المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412308
يتصفح الموقع حاليا : 265

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قاصر الفهم

                            ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قاصر الفهم(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قاصر الفهم؛ إذ إنه لقصر فهمه، وخمول بديهته ألجأ جبريل - عليه السلام - إلى أن يكرر فعل الأمر "اقرأ" على مسامعه ثلاثا عند أول لقاء به، وما كان أغناه عن ذلك التكرار لو كان المتلقي أذكى، وأسرع بديهة من النبي صلى الله عليه وسلم. وهم بذلك يشككون في ذكائه - صلى الله عليه وسلم - وفطنته، وسرعة بديهته؛ بغية الطعن في رجاحة عقله، وكمال عصمته صلى الله عليه وسلم.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن للأنبياء عامة بما فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - من حدة الذكاء وسلامة الفهم وسرعة البديهة ما ليس لسواهم من سائر البشر، ولقد شهد للنبي ــ صلى الله عليه وسلم - بذلك معاصروه؛ فحكموه في أصعب المواقف لرجاحة عقله، وإذا تركنا شهادة معاصري النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمهم عليه؛ فبشهادة من نأخذ؟! وبحكم من نأتم؟!

2) إن ما كان من تكرار جبريل الأمر بالقراءة لم يكن لقصر فهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لمقاصد أخرى؛ منها:

  • إيناس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة التي لم يكن له علم بها من ذي قبل.
  • بيان أهمية هذا الدين وعظمته منذ أول ساعة لتلقيه.
  • إبراز ثنائية الملقي والمتلقي، وتأكيد حقيقة خارجية التلقي عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم.

التفصيل:

أولا. الفطنة صفة لازمة للأنبياء والرسل عموما، بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم:

معلوم أن الرسول معرض - وهو يقوم بعملية التبليغ - لمناقشات الخصوم أو لتساؤلات الأتباع أو لاعتراضات المشككين وانتقاداتهم، فلا بد أن يكون لديه من الذكاء وقوة البيان وحدة المعارضة ما يستطيع به أن يدحض شبه الآخرين فلا تقوم لهم حجة؛ إذ لو قامت لهم حجة لما كان له عليهم سلطان وذلك مقتضى قوله عزوجل: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( (النساء: ١٦٥).

وهذا لا يتم إلا بأن تكون دعوة الرسول حقا كلها؛ إذ غير الحق لا تكون حجته واضحة، والباطل دائما حجته داحضة، ولا يتم كذلك إلا بعقل يستطيع إحكام الحجة في العرض، فكم من حق لم يجد عقلا فضاع، ولا يتم هذا كله إلا بفصاحة وبيان يمكن بهما عرض الحجة بالشكل الأكمل، ولا يتأتى هذا إلا لأعلم الناس وأذكاهم وأفصحهم.

والناس يتفاوتون علما ويختلفون اختصاصا؛ فمنهم رجل الدين، ومنهم السياسي، ومنهم الاقتصادي، ومنهم الطبيب... إلخ، وكل واحد من هؤلاء ينبغي أن تقام عليه الحجة، فإن لم يكن الرسول أعلم الخلق لا يستطيع إقامة الحجة عليهم، والناس يتفاوتون ذكاء وقوة حجة وعارضة، والرسول مهمته أن يقيم الحجة على كل البشر، فإن لم يكن أذكى البشر، فإنه لا يستطيع أن يفعل، وإنسان يحتاج إلى هذا كله لا بد له من لسان مبين، وفصاحة عظيمة، حتى إن موسى يوم كلفه الله بالرسالة قال كما يحكي عنه القرآن: )قال رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28)( (طه).

وباجتماع هذه الجوانب كلها تتحقق صفة الفطانة عند الرسول، وتدل بذلك على أن صاحبها رسول الله حقا مع استكمال بقية الشروط؛ فالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والحجة الكاملة البينة الخاصة فيه، والعرض السليم الكامل الأداء، وإلزام الخصوم العجز عن أن يكون لهم موقف حق إلا بالمتابعة - كل هذا لا يتأتى إلا لدعوة الله المحيط علما بكل شيء، ولرسوله الذي يختاره أهلا لحمل دعوته: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس( (الحج: ٧٥)، )الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124)( (الأنعام).

وباستعراضنا لهذه الجوانب عند رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - نجد أن له من كل شيء ذروته؛ فمن حيث وفور العقل كان - صلى الله عليه وسلم - أرجح الناس عقلا، ومن حيث إن دعوته كلها حق فذلك لا مرية فيه، ومن حيث الفصاحة فهو أفصح العرب على الإطلاق، وأبينهم لغة ونطقا وأداء، ومن حيث إقامة الحجة فإنك لن تجد إنسانا يستطيع إقامة الحجة المقنعة على كل إنسان حسب مستواه العقلي بكل بساطة كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبهذا تأتى له أن يقيم الحجة على الناس بدينه كله؛ عقيدة وعبادات وسلوكا ومنهاج حياة، هذا مع توفيق الله له، وحكمته - عزوجل - في أن جعل القرآن الكريم قد فصل كل شيء، وحاج كل إنسان فحجه، فكان القرآن مع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيح كما فحصه علماء الحديث - وهما محفوظان - حجة الله على البشر في كل جيل إلى قيام الساعة[1].

وإذا تأملنا رجاحة عقل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعيدا عن كونه صاحب رسالة مقارنة ببني قومه وسائر البشر؛ نجد أن أحدا من هؤلاء لم يتوفر العقل فيه كما توفر في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم ينزل عليه الوحي ويخاطب من السماء لكان عقله وحده كافيا لأن ينشئ دولة، ويقيم مجتمعا طيبا فاضلا.

ولكن الله تعالى أتم عليه نعمته، فجعله نبيا مرسلا، فاجتمع له الكسب الذاتي بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنساني، والرسالة الإلهية الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية، وما كانت إحداهما لتغني عن الأخرى؛ فما كانت الرسالة تجيء لغير ذي عقل كامل وفكر مدرك، وشخصية كريمة اختارها الله - سبحانه وتعالى - لموضع رسالته وحمل أمانته.

وما كانت الكفاية العقلية في أسمى صورها بمغنية عن الرسالة؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون وحده كافيا في تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحي لا يفكر إلا فيما بين يديه، ولا يخترق الحجب والأستار إلى ما وراء ما لديه، فلا بد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار.

وعجيب أن يوصم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصر فهمه بعدما بلغ من العمر أربعين سنة، وله منذ نعومة أظفاره - صلى الله عليه وسلم - من التجارب والخبرات ما يكفي لدرء هذا المزعم؛ فمنذ نشأة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والعقل المكتمل حليته العليا التي سما بها على الغلمان أترابه[2]، ولقد بدا ذلك لجده عبد المطلب الذي أخذه ليعوده أخلاق الرجال المكتملين.

ولما ذهب إلى بيت عمه أبي طالب بعد وفاة جده القريب، كان الغلام الرزين المكتمل وسط أولاد أبي طالب، لا يسبق الأيدي إلى الطعام، ولا يدخل في زحمة الاغتراف، بل يتريث غير نهم ولا جشع ولا طامع بل كان الهادئ الرزين، قد يكتفي بالقليل، أو ما دونه حتى يتنبه إليه عمه الشفيق فيقرب إليه ما يبعد، ويخصه بما يكفيه مئونة المزاحمة، حتى إذا بلغ قدرا يستطيع فيه الاكتساب عمل برعي الأغنام ليأكل من عمل يده، ولينال من خير الدنيا بمقدار ما قدم فيه من نفع غير مكثر ولا مقصر.

وعقله المدرك لمصيره بقابل حياته في قابل عمره، فهو يعد نفسه للتجارة عمل قومه، ومكتسب أرزاقهم ومنشط قواهم، فألح على عمه أبي طالب أن يأخذه معه إلى الشام في قافلة تجارة قريش، ليكون على خبرة بالصفق[3] في الأسواق، وليتعلم المصادر والموارد، ذلك وهو في الثانية عشرة من عمره حتى إذا عاد من هذه الرحلة المباركة، عاد وقد امتلأ عقله تجربة، فيمارس التجارة صغرت بضاعته أو كبرت، وهو على بينة من أمرها، عليم بأسواقها، والرائج منها والكاسد.

ولكمال عقله كان الشاب التاجر يحضر مجتمعات قريش، فهو يحضر ندوتها فاحصا ما يقال فيها من حق يرضاه، وباطل يجفوه ولا يقره، ويحضر حلف الفضول، ويرى لعقله الكامل المدرك أنه لا يسره به حمر النعم[4]، ولا يرى نصرة للحق أقوى منه، ولو دعي به في الإسلام بعد أن عم الحق لأجاب تكريما له وإعلاء لقدره.

وهكذا نراه قد أوتي عقلا مدركا مذ كان صغيرا، وليس هذا فحسب؛ بل عمل على تغذيته بالتجارب والاتصال بالمجتمع؛ ليعرف خيره وشره، ويعمل على علاج أدوائه، إن واتاه الله - سبحانه وتعالى - بفضل من عنده.

إننا ونحن نتكلم عن قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظاهر نتعرض لنفوره من التقليد غير المبني على دليل؛ فهو الذي نفر من عادات الجاهلية التي كانت تحرم وتحلل من غير بينة ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة، فلم نره يسجد لصنم قط؛ لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ويكره ذكر الأصنام وعبادتها، فيستحلفه الراهب باللات والعزى، فيقول الغلام: ما كرهت شيئا كما كرهتهما، ويختلف مع تاجر، فيستحلفه التاجر باللات والعزى، فيمتنع، فيسلم له التاجر بحقه من غير حلفه لأمانته.

ولقد علمت قريش كلها بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكما، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت السيوف تمتشق[5]، والمعارك أن تنصب، فلما نادته القرعة أن أقدم، وافصل بين الناس بالحق، رضوا بحكمه؛ لأنه سيكون حكم العقل والحق - وأنى لشخص غير عاقل أو حكيم أن يهتدي إلى الحكم الذي يرضيهم جميعا؟ - فيشركهم جميعا في فضل حمل الحجر الأسود إلى موضعه من غير مشاحة ولا خصومة ولا تفاضل بينهم، ويحمله هو بيده ابتداء فلا ينازعونه لفضل عقله، ثم يحمله هو وحده انتهاء ويضعه في موضعه بيديه الكريمتين، فيرضون ما يفعل.

ولكمال عقله لم يخض مع الخائضين في العصبية الجاهلية، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وكان يحب الوئام والسلام، ولا يحب الحرب والخصام؛ لذا لم يشارك في حرب الفجار، إلا بتنصيل السهام[6] عن أعمامه حماية لهم ورحمة بهم، بموجب الرحم الواصلة، لا بموجب الحرب التي أحلت فيها الحرمات والأشهر الحرم.

وإنه من المؤكد أن محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - كبح جماح هواه طول حياته قبل البعثة، فلم يفعل ما يفعله الغلمان وهو غلام، ولا ما يفعله الشبان في باكورة شبابه، ولا بعد أن صار رجلا سويا؛ فقد اكتملت أخلاقه كما اكتمل جسمه، فكان القوى الذي يسيطر على أهوائه، فلا ينحرف مع هوى، ولا تجمح به شهوة.

ومعلوم أنه متى ضعف سلطان الهوى؛ قوي سلطان الحق، وإذا قلت حدة الشهوة؛ استقام حكم العقل، فالعقل حكمه يناقض حكم الهوى والشهوة، والعاقل السيد هو الذي يسيطر على أهوائه وشهواته ويكون عقله هو المسيطر، وما تضل العقول إلا إذا داخلت النفوس الأهواء وعكرت صفاءها، فمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - كان أعقل قريش؛ لأنه الرجل الذي لم يسيطر عليه هوى كسائر سادات مكة.

وقد قال القاضي عياض في فضل عقله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره في الإسلام: "أما وفور عقله، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلا عما أفاضه من العلم وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه - لم يمتر[7] في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهة، وهذا مما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه".

 ولقد قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا. ويقول ابن كثير: "معلوم لكل ذي لب أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - من أعقل خلق الله سبحانه وتعالى، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر".

إن مظاهر عقله - صلى الله عليه وسلم - بدت واضحة بعد البعثة في سياسة رعيته، فقد كان الله يوحي إليه بالأحكام الشرعية، وما يجب من الرفق بالرعية، والأخذ على يد الظالم، وحماية الحق من الباطل، ويترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفذ الحق في رعيته بالمسلك الذي يسلكه مختارا، مسددا، فإن تبين خطأ نبهه - سبحانه وتعالى - إليه إذا كان أمرا متصلا ببيان الشريعة وأحكامها.

وإنه في الأمر الذي تركه - سبحانه وتعالى - له بدا عقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحكام التدبير وكياسة الحكيم، وبهذا الإحكام وتلك الكياسة استقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - رسالة ربه، وأدار المدينة الفاضلة التي قامت على حكم الله - سبحانه وتعالى - وأمره ونهيه، ونفذت فيها النظم الإسلامية[8].

وإذا أردنا أن ندلل على ذكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة مناقشاته التي أقام فيها الحجة على الآخرين، واستخدامه للحكمة في الأمر والنهي، وما منحه الله من ملكة الإقناع التي تشي بفهم خارق وذكاء حاد - لطال بنا المقام، وحسبنا الإشارة هنا إلى بعض من تلك النماذج والتي منها:

  • ما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه: «أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه[9]، فقال: "ادن"، فدنا منه قريبا، قال: "اجلس"؛ فجلس، قال صلى الله عليه وسلم: "أتحبه لأمك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال صلى الله عليه وسلم: "أفتحبه لابنتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال صلى الله عليه وسلم: "أفتحبه لأختك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال صلى الله عليه وسلم: "أفتحبه لعمتك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال صلى الله عليه وسلم: "أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا والله، "جعلني الله فداءك"، فقال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده - صلى الله عليه وسلم - عليه ثم قال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه"، قال: فلم يكن - بعد - ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»[10].
  • ومن نقاشه مع وفد نصارى نجران كما ترويه كتب السيرة في أمر عيسى عليه السلام: قالوا: من أبوه؟ أي: عيسى، يريدون أن يقيموا الحجة بهذا السؤال على أنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد رد القرآن عليهم بقوله: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران).

ورد عليهم رسول الله بقوله: "ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء"؟ قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه"؟ قالوا: بلى، قال: "فهل يملك عيسى من ذلك شيئا"؟ قالوا: لا. قال: "فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم"؟ قالوا: لا. قال: "ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف يشاء؟ وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث"؟ قالوا: بلى. قال: "ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث"؟ قالوا: بلى. قال: "فكيف يكون هذا كما زعمتم"؟!

وبعد، فقد كانت هذه بعض نماذج من مناقشاته التي كان يقيم بها الحجة على الآخرين بالبساطة المقنعة والفصاحة الآسرة[11].

ومن ثم فإننا لا نبالغ أبدا إذا قلنا إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أرجح الناس عقلا، وأفصحهم لسانا وبيانا، فقد توفر له من كمال العقل ما لم يتوفر لأحد من العالمين، ويكفي أنه استطاع بهذا العقل الراجح أن يسوس العرب وهم كالوحش الشارد، والطبع المتنافر المتباعد، واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه[12].

ثانيا. الحكم التي تقف وراء تكرار الأمر بالقراءة من لدن جبريل عليه السلام:

إن جبريل - عليه السلام - ما كرر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة - بترديد الأمر: "اقرأ" ثلاثا - إلا لمقاصد منها ما يأتي:

  • إيناس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة التي لم يكن يعلمها، والتأكيد بأن حدثا جديدا سيتعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتضى تكراره؛ لأهميته من جهة، وليألفه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أخرى.

يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: في تفسيره لقوله عزوجل: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق)، "وافتتاح السورة بكلمة "اقرأ" إيذان بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيكون قارئا، أي تاليا كتابا بعد أن لم يكن قد تلا كتابا، قال عزوجل: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب( (العنكبوت: 48)، أي: من قبل نزول القرآن؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - حين قال له اقرأ: "ما أنا بقارئ"، وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.

وقوله تعالى "اقرأ" أمر بالقراءة، والقراءة نطق بكلام معين مكتوب أو محفوظ عن ظهر قلب، والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال، أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله "اقرأ" أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال، أي: أن يقول ما سيملى عليه، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها، فهو كما يقول المعلم للتلميذ: اكتب، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه" [13].

  • بيان أهمية هذا الدين وعظمته وشدة الاهتمام به، وبيان للأمة أن دينها الذي تتنعم به ما جاءها إلا بعد شدة وكرب، وأن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية حيث تلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام الله - القرآن - بواسطة الملك جبريل - عليه السلام - وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم.
  • التأكيد على أن الوحي إنما كان بالتلقي الخارجي ولم يكن نابعا من ذات النبي صلى الله عليه وسلم، بوجود ملق - جبريل عليه السلام - ومتلق - النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل في تكرار الأمر وتكرار جواب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يبرز هذه الثنائية، ومعلوم أن "محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس، وداخل الذات، وضم الملك إياه، ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعد تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط" [14].

ويستبين لنا من ذلك أن ليس الأمر كما توهمه هؤلاء الزاعمون، وأن ما كان من تكرار جبريل فعل الأمر "اقرأ" على مسامع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لقصر فهمه - صلى الله عليه وسلم - وحاشا لله أن يكون كذلك؛ بل ثمة حكم ومقاصد - كما أسلفنا - جهلها هؤلاء أو تجاهلوها.

الخلاصة:

  • إن مهمة الأنبياء والرسل هي إقامة الحجة على البشرـ كل البشر -، ومعلوم أن البشر يتفاوتون ذكاء وعلما، فمنهم رجل الدين والسياسي والاقتصادي والطبيب وغيرهم، ولا بد أن يتوافر للنبي - أي نبي - من الذكاء والفطنة ما يقيم به الحجة على هؤلاء جميعا وما يمكنه من مناقشتهم ومجادلتهم، ونحن إذا تأملنا حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجدناه قد بلغ ذروة الذكاء والفطنة، حتى إن قومه قد حكموه في وضع الحجر الأسود حين عجزت عقولهم عن حل هذه المشكلة العويصة، كما استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الحجة على كل من خالفوه وتصدوا لدعوته سواء كانوا مشركين أم أهل كتاب، فهل يوصف رجل مثل هذا بقصور الفهم؟!
  • إن تكرار جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالقراءة لم يكن مرده إلى قصور فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - وإنما كان ذلك لمقاصد وحكم جليلة، منها:

o                  إيناس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة التي لم يكن يعلمها.

o      التأكيد على ثنائية الملقي والمتلقي، وأن الوحي ليس حديثا نفسيا، ولكنه من لدن الحكيم العليم بواسطة جبريل عليه السلام.

 

 

 

(*) محمد في مكة، مونتجمري وات، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ، حسن عيسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م

[1]. الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوى، دار السلام، مصر، ط2، 1410هـ/ 1990م، ص111، 112 بتصرف يسير.

[2]. الأتراب: المماثلين له في السن.

[3]. الصفق: البيع.

[4]. حمر النعم: الإبل الحمراء، وهي من أجود أنواع الإبل.

[5]. تمتشق: تستل.

[6]. تنصيل السهام: ركب فيها أنصالها، وهي رءوس السهام.

[7]. لم يمتر: لم يجادل.

[8]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص162: 165 بتصرف يسير.

[9]. مه: اسم فعل أمر، معناه: اكفف.

[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان بن عمرو بن وهب الباهلي عن النبي (22265)، والطبراني في المعجم الكبير، باب الصاد، صدي بن العجلان أبو أمامة الباهلي (7679)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (370).

[11]. الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوى، دار السلام، مصر، ط2، 1410هـ/ 1990م، ص112: 120 بتصرف.

[12]. انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1406هـ/ 1986م، ج7، ص11.

[13]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج15، ج30، ص435.

[14]. السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج1، ص100.

 

  • الثلاثاء PM 11:36
    2020-09-22
  • 1889
Powered by: GateGold