المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409001
يتصفح الموقع حاليا : 256

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مندوب لا واجب

الزعم أن التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مندوب لا واجب(*)

 مضمون الشبهة:

 يزعم بعض المتوهمين أن التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مندوب[1]  لا واجب[2] ، ويستدلون على ذلك بأن كثيرا من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرها الناس، فلم تنقل لنا أفعاله في حال خلوته، ولو كان التأسي بأفعال النبي واجبا لوجب أن يحضر معه أحد الصحابة لينقل إلينا ما فعله من الواجبات. ثم إن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على كثرتها لو كانت تحمل على الواجب لكان ذلك تكليفا بما لا يطاق. هذا بالإضافة إلى أن الأشياء المادية التي تصرف فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فنيت وانتهت فلا يجب علينا العمل بها. وإذا كان القول واجبا، فالفعل ليس بواجب؛ وذلك لأن الفعل أضعف دلالة من القول, وهذا ما تعضده أحاديث كثيرة تدل على أن الوجوب ظاهر في قوله - صلى الله عليه وسلم - دون فعله. رامين من وراء ذلك إلى إغفال جزء كبير من سنته - صلى الله عليه وسلم - ألا وهي السنة الفعلية وإبطال حجيتها.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لقد رويت تفاصيل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - اليومية كاملة في كل حالاته، فهو الشخص الوحيد الذي لا تنطوي حياته على أسرار أو خفايا؛ إذ إنه لم يحجر على واحدة من أزواجه، أو واحد من أصحابه أن ينقل عنه ما يرى أو يسمع؛ ولذلك تعددت أزواجه، وتكرر فعله أكثر من مرة ليراه الناس.

2) إن أفعال النبي على أنواع؛ فمنها: جبلية لا دخل لها في الأحكام وتفيد مجرد الإباحة ولا يجب فيها التأسي، وأفعال تخص الأحكام والعمل بها واجب، وثالثة تختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كمواصلة الصوم والزيادة في النكاح على أربع؛ فهذه خاصة به - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح فيها التأسي, وأما الأشياء المادية التي كانت على عهد النبي وتصرف فيها بعينها وفنيت الآن، فإن الوجوب يقع على الفعل المماثل لهذه الأفعال.

3) إذا كان الفعل أضعف دلالة من القول، فإن هذا لا يلزم منه خروجه من دائرة السنة المأمور باتباعها ووجوب العمل بما يقتضيه فعله - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام التكليفية الخمسة وهي الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة.

4) إن أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباعه وطاعته - الوارد في الأحاديث التي استدلوا بها - أمر يشمل طاعته فيما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، ولم يقصد قصر طاعته على أقواله فقط دون أفعاله، وإلا فما هو دليلهم على تخصيص قوله بالطاعة دون فعله، هذا فضلا عن أن هناك أحاديث توجب التأسي بأفعاله.

التفصيل:

أولا. حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلت بكل تفاصيلها كأننا نشاهدها رأي العين:

إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحجر على واحدة من أزواجه، أو واحد من أصحابه أن ينقل عنه ما يرى أو يسمع من أحواله وأفعاله، وإنما تعدد الرواة عنه ورويت تفاصيل حياته اليومية في حله وترحاله، ويقظته ونومه، وفي بيته مع أهله، وفي السوق والمسجد والجهاد مع الصحابة.

فلقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تكثير نسائه، ولا يخلو هذا من قصد أن يرين أحواله في خلوته وينقلنها للناس، وهذا يدل على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - داخل بيته ما كانت تخفى على المسلمين. كيف لا؟ وقد كان هديه - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ينقل إلينا نقلا تاما صحيحا من قبل زوجاته وأقربائه وأصحابه الذين يلجون حجراته، وقد ذكر علماء الحديث أن عدد الأحاديث التي رواها نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - جاوزت ثلاثة آلاف حديثا، ولا عجب أن نجد عائشة - رضي الله عنه - مثلا "من أعلم الناس بسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكان الكبار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتونها في أمور الدين، وقد بقيت على قيد الحياة ثمان وأربعين سنة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنشر الدين وتبلغه إلى الرجال والنساء.

وقد ذكر المؤرخون أنه قد انتقل ربع الأحكام الشرعية إلى الأمة المسلمة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال توجيهات أم المؤمنين عائشة. ومعلوم أنه قد روي عنها 2210 حديثا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد اتفق الشيخان على 174 حديثا منها، وانفرد البخاري بتخريج 58 حديثا، وانفرد مسلم بتخريج 68 حديثا"[3].

أما ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - في غيبته مما يستلزم المشاهدة ليتعين على المسلمين وجوب الاتباع، فإنه ليس ثمة ما يمنع أن يفعل مثله مرة أو مرات أخرى بحضرتهم، فيحصل المقصود، وهو معاينة أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وتبليغها عنه, ولعل في قولهم هذا ما أوقع كلامهم في تناقض بين؛ إذ إنهم يقولون: فعله يدل على الاستحباب، والاستحباب أيضا شرع يجب بيانه، فكان يلزم إظهاره كالواجب[4].

وبناء على ما سبق، فإن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - نقلت إلينا كاملة بطرق متعددة دلت على وجوبها، وبطل ما يدعونه من أن أفعاله لم تنقل إلينا كاملة، لا سيما وأن أصحابه وأزواجه - رضي الله عنهم - يقدرون أهمية هذه المرحلة التي يعيشها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاهتموا اهتماما كبيرا بها، وحرصوا على نقل كل كبيرة وصغيرة كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا. أفعاله - صلى الله عليه وسلم - المختصة بالأحكام ليست من الكثرة إلى حد عدم الإطاقة:

إن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقسام، ولكل حكمه في المتابعة وعدمها:

  • فمنهامايصدرعنوجهالجبليةأوالعادة؛كالقياموالقعودوالاضطجاعوالأكلوالشربواللبس, وهذاالضربغيرداخلفيمايطلبفيهالتأسي, وغايةمايفيدهفعله - صلىاللهعليهوسلم - لمثل هذه الأشياء هو إباحتها, فإذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قام في مكان أو زمان أو ركب نوعا من الدواب أو تناول نوعا من الأطعمة أو لبس صنفا من الثياب, فلا يقال فيمن لم يفعل شيئا من ذلك إنه تارك للسنة؛ إذ العمل بذلك مباح لا واجب.
  • وإنمنأفعاله - صلى الله عليه وسلم - ما علم اختصاصه به كالوصال في الصوم، والزيادة في النكاح على أربع، ولا نزاع في أن مثل هذا ليس محلا للتأسي، وما كان لأحد أن يقتدي به فيما هو من خصائصه.
  • ومنأفعالهماعرفكونهبياناللقرآنكقطعهيدالسارقمنالكوعبيانالقولهعز وجل: )فاقطعوا أيديهما( (المائدة: ٣٨) وحكم الاقتداء به في هذا حكم المبين من وجوب أو استحباب.
  • ومنهامالميكنجبلياولاخصوصية،ولابيانا،وهذاإذاعلمتصفتهفيحقهصلىاللهعليهوسلم: منوجوبأوندبأوإباحة؛فأمتهتابعةلهفيالحكم،إذالأصلتساويالمكلفين في الأحكام.

فإن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرا ولم يقم دليل على أنه فعله على سبيل الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فهذا إما أن يظهر فيه معنى القربة، كافتتاحية الرسائل بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" فيحمل على أقل مراتب القرب وهو الندب، وإما أن لا يظهر فيه معنى القربة فيدل على أنه مأذون فيه[5].

وعليه فإن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مختلفة منها ما هو على سبيل الإباحة في العمل، ومنها ما هو خاص به ولا يجوز التأسي فيه، ومنها ما كان بيانا للقرآن فتنطبق عليها الأحكام التكليفية الخمسة، ومنها ما هو خلاف ذلك ويكون العمل به واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، من خلال صفته في حقه - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا فإن الواجب من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ليس كثيرا إلى حد لا يطاق فعله كما زعموا، وإنما هو في حدود المعقول.

أما ما أثير من أن كثيرا من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - تختص بالأشياء المادية التي فنيت, فإن الوجوب في هذه الحالة يكون في "فعل مماثل لفعله صلى الله عليه وسلم"[6]وليس نفس الفعل كما يزعمون, كالدينار والدرهم - مثلا - فهما من الأشياء المادية التي تصرف فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتهت الآن, فإن الوجوب في الأفعال الخاصة بهذه الأشياء يقع على ما يماثلها من أشياء كالعملات المستخدمة الآن.

وإذا ظهر وتقرر ذلك علم أن دعوى عدم إطاقة حصر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإتيانها على وجهها دعوى واهية أبطلتها الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، لا سيما وقد أحصت كتب السنة ودواوينها أفعاله صلى الله عليه وسلم - فضلا عن أقواله - في أموره كلها، وأحواله جميعها المسنون منها والفرض، واحتفت بها احتفاء رائعا، بل منهم من أفرد لها كتبا بعينها تحت عنوان الأدب، ككتاب "الأدب المفرد" للإمام الهمام أبي عبد الله البخاري، وكتاب "الأدب" للبيهقي، وهناك من عنونها بـ "عمل اليوم والليلة"، كما هو الحال مع النسائي الحافظ، وابن السني وهي كتب اعتنت بفعله - صلى الله عليه وسلم - كما اعتنت بقوله صلى الله عليه وسلم.

ثالثا. إذا كان الفعل أضعف دلالة من القول؛ فإن هذا لا يلزم خروجه من دائرة السنة وما يقتضيه فعله - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام التكليفية:

ليس كون دلالة الفعل أضعف من دلالة القول دليلا على خروج حكم التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - من دائرة الأحكام التكليفية؛ إذ إنه لا مانع من كون الفعل واجبا كالقول أو مستحبا أو حراما أو مكروها أو مباحا[7], مع ضعفه في الدلالة.

ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يؤثر عنه فعل يجب على الأمة أن تأتسي به - صلى الله عليه وسلم - فيه كصومه في رمضان، وفعل يستحب للأمة أن تقتدي به - صلى الله عليه وسلم - كصيامه في شهر شعبان، وفعل يباح للأمة أن تقتدي به - صلى الله عليه وسلم - في فعله كهديه - صلى الله عليه وسلم - في ملبسه ومركبه، وأفعال يحرم على الأمة أن تقتدي به كزواجه - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من أربعة، وأفعال يكره أن تقتدي الأمة به فيها كأن ينفق الرجل كل ما يملك اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكرم، ويترك أهله عالة يتكففون الناس.

ومما يستدل به على أن اتباع فعله - صلى الله عليه وسلم - واجب كاتباع قوله - فيما ورد التنصيص على ذلك - أن علماء الحديث قسموا السنة إلى قول وفعل وتقرير، ولم يميزوا قسما من السنة على قسم في وجوب الاتباع وعدمه، بل ساووا بينها عند عدم التعارض بينها.

واختلف في مسألة تقديم الفعل على القول، أو تقديم القول على الفعل إذا تعارضا، ولهم مذاهب ثلاثة في ذلك:

الأول: أنه يقدم القول؛ لكونه يدل بنفسه على مقتضاه من غير واسطة. أما الفعل فإنه لم يوضع للدلالة، إنما يدل بواسطة القول مثل: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[8]. فإن دلالة الفعل وهو صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حصلت بواسطة القول.

الثاني: أنه يقدم الفعل؛ لأنه أبين وأوضح في الدلالة، فإن نظريات الهندسة وأقوال المهندسين تحتاج في بيانها إلى الفعل برسم المخططات والخرائط مثلا.

الثالث: تساوي القول والفعل في وجوب العمل، فإذا تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مع فعله، ولم يعرف أيهما المتأخر فيكون ناسخا للأول أو تعذر الجمع بينهما، فإن في هذه الحالة يتوقف في هذا الأمر إلى أن يظهر ويتضح السابق منهما؛ لأنهما متساويان في وجوب العمل[9].

ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف، فإنه يفاد منه أن العلماء متفقون على تساوي الفعل بالقول في درجة الاتباع في حالة عدم التعارض، وهي الحالة الغالبة.

وعليه يتضح أن ضعف دلالة الفعل وقوة دلالة القول لا تأثير لها ألبتة في مشروعية الأخذ بالأفعال النبوية التي تفيد حكما شرعيا يفيد الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة، وهي لا تقل عن الأقوال النبوية في حكم التأسي بها؛ إذ كلها صادرة من مشكاة واحدة.

رابعا. إن الأمر في أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - التي أمر فيها باتباعه يشمل ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير وليس القول فقط:

لقد استدل هؤلاء الواهمون بعدة أحاديث ظنوا أنها تدل على أن العمل بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - برمتها مندوب، وليس واجبا، ونرى أن نعرضها واحدا واحدا، ونزيل ما التبس على هؤلاء الواهمين، وهذه الأحاديث هي:

  1. حديث البخاري عن عثمان، قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة، قال: قال عبد الله بن مسعود: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص - فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا. فثنى رجليه واستقبل القبلة، وسجد سجدتين ثم سلم. فلما أقبل علينا بوجهه، قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء، لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين»[10].

 قالوا: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به" أي: ما كنت أقتصر على بيان ذلك بفعلي، بل كنت أنبئكم به قولا، وبذلك فالفعل ليس بواجب الاتباع، وإنما القول هو واجب الاتباع.

والجواب على هذا "أن مثل هذه الحادثة خالف فيها الفعل القول المتقدم المستقر المعلوم، فلا يكفي الفعل لنسخه، لو كان المراد النسخ، فلو لم ينبئهم به لقدم القول على الفعل، وحينئذ، فإذا أريد نسخه لا بد من أن يكون ذلك بقول، وخاصة على قول من يقول: الفعل لا ينسخ القول مطلقا، أو لا ينسخه ما لم يتكرر، وأيضا ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه ينسى كما ينسون، يجعل تركه لما ترك مجملا؛ لأنه يدور بين النسيان وبين التشريع، ومن أجل ذلك لا يصلح الفعل بيانا في مثل هذا المقام ويتعين القول"[11]؛ إذ الحاجة إليه في هذا المقام شديدة لا يغني عنها الفعل فقط، خلافا للأمور الأخرى التي يؤدي الفعل فيها الغرض.

  1. حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»[12].

وواضح أن طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ليست خاصة بما يقوله فقط دون ما يفعله، ولو كانت خاصة بالقول فقط فبموجب الطاعة في القول أن نطيعه في الفعل، ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر في أقواله أن يتبع الناس أفعاله، ومن لم يتبعها كان عاصيا لأوامره.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[13]، وقال: «لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»[14]؛ فهذه أقوال صريحة منه تدل على وجوب اتباع أفعاله، لذلك فليس المقصود من الطاعة هنا طاعته فيما يقول فقط، وإنما تشمل قوله، وفعله، وتقريره.

والسنة - كما عرفها علماء مصطلح الحديث: "هي كل ما أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحت نسبته إليه من قول أو فعل أو إقرار أو صفة خلقية أو خلقية، وسواء كان قبل البعثة أو بعدها"[15]. وبذلك فالأمر بطاعته يشمل كل ما أثر عنه من قول، أو فعل، أو تقرير، ولا يكون متوقفا على القول فقط.

  1. حديث الأعرابي الذي حلف أن لا يزيد شيئا على ما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أركان الإسلام الخمسة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»[16]، وقال المتوهمون في هذا الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمه بأفعاله، ولم ينكر عليه الاقتصار على أركان الإسلام الخمسة بل شهد له بالفلاح.

ودفعا لهذا التوهم الحاصل نقول: إن ما ثبت من إيجاب أمور أخرى، كالجهاد، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، احتمل أن يكون هذا الحديث متقدما، ويكون كل ما ثبت وجوبه غير الخمسة المذكورة متأخرا، ويكون دليل وجوب التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - متأخر الورود أيضا عن حديث الأعرابي[17].

وإن لم يكن هذا الحديث متقدما فإنه أجيب عنه بأنه أتى بما عليه وهو جار على الأصل بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه[18].

هذا وإن قصة الأعرابي هذه في مقام الدعاء إلى الإسلام واستمالة الناس إلى الدخول فيه، فكان يحرص على ترك تحريضهم على ما فيه نوع مشقة مهما أمكن بخلاف من تمكن في الإسلام فيحضه على الازدياد من نوافل الخير[19].

ثم إن هذا الحديث لا ينهض دليلا لأولئك الزاعمين؛ لأن ما أقسم عليه هذا الأعرابي وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، لا يخرج عن أقوال وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تستأثر بالأقوال دون الأفعال.

وبذلك يتبين أن الاقتداء بالواجب من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب كالأقوال - فيما أفادت الوجوب - وإلا فأي دليل من أقواله - صلى الله عليه وسلم - يدل على وجوب خطبة الجمعة، ووجوب صلاة الخسوف، وسجود السهو، وغير ذلك من الأمور الواجبة التي لم تظهر لنا إلا من خلال أفعاله صلى الله عليه وسلم؟!

الخلاصة:

  • إنتفاصيلحياةالنبي - صلىاللهعليهوسلم - قدنقلتإلينا كاملة، حيث كان أزواجه يتبعنه في بيته ويروين عنه كل ما يقوله - صلى الله عليه وسلم - ويفعله، وإذا خرج من بيته تبعه الصحابة - رضي الله عنهم - فنقلوا ما سمعوه أو رأوه عنه، فهو لم يخص واحدة من زوجاته، أو واحدا من أصحابه فقط بالرواية عنه، بل حثهم جميعا على نقل أقواله وأفعاله للناس؛ لذلك وصلت كل أفعاله إلينا فوجب اتباعها والتأسي بها.
  • أفعالالنبي - صلىاللهعليهوسلم - أقسام؛فمنهاأفعالجبليةلادخللهافيالأحكام،وأفعالتشريعيةتخصالأحكام،وثالثةخاصةبه - صلىاللهعليهوسلم - ولايصحالتأسيبهذهالأخيرةإطلاقا، فلا يحل لمسلم أن يتزوج فوق أربعة من باب التأسي به - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا من خصوصياته في حين يجب التأسي به في الأفعال التي تفيد أحكاما تشريعية ولا يلزم في التي قبلها - أي الأفعال الجبلية - ولكن يستحب ويندب؛ إذ لا يفيد فعله - صلى الله عليه وسلم - إياها أكثر من إباحتها بالنسبة لنا.
  • إذاكانتالأحاديثالتياستدلوابهاتوجبطاعته - صلىاللهعليهوسلم - واتباعه،فإنالأمربالطاعةوالاتباعفيهاليسمتوقفاعلىأقوالهدونأفعاله،وإنماالأمرفيهايشملاتباعه - صلىاللهعليهوسلم - فيمايقولويفعل، ويقر؛ لأن سنته - صلى الله عليه وسلم - قول، وفعل، وتقرير، وهناك أحاديث كثيرة توجب على أمته اتباعه في فعله؛ وعليه فالتأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - أمر واجب بالأدلة العقلية والنقلية.
  • إنماكانمنأشياءماديةكانللنبي - صلىاللهعليهوسلم - فيهاسنة وفنيت, فالواجب يقع على الفعل المماثل, ولا وجه للقول بترك الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا لمجرد اندثار تلك الماديات بعينها من حياتنا كالعملة وما شابهها.
  • إذاكانللفعلمنالضعفمايجعلهفيمنزلةتليالقولفإنهذاالضعفلايستلزمترك الاقتداء بالكلية وإنما بيان لدرجة كل قسم من أقسام السنة حسب القوة، وثمرته تظهر عند التعارض، إذ يقدم القول على الفعل في حالة التعارض على المختار.
  • إنمايحاولهؤلاءالاستشهادبهمنأحاديثتفيدوجوبالاقتداءبالقولدونالفعل, ليسلهوجهمنالصواب؛ذاكأن هذه الأقوال - واجبة الاتباع - نفسها تقتضي الاقتداء بالأفعال, ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - السالف الذكر: «صلوا كما رأيتموني أصلي» أمر بوجوب الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ومتعلقاتها من الوضوء واستحضار النية واستجماع الفكرة، ومن ثم ففي قوله أمر باتباع الفعل؛ إذ لا انفصال للقول عن الفعل في ضرورة الاتباع.

 

 

(*) أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م. المستصفى من علم الأصول, محمد بن محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1417هـ/ 1997م.

[1]. المندوب: هو ما طلب الشارع فعله طلبا غير لازم، أو هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، أو ما يمدح فاعله ولا يذم في الشرع تاركه. ]انظر: أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م، ص40[.

[2]. الواجب: مرادف للفرض عند جمهور العلماء خلافا للحنفية، وهو بذلك: ما طلب على وجه اللزوم فعله، بحيث يأثم تاركه أو يذم تاركه ومن ثم يستلزم العقاب. ]انظر: أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م، ص31[.

[3]. نساء حول الرسول والرد على مفتريات المستشرقين, محمود مهدي الإستانبولي ومصطفى أبو النصر الشلبي، دار ابن كثير، بيروت، ط 12، 1426هـ/ 2005م، ص336.

[4]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر, دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م, (1/ 346) بتصرف.

[5]. السنة والبدعة, محمد الخضر حسين، تحقيق: محمد عمارة، نهضة مصر، القاهرة، 1999م، ص13، 14 بتصرف.

[6]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر, دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م, (1/ 347).

[7]. الوجوب مر تعريفه.

  • المستحب: هوالذيإذافعلتهأجرتوإذاتركتهلمتأثمولمتؤجرمثل: صلاةركعتيننافلةتطوعا. ]التقريبلحدالمنطقوالمدخلإليهبالألفاظالعاميةوالأمثلةالفقهية،ابنحزم،تحقيق: إحسانعباس،مكتبةالحياة،بيروت،ط1، 1959م، ص86[.
  • الحرام: هوماطلبالشارعالكفعنفعلهعلىوجهالحتمواللزوم،سواءأكانالدليلالذيأوجباللزومقطعياأمكانظنيا. ]أصولالفقه،أبوزهرة،دارالفكرالعربي،القاهرة، 2006م،ص42[.
  • المكروه: هوماطلبالشارعالكفعنهطلباغيرملزم بأن كان منهيا عنه؛ واقترن لفظ النهي بما يدل أنه لم يقصد به التحريم. ]أصول الفقه، أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م، ص45[.
  • المباح: هوماخيرالشارعالمكلففيهبينالفعلوالتركفلهأنيفعلولهألايفعل،كالأكلوالشربواللهوالبريء. ]أصول الفقه، أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م، ص46[.

[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، (2/ 131)، رقم (631).

[9]. أصول الفقه الإسلامي, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، لبنان، ط 1، 1417هـ/ 1996م، (1/ 485) بتصرف.

[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، (1/ 600)، رقم (401).

[11]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (1/ 348).

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (13/ 263)، رقم (7280).

[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، (2/ 131، 132)، رقم (629).

[14]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، (5/ 2037)، رقم (3079).

[15]. دراسات في السنة النبوية الشريفة, د. صديق عبد العظيم أبو الحسن، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط2، 1408هـ/ 1988م، ص21.

[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام، (1/ 131، 132)، رقم (46).

[17]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (1/ 347) بتصرف.

[18]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 133) بتصرف.

[19]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 363).

 

  • الجمعة PM 04:58
    2020-10-16
  • 1222
Powered by: GateGold