المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413646
يتصفح الموقع حاليا : 227

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شرع من تلقاء نفسه ما يتناسب وظروف بيئته في مكة

         ادعاء أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شرع من تلقاء نفسه ما يتناسب وظروف بيئته في مكة (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شرع من تلقاء نفسه بعض ما يتناسب وظروف بيئته فحسب، ممثلين لذلك بما كان من تشريع الزكاة، زاعمين أنه - صلى الله عليه وسلم - شرعها بغية القضاء على التفاوت الطبقي السائد في مكة آنذاك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - اتخذها وسيلة جبرية لإرهاب الأغنياء لكي يسمعوا ويطيعوا ويساعدوا الفقراء والمحتاجين في مكة، ولا يبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استوحى هذا التشريع من اليهودية أو النصرانية، ثم طبق ما استوحاه على المسلمين. ويرمون من وراء هذه المزاعم إلى التشكيك في ربانية تشريعاته - صلى الله عليه وسلم - والذهاب إلى أنها كانت صدى لبيئته، أو أنها مستوحاة من ديانات سابقة، أو أنها كانت صدى للجانبين كليهما.

وجوه إبطال الشبهة:

1) ساد المجتمع العربي قبيل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - تفاوت طبقي واضح، زاد الغني غنى واستعلاء، والفقير فقرا وحرمانا، ومع هذا التفاوت لم يكن ثمة تشريع للزكاة، فكيف يكون تشريع الزكاة صدى للبيئة؟!

2) لم تفرض الزكاة في مكة، ولكنها فرضت في المدينة في السنة الثانية من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل يصح مع توقيت فرضها أن يزعم زاعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضها في مكة ليساعد فقراءها المحرومين؟!

3) لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشرع لقومه ما لم يأذن به الله، ولم يكن ليمسك بعصا الترهيب والحساب والنار لتكون وسيلة للضغط الروحي؛ لتنفيذ ما شرعه من تلقاء نفسه.

4) إن الواقف على المقاصد الربانية العليا من تشريع الزكاة من جانب، والمستقرئ لآثار هذا التشريع في المجتمع المسلم، والمدرك لما أصبح عليه مقارنة بما كان عليه من جانب آخر؛ ليوقن - بما لا يدع مجالا للشك - أن الزكاة تشريع رباني محض، لا دخل لبشر فيها - بقليل أو كثير - نبيا كان أو غير نبي.

5) إن الأديان السماوية وما جاءت به من أحكام، وما أوحي فيها إلى حامليها من شرائع - كلها من عند الله - عز وجل - أي أن المصدر واحد، فلا غضاضة في أن نجد بعض التشابه أحيانا؛ لأنها صدرت جميعا من مشكاة واحدة، ولكن هذا التشابه يؤكد السابق، ويثبت صحة اللاحق، خاصة إن كان أشمل وأكثر تفصيلا وتوضيحا من السابق عليه.

التفصيل:

أولا. التفاوت الطبقي في مكة قبل البعثة:

نتفق مع مثيري هذه الشبهة في ذهابهم إلى أن مكة - وهي جزء من كيان المجتمع العربي - سادها تفاوت طبقي واضح، أدى إلى زيادة الغني غنى واستعلاء، والفقير فقرا وحرمانا؛ فقد كانت قبائل الجزيرة العربية كلها "تعيش في عالم الظلمات من الفساد الضالع في كل ربوعها، والبؤس المتفشي، والظلم لكل أفراد قبائلها، فطائفة تسيطر وتملك كل شيء، والغالبية لا تملك أي شيء، فزعماء القبائل يعيشون في رغد من العيش، وغالبية أفراد القبيلة يعيشون في بؤس من العيش" [1].

وإذا ركزنا على مكة - باعتبارها المكان الذي احتضن بعثة النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم - من جهة، وباعتبارها المكان الذي ركز عليه مثيرو هذه الشبهة من جهة أخرى - وجدناها لا تختلف من الناحية الاقتصادية عن غيرها من البلدان؛ فقد اهتم أهلها بجمع المال وتثميره بالوسائل المشروعة وغير المشروعة، ولما كانت غير صالحة للزراعة والصناعة أكب أهلها على كسب عيشهم من المضاربة بالأموال، والتهالك على إنمائها.

فنشأ عن ذلك ظهور فئة "المرابين" من اليهود وغيرهم، وقد صرفت هذه الفئة كل همها إلى الربا، حتى أصبح مصدرا آخر لثروتهم وتثبيت مكانتهم وإعلاء كلمتهم، وكان ذلك أحد أسباب سخط الناس عليهم.

وبلغ عدد المرابين مبلغا عظيما، واستفحل ضررهم على المجتمع، والويل لمن سقط في شباكهم واضطرته الظروف إلى الالتجاء إليهم والاقتراض منهم؛ لأنهم على كثرتهم لم يكونوا يدركون للرحمة معنى، ولا يرون فرقا بين التجارة والربا.

لقد اقتنص هؤلاء القساة أموال الفقراء الذين يسعون ويكدون، وهم قاعدون، وبذلك امتلأت صدور الفقراء عليهم حقدا وضغينة؛ لأنهم أصبحوا في أيديهم عبيدا أذلاء[2].

"وصفوة القول أن المعاملات في البلاد العربية وغيرها، قد أصبحت قبل البعثة المحمدية مقتلة للفقراء، مزرعة للأحقاد، داعية إلى انتشار أنواع الفساد، مؤدية إلى حصر الثروة في طبقة من الناس، ترى نفسها القابضة على زمام العالم المحركة لفلكه، وترى لنفسها الرياسة التامة والسيادة العامة، وإن لم يكن لأفرادها حظ من العلم والعمل والحكمة وبعد النظر" [3].

ولقد نتج عن ذلك كله أن اتسع التفاوت الطبقي في المجتمعات العربية كلها قبيل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما أدى إلى زيادة الغني غنى وقسوة، وزيادة الفقير فقرا وحرمانا، ومع ذلك لم تفرض زكاة على المسلمين بعد، فأين هذا الذي يدعونه من كون تشريع الزكاة إنما وضعه محمد - صلى الله عليه وسلم - لمساعدة الفقراء المحتاجين في مكة؟!

ثانيا. لم تفرض الزكاة في مكة:

 إذا كنا نتفق مع من أثار هذه الشبهة في ذهابهم إلى أن مكة سادها تفاوت طبقي واضح بين أغنيائها وفقرائها - فإننا نختلف معهم في زعمهم أن هذا التفاوت الطبقي دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى فرض الزكاة على أغنياء مكة ليساعد فقراءها المعدومين.

فإذا افترضنا جدلا - بعيدا عن الاختلاف السابق - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض الزكاة نتيجة لما رآه من تفاوت طبقي بين أغنياء مكة وفقرائها المعدومين، فلماذا تأخر تشريع الزكاة إلى العهد المدني؟ وهل يعقل أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقراء مضطهدين معذبين في أودية مكة طوال ثلاث عشرة سنة قضاها فيها، ثم هو بعد ذلك يؤجل فرض الزكاة إلى السنة الثانية من الهجرة؟!!

إن المشهور في الفقه الإسلامي أن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة، قيل: قبل فرض صيام رمضان، وإليه أشار النووي في باب (السير) من الروضة، ويخالف هذا ما ثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة، قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت فريضة الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعلها» [4].

قال الحافظ: إسناده صحيح. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض صيام رمضان، وقد اتفقوا على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف.

وجزم ابن الأثير في تاريخه بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وقوى بعضهم ما ذهب إليه بحديث ضعفه ابن حجر العسقلاني[5].

اتفق الفقهاء - إذن - على أن الزكاة باعتبارها ركنا من أركان الإسلام - لم تفرض إلا في المدينة بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما وجد من خلاف بينهم إنما كان في السنة التي فرضت فيها في المدينة، وذلك على التفصيل السابق.

الزكاة في العهد المكي زكاة مطلقة:

وقد يقول قائل: كيف يتفق ما ذكر من أن الزكاة في التشريع الإسلامي لم تفرض إلا في المدينة وذكر القرآن لها في آيات كثيرة من سور القرآن المكية، كقوله - عز وجل - في سياق حديثه عن أوصاف المؤمنين الذين يرثون الفردوس: )والذين هم للزكاة فاعلون (4)( (المؤمنون)، ويقول: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7)( (فصلت).

والجواب: أن الزكاة التي ذكرت في القرآن المكي، لم تكن هي بعينها الزكاة التي شرعت بالمدينة، وحددت نصبها[6] ومقاديرها، وأرسل السعاة لجبايتها وتوزيعها، وأصبحت الدولة مسئولة عن تنظيمها؛ فالزكاة في مكة كانت زكاة مطلقة من القيود والحدود، وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد وأريحيتهم وشعورهم بواجب الأخوة نحو إخوانهم من المؤمنين. فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذل الكثير أو الأكثر.

الزكاة في العهد المدني:

كانت تلك طبيعة الزكاة في مكة، لما كان المسلمون مجرد أفراد مصادرين في دعوتهم، "أما في المدينة فهم جماعة لها أرض وكيان وسلطان؛ فلهذا اتخذت التكاليف الإسلامية صورة جديدة ملائمة لهذا الطور، صورة قوانين إلزامية بعد أن كانت وصايا توجيهية فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوة والسلطان، مع اعتمادها على الضمير والإيمان، وظهر هذا الاتجاه المدني في الزكاة، فحدد الشارع الأموال التي تجب فيها، وشروط وجوبها، والمقادير الواجبة، والجهات التي تصرف لها وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها" [7].

نخلص من هذا كله إلى أن الزكاة - بوصفها الركن الثالث من أركان الإسلام، كما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في قوله: «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» [8] - لم تفرض في مكة، ولكنها فرضت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة على المشهور لدى الفقهاء، فهل يصح بعد هذا أن يزعم زاعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضها في مكة رأفة بالفقراء؟!

إن هذه النقلة تسلم إلى سؤال مؤداه: هل من الممكن أن يشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريعا أي تشريع من عند نفسه دونما استناد إلى وحي إلهي؟!

ثالثا. النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلقى التشريع من ربه:

إن السنة إذا أضيفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان المراد بها ما أثر عنه من قول أو فعل أو تقرير، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الأصل الثاني من أصول الأحكام الشرعية، فالكتاب مقدم وهي تالية له.

وما ورد في السنة بالإضافة إلى ما ورد في الكتاب ثلاثة أنواع:

أولها: ما كان مطابقا لما فيه؛ فيكون مؤكدا له.

ثانيها: ما كان بيانا له، كأن تفصل مجمله أو تقيد مطلقه.

ثالثها: ما كان مشتملا على حكم جديد، غير مؤكد لما في القرآن، ولا مبين له[9].

وثمة ملاحظتان جديرتان بالذكر:

الملاحظة الأولى: أن أحاديث الزكاة التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تندرج تحت النوع الثاني من الأنواع الثلاثة السابقة.

الملاحظة الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق في الأنواع الثلاثة كلها عن رأيه وهواه، قال تعالى: )وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم) أي: ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله - عز وجل - لأن بعده: )إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، وفيه "دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل" [10].

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - إذن - في فرضه للزكاة إلا مبينا لما جاء في القرآن عنها، ولم تكن أحاديثه التي فصلت ما أجمله القرآن في شأن هذا الركن إلا بوحي من الله تعالى، فليس صحيحا - إذن - ما ادعاه مثيرو هذه الشبهة من أنه فرضها من عند نفسه رأفة بفقراء مكة.

وليس صحيحا كذلك ما ادعوه من أنه استخدم عقيدة اليوم الآخر وسيلة يجبر بها الأغنياء على دفع الزكاة للفقراء؛ لأن حديثه عن اليوم الآخر لم يكن من عند نفسه، وإنما كان بوحي من الله - عز وجل - وهو حديث حق تقتضيه حكمة الله - عز وجل - العادلة، ويؤمن به ذوو الفطر السليمة ولا يأباه العقل، وإنما ينكره من ظن أنه خلق عبثا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

رابعا. الزكاة تشريع رباني لا دخل لبشر فيه:

من المعطيات الأساسية للمنهج النقدي البناء، أن تحكم على المبدأ من خلال ما حققه من نتائج - إن طبق كما أراد صاحبه - وبالنظر إلى إمكانية تطبيقه وجدوى هذا التطبيق، فإذا أخذنا تشريع الزكاة، محلا للنقد، فلا بد أن نعرف أثر تطبيق هذا التشريع على المجتمع الذي طبق فيه.

وقد ذكرنا سابقا الظروف الاجتماعية التي سادت المجتمع المكي، والتي أدت إلى تفاوت طبقي واضح بين أغنياء مكة وفقرائها، وذلك قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تفرض الزكاة.

أما بعدما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرعت الزكاة، فإن هذه الظروف انقلبت رأسا على عقب؛ وذلك لأن الزكاة تعمل على "تأمين أبناء المجتمع ضد العجز الحقيقي والحكمي، وضد الكوارث والجوائح، وتحقق بينهم التضامن الإنساني الذي يعين فيه الغني المعدم، ويأخذ القوي بيد الضعيف والمسكين وابن السبيل، وكذلك تعمل على تقريب المسافة بين الأغنياء والفقراء، وإزالة الحسد والضغينة بين القادرين والعاجزين، والإسهام في حل كثير من مشكلات المجتمع، وتعينه على تحقيق أهدافه النبيلة وغاياته الطيبة المثلـى" [11].

وهي كذلك "مواساة للفقراء، ومعونة لذوي الحاجات، تكفهم عن البغضاء، وتمنعهم من التقاطع، وتبعثهم على التواصل؛ لأن الآمل وصول والراجي هائب، وإذا زال الأمل وانقطع الرجاء واشتدت الحاجة، وقعت البغضاء وتزايد الحسد، فحدث التقاطع بين أرباب الأموال والفقراء، ووقعت العداوة بين ذوي الحاجات والأغنياء، حتى تفضي إلى الصراع على الأموال والتغرير بالنفوس، وهذه أمور تعمل على إيقاد نار العداوة والبغضاء، فتلتهم المال والنفس والولد، ويختل معها الأمن والأمل، ويحل الذعر والخوف، ويسوء من الأمة مصيرها" [12].

إن الواقف على هذه المقاصد الربانية التي أتت من وراء تشريع الزكاة من جانب، والمستقرئ لآثار هذا التشريع في المجتمع المسلم مقارنة بما كان عليه قبل هذا التشريع من جانب آخر ليوقن - بما لا يدع مجالا للشك - أن الزكاة تشريع رباني لا دخل لبشر فيه، نبيا كان أو غير نبي.

خامسا. النبي لم يقتبس تشريع الزكاة من اليهودية أو النصرانية:

 من المسلمات العقلية، أن كل ما له بداية له - بالطبع - نهاية، ومن ذلك إرسال الله - سبحانه وتعالى - رسله إلى الأرض، كان له بداية، وهي بداية الخليقة، فلقد أرسل الله الرسل، ونشر تشريعاته - سبحانه وتعالى - لهداية البشر، وإذا كان هذا هو الغرض من إرسال الرسل، فإن حكمة الله تقتضي أن تكون الرسالة الخاتمة كاملة شاملة، لا يفوتها مجمل إلا فصلته، ولا مشكل إلا وضحته، ولا خاف إلا أجلته، وهذا ما حدث مع رسالة النبي الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ أتت خاتمة فكانت شاملة كاملة، مفصلة موضحة لكل ما سبقها من رسالات سماوية، فضمت ما جاء في تلك الرسالات من شرائع، ونسخت بعض ما بها من أحكام، وفصلت ما أجملته... إلخ.

ومن تلك التشريعات شريعة الزكاة التي أتت في معظم الرسالات، ونادى بها جل الرسل، يقول د. يوسف القرضاوي: "ولا أحسب دعوة نبي من الأنبياء خلت من هذا الجانب الإنساني الذي سماه القرآن: الزكاة".

ونحن إذا رجعنا إلى القرآن الكريم - وهو أصح وثيقة سماوية بقيت للبشر - وجدناه يتحدث عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فيقول: )وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (73)( (الأنبياء). ويتحدث عن إسماعيل - عليه السلام - فيقول: )واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55)( (مريم).

وقال على لسان المسيح عيسى - عليه السلام - وهو في المهد: )وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31)( (مريم). وقال في أهل الكتاب عامة: )وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (5)( (البينة).

وإذا نظرنا إلى أسفار التوراة والإنجيل "العهد القديم والعهد الجديد" التي بين أيدينا الآن - مع اعترافنا بتحريفها وتغييرها - نجدها تشتمل على كثير من الوصايا والتوجيهات الخاصة بالعطف على الفقراء والمساكين، والبر بالأرامل واليتامى والضعفاء.

ففي التوراة نقرأ ما نصه: "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضا يصرخ ولا يستجاب له، الهدية في الخفاء تفثأ [13] الغضب". (الأمثال21: 13، 14). وكذلك نقرأ في الإنجيل: "بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة". (لوقا 12: 33)[14].

لقد استدل مثيرو هذه الشبهة بما لاحظوه من تشابه بين ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من زكاة، وبين ما وجد في الأديان السماوية السابقة من اليهودية والمسيحية من الدعوة إلى مساعدة الفقراء والمساكين وإعطاء الصدقة لمن يستحقها.. وهي أمور لا تختلف عما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم - في رأيهم - استدلوا بذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقى تشريعه للزكاة من اليهودية والمسيحية، وطبق ما استقاه على المسلمين، ومن ثم فإنه لم يأت بجديد في هذا الصدد.

إن دعوتهم هذه باطلة من وجهين:

أولها: ليس ثمة أدنى غضاضة في أن يتفق الإسلام وما سبقه من كتب سماوية في الدعوة إلى تشريع معين؛ وذلك لأن الأديان جميعها صدرت من مشكاة واحدة.

ثانيها: أن النماذج التي نقلناها منذ قليل عن دعوة التوراة والإنجيل إلى الصدقة - لا تعدو كونها مجرد دعوة إلى التصدق الفردي الذي لم يتمتع بدرجة عالية من التفصيل بالإيجاب والإلزام.

فهناك فروق أساسية بين الزكاة في الإسلام، وبين ما دعت إليه الأديان السابقة من بر وإحسان إلى الفقراء والضعفاء، وقد ذكر د. يوسف القرضاوي هذه الفروق، على النحو الآتي وهي عشرة:

  1. إن الزكاة الإسلامية سلم تكن مجرد عمل طيب من أعمال البر، وخلة حسنة من خلال الخير، بل هي ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته الأربع، يوصم بالفسق من منعها، ويحكم بالكفر على من أنكر وجوبها، فليست إحسانا اختياريا ولا صدقة تطوعية، وإنما هي فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي.
  2. إنها في نظر الإسلام حق للفقراء في أموال الأغنياء، وهو حق قرره مالك المال الحقيقي وهو الله تعالى، وفرضه على من استخلفهم من عباده فيه، وجعلهم خزانا له، فليس فيها معنى من معاني التفضل والامتنان من الغني على الفقير؛ إذ لا منة لأمين الصندوق إذا أمره صاحب المال بصرف جزء من ماله على عياله.
  3. إنها "حق معلوم" قدر الشرع الإسلامي نصبه ومقاديره وحدوده وشروطه، ووقت أدائه وطريقة أدائه؛ حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ومعرفة بما يجب عليه، وكم يجب؟ ومتى يجب؟ ولـمن يجب؟
  4. هذا الحق لم يوكل لضمائر الأفراد وحدها، وإنما حملت الدولة المسلمة مسئولية جبايتها بالعدل وتوزيعها بالحق، وذلك بواسطة العاملين عليها، فهي ضريبة تؤخذ وليست تبرعا يمنح؛ ولهذا كان تعبير القرآن الكريم: )خذ من أموالهم صدقة( (التوبة: ١٠٣)، وتعبير السنة: «أنها تؤخذ من أغنيائهم» [15].
  5. إن من حق الدولة أن تؤدب - بما تراه من العقوبات المناسبة - كل من يمتنع عن أداء هذه الفريضة، وقد يصل هذا إلى حد مصادرة نصف المال، كما في حديث: «إنا آخذوها وشطر ماله» [16].
  6. إن أي فئة ذات شوكة تتمرد على أداء هذه الفريضة؛ فإن من حق إمام المسلمين - بل من واجبه - أن يقاتلهم ويعلن عليهم الحرب، حتى يؤدوا حق الله وحق الفقراء في أموالهم، وهذا ما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وما طبقه الخليفة الأول أبو بكر الصديق ومن معه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
  7. إن الفرد المسلم مطالب بأداء هذه الفريضة العظيمة وإقامة هذا الركن الأساسي في الإسلام، وإن فرطت الدولة في المطالبة بها، أو تقاعس المجتمع عن رعايتها، فإنها - قبل كل شيء - عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، ويزكي بها نفسه وماله، فإن لم يطالبه بها السلطان، طالبه بها الإيمان والقرآن. وعليه - ديانة - أن يعرف من أحكام الزكاة ما يمكنه من أدائها على الوجه المشروع المطلوب.
  8. إن حصيلة الزكاة لم تترك لأهواء الحكام، ولا لتسلط رجال الكهنوت - كما كان الحال في اليهودية - ولا لمطامع الطامعين من غير المستحقين تنفقها كيف تشاء، بل حدد الإسلام مصارفها ومستحقيها كما في آية: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، وكما فصلت ذلك السنة بدقة ووضوح، فقد عرف البشر من تجاربهم أن المهم ليس هو جباية المال، إنما المهم هو أين يصرف؟ ولذلك أعلن - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يحل له ولآله منها شيء، وإنما تؤخذ من أغنياء كل إقليم لترد على فقرائه، فهي منهم وإليهم.
  9. إن هذه الزكاة لم تكن مجرد معونة وقتية لسد حاجة عاجلة للفقير وتخفيف شيء من بؤسه ثم تركه بعد ذلك لأنياب الفقر والفاقة؛ بل كان هدفها القضاء على الفقر وإغناء الفقراء إغناء دائما، يستأصل شأفة العوز[17] من حياتهم، ويقدرهم على أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة؛ وذلك لأنها فريضة دورية منتظمة دائمة الموارد، ومهمتها أن تيسر للفقير قواما من العيش، لا لقيمات أو دريهمات.
  10. إن الزكاة - بالنظر إلى مصارفها التي حددها القرآن وفصلتها السنة - قد عملت على تحقيق عدة أهداف روحية وأخلاقية واجتماعية وسياسية؛ ولهذا تصرف على المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله، فهي أوسع مدى، وأبعد أهدافا من الزكاة في الأديان الأخرى.

وبهذه المميزات يتضح لنا أن الزكاة في الإسلام نظام جديد متميز يغاير ما جاءت به الديانات السابقة؛ من وصايا ومواعظ ترغب في البر والإحسان، وتحذر من البخل والإمساك، كما أنها شيء آخر يخالف الضرائب والمكوس التي كان يجبيها الملوك والأباطرة. وكانت كثيرا ما تؤخذ من الفقراء لترد على الأغنياء، وتنفق على أبهة الحاكمين وترفهم وإرضاء أقاربهم وأنصارهم وحماية سلطانهم من الزوال[18].

وعليه فليس من المقبول ولا من المعقول أن يستقي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوحي إليه قرآن كريم وسنة نبوية، جاءا بكل ما يتعلق بالزكاة من الحث عليها وبيان مصارفها وعقوبة مانعها - شريعة الزكاة ممن كانت الزكاة عندهم مجرد وصايا غير ملزمة.

الخلاصة:

  • ساد المجتمع المكي قبيل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - تفاوت طبقي واضح، زاد الغني غنى وبطرا، والفقير فقرا وحرمانا، وقد أدت زيادة هذا التفاوت إلى ظهور فئة المرابين، وعلى الرغم من وجود مثل هذه الأحوال فإن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة سنة اثنتين من الهجرة، وإن كان الهدف مساعدة الفقراء لكي لا يكون المال دولة بين الأغنياء، فهو هدف نبيل يحسب للإسلام وليس عليه، )ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام).
  • لم تفرض الزكاة - بوصفها الركن الثالث من أركان الإسلام - إلا في المدينة، في السنة الثانية من الهجرة على المشهور من أقوال الفقهاء، أما الزكاة في مكة فقد كانت زكاة مطلقة من القيود والحدود، وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد وأريحيتهم، فهل يصح بعد هذا أن يدعي مدع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضها في مكة رأفة بفقرائها المعذبين؟!
  • لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فرضه للزكاة إلا متابعا لما جاء في القرآن عنها، ولم تكن أحاديثه التي فصلت ما أجملته آيات القرآن في شأن هذا الركن إلا بوحي من الله - عز وجل - فليس صحيحا إذن أن يزعم زاعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضها من عند نفسه.
  • لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستخدم عقيدة اليوم الآخر وسيلة يجبر بها الأغنياء على دفع الزكاة للفقراء؛ وذلك لأن حديثه عن اليوم الآخر ما كان إلا بوحي من الله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم)، وهو حديث صدق لا ينكره إلا جاحد لا يفهم حكمة الله - عز وجل - وعدله، ومن يظن أنه خلق عبثا.
  • إن الواقف على المقاصد العديدة التي أتى من أجلها تشريع الزكاة من جانب، والمستقرئ لآثار هذا التشريع الإسلامي في المجتمع المسلم مقارنة بما كان عليه قبل هذا التشريع من جانب آخرـ ليوقن بما لا يدع مجالا للشك - أن الزكاة تشريع رباني لا دخل لبشر فيها، نبيا كان أو غير نبي.
  • وردت شريعة الزكاة في الكتب السماوية التي سبقت نزول القرآن، ونادى بها جل الرسل، إلا أن ذكرها في التوراة والإنجيل لم يتعد كونه مجرد دعوة إلى التصدق الفردي الذي لم يتمتع بدرجة عالية من الإيجاب والإلزام، أما القرآن والسنة النبوية المطهرة فقد تحدثا عن كل ما يتعلق بها، وثمة فوارق كثيرة بين الزكاة في التوراة والإنجيل، وبين الزكاة في القرآن والسنة، وكلها فوارق تؤكد تفرد الرسالة الخاتمة بكمال أنظمتها، وتفصيل كل شيء فيها بما يناسب كونها عالمية خاتمة مهيمنة على جميع الرسالات قبلها، ولذلك جاء نظام الزكاة فيها متكاملا مفصلا شاملا كل ما يخصها من مقدارها ونصبها وحدودها وشروطها، ووقت أدائها وطريقة أدائها، ومصارفها، فأين هذا النظام الشامل الكامل المتكامل الذي لم يترك لمن خلفه لبسا أو غموضا من مجرد أقوال تحث الفرد على التصدق الفردي الذي لم يتصف بالإلزام والوجوب؟!

 

 

 

(*) الإسلام في تصورات الغرب, د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، القاهرة، 1407هـ/ 1987م. الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه, د. محمد الدسوقي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م.

[1]. عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم, د. نبيل لوقا بباوي، دار البباوي للنشر، القاهرة، 2007م، ص175.

[2]. محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  المثل الكامل, أحمد جاد المولى، مكتبة دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص63: 66 بتصرف.

[3]. محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  المثل الكامل, أحمد جاد المولى، مكتبة دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص67.

[4]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما (23894)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الدليل على أن الأمر بصدقة الفطر كان قبل فرض زكاة الأموال (2394)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد (23894).

[5]. فقه الزكاة, د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص70، 71 بتصرف.

[6]. النصب: جمع النصاب، وهو المقدار الذي تجب عنده الزكاة.

[7]. فقه الزكاة, د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص60: 62 بتصرف.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (8)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (122)، واللفظ للبخاري.

[9]. أصول التشريع الإسلامي, الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طبعة خاصة، ص32: 34 بتصرف.

[10]. الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص85.

[11]. فقه الزكاة, د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص1120، 1121.

[12]. محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  المثل الكامل, أحمد جاد المولى، مكتبة دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص241، 242.

[13]. تفثأ: تكسر وتذهب.

[14]. فقه الزكاة, د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص48: 50 بتصرف.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1331)، وفي مواضع أخرى.

[16]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم (20053)، وأبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة (1577)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1393).

[17]. العوز: الحاجة.

[18]. فقه الزكاة, د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص86: 88.

 

  • السبت AM 01:31
    2020-09-19
  • 1597
Powered by: GateGold