المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413416
يتصفح الموقع حاليا : 262

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار انتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإسماعيل - عليه السلام – بالتشكيك في زواج إسماعيل من قبيلة جرهم العربية

                           إنكار انتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإسماعيل - عليه السلام –

                               بالتشكيك في زواج إسماعيل من قبيلة جرهم العربية (*)

مضمون الشبهة:

 ينكر بعض المغالطين انتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -، ويشككون في زواج إسماعيل من قبيلة جرهم العربية، مستدلين على ذلك:

  • بعدم وجود علاقة بين إسماعيل والعرب؛ فقد كان العرب في شبه الجزيرة العربية، وإسماعيل - كما ذكرت التوراة - كان مقيما في بلاد "فاران"، وهي - على حد زعمهم - بلاد بين مصر وبلاد ثمود.
  • وبأن إسماعيل كان عبدا ابن أمة؛ فأمه هاجر كانت جارية عند ملك مصر، والعرب يأنفون من زواج العبد بالحرة.
  • وبأن جد زوجة إسماعيل الجرهمية - كما ذكر أحد مؤرخي المسلمين - كان اسمه: عبد المسيح، والمسيح - عليه السلام - أتى بعده بألفي سنة؛ فكيف يتأتى قرانهما؟!
  • وبقوله - سبحانه وتعالى - مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: )وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46)( (القصص)، فلو كان إسماعيل صهرا للعرب كما يزعم المسلمون؛ لثبت تبليغه ودعوته لهم.

ويرون أن ما ادعاه العرب من انتسابهم لإسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - كان محض خدعة زينها اليهود لهم؛ تقربا إليهم، واستجلابا لنصرتهم، واستغلالا لجهلهم بالأنساب. ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في نسب النبي صلى الله عليه وسلم.

وجوه إبطال الشبهة:

1) من الثابت تاريخيا أن إسماعيل - عليه السلام - سكن مكة مع أمه، وعاش بها طيلة حياته، وتزوج امرأة من قبيلة جرهم العربية وأنجب منها أولادا، فصار بذلك أبا للعرب، وهذا ما تشهد به روايات الكتاب المقدس، وكذلك المنصفون من الباحثين الغربيين.

2) ليس صحيحا أن إسماعيل - عليه السلام - كان عبدا ابن أمة؛ لأن الأمة إذا ولدت من سيدها صارت حرة - كما هو مقرر عند اليهود - فبمجرد أن وضعت هاجر إسماعيل أصبحت حرة، ذلك فضلا عن كون أصلها من أبناء الملوك، فأسرت، ثم أهديت لإبراهيم، فتزوجها وأنجبت له إسماعيل، ومن ثم فإسماعيل من الأحرار حر ابن حر وابن حرة.

3) إن قول بعض المؤرخين: إن اسم جد زوجة إسماعيل الجرهمية "عبد المسيح"، ليس بحجة ولا يرقى لأن يكون دليلا للطعن في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه نظر وإن صح ذلك فالمسيح في الأصل اللغوي معناه: المبارك، أو الممسوح بالزيت الذي باركه الله، وليس المقصود به المسيح ابن مريم خاصة، وقد أطلق هذا الاسم على كثير من أنبياء بني إسرائيل، ومنهم طالوت.

4) لم يكن العرب بحاجة إلى أن يتعلموا أنسابهم من اليهود؛ لأنهم كانوا أعلم الناس بالأنساب، فقد كانوا يعلمون أنساب خيولهم وإبلهم، فكيف لا يعلمون نسبهم، وبه مفاخرتهم ومكاثرتهم؟! وقد كانوا يقولون لليهود بعد الإسلام: "إن أبانا وأباكم واحد، ونحن على دينه فكونوا أنتم كذلك".

5) المقصودون بالإنذار في قوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( (السجدة: ٣) هم قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - المخالطون له من قريش وغيرهم.

6) لقد أجمع النسابون وعلماء التاريخ والسير على أن نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - ولا خلاف بينهم في ذلك.

التفصيل:

أولا. من الثابت تاريخيا أن إسماعيل - عليه السلام - عاش بمكة وصاهر قبيلة جرهم، فصار أبا للعرب بذلك:

لقد سكن إسماعيل - عليه السلام - مكة منذ نعومة أظفاره مع أمه هاجر، حينما أسكنهما إبراهيم الخليل - عليه السلام - هذا المكان بأمر من الله - عز وجل - داعيا إياه بما حكاه القرآن على لسانه في قوله سبحانه وتعالى: )ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)( (إبراهيم)، ولقد درج المؤرخون على أن إسماعيل - عليه السلام - قد سكن مكة منذ صغره، وأقام بها طيلة حياته، ومات فيها.

أما ما قيل من أن التوراة قد ذكرت أن إسماعيل كان يقيم بفاران - وهي بلاد بين مصر وبلاد ثمود - وليست مكة، فزعم باطل؛ إذ إن ما نجده من الاختلاف في النسخة الواحدة من التوراة في الواقعة الواحدة يرفع الثقة بها، ويمنع الاستدلال بنصوصها، فالدعوى باقية بحالها.

أما نحن فلدينا دلائل صحيحة وشواهد من نصوص التوراة وكتابات الغربيين تؤكد صحة ما ذهبنا إليه؛ منها:

  • قول جرجيس صال: وقد قام الدليل - يعني التواتر على الأقل - على أن العرب أولاد إسماعيل، فبالضرورة يكون المسكن واحدا، والموطن واحدا. وفي التوراة نصوص كثيرة على نسبة العرب لإسماعيل.
  • قال جرجيس أيضا: إن التسمية بمكة لا تجهلها العرب، وظني أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل.
  • ذكر في التوراة في سفر التثنية: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم". (التثنية 33: 2)، وتوضيح هذا أن مجيء الرب من سيناء كناية عن إعطائه التوراة لموسى، وإشراقه من سعير كناية عن إعطائه الإنجيل لعيسى، وتلألؤه من فاران كناية عن إنزاله القرآن على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن فاران جبل من جبال مكة، فهي المرادة بقول التوراة: "سكن إسماعيل في برية فاران"؛ لأن تلألأ الله بالقرآن لم يكن إلا بمكة وما جاورها.
  • وقال جرجيس أيضا: ليس لذرية إسماعيل وجه في دعواهم أنهم عرب خلص؛ لأن جدهم إسماعيل كان عبرانيا مولدا، وإنما صاهر جرهما، إذ تزوج بابنة مضاض - أحد ملوكهم - فاختلطت ذريته بهم، وصاروا أمة واحدة، ومن المعلوم أن جرهما كانت في مكة، فهذا دليل سكناه ومصاهرته جرهما[1].

ويجدر بنا أن نذكر أيضا ما ورد في معجم "سميث" للكتاب المقدس "SMITH'S BIBLE DICTIONARY": "نعرف القليل عن حياة إسماعيل المتأخرة، لقد حضر مع أخيه إسحاق لدفن أبيهما إبراهيم، ومات وقد بلغ 137 عاما، وسكن أبناؤه شمال وجنوب شبه الجزيرة العربية مكونين البذرة الأولى - العنصر الأساسي - للأمة العربية، قبائل البدو الرحل، إنهم الآن معظم أتباع محمد الذين ينظرون إلى إسماعيل على أنه الأب الروحي لهم - كما ينظر اليهود لأبيهم إبراهيم -، ولغتهم التي انتشرت لتكون المجتمع العربي قد اعتمدت ببعض الاستثناءات البسيطة في الجزيرة العربية" [2].

ويقول القس المنصر جورج بوش: "وثمة دليل آخر نسوقه للتدليل على انتساب العرب لإسماعيل - عليه السلام - وهو أنهم يمارسون منذ زمن قديم غير محدد طقس الختان، وقد ذكر يوسيفوس فقرة مهمة جدا فيما يتعلق بأصل هذه الشعيرة - الختان - بين اليهود والعرب، فذكر في البداية ختان إسحاق، ثم ختان إسماعيل، ويقرر يوسيفوس أن اليهود والعرب مشهورون بهذه العادة منذ زمن قديم لا نستطيع تحديد بداياته، ويمارس اليهود والعرب هذا الأمر اقتداء بأسلافهم الموقرين، وهاك ما قاله: "الآن عندما بلغت سارة التسعين وبلغ إبراهيم المائة أنجبا إسحاق، فختناه في اليوم الثامن من ميلاده، ومن هنا أخذ اليهود عادة ختن أولادهم في اليوم الثامن من ميلادهم.

ولكن العرب يمارسون الختان في سن الثالثة عشر؛ لأن إسماعيل مؤسس أمتهم - وهو ابن إبراهيم من جاريته - قد اختتن في هذا العمر". وهناك شهادة شبيهة عن أصل العرب كتبت في القرن الثالث للميلاد، يقول الكاتب: "أهل يهوذا يختنون بشكل عام أنجالهم في اليوم الثامن من ميلادهم، أما نسل إسماعيل في بلاد العرب فيمارسون الختان في سن الثالثة عشر". وقد عاش هذا الكاتب - مثله مثل يوسيفوس - قريبا من المنطقة، وكانت لديه أفضل الفرص للحصول على المعلومات الصحيحة عن العرب.

وعلى هذا فمن الواضح أن نسبة العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - نسبة تاريخية مؤكدة وليست مجرد مرويات.

هذا الشاهد المباشر على أصل العرب الإسماعيلي الذي أكده أقدم سفر من أسفار العهدين - وهو سفر التكوين - وأكدته - كما رأينا - مصادر أجنبية، يتفق بشكل مدهش مع ما أكده الأنبياء بعد ذلك، ومن خلال المسيرة الطويلة لتاريخ الكتابات الدينية والنبوات نلتقي مرارا وتكرارا بإشارات إلى قبائل تعيش في بلاد العرب - أرابيا - منحدرة من إسماعيل - عليه السلام - حاملة أسماء أبنائه وأبرزهم نبايوت - أو نبايوط - وقيدار" [3].

وبعد.. فحسبنا ما سقناه من الأدلة الثابتة عندهم في كتبهم، وعلى ألسنة منصفيهم للبرهنة على نسبة العرب لإسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -، وأما الأدلة على سكنى إسماعيل بمكة من القرآن والسنة النبوية عندنا - نحن المسلمين - فمعلومة متواترة بالكثرة التي تغني الإشارة إليها عن ذكرها، ويكفينا قوله - سبحانه وتعالى - مخاطبا العرب: )وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل( (الحج: ٧٨) [4].

ثانيا. لم يكن إسماعيل - عليه السلام - عبدا بل كان حرا، وهذا ما تؤكده حقيقة تزويج العرب له، وتدعمه نصوص الكتاب المقدس:

ليس صحيحا ما توهموه من أن إسماعيل - عليه السلام - كان عبدا ابن أمة؛ لأن إسماعيل حر تابع لأبيه الحر إبراهيم، وأمه هاجر حرة أيضا؛ طبقا للنصوص التوراتية التي تقضي بأن الأمة تصير حرة بمجرد إنجابها من سيدها، ذلك فضلا عن أن هاجر تنتمي في نسبها إلى الملوك، وشاء الله أن تقع أسيرة، فهي ليست من سلالات الرقيق كما يزعمون.

ثم إنه لم يكن فقيرا، بل كان موسرا غنيا؛ وذلك أن جرهما لما أرادت السكنى بجوار هاجر من أجل ماء زمزم، ورأوا عدم رغبتها، قالوا لها: نسكن بجوارك، ولابنك الحق - متى كبر - في إبقائنا أو إجلائنا، وله الشطر من أموالنا، فأجابتهم هاجر لذلك على أن يفوا بعهدهم الذي عاهدوا، فلما ترعرع الغلام، ووجدوه أفصحهم لسانا وأكملهم عقلا، قاسموه أموالهم؛ وفاء بالشرط، فصار أكثرهم مالا. فكيف يأنفون من مصاهرته - عليه السلام - وهو بيده أن يبقيهم أو يجليهم من مكة[5]؟

يقول جورج بوش: "وعندما نعود بأصول الأمة العربية إلى مؤسسيها الأوائل، فإن سفر التكوين في العهد القديم يعد وثيقة لا تقدر بثمن، فهؤلاء الذين لا يترددون في قبول ما ورد في سفر التكوين وغيره من أسفار الكتاب المقدس باعتبارها مستندات جازمة لإقرار الحقائق التاريخية، لن يترددوا في اعتبار العرب من نسل إسماعيل بن إبراهيم" [6].

وفي هذا دلالة واضحة على تزوج إسماعيل - عليه السلام - من قبيلة جرهم العربية، والتي كان من نسلها الجنس العربي العدناني.

ثالثا. قول بعض المؤرخين: إن اسم جد زوجة إسماعيل الجرهمية عبد المسيح، قول محل نظر، ولا يقوم دليلا للطعن في نسب النبي صلى الله عليه وسلم:

فالقول بأن جد هذه الزوجة الجرهمية اسمه عبد المسيح، مع أن إسماعيل عاش قبل المسيح - عليه السلام - بألفي سنة، جوابه: أن ما كتبه المؤرخ لا يكون صحيحا حتما، ولو سلمنا بصحة ما قيل فإنه لا يدل على أن المراد بالمسيح عيسى ابن مريم خاصة؛ وذلك لأن المسيح في الأصل اللغوي معناه المبارك، أو الممسوح بالزيت الذي بارك الله فيه، وهو وصف يصح أن يتصف به كل نبي يمسح بهذا الزيت، بل ويتصف به غير الأنبياء أيضا، وإن لم يكونوا مباركين، فقد كان طالوت ملك بني إسرائيل يدعى مسيحا، مع أنه - على زعم اليهود والنصارى - صار في آخر ملكه فاسدا شريرا بسبب غيرته من داود - عليه السلام - عند قتله جالوت الفلسطيني، ثم غلب هذا الوصف على المسيح عيسى - عليه السلام - ولذلك لا يذكر لفظ المسيح في القرآن إلا مقرونا به ما يعينه من ذكر الاسم أو النسبة للأم يقول الله عز وجل: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45)( (آل عمران)، وعليه فإننا إذا قلنا بصحة هذا الرأي التاريخي؛ فالمراد بالمسيح - الذي هو من جدود زوجة إسماعيل - مسيح آخر نسب ذلك الجد إليه، على حد قولهم: عبد مناف، وعبد الكعبة[7].

رابعا. لم يكن العرب بحاجة إلى أن يتعلموا أنسابهم من اليهود؛ لأنهم كانوا أعلم الناس بالأنساب:

فقد كانوا يعلمون أنساب خيولهم وإبلهم، فكيف لا يعلمون نسبهم، وبه مفاخرتهم ومكاثرتهم فمن علم حالة العرب لم يجوز عليهم الجهل بالنسب حتى يتعرفوه من اليهود، كيف وهم أعلم الناس بالأنساب، وهم الذين كانوا يتكاثرون ويتفاخرون بها في أشعارهم، وقد روي أن حسان بن ثابت استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يهجو قريشا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف ونسبي فيهم"؟ فقال حسان: لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين.

وقد كان العرب يعرفون الأنساب ويحرصون عليها؛ كسبا لقلوب من تربطهم به مصاهرة أو قربى، وإن بعدت، ولأن نسب الفرد إلى القبيلة كإثبات الجنسية في العصر الحديث، فلا بد من حفظ النسب ليعرف من في القبيلة وتعدادهم ومن ليس فيهم؛ حتى تكون غاراتهم طبقا لمعرفة تعدادهم وإن لم يكن للتعداد إحصاء مكتوب، وكذلك لأن معرفة الأنساب ضرورة عند المصاهرة، والتقدم لخطبة أي فتاة طبقا لقانون الكفاءة الزوجية عند النكاح؛ لذا فقد شهد الجميع للعرب بالصدارة في علم الأنساب.

أما اليهود فإنهم لم يخالطوا العرب بمكة، وإنما خالطوهم عندما هاجروا إلى المدينة، وكان المسلمون يقولون لهم: إن أبانا وأباكم واحد - إبراهيم - ونحن على دينه، فكونوا معنا إخوة في الدين كما نحن إخوة في النسب، ويتلون عليهم قوله سبحانه وتعالى: )ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130)( (البقرة) [8].

ومن ثم فلا مجال للقول بأن اليهود هم الذين أشاعوا كون العرب من نسل إبراهيم؛ لأن الحقيقة التي لا يماري فيها أحد أن العرب هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم بالفعل، وقد كانوا يعلمون ذلك ويفتخرون به.

خامسا. المقصود بقوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( (السجدة: 3) فهم قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المخالطون له من قريش ومن حولها:

ذكر الشيخ ابن عاشور في تفسير الآية أن القوم: هم قريش والعرب، فهم المخاطبون ابتداء بالدين، وكلهم لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - فكانا نذيرين حين لم تكن قبيلة قريش موجودة يومئذ ولا قبائل العرب العدنانية، وأما القحطانية فلم يرسل إليهم إبراهيم - عليه السلام - لأن اشتقاق نسب قريش كان من عدنان، وعدنان بينه وبين إسماعيل قرون كثيرة.

وإنما اقتصر على قريش أو على العرب دون سائر الأمم التي بعث إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن المنة عليهم أوفـى؛ إذ لم تسبق لهم شريعة من قبل، فكان نظامهم مختلا غير مشوب بأثارة من شريعة معصومة، فكانوا في ضرورة إلى إرسال نذير، وللتعريض بكفرانهم هذه النعمة، وليس في الكلام ما يقتضي تخصيص النذارة بهم ولا ما يقتضي أن غيرهم ممن أنذرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يأتهم من قبله نذير، مثل اليهود والنصارى وأهل مدين[9].

وعلى هذا فالمقصود بالقوم في الآية هم المخالطون للرسول - صلى الله عليه وسلم - وثبت يقينا أنهم لم يأتهم غير محمد - صلى الله عليه وسلم - في زمانه. ومن ثم لا يحق لأحد أن يشكك في علاقة إسماعيل - عليه السلام - بقبيلة جرهم العربية، وزواجه منها، وكونه أبا للعرب، ومنهم سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

سادسا. أجمع النسابون وعلماء التاريخ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسل إسماعيل عليه السلام:

تجدر الإشارة هنا إلى ذكر نسب النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر البخاري - رحمه الله - نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان» [10].

وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكر النسب إلى عدنان: "ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان".

وقد أجمع النسابون - العدنانية، والقحطانية، والأعاجم - على أن إبراهيم خليل الرحمن من ولد سام بن نوح، وأن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - فانتهاء النسب إلى إسماعيل ذي النسل العديد، وذي النبوة العظمى، والملك الشديد، متفق عليه كمال الاتفاق[11].

وأولى الأنبياء الكرام بكل فضيلة خاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد ورد في شرف نسبه أحاديث كثيرة؛ منها ما جاء عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله - عز وجل - اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [12] [13].

وقال ابن كثير: "وذلك أنه - أي إبراهيم عليه السلام - ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان: إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة، وولد له يعقوب، أي من إسحاق )ومن وراء إسحاق يعقوب (71)( (هود)، وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا، بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة، حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل.

وأما إسماعيل - عليه السلام - فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق وسيدهم وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي - صلى الله عليه وسلم - فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة" [14].

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن شرف النبوة والرسالة يعلو كل شرف، وقد ختم الله - عز وجل - رسالاته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجعله شهيدا على جميع الأمم، وآتاه ما لم يؤت نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الخلاصة:

  • إن من الثابت لدى المؤرخين أن إسماعيل - عليه السلام - قد سكن مكة منذ صغره، وأقام بها طيلة حياته، وتزوج من العرب فصار أبا لأجيالهم التالية، وقد شهد بذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة، كما شهدت بذلك نصوص التوراة؛ ومنها: "سكن إسماعيل في برية فاران"، والمعروف أن فاران اسم جبل من جبال مكة.
  • ادعاء أن قبيلة جرهم أنفت أن تصاهر إسماعيل - عليه السلام - لأنه كان عبدا هجينا وفقيرا، ادعاء لا أساس له من الصحة؛ لأن المقرر عند اليهود أن الأمة تصير حرة إذا استولدها سيدها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كانت هاجر من أبناء الملوك، ثم أسرت في الحرب، وأهديت لسارة التي وهبتها لإبراهيم - عليه السلام - فهي إذن ليست من نسل الرقيق، ومن ثم يكون إسماعيل - عليه السلام - حرا ابن حر و ابن حرة، كما كان غنيا موسرا، فقد قاسمته جرهم مالها مقابل إقامتهم معه في مكة بجوار زمزم، وقد كانت إقامتهم بمكة مرهونة بإرادته، إن شاء أبقاهم، وإن شاء أجلاهم، فكيف يأنفون بعد ذلك من مصاهرته؟!
  • إن القول بأن أحد أجداد زوجة إسماعيل - عليه السلام - الجرهمية كان يدعى "عبد المسيح" - هو مجرد رأي لأحد المؤرخين، ولا يعد حجة ملزمة، ولو افترضنا صحته جدلا، فلا مانع من ذلك؛ لأن المسيح لفظ بمعنى: المبارك، أو الممسوح بالزيت الذي باركه الله، وهو وصف يصح أن يتصف به كل نبي يمسح بهذا الزيت،بل يتصف به غير الأنبياء أيضا، فقد كان طالوت ملك بني إسرائيل يدعى مسيحا.
  • لقد كان العرب أعلم الناس بالأنساب، فقد كانوا يعلمون حتى أنساب خيولهم وإبلهم، فليس من المعقول أن يجهلوا أنسابهم، وقد كانت هي مدار فخرهم ومادة أشعارهم، وقد كانوا على علم تام بأنهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - ولم يكونوا بحاجة إلى أن يعلموا ذلك من اليهود، بل كان المسلمون يقولون لليهود: إن أبانا وأباكم إبراهيم، ونحن على دينه، فكونوا معنا إخوة في الدين كما نحن إخوة في النسب، وقد ورد في معجم "سميث" للكتاب المقدس أن أبناء إسماعيل قد سكنوا شمال وجنوب شبه الجزيرة العربية مكونين البذرة الأولى للأمة العربية، والمتأمل يجد أن عادة الختان قد عرفت لدى العرب من قديم الزمان، وهي من السنن التي سنها إبراهيم - عليه السلام - وظلت في أبنائه العرب أولاد إسماعيل، واليهود أبناء إسحاق.
  • المقصودون بالإنذار في قوله تعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( كما يقول المفسرون: هم قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المخالطون له من قريش وما حولها من قبائل العرب، وهؤلاء لم يكن لهم وجود أيام إسماعيل - عليه السلام - لأن قريشا وغيرها من العرب العدنانية إنما هم من أحفاد إسماعيل - عليه السلام - فلا علاقة لنذارتهم بإسماعيل ولا بأبيه إبراهيم - عليهما السلام - لبعد الفاصل الزمني.
  • لقد أجمعت كتب السيرة وعلماء التاريخ والنسابون على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - من ولد عدنان، وأن عدنان ينتهي نسبه إلى إسماعيل - عليه السلام - وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله - عز وجل - اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"، وبذلك لا يحق لأحد أن يطعن في انتسابه - صلى الله عليه وسلم - إلى إسماعيل عليه السلام.

 

 

(*) السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.

[1]. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص63، 64 بتصرف.

[2]. محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتب المقدسة، سامي عامري، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص271.

[3]. محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين، جورج بوش، ترجمة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، دار المريخ، الرياض، ط2، 2004م، ص126.

[4]. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص64.

[5]. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص64، 65.

[6]. محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين، جورج بوش، ترجمة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، دار المريخ، الرياض، ط2، 2004م، ص123.

[7].  السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص65.

[8]. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص66.

[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج10، ج20، ص134.

[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.

[11]. نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، رفاعة رافع الطهطاوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2006م، ص20.

[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم الحجر عليه (6077).

[13]. وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ص21.

[14]. وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ص22.

 

  • السبت PM 11:13
    2020-09-19
  • 1702
Powered by: GateGold