المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409003
يتصفح الموقع حاليا : 259

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - خان أمهات المؤمنين في بيت السيدة حفصة

                  الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - خان أمهات المؤمنين في بيت السيدة حفصة (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض الطاعنين أنه - صلى الله عليه وسلم - خان أمهات المؤمنين في بيت السيدة حفصة - رضي الله عنها - حين أصاب[1] مارية القبطية - وهي سريته - في بيت السيدة حفصة، وفي يومها، ويتوهمون أن في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك( (التحريم: 1) ما يدل على زعمهم هذا. كما يستدلون على هذا بروايات منها: «أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أصاب مارية القبطية "أم إبراهيم" في بيت حفصة، غضبت السيدة حفصة، وقالت: أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وفي يومي، وعلى فراشي؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضين أن أحرمها علي فلا أقربها". فقالت: "أي رسول الله! كيف يحرم عليك الحلال، فحلف بالله ألا يصيبها». ويتساءلون: أليس هذا الذي فعله محمد خيانة لحفصة وباقي زوجاته؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1)  لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعا من الرسل في ظاهرة التسري، فقد كانت السيدة مارية القبطية سريته (ملك يمينه) كما كانت السيدة هاجر سرية إبراهيم عليه السلام، وكان لسيدنا سليمان - كما يروى - ثلاثمائة سرية ونخلص من هذا إلى أن التسري كان شيئا معروفا لا ينكره أحد.

2)  إن قول السيدة حفصة - رضي الله عنها -: «في بيتي، وفي يومي، وعلى فراشي»يدل على أن الاستنكار لم يكن من باب الخيانة؛ لأنها تعلم أنها حلال له؛ لذلك قالت: "كيف يحرم عليك الحلال؟!" وإنما كان ذلك من باب غيرة النساء، وهذه طبيعتهن.

3)  كان عتاب الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية عتاب تكريم وإجلال له وتخفيف؛ لذلك بدأها المولى بقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك(.

4)  لقد حرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مارية على نفسه إرضاء لزوجاته، وكان هذا من طبيعة خلقه الكريم، حتى يذهب حفيظتهن، إلى أن خفف الله عنه بقوله: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك(، وهذا يدل على سمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وطيب عشرته لا خيانته لهن.

التفصيل:

أولا. مارية القبطية هي سرية النبي - صلى الله عليه وسلم - وملك يمينه، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعا في ذلك:

كانت مارية هدية المقوقس عظيم مصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلها مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - حاطب بن أبي بلتعة، فجاءت مع أختها سيرين وعبد خصي، كما أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألف مثقال ذهبا، وعشرين ثوبا لينا من نسيج مصر... وبلغ الركب المدينة المنورة، وفي نفس الشقيقتين ألم الفراق والغربة.

وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مارية القبطية من الهدايا، ووهب أختها لشاعره حسان بن ثابت[2].

ذكر ابن سعد عن عائشة أنها قالت: "ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها جعدة[3] جميلة، فأعجب بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أنزلها أولا بجوارنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، ثم حولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا".

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطأ مارية بملك اليمين، وضرب عليها مع ذلك الحجاب، فحملت منه، ووضعت إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، كان أبو بكر ينفق عليها، ثم بعده عمر، حتى توفيت في خلافته سنة خمس عشرة أو ست عشرة، وصلى عليها ودفنها بالبقيع[4].

ولبيان أنه لا بغاء في التسري، نذكر أن التسري في اللغة: اتخاذ السرية، يقال: تسرى الرجل جاريته، وتسرى بها واستسرها: إذا اتخذها سرية، وهي الأمة المملوكة يتخذها سيدها للجماع، وهي في الأصل منسوبة إلى السر بمعنى الجماع، وقيل: هي من السر بمعنى الإخفاء؛ لأن الرجال كثيرا ما كانوا يتخذون السراري سرا، ويخفونهن عن زوجاتهم الحرائر، وقيل: هي من السر بالضم بمعنى السرور؛ لأنها موضع سرور الرجل، ولأنه يجعلها في حالة تسرها من دون سائر جواريه[5].

والتسري جائز في الإسلام، بالكتاب والسنة والإجماع، إذا تمت شروطه، يقول عز وجل: )الذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)، وقد تسرى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الصحابة.

وليس معنى هذا أن الإسلام هو الذي ابتدع هذا النظام، فقد كان معروفا في الأمم السابقة، وعرفته الأديان قبل الإسلام، فقد ورد أن إبراهيم - عليه السلام - تسرى بهاجر التي وهبه إياها ملك مصر، فولدت له إسماعيل عليه السلام، وقيل: إنه كان لسليمان - عليه السلام - ثلاثمائة سرية، وقد عرف العرب الجاهليون التسري أيضا.

ولكن الإسلام الذي يحمل لواءه سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - قيد هذا الأمر، ووضع له شروطا؛ ضمانا لسلامة المجتمع، وهي كالآتي:

الشرط الأول: الملك؛ فلا يحل لرجل أن يطأ امرأة في غير زواج، إلا بأن يكون مالكا لها، لقوله سبحانه وتعالى: )والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجـهـم أو مـا مـلــكـت أيمـانهـم فـإنهـم غـير ملـومين (6) فمـن ابتـغى وراء ذلك فـأولـئـك هـم الـعـادون (7)( (المؤمنون).

الشرط الثاني: أن تكون الجارية مسلمة أو كتابية إذا كان المتسري مسلما.

الشرط الثالث: أن لا تكون ممن يحرمن مؤبدا، أو مؤقتا، وأن لا تكون زوجة غيره أو معتدته أو مستبرأته، ما عدا التحريم من حيث العدد[6].

ومن تلك الشروط نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقع في الخطأ أو الخيانة، كما يزعم الطاعنون، بل إن مارية كانت ملك يمينه، فهي حلال له كسائر زوجاته، له أن يجامعها، وله حقوق الزوج عليها. ورغم أن مارية القبطية كانت سرية النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اتخذ مسلكا شرعيا لإباحتها لنفسه، وذلك ليعفها.

وقد أتاح الشرع لمن لم يستطع أن يتزوج حرة لفقره، أن يتزوج أمة من الإماء على صداق يسير، قال عز وجل: )ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات( (النساء: 25).

وبهذا يتحول الحق من السيد للزوج؛ لأنه بمحض إرادته حول حقه لغيره على صداق يسير قد ناله.

وبناء على ذلك فإن أمثال هؤلاء الإماء من المحصنات، قد حرمهن النص القرآني على كل أحد غير أزواجهن، قال سبحانه وتعالى: )فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان( (النساء: 25).

أما أن يتمتع بهن السيد نفسه، فذلك على ثلاثة أوجه:

  • أن يتمتع بها السيد على أنها ملك يمين، وهو قيد من قيود الزواج.
  • أن يعتقها، ثم يتزوجها، ويعتبر العتق صداقها.
  • أن يعتقها، ثم يتزوجها على صداق جديد.

وقد آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني والثالث من هذه الوجوه، وحث عليهما المسلمين في العديد من الأحاديث، يقول صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل كانت عنده وليدة - أي أمة - فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها، وتزوجها فله أجران» [7].

ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النوع الثالث: «إذا أعتق الرجل أمته، ثم أمهرها مهرا جديدا، كان له أجران»[8].

ومن ثم فإن ظاهرة اتخاذ السراري. كانت معروفة في المجتمعات الإنسانية، ولا تنكر ولا تعد مقارفتها خيانة للزوجات، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل أمرا مشبوها، أو يخل بعهد الله وعصمته.

ثانيا. إن قول حفصة "في بيتي وفي يومي، وعلى فراشي" يدل على أن الاستنكار لم يكن للخيانة:

إن قول حفصة - رضي الله عنها - للنبي صلى الله عليه وسلم: «في بيتي وفي يومي وعلى فراشي» [9]. لم يكن استنكارا لخيانة، وإنما كان لمجامعته - صلى الله عليه وسلم - مارية في بيتها وليلتها، وهذا من غيرة النساء، ولم تخل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغيرة، شأنهن في ذلك شأن جميع النساء.

وإن الحديث الذي دار بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما دخلت عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى مارية القبطية ليؤكد هذه الغيرة. فقد روى الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: «دخل رسول الله بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: "لا تذكري هذا لعائشة، فهي علي حرام إن قربتها"، قالت حفصة: "وكيف تحرم عليك وهي جاريتك" فحلف لها ألا يقربها»[10] [11].

وبقول حفصة يتأكد أن مارية كانت حلالا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن تلك خيانة كما يزعم الطاعنون، وبهذا يبطل قولهم المزعوم.

ومما يدل أيضا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخن السيدة حفصة، ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: "كفر عن يمينه وأصاب جاريته"، وهذا دليل على أنها كانت حلالا له قبل الحادثة وبعدها، ويؤكده قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1)( (التحريم). فامتناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مارية كان بسبب اليمين التي تقدمت منه، وهو قوله: «والله لا أقربها بعد اليوم».

فقيل له: )لم تحرم ما أحل الله لك(؛ أي لـم تمتنع منه بسبب يمين، يعني: أقدم عليه وكفر، وعلى هذا فهي يمين يكفرها؛ قاله أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «إذا حرم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمين يكفرها، وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» [12]. يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حرم جاريته، فقال الله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك( إلى قوله: )قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم (2)( (التحريم)، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يمينا[13].

ثالثا. إن هذه الآية التي استدلوا بها بمنزلة عتاب من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو عتاب تكريم، وإجلال، وتسرية له صلى الله عليه وسلم:

لقد بدأ الله عتابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك(. يقول المفسرون: إن التحريم منه - صلى الله عليه وسلم - كان امتناعا عن العسل[14]، أو عن مارية، وهو امتناع أكده باليمين، مع اعتقاد حله؛ ولذا نزلت الآيات، وفيها الحث على التحلل من يمينه، والتكفير عنه، قال سبحانه وتعالى: )قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم( وهذا المقدار مباح، والمباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح في عصمتهم.

وإنما قيل له صلى الله عليه وسلم: )لم تحرم ما أحل الله لك( رفقا به، وشفقة عليه، وتنويها بقدره، بحيث لا يجب أن يضيق على نفسه في سبيل إرضاء أي شخص، فيكون معنى الآية على هذا - وقد صدرت بندائه بوصف النبوة تشريفا لمكانته، وتعظيما لمقامه - يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها من الاستمتاع بما أحله الله لك، مما لك فيه رغبة، ومتعة وسرور، تبتغي بذلك مرضاة أزواجك، وهن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن؟!

على أن القيد المتمثل في قوله عز وجل: )تبتغي مرضات أزواجك( هو محط العتاب في الحقيقة، وليس مجرد منعه - صلى الله عليه وسلم - نفسه من المتعة بالمباح محلا للعتاب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما منع نفسه من بعض المباحات، ولم يعاتبه الله تعالى على شيء من ذلك كله.

ومن ثم فإن في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك( منة وتعظيم من الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - برفع الحرج عنه في الامتناع عن شيء ليرضي أزواجه؛ إذ هن وسائر المؤمنين أحق أن يسعوا في مرضاته ليسعدن، قال سبحانه وتعالى: )فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130)( (طه).

فتأمل كيف أن النبي أمر بالصلاة ليرضى هو، لا ليكفر الله عنه سيئاته، ولا ليرضى عليه، وحينئذ فلا كلفة عليه فيها؛ لأن فيها شهوده لربه الذي هو قرة عينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" [15]، فانظر إلى هذا الخطاب اللطيف المشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - حبيب رب العالمين، وأفضل الخلق أجمعين، حيث قال له ربه: )لعلك ترضى(، ولم يقل: لعلي أرضى عنك، ونحو ذلك.

فتأمل هذا الخطاب، وقارنه بخطاب موسى - عليه السلام - لربه: )وعجلت إليك رب لترضى (84)( (طه).

وهذه المسارعة في مرضاته - صلى الله عليه وسلم - لاحظتها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لما أنزل الله سبحانه وتعالى: )ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك( (الأحزاب: 51). قالت عائشة: قلت: «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» [16]. أي: ما أرى الله إلا موجدا لما تريد بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار وترضى، وإنما جاء التعبير بالهوى هنا بدافع الغيرة، وحاشاها - رضي الله عنها - أن تعني حقيقة اللفظ!

وبعد، أليس فيما سبق تأكيد لما في آية التحريم من منة وتكريم وتعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشفقة عليه، ورفق به، بحيث لا يجب عليه أن يمتنع عن شيء مباح له من أجل مرضاة أزواجه، إذ هن وسائر الأمة كافة أحق أن يسعوا في مرضاته - صلى الله عليه وسلم - ليسعدن في الدنيا والآخرة؟! وإذا افترض أن في الآية إنكارا عليه، ودليلا على أنه صدر منه ذنب - عصمه الله من ذلك - فقوله - سبحانه وتعالى - في ختام الآية: )والله غفور رحيم (1)( يدل على حصول الغفران، وبعد حصول الغفران يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، بمعنى: أنه يمتنع أن يقال إن قوله: )لم تحرم ما أحل الله لك(دليل على كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - مذنبا، وإذا صح أن في الآية عتابا، فهو وارد بأحسن ما يكون العتاب من تعظيم المولى - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث ناداه وخاطبه في هذا المقام بوصف النبوة في أكثر من موطن في القصة، بدأ أولها بقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك(، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا( (التحريم: 3)، ولكن أنى يكون العتاب؟ وأنى يصح افتراضه، مع ما ورد في القصة من قوله عز وجل: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما( (التحريم: 4).

إن في الآية بيانا لمن أذنب، ولمن يستحق العتاب والتأديب، من نسائه اللائي تظاهرن عليه صلى الله عليه وسلم، وأفشين سره، إنهن بالتظاهر وإفشاء السر، آذين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوبة من ذلك واجبة في حقهن؛ لأن قلوبهن قد مالت عن الحق، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "زاغت قلوبكما"، وعلى هذا فإن قوله سبحانه وتعالى: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما( ليس جواب الشرط، وإنما هو دليله وتعليله.

والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه بالتظاهر عليه، وإفشاء سره، فالتوبة حق واجب عليكما؛ لأن قلوبكما قد زاغت ومالت عن الحق في مغاضبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه.

ويمكن أن تحمل الآية على فهم آخر، يأتي من حمل قوله سبحانه وتعالى: )فقد صغت قلوبكما( على معنى: أنها مالت إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسول الله، وندمت على ما كان منها، من مغاضبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه.

والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتندما على ما كان منكما، فقد مالت قلوبكما إلى الحق، ومصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرضاته، وأن ما كان منكما من مغاضبة، وإيذاء لم يكن صادرا عن قلوبكما، وإنما هو فورة غضب، ونار غيرة.

ويؤكد هذا قوله سبحانه وتعالى: )وإن تظاهرا عليه( (التحريم: ٤)، أي: إن استمررتما على المغاضبة، والإيذاء، وتعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم، فإن الله ناصره بقوته القاهرة، وخواص ملائكته، وعامتهم، وصالح المؤمنين، وهذا كالمقابل لقوله: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما(.

ثم تلطف الله تعالى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - إظهارا لحفاوته به، وإعلاء لمقامه، بما زاد في تأديب الزوجات الطاهرات، متمشيا مع أسلوب الزجر والتهديد، فقال: )عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5)( (التحريم)؛ أي: جامعات للكمال في إسعاده - صلى الله عليه وسلم - حسا ومعنى، فلا يعصين له أمرا، ولا يخالفن له نهيا، ويعملن على إسعاده، وإدخال السرور عليه، بما يفرغ قلبه من حمل أثقال الزوجية إلى القيام بواجبه الأعظم، وهو تبليغ رسالته، وتعليم أمته، وإعطاؤها الأسوة الحسنة به، لتكون كما أرادها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس.

وكل ما سبق تأكيد على أن قوله سبحانه وتعالى: )لم تحرم ما أحل الله لك(ليس إنكارا عليه، ولا عتابا له على ذنب، بل تكريم له وتعظيم على نحو ما سبق في قوله سبحانه وتعالى: )عفا الله عنك لم أذنت لهم( (التوبة: 43)، ونحو ما يقول الإنسان منا لعزيز عليه ضيق على نفسه في شيء: والله حرام عليك فعل كذا، والمراد: إظهار مكانته، وفضله، وشرفه، إذ كيف يفعل هذا الأمر، الذي فيه مشقة عليه، مع عظم مكانته، والمراد: "حرام عليك ظلم نفسك"، وليس المراد تأثيم المخاطب المعظم بنحو هذه العبارة، وغاية ما يمكن أن يدعى في قوله سبحانه وتعالى: )لم تحرم ما أحل الله لك( أن تكون دالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الأولى، والأفضل بالنسبة لمقامه العظيم، وترك الأولى في المباح ليس بذنب في حقه[17].

وهكذا نجد أن الدليل الذي يستدل به الطاعنون ما هو إلا رد عليهم وتفنيد لشبهتهم، إذ كيف يدافع الله - عز وجل - عن حقوق نبيه، ويعظمه وهو خائن؟!

رابعا. الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرم مارية القبطية إرضاء لزوجاته، وإذهابا لحفيظتهن، وما ذلك إلا لسمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم:

لقد كان امتناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أحله الله له إرضاء لأزواجه، كان لما عهد فيه من الحنو على زوجاته، والتلطف في معاملتهن، وتحمل ما يشق على نفسه في سبيل راحتهن، ويدل على ذلك:

ما جاء عن ابن عباس عن عمر - رضي الله عنهما - قال: «والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، قال: فبينا أنا في أمر أتأمره، إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، قال: فقلت لها: مالك ولما هاهنا؟! فيما تكلفك في أمر أريده؟! فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يظل يومه غضبان. فقام عمر فأخذ رداءه مكانه، حتى دخل على حفصة فقال لها، يا بنية إنك لتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله، إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله» [18].

فامتناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما يحبه، وتعرضه لما يشق عليه، من أجل إرضاء زوجاته، كان أمرا معهودا منه صلى الله عليه وسلم، إلا أن الأولى بالنسبة للشيء الذي امتنع منه هنا عدم الامتناع منه، فلما ترك الأولى وامتنع منه عوتب عليه نظرا لسمو مقامه[19].

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أبت شهامته أن تعامل مارية معاملة الجواري، وكان حبه لها معاملته لها وفق شريعته، التي تفوق أفضل وأعدل قوانين قومها السائدة آنذاك، فلم تستغل في الخدمة لزوجاته، بل أصبحت أما لولده إبراهيم ،وأصبح لها في قلب المسلمين مكانة عظيمة، ولو كان تواقا للنساء ما التفت إلى جارية وأمامه من الحرائر من العرب والروم ما يغنيه عن كل ذلك، فكيف يصور هؤلاء الطاعنون أفعاله على أنها خيانة؟

فالناس في الإسلام سواسية، وإنما يتفاضلون بأعمالهم، ولا فرق في الإسلام بين حرة وجارية، ولا بين حرة بيضاء وأخرى سمراء، بل إن الإسلام ليعطي لمن يتزوج الأمة بعد أن يعتقها أجرين؛ فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران»[20].

والرسول - صلى الله عليه وسلم - إنسان بما تحمله الكلمة من معان، لم يحب امرأة لأنها شريفة النسب، ولم يكره امرأة لأنها وضيعة، ولم يتزوج امرأة لأنها مليحة، ولم يعرض عن امرأة لأنها قبيحة، بل تزوج بعد خديجة أرملة مسنة ليست ذات منصب، ولا هي كذلك ذات جمال، بل عجوز مسنة حاجتها إلى الرعاية أشد من حاجتها إلى الزواج، وكاد أهل مكة لا يصدقون بزواجه - صلى الله عليه وسلم - من أم المؤمنين سودة - رضي الله عنها - لكبر سنها.

لقد ضرب - صلى الله عليه وسلم - لنا المثل في جوانب الحياة الأسرية كافة؛ فاكتملت في شخصه - صلى الله عليه وسلم - كل صور القدوة، فقد تزوج الثيب والبكر، والأرملة والمطلقة، والحرة والأمة المعتقة، والصغيرة والكبيرة، فتأمل كيف عاملهن صلى الله عليه وسلم.

إنه ليعطينا القدوة زوجا وأبا، قولا وعملا، ولم يزل يوصينا ويرشدنا: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» [21] [22].

الخلاصة:

  • لم يرتكب الرسول - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته معصية، ولم يقبل على شيء يخالف به أمرا من أوامر الله عز وجل، وذلك لأنه معصوم من قبل الله تعالى، وأما ما يدعيه هؤلاء المدعون، فلا وجه له من الصحة؛ إذ لو تدبروا الأمر، لعرفوا أن مارية سرية النبي صلى الله عليه وسلم "ملك يمينه"، وهي حلال له.
  • لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعا من سابقيه في تسريه، بل كان التسري معروفا في الأديان السابقة؛ فقد كانت هاجر سرية إبراهيم عليه السلام، وأم ولده إسماعيل عليه السلام، وكان لداود ثلاثمائة سرية كما ورد في التوراة، وقد عرف الجاهليون التسري أيضا، وقد نص القرآن والسنة المطهرة، على جواز التسري، هذا فضلا عن أن التسري كانت له فوائد للمجتمع المسلم، إذ فيه وجاء ووقاية من أمراض الفساد والغواية والرذيلة.
  • إن قول حفصة: «في بيتي وفي يومي وعلى فراشي» يدل على أن الاستنكار لم يكن لخيانته - صلى الله عليه وسلم - لها والعياذ بالله، بل كان غيرة منها؛ لذا غضبت، وقالت ذلك، وقد حرم الرسول مارية عليه إرضاء لزوجاته، إلى أن خفف الله عنه قائلا: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك( (التحريم: 1). فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خائنا لما خاطبه الله مناديا إياه بهذا النداء الدال على التعظيم والتكريم، ولما قالت له حفصة - رضي الله عنها -: «وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟!»
  • كان خطاب الله لنبيه في أول سورة التحريم؛ إنما هو عتاب وراءه إجلال وتنزيه، وتوقير، وتخفيف، وليس توبيخا أو استنكارا. ولو كان فيه رائحة من ذلك لما دافع الله عن نبيه في هذه الآيات ذلك الدفاع.
  • إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم تحريمه مارية القبطية، إرضاء لزوجاته، إلا أنه كفر عن يمينه - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرق في يوم من الأيام بينها وبينهن، بل كلهن سواء عنده، حرة أو أمة.

 

 

(*) شبهات وردود حول الرسول الكريم، موقع ابن مريم www.ebnmaryam.com.

[1]. أصاب: جامع.

[2]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص271 بتصرف.

[3]. جعدة : مستديرة الوجه مع قلة لحمه.

[4]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص224، 225 بتصرف.

[5]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، ط1، 1407هـ/ 1987م، ج11، ص294.

[6]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، ط1، 1407هـ/ 1987م، ج11، ص297، 298 بتصرف.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها (7495)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس (404).

[8]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه  (19673)، والطيالسي في مسنده، أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه رضي الله عنهما (501)، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد.

[9]. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، باب من اسمه إبراهيم (2316)، والدارقطني في سننه، كتاب النكاح، كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره (122).

[10]. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، باب من اسمه إبراهيم (2316)، والدارقطني في سننه، كتاب النكاح، كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره (122).

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج 18، ص178، 179 بتصرف.

[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولو ينو الطلاق (3750).

[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج18، ص180، 181.

[14]. لما ورد في شأن العسل من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: « فلن أعود له وقد حلفت ». أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب ) يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ( (التحريم: ١) (4628)، وهو امتناع أكده باليمين، مع اعتقاد حله.

[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (14069)، والنسائي في سننه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3940)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3291).

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد (4823)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها (3704).

[17]. عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص197: 201 بتصرف.

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الطلاق (4629)، ومسـلـم في صـحـيـحـه، كـتـاب الطـلاق، بـاب في الإيـلاء واعـتـزال النـسـاء وتخـييرهن (3765)، واللفظ للبخاري.

[19]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م، ص472 بتصرف.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب فضل من أدب جاريته وعلمها (2406)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله (4412)، واللفظ للبخاري.

[21]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء (1977)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3895)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).

[22]. الرد على القس بوش في كتابه "محمد مؤسس الدين الإسلامي"، د. عبد الرحمن جيرة، دار المحدثين، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص213، 214 بتصرف.

 

  • السبت PM 11:09
    2020-09-19
  • 1879
Powered by: GateGold