي: عن ذكر الله -سبحانه وتعالى- فيقول: إن هذا الرجل إذا استخدم المحراث في زراعة الأرض، وتفانى فيها بحيث ألهته عن ذكر الله، فليس بعد دخول النار ذل، هذا يقضي عليه بالذل إن اشتغل به عن ذكر الله -عز وجل- هذا وجه من وجوه الحديث.

الوجه الآخر: وهو أن الذي يعمل بآلة الزرع يتعرض للذل بسبب الجباية التي تفرض عليه، وعلى المحصول الذي يخرج من الأرض؛ فيتعرض للذل، وهذا كائن، فمثلا يقولون: الفدان يخرج مثلا طنين من الأرز - ألفي كيلو - ويجب أن يورد إجبارا إلى الجمعية الزراعية طنا ونصف، بسعر - مثلا - مائتي جنيه، في حين أن هذا الطن في السوق السوداء بستمائة، إذا: الفرق أربعمائة في الطن الواحد، هب أن الله منع الثمرة وغارت الأرض، ماذا يفعل هذا الرجل؟ يجب عليه أن يشتري طنا ونصف بسعر ستمائة حتى يوردها بسعر مائتين، إذا يخسر، وإن تخلف عن السداد سجن، أليس هذا من الذل؟ فكأن في هذا الحديث إشارة إلى ما يفرض على ذاك المزارع من الجبايات الظالمة التي تعرضه للذل: إما بتعريضه للسجن إذا لم يوف ما عليه، وإما بتعريضه للجوع هو وعياله.

فهذا الذي يفهم عليه الحديث، ليس أن الإسلام يمنع من استثمار الأرض، كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «... اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»[22][23].

فبضم الأحاديث بعضها إلى بعض يتضح لنا مدى تكاملها وتناسقها في الباب الواحد؛ فلا يعقل أن تؤخذ السنة من حديث واحد!

يقول الشيخ عطية صقر - رحمه الله: "إن الإنسان في نشاطه لابد أن يعمل في دنياه ما يساعده على أعمال البر، ولا ينسيه آخرته، والتنسيق واجب؛ حتى لا يفرط فيما يحفظ عليه حياته، ويقويه على عمل الخير، ويدخره للآخرة، ولا يجوز فصل بعض النصوص عن بعضها الآخر، فقد يكون لكل نص سبب وظروف تختلف عن النص الآخر، وقد يكون الجمع بينها بتخصيص العام أو تقييد المطلق أو بغير ذلك مما بينه العلماء. وعدم مراعاة هذا المنهج يؤدي إلى نتائج خطيرة في سوء الفهم وسوء التطبيق، وهو الانحراف الذي يسبب المتاعب للفرد والمجتمع، ويشوه صورة الدين عند من يكيدون للإسلام وأهله، وما أكثرهم في هذه الأيام[24].

فمن هذا يتبين أنه لا ينبغي لمسلم أن يأخذ السنة من حديث واحد، دون أن يضم إليه ما ورد في موضوعه مما يؤيده أو يعارضه، أو يوضح إجماله، أو يخصص عمومه، أو يقيد إطلاقه، وبضم هذه الباقة من الأحاديث الصحيحة بعضها لبعض، يتمكن من النظرة الجامعة، المستوعبة، ويتحرر من النظرة الجزئية القاصرة التي كثيرا ما توقع صاحبها في الخطأ، وإن لم يقصد إليه[25].

الخلاصة أنه لا تعارض بين الأحاديث الواردة في مسألة الزراعة والمحراث؛ فالأصل أن السنة الصحيحة قد حثت على فضل الزراعة والمحراث وما يتعلق بهما في أحاديث كثيرة صحيحة، أما ما جاء في حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- من ذم آلة الزرع، فليس على إطلاقه، بل الذم المراد هنا هو انشغال الإنسان بالزراعة وشئونها، وترك أمور الدين العظام، والتي على رأسها الجهاد والحرب والاستعداد لهما.

الخلاصة:

  • إنأحاديثفضلالزراعةوالمحراثصحيحةثابتة، وردت في أصح كتب الحديث؛ فقد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، وكذا أصحاب السنن في سننهم، وأحمد في مسنده، وغيرهم بأسانيد صحيحة قوية.
  • لقدنسبالله -عزوجل- الزراعةلنفسه،عندماقال: )أفرأيتمماتحرثون (63) أأنتمتزرعونهأمنحنالزارعون (64)( (الواقعة)،مما يدل على أن لهذه الحرفة فضلا عظيما؛ ولذا قد عدها العلماء أفضل المكاسب.
  • لقدعدالنبي -صلىاللهعليهوسلم- الزراعةصدقةللمسلم،سواءكانالآكلللزرعإنساناأوحيواناأوطيراأوبهيمة،حتىلوسرقهاسارق؛فأنقصها،فإنهاتربوعنداللهوتزيد.
  • لقدحثتالسنة على العمل والزراعة حتى آخر لحظة في عمر الإنسان؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسلة فليغرسها». فكل ذلك يعد تكريما وتشريفا من الإسلام للعمل والزراعة خاصة.
  • لايعارضتلكالأحاديثالغزيرةفيبيانفضلالزراعةوالمحراثمارواه أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عندما رأى آلة المحراث؛ فقال:«لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل»؛ فوجه الكراهة هنا هو الانشغال بأعمال الزراعة وغيرها، حتى تلهي المسلم عن أمور هي أهم وأفضل؛ كأمر الحرب والجهاد دفاعا عن الدين، وتوسيعا لرقعة الدولة الإسلامية، فلا شك أن المسلم إذا ركن إلى الزراعة وما يتعلق بها، ونسي أمر الجهاد، والاستعداد له، تفوق عليه الأعداء وتأسدوا عليه؛ فيكون نتيجة ذلك هو الذل الذي يسلط على الأمة، أما إن لم تشغل الزراعة المسلم عن أمر دينه، ولم تجاوز الحد منها، فإنها - لا شك - أفضل الأعمال وأجلها.
  • لقدوردفيالسنةالصحيحةمايؤكدهذاالجمعالذيذهبناإليه؛فقدرويعنابنمسعود -رضياللهعنه- قال: قالرسولاللهصلىاللهعليهوسلم: «لاتتخذواالضيعة؛فترغبوافيالدنيا»،وكذلكمارواهابنعمر - رضياللهعنهما - مرفوعا:«إذاتبايعتمبالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»، فدل ذلك على أن الإخلاد إلى الزراعة وما يتعلق بها والانشغال بها، وترك الجهاد يورث الذل والهوان والصغار للأمة، ما لم ترجع إلى الدين، وتوازن بين شئونها الخاصة، وبين الجهاد وحماية بيضة الدين.
  • لقدصدقتنبوءةالنبي -صلىاللهعليهوسلم- عيانا؛فبعدأنسادالمسلمونبلادالأندلسسنينعديدة،طفقوارويدايتركونأمورالجهادوالاستعدادله،وانشغلوابالعمارةوالزراعة،والاهتمامبالشئونالخاصةوغيرها؛فداهمهمالعدوالمتربص، فذلهم بعد عز دام نحو ثمانية قرون من الزمان.
  • ليسمنالأمانةأنتعزلالأحاديثبعضهاعنبعضفيالبابالواحد؛فالأحاديثيكملبعضهابعضا،فلايعقلأنتؤخذالسنةمنحديثواحد،دونضمهللأحاديثالأخرىفينفسالباب،فبهتتضحالرؤيةويستبينالمراد.

 

 

 

 

(*) كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م.

[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: فضل الزرع والغرس إذا أكل منه...، (5/ 5)، رقم (2320). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع، (6/ 2429)، رقم (3898).

[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع، (6/ 2429)، رقم (3896).

[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع، (6/ 2428)، رقم (3893).

[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع، (6/ 2429)، رقم (3895).

[5]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، مسند القبائل، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، رقم (27546). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.

[6]. صحيح: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، (4/ 334)، رقم (5313). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1113).

[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده، (4/ 355)، رقم (2072).

[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، رقم (12925). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[9]. كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص130.

[10]. السكة: هي الحديدة التي تحرث بها الأرض.

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الحرث أو مجاوزة الحد الذي أمر به، (5/ 7)، رقم (2321).

[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 7).

[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 5).

[14]. العينة: هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به.

[15]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الإجارة، باب: في النهي عن العينة، (9/ 240: 242)، رقم (3458). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3462).

[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، (5/ 201، 202)، رقم (3579). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[17]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 6).

[18]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (9/ 242).

[19]. سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1399هـ/ 1979م، (1/ 14: 18) بتصرف.

[20]. كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص132.

[21]. مجلة البحوث الإسلامية، مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، (33/ 202، 203).

[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، (3/ 345)، رقم (1427). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى...، (4/ 1665)، رقم (2348).

[23]. دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، (118/ 4).

[24]. فتاوى الأزهر،(10/ 404).

[25]. كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص132.

  • الاثنين AM 03:40
    2020-10-19
  • 1707
Powered by: GateGold