المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409159
يتصفح الموقع حاليا : 354

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن في القرآن من الأوامر والنواهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينفي عصمته

            ادعاء أن في القرآن من الأوامر والنواهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينفي عصمته(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن أمر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين والمكذبين، وكذلك نهيه عن التكذيب بآيات الله، وتحذيره من الشرك - كل ذلك يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم. ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين( (الأحزاب: 1)، وبقوله عز وجل: )فلا تطع المكذبين (8)( (القلم)، وبقوله عز وجل: )ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (95)( (يونس)، ويقول عز وجل: )لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65)( (الزمر). هادفين من وراء ذلك إلى تجريد النبي - صلى الله عليه وسلم - من العصمة التي أثبتها له القرآن الكريم.

وجها إبطال الشبهة:

1) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتقى خلق الله وأخشاهم له، وفي آيات القرآن الكريم من جهة، وفي سنته القولية والفعلية من جهة أخرى، ما يؤكد تلك الحقيقة.

2) ذكر المفسرون التوجيهات التي تبين مقصود الله - عز وجل - من الآيات - مناط الاستدلال، ويمكننا أن نجمل تلك التوجيهات في الآتي:

  • أن الله - عز وجل - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأوامر التي يستحيل أن يتركها النبي، ونهاه عن بعض النواهي التي يستحيل أن يفعلها؛ تمييزا له - صلى الله عليه وسلم - عن غيره من البشر.
  • أن الأوامر والنواهي الواردة في هذه الآيات لا تقتضي الوقوع أو جواز الوقوع؛ لأنها مبنية على شرط مستحيل التحقق.
  • أن الخطاب في هذه الآيات موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر، ولكنه على الحقيقة موجه إلى جملة أصحابه، وعامة المسلمين.

التفصيل:

أولا. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتقى خلق الله وأخشاهم له، بشهادة القرآن والسنة:

في مقام الحديث عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخوفه الشديد من الله عز وجل، يحسن أن نصدر الكلام بما أورده د. وهبة الزحيلي من الأدلة التي تؤكد تقوى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول فضيلته: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس خوفا من ربه، وأكثرهم عبادة، وألزمهم طاعة لله - عز وجل - وذلك على قدر علمه بربه، وامتثالا لأمر الله - عز وجل - في آيات كثيرة، منها قوله عز وجل: )فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98)( (الحجر)، وقوله عز وجل: )فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)( (الشرح)، أي: فإذا انتهيت أيها الرسول من أداء الرسالة وتبليغ الناس بها، فاتعب في الدعاء والعبادة، وثابر عليهما، وإلى ربك وحده توجه بالدعاء والتضرع، ولا توجه رغبتك إلى غير ربك، فهو القادر المجيب.

  • عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحتكم قليلا، ولبكيتم كثيرا» [1]، وزاد الترمذي رفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت[2] السماء، وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحتكم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون[3] إلى الله» [4].
  • عن المغيرة بن شعبة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حتى انتفخت قدماه»([5])؛ أي من كثرة صلاة الليل، فأنزل الله عليه من القرآن ما خفف به عليه وعلى من تبعه، وهو قوله عز وجل: )إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (20)( (المزمل)، وكذا قوله عز وجل: )طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2)( (طه).
  • وفي رواية أخرى أن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: «إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا» [6].
  • وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديمة[7]، وأيكم يطيق ما كان يطيق؟»[8] أي: لـما كان له من قوة النبوة.
  • وعن عائشة أيضا قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم» [9]. والمعنى: حتى نظن خلاف ذلك، وبنحو ذلك قال أنس: «كنت لا تشاء إلا أن تراه في الليل مصليا إلا رأيته مصليا، ولا نائما إلا رأيته نائما» [10]. أي: أنه - صلى الله عليه وسلم - يصلي وينام، ويصوم ويفطر، وكل ذلك باعتدال وتوسط.
  • وقال عوف بن مالك: «كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فاستاك[11]، ثم توضأ، ثم قام فصلى، فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع، فمكث بقدر قيامه يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة، ثم سجد، وقال مثل ذلك، ثم قرأ آل عمران، ثم سورة سورة، يفعل مثل ذلك". أي: من تطويل الركوع، والسجود، والتسبيح المذكور وغير ذلك»[12].
  • وعن عائشة قالت: «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة، أي: صلى في ليلة بتلاوة آية، وهي: )إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)( (المائدة)»[13] اقتداء بعيسى - عليه السلام - في الكلام وإيماء إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - يريد المغفرة والرحمة ورفع العقوبة عن جميع أمة الإجابة، مع التسليم للإرادة الإلهية.
  •  وعن عبد الله بن الشخير قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز[14] كأزيز الرحى[15] من البكاء» [16].
  • وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:«إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» [17] [18]، وإذا نحن تجازونا مقام العبودية والخشية اللتين شهد له - صلى الله عليه وسلم - بهما القرآن والواقع على حد سواء - وجدنا الأمر نفسه فيما يتعلق بامتثاله شرع الله - عز وجل - على النحو الذي يرضاه سبحانه مخالفا بذلك أهل الكفر وأهواءهم، يقول عز وجل: )وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)( (يونس).
  • فهذه الآية وإن كانت أمرا من الله - عز وجل - أن يقول ذلك، فهي أيضا تقرير لحقيقة حاله - صلى الله عليه وسلم - ووصف له في المعنى بتلك الصفة الإيمانية العليا، وفي الآية أيضا شهادة له - صلى الله عليه وسلم - بأنه ما أطاع أهل الكفر في أهوائهم، وقد كان أنبياء الله - عليهم الصلاة والسلام - كلهم بمحل من الخشية والخوف من الله تعالى، كما وصفهم الله جل شأنه بذلك في قوله عز وجل: )الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39)( (الأحزاب)، وخوفهم ليس خوف معصية وإساءة، وإنما هو خوف إعظام وتبجيل.

ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو سيد الأنبياء وخاتمهم وأفضلهم، فهو إمامهم في ذلك الخلق، وتشمله هذه الآية شمولا أوليا؛ لأنها في صدر الحديث عنه، فهي شهادة قرآنية إلهية له - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق العظيم[19].

ثانيا. التفسير الصحيح للآيات المستشهد بها:

 إن توجيهات المفسرين للآيات مناط الاستدلال خير شاهد على بطلان ما ادعوه، ومنها:

  1. أن الله - عز وجل - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأوامر التي يستحيل أن يتركها، ونهاه عن بعض النواهي التي يستحيل أن يفعلها؛ تمييزا له - صلى الله عليه وسلم - عن غيره من البشر.

وقد عرض د. عماد الشربيني لهذه القضية فقال: لله - عز وجل - أن يؤدب أنبياءه وأصفياءه، ويطلبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم في ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحصوا للعبودية لله عز وجل.

ألا ترى كيف نهى الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم ـعن النظر لبعض المباحات فقال: )لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89)( (الحجر). على الرغم من قوله - عز وجل - في مقام آخر: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق( (الأعراف: 32).

فتأمل كيف أن الله - عز وجل - لم يحرم التمتع بالزينة وأكل الطيبات إذا كانت من كسب الحلال، ومع ذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النظر إلى زينة الحياة الدنيا وهي من المباحات، فكيف يحرم النظر إليها؟! ذلك لأن الله تعالى أخذ الأنبياء بمثاقيل الذر لقربهم عنده وحضورهم، وتجاوز عن العامة أمثال ذلك، فإن الزلة على بساط الآداب، ليست كالذنب على الباب، كما لا يخفى على أولي الألباب، ممن قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» [20]. يعني: الإشارة بالعين في الأوامر حتى يفصح بها، والإشارة بالعين في الأوامر مباحة لغير الأنبياء، لكن نهي عنها الأنبياء تنزها وتأكيدا لرفع الالتباس.

بل إن رب العزة يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما شاء، وإن استحال تركه، نحو قوله عز وجل: )يا أيها النبي اتق الله( (الأحزاب: 1)، وقوله عز وجل: )فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10)( (الضحى)، وقوله عز وجل: )واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109)( (يونس)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - من أتقى وأخشى خلق الله - صلى الله عليه وسلم - لله، وما قهر يتيما، وما نهر سائلا، وإنما كان مثالا أعلى للبذل والعطاء، ويكفيه - صلى الله عليه وسلم - أن شهد له ربه - عز وجل - بقوله: )فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول رسول كريم (40)( (الحاقة)، وهو ما شهدت به سيرته العطرة قبل أن يأتيه وحي الله تعالى وبعده.

فقد وصفته السيدة خديجة - رضي الله عنها - بقولها:«إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»[21]. فهي تصفه بهذه الصفات البالغة عظمة وخطورة، التي كان عليها قبل بعثته ورسالته، ولم يكن قد تحمل أعباء أمته، ولا قد أضفت عليه النبوة زيادة كمال وعظمة، فكيف به بعد ذلك كله؟! لا جرم أن كرمه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك سيكون بالغا ذروة الذرى في كرم الأنبياء وسائر البشر، وهو ما دلت عليه الدلائل النقلية الكثيرة، منها ما روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال: "لا" [22]. وهو  يؤكد ما سبق من أن رب العزة يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما شاء، وإن استحال عليه تركه، ومن ثبت لديه دليل يؤكد خلاف ذلك فليأتنا به؟!

كما أن رب العزة ينهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عما يشاء، وإن استحال وقوعه منه كما قال تعالى: )ولا تمنن تستكثر (6)( (المدثر)، أي: لا تعط شيئا لتطلب أكثر منه؛ لأنه طمع لا يليق بك، بل أعط لربك، واقصد به وجهه، وهكذا كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - وقال عز وجل: )ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52)( (الأنعام)، وما طردهم - صلى الله عليه وسلم - من مجلسه، وما كان من الظالمين، أي: ممن ظلمهم بطردهم؛ لأنه لم يقع منه ذلك؛ فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: )ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52)( (الأنعام)»[23].

وحديث سعد صريح في أن العتاب في الآية وقع على ما حدث به النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وهذا على فرض التسليم به لا يقدح في عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن همه - صلى الله عليه وسلم - بذلك كان ابتغاء مرضاة الله تعالى، برجاء إسلام قومه، وذلك لا يضر أصحابه - رضي الله عنهم - لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأحوالهم، ورضاهم بما يرضاه، وإلا فما ورد على لسان سعد من همه - صلى الله عليه وسلم - بالاستجابة لاقتراحهم لا حجة فيه، فقد أخبر حسب ظنه، وأخبر عن أمر لا يعلمه إلا علام الغيوب المطلع على أسرار قلوب خلقه.

ولعل مما يؤكد أن الإخبار عن هذا الهم بحسب ظن الراوي، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليطردهم - ما أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - من قبل آية الأنعام، مما جاء على لسان نوح - عليه السلام - جوابا على مثل اقتراح كفار قريش، قال عز وجل: )وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30)( (هود).

ويؤكد هذا أنه لم يرد في رواية من الروايات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرد أحدا من أصحابه في مجلسه، بل الروايات جميعها تدل على أنه بمجرد اقتراح أهل الشرك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم يوما يجلسون معه دون الفقراء والعبيد، نزلت الآية جوابا على اقتراحهم أو سؤالهم، بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك قال عز وجل: )ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه( (الأنعام: 52).

وهذه منة من الله - عز وجل - على رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث أدب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأشرف الآداب، وأجل الأخلاق، وعاتبه على الشيء - إن كان ثم عتاب - قبل وقوعه؛ ليكون أشد انتهاء عن المخالفة، ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية والرعاية في العصمة[24].

  1. أن الأوامر والنواهي الواردة في هذه الآيات لا تقتضي الوقوع أو جواز الوقوع؛ لأنها مبنية على شرط مستحيل التحقق:

فقوله عز وجل: )لئن أشركت ليحبطن عملك( (الزمر: 65)، وقوله عز وجل: )ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك( (يونس: 106)، وقوله عز وجل: )أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك( (الشورى: 24)، وقوله عز وجل: )وإن لم تفعل فما بلغت رسالته( (المائدة: 67)، وقوله عز وجل: )وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله( (الأنعام: 116)، وقوله عز وجل: )قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين( (الزخرف)، وقوله عز وجل: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46)( (الحاقة)، فكل هذا شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع ولا الجواز، إذ لا يصح ولا يجوز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشرك، ولا أن يدعو من دون الله أحدا، ولا أن يخالف أمر ربه - عز وجل - ولا أن يتقول على الله ما لم يقل، أو يفتري على الله شيئا، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يشك.

على أن استحالة الوقوع أو جوازه في الآيات سالفة الذكر شبيه بقول القائل - ولله المثل الأعلى -: إن كان العدد (5) عددا زوجيا لقبل القسمة إلى صحيحين جزأين متساويين، أي أن الشرط في الآيات السابقة في حقه - صلى الله عليه وسلم - معلق بمستحيل، فكما لا تنقسم الخمسة إلى صحيحين متساويين، فكذلك الشرط في الآيات السابقة لا يكون منه - صلى الله عليه وسلم - لا وقوعا ولا جوازا.

يقول العلامة الطاهر ابن عاشور في قوله عز وجل: )يا أيها النبي اتق الله( (الاحزاب:1): والأمر للنبي بتقوى الله توطئة للنهي عن اتباع الكافرين والمنافقين؛ ليحصل من الجملتين قصر تقواه على التعلق بالله دون غيره، فإن معنى )ولا تطع( مرادف معنى: لا تتق الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيدا معنى: يا أيها النبي لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر - إلى ذكر جملتي أمر ونهي؛ لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين؛ لأنه لو اقتصر على أن يقال: لا تتق إلا الله، لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة؛ لأن تقوى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا، كقول السموأل:

تسيل على حد الظبات[25] نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

فجاء بجملتي إثبات السيلان بقيد ونفيه في غير ذلك القيد؛ للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف، ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف.

فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما، وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله: )اتق الله( والنهي في قوله: )ولا تطع الكافرين والمنافقين( مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعا عظيما سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين.

وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل أقوالهم لييأسوا من ذلك؛ لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد، ويظهرون أنهم ينصحون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويلحون عليه بالطلبات نصحا وتظاهرا بالإسلام.

والمراد بالطاعة: العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة، وماهيتها متفاوتة، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما تحقق فيه أدنى ماهيتها، مثل أن يعدل عن تزوج مطلقة متبناه لقول المنافقين: إن محمدا ينهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثة، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله عز وجل: )وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه( (الأحزاب: 37)، وقوله عز وجل: )ولا تطع الكافرين والمنافقين( (الأحزاب: 48) عقب قضية امرأة زيد، ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار[26] موجبا مصير المظاهرة أما للمظاهر حراما عليه قربانها أبدا، ولذلك أردفت الجملة بجملة: )إن الله كان عليما حكيما( (الأحزاب: 1) تعليلا للنهي.

 والمعنى: أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين؛ لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح، ودخول "إن" على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغن غناءها، وشاهده المشهور قول بشار:

بكرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير[27]

ويضيف الشيخ الشعراوي قائلا: إن الكلام العربي مقسم إلى خبر وإنشاء؛ فالخبر هو القول الذي يوصف بالصدق إن طابق الواقع، وبالكذب إن خالفه.

أما الإنشاء فهو مقابل الخبر، وهو: قول لا يوصف بصدق ولا بكذب، كأن تقول لإنسان: قف، فهذا أمر لا يقال لقائله: أنت صادق، ولا كاذب، فقوله - عز وجل - لنبيه )اتق الله( هذه نسبة كلامية من الله لرسوله، ليحدث مدلول هذا الأمر، وهو التقوى، لكن أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير تقي حتى يأمره ربه بالتقوى؟!

نقول: ليس بالضرورة أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عصى، فيأمره الله بتقواه، لكن الحق سبحانه ينشئ مع رسوله كلاما بداية دون سابقة عصيان، أو: أنه الأمر الأول بالتقوى كما تقول لولدك في بداية الدراسة: اجتهد وذاكر دروسك، وأنت تعرف أنه مجتهد، لكن لا بد من تقرير المبدأ في بداية الأمر.. فمعنى: )يا أيها النبي اتق الله( (الأحزاب: 1)، أي: واصل تقواك حالا، كما فعلتها سابقا، وواصلها مستقبلا، فلا تنقطع عنها أبدا[28].

  1. أن الخطاب في هذه الآيات موجه للنبي - عليه السلام - في الظاهر، ولكنه على الحقيقة موجه إلى من دونه من المسلمين:

معلوم أنه - عليه السلام - معصوم من مخالفة الأوامر، وارتكاب النواهي الواردة في الآيات، ومستحيل عليه فعلها؛ لعصمة الله - عز وجل - له، وإنما هذا إفهام لغيره من المسلمين، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو رسول رب العالمين، ذو المنزلة الرفيعة، والمقام الأسمى عند الله - عز وجل - إن افترض وقوع ذلك منه، فإن الله تعالى يجازيه على ما فرط، فكيف إذا فعل ذلك أحد من المؤمنين؟! لا شك أنه سيلقى عقابه من باب أولى، وذلك أيضا إيضاح لقدرة الله - عز وجل - وأنه عدل، ولا يحابي أحدا من خلقه فليس أحد من الناس بمأمن من عذابه تعالى حتى ولو كان نبيا، وهنا يفهم المؤمنون عامة هذه الحقائق، فيرتدعون عن المعاصي والذنوب والآثام، خوفا منه تعالى وخشية، ما دام سبحانه لا يستثني أحدا من عذابه إن أشرك، حتى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولكنهم لا يشركون لعصمة الله - عز وجل - لهم، ومن ظن أن الله تعالى يمكن أن يقدر على الأنبياء وعلى خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - ارتكاب الكبائر من الكفر والشرك والشك أو نحو ذلك، فقد ظن السوء بربه[29]. تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا.

الخلاصة:

  • تشهد آيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أتقى الناس لله - عز وجل - وأخشاهم له في كل أفعاله وأقواله، ولا يستقيم لعاقل بعد تلك الشهادة أن يطعن في تقواه لله وخشيته إياه، ولا أن يشكك في عصمته التي أثبتها القرآن نفسه في حقه صلى الله عليه وسلم.
  • جميع التفسيرات التي ذكرها المفسرون للآيات - مناط الاستدلال - تؤكد عدم صحة ما ذهبوا إليه، وكان من بين هذه التفسيرات:

o      أن الله تعالى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأوامر التي يستحيل أن يتركها النبي، ونهاه عن بعض النواهي التي يستحيل أن يفعلها، وكان ذلك تمييزا من الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الناس، ولله أن يؤدب نبيه بأشرف الآداب، وأجل الأخلاق، وأن يعاتبه على الشيء قبل وقوعه، وهذه غاية العناية والعصمة.

o      أن الأوامر والنواهي التي جاءت في هذه الآيات لا تقتضي الوقوع أو جواز الوقوع؛ لأنها تعتمد على شرط مستحيل التحقق.

o      أن الخطاب في هذه الآيات موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر، ولمن دونه من المسلمين في الحقيقة؛ إنذارا لهم وتهذيبا، وليعلم الناس أن الله عدل، لا يحابي من فرط في جنبه حتى لو كان نبيا، فما بال من دونه؟!!

 

 

(*) رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء القرآن والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا" (6120).

[2]. أطت السماء: أنت وأصدرت صوتا من كثرة ازدحام الملائكة.

[3]. تجأرون: تتضرعون وتستغيثون.

[4]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه (21555)، والترمذي في سننه، كتاب الزهد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا" (2312)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترغيب (3380).

[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (7302).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب التهجد، باب قيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى ترم قدماه (1078)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد (7303)، واللفظ للبخاري.

[7]. الديمة: المتواصل.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب هل يخص شيئا من الأيام (1886)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العلم الدائم من قيام الليل وغيره (1865).

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب صوم شعبان (1868)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صيام النبي في غير رمضان واستحباب أن لا يخلي شهرا عن صوم (2777).

[10]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الصوم، باب سرد الصوم (769)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب النوافل (2618)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (769).

[11]. استاك: نظف أسنانه وفمه بالسواك.

[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث عوف بن مالك الأشجعي الأنصاري رضي الله عنه (24026)، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (873)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (1049).

[13]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب الصلاة، باب قراءة الليل (448)، وصححه الألباني في الشمائل (233).

[14]. الأزيز: الصوت من شدة الاضطراب.

[15]. الرحى: آلة كان يطحن بها الشعير والذرة عند العرب.

[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المدنيين، حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم (16360)، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة (904)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (799).

[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (7033).

[18]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص156: 159.

[19]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص151، 152.

[20]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد (4361)، والحاكم في مستدركه، كتاب المغازي والسرايا (4360)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1723).

[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (422).

[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (5687)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله شيئا قط فقال: "لا" (6158).

[23]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص (6394).

[24]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص153: 158 بتصرف يسير.

[25]. الظبات: جمع ظبة، وهي حد السيف والسنان والخنجر وما أشبهها.

[26]. الظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يريد أنها تحرم عليه.

[27]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج10، ج21، ص250، 251 بتصرف يسير.

[28]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، ج 19، ص11887، 11888 بتصرف يسير.

[29]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص158، 159.

 

  • الثلاثاء PM 10:17
    2020-09-22
  • 2085
Powered by: GateGold