المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409030
يتصفح الموقع حاليا : 312

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غدر بأهل الكتاب

                         الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غدر بأهل الكتاب(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنكر لأهل الكتاب، وغير معاملته لهم تبعا لظروفه, ويستدلون على ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ أمره مسالما إياهم, فلما رأ من نفسه القوة تنكر لهم، وانقلب إلى طاغية يطاردهم ويشردهم، ويمثلون لذلك بما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود. وهم بذلك يشككون في علاقته - صلى الله عليه وسلم - بأهل الكتاب ومدى تسامحه معهم,ويرمون من وراء ذلك إلي وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالغدر والخيانة.

وجها إبطال الشبهة:

1)    كانت العلاقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكتاب قائمة على التسامح والعدالة والبر، وهذه العلاقة لم تتبدل في أي مرحلة من مراحل حياته صلى الله عليه وسلم, على الرغم من رفضهم له ولدينه.

2)    لم يكن النزاع القائم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - واليهود بسبب كونهم يهودا مخالفين له في الدين، وإنما كان بسبب غدرهم وخيانتهم، وموالاة الكفار ضد المسلمين, ومحاولات قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - التي دبروها وعصمه الله منها.

التفصيل:

أولا. العلاقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكتاب قائمة على التسامح والعدل والبر:

بداية نقول: إن البشرية لم تشهد دعوة قامت على التسامح مع الخصوم مثل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إنسانا تسامح مع أعدائه مثل محمد صلى الله عليه وسلم, ولا دينا تسامح مع الأديان الأخرى مثلما تسامح دين الإسلام.

ولا عجب في ذلك فقد أرسل الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، وعرفه مهمته بأنه مكلف بالبلاغ وحسب، يقول عز وجل: )ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3)( (طه) وأفهمه أنه لا يقتاد الناس إلى الإسلام قسرا: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس).

ومن ثم اتسمت دعوته - صلى الله عليه وسلم - بالتسامح والعفو وحسن المعاملة حتى مع أعدائه الألداء من المشركين عباد الأوثان، فما بالنا بمعاملته لأهل الكتاب من اليهود والنصارى وهم أهل كتب سماوية، ولهم صلة بالأنبياء قوية؟!

إن السيرة النبوية مليئة بالشواهد والأدلة على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الكتاب، وهذا التسامح لم يحد عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - طوال مراحل دعوته، وتعامله معهم, سواء في المرحلة المكية أو في المرحلة المدنية, حتى في أحلك الظروف واشتداد عداوتهم له، وتصديهم لدعوته.

الأدلة على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود:

  1. لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، لم يكن وصوله إليها خلودا للراحة، ولا فرارا من قومه؛ وإنما ليكمل رحلة شاقة بدأها في مكة، ومنذ أن وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة رأى أن اليهود أهل كتاب، وأن كتابهم غير المحرف فيه صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفونه بسببها، لا تخطئهم فيه صفة من هذه الصفات، ولقد وصلوا بمعرفتهم تلك إلى حد اليقين في قلوبهم، كما أخبر الله - عز وجل - عنهم أنهم: )يعرفونه كما يعرفون أبناءهم( (الأنعام: ٢٠).

لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود أهل كتاب، ولهم بالأنبياء صلة، وصفته في التوراة عندهم، وهم يعرفون نبوته وقد بشروا بها قبل مجيئه.

ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود على هذا النحو كانت عاملا مساعدا له، كي يعرض عليهم أول ما يعرض أن يدخلوا معه في دينه.

والعقل يحتمل أن اليهود لن يرفضوا هذا العرض، لمعرفتهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة؛ ولأنهم مأمورون باتباعه في كتبهم المقدسة، وموروثات نبيهم موسى عليه السلام, ولأنهم كانوا ينتظرون على شوق مجيئه حتى يتبعوه، فينجبر به كسرهم، ويكتسبوا به عزتهم وشرفهم، وينتصروا به على عدوهم - كما يتصورون - من جهات أخرى.

غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرض عليهم أن يؤمنوا به وبنبوته، ثم يتبعوه على ما جاء به من ربه، رفضوا ذلك على غير قناعة، بل رفضوه على أساس الحسد الذي قد ملأ قلوبهم، وزاد عن حشو إهابهم.

لقد رفض اليهود عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم أن يؤمنوا، وأثر ذلك في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - كعادته، يحزن على كل إنسان ينصرف عن الحق، ويعرض عن الإيمان.

غير أن الله قد شرح للنبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة اليهود، وواساه حتى لا يحزن ولا يشتد على نفسه، وبين له أن اليهود لن ترضى عنه إلا أن يتبع ملتهم، وهو أمر غير وارد.

استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة إيمان اليهود تلك، ولكنه لم يستبعد أن يؤمن بعضهم، ورأى أن إيمان بعضهم ربما يكون سببا في إيمان آخرين ينجيهم الله من النار، ويذهب بهم الإيمان بعيدا عن الجحيم.

واحتمالات النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن هباء؛ إذ شرح الله صدور بعض اليهود، فدخلوا معه في دينه[1].

ومن هؤلاء اليهود الذين أسلموا: الحصين بن سلام، والذي سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن سلام، ولكن إسلامه لم يكن قاعدة سار عليها اليهود، بل يعد من شواذ الأحداث الاجتماعية في عرف اليهود؛ إذ ذهبوا بجملتهم إلى رفض دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسدا من عند أنفسهم.

وعلى الرغم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلق على إيمان اليهود كبير أمل، إلا أنه لم يلجأ إلى التصادم معهم، بل بدأ مفاوضتهم على أساس آخر قد يصلح لهم وله، وهذا الأساس هو أساس المواطنة يتخذها الطرفان أساسا ليبنوا عليها معاهدة سلام يلتزم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من جهة، ويخضع لها اليهود من جهة أخرى.

ولـم لا، والمسلمون واليهود يسكنون يثرب، ويعيشون على أرضها، والمعايشة تستحق الاشتراك والتعاون في الدفاع عن هذه الأرض، ورد كل غائلة[2] عنها؟

ولقد بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمفاتحة أبناء يهود في أن يدخلوا معا في معاهدة سلام يحترمونها جميعا، بعد توقيعها، حتى يتمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بناء دولته التي تضم شعبا متحد الأهداف على أرض واضحة المعالم، تحت سماء نقية طاهرة، لا يزعجها شيء ولا يقلقها خطر[3].

ومن ثم فقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود في عهد ملزم، وبنود يجب أن يخضع لها الجميع, ومن أهم هذه البنود:

  • أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ[4] إلا نفسه وأهل بيته.
  • أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل الصحيفة.

والمتأمل في هذه الوثيقة يجد أنها تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة[5]، وتلك هي طبيعتهم دائما في كل عصر ومصر، ألم يقل الله عنهم: )ينقضون عهدهم في كل مرة( (الأنفال: 56)؟!!

  1. ومن أكبر الأدلة على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود: التزامه بمعاهدة السلام التي كانت بين المسلمين واليهود، على الرغم من استفزازات اليهود الكثيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين ومن هذه الاستفزازات:
  • محاولة إحراج النبي صلى الله عليه وسلم:

وذلك بالسؤال عن أشياء يظنون أنه لا يستطيع أن يجيب عنها، فيفقد بذلك مصداقيته، وقد أجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما سألوه، ورغم شهادتهم بصدقه إلا أنهم لم يؤمنوا به، ومن ذلك سؤالهم عن الروح فنزل الوحي يقول: )قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء). وقد فاجأ اليهود هذه الإجابة، فتلاوموا فيما بينهم، حتى قال فريق لفريق: ألم نقل لكم لا تسألوه؟

  • التطاول على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعدي على الذات الإلهية:

ومن ذلك ما روته كتب السير وتابعتها في ذلك كتب الأحاديث الصحاح, ومن ذلك أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ذهب في شراء سلعة من سوق اليهود، وسأل اليهودي عن ثمنها، فقال اليهودي لأبي بكر مستفزا له: والذي اصطفى موسى على العالمين إن هذه السلعة ثمنها كذا، ولما رأى أبو بكر أن اليهودي قد عمد إلى استفزازه، صفعه على وجهه، فانطلق اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو صاحبه إليه، وقد امتص النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب المسلمين، وحافظ على وحدة المجتمع بقوله ناصحا: «لا تخيروني على موسى» [6] [7].

وفي بعض ما روته كتب السير أن آحاد اليهود لم يقدروا على ضبط انفعالاتهم, فأخذوا يتطاولون حتى على الذات الإلهية، ومن ذلك ما قاله فنحاص اليهودي لأبي بكر، حينما أراد أبو بكر أن يرغبه في الإسلام, فرغبه ورهبه حين يقبل على ربه يوم القيامة، فقال له فنحاص: إنا عن ربك لفي غنى، وإنه إلينا لمحتاج، وإن صاحبكم ليحرم عليكم الربا ويعرضه علينا. ولم يطق أبو بكر سماع كلامه، فرد عليه بما يكافئ قوله: "والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك" [8].

  • تهديد المسلمين بنقض المعاهدة ومحاربتهم:

لم تؤت استفزازات اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة - رضي الله عنهم - ثمارها، وذلك لسعة صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصل اليهود في الاستفزاز إلى منتهاه، وذلك حين نصحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة بدر، وطلب إليهم أن يكفوا عن استفزازاتهم، وإلا فعل الله بهم ما فعل بالمشركين يوم بدر، فقالوا له: لا يغرنك يا محمد أنك قابلت أناسا لا بصر لهم بالحرب، وانتصرت عليهم، فوالله لو قابلتنا لتعلمن أنا نحن الناس.

عجيب حقا والله أن يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام من أناس تربطه وإياهم معاهدة سلام، غير أنها أخلاق اليهود وكفى[9].

لم يكتف اليهود بإيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بألسنتهم، بل حاولوا إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في جسده، وكان أول ما آذوه به أنهم قد سحروا له، وأوكلوا أمر سحره إلى لبيد بن الأعصم، وقد بين الله له ما صنع اليهود به، كما بين له مكان السحر وكيفية استخراجه، ومع ذلك لم يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرب عليهم.

نقول: إن كل هذه الاستفزازات من قبل اليهود على الرغم من المعاهدة القائمة بينهم وبين المسلمين، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجزم بأن اليهود قد خرجوا من معاهدة السلام بهذه الاستفزازات؛ إذ هو يحتمل أن تكون هذه الاستفزازات قد صدرت عن آحاد من اليهود، وهي لا تعبر عن رأي جماعتهم.

وصفوة القول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في هذه الاستفزازات قرائن تدل على أن اليهود يرغبون في الخروج من معاهدة السلام معه، ولكنها لا تصل إلى حد الدليل، والشأن في النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يبني قرارا على قرينة، ولا تصرفا على احتمال[10]، وفي هذا قمة العدل والتسامح مع اليهود، والذي لم يحدث مثله من رجل قادر على أن يبادل أعداءه العداوة ويكيل لهم الصاع صاعين من العقاب.

  1. ومن المواقف الأخرى الدالة على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود: عفوه عنهم بعد محاولتهم قتله، فقد روت كتب السيرة أن اليهود قد اجتمعوا يبحثون عن طريقة يتخلصون بها من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ما رسموه هو أنهم قالوا: نرسل إلى محمد نقول له: قد حيرنا أمرك، ولا نعرف وجه الحق فيه، ونقترح أن تقبل في ثلاثين رجلا من رجالك, ونرسل إليك بثلاثين من رجالنا ممن لهم بصر بالدين والعلم، فتشرفون معا على ربوة لا يقترب منكم أحد، وتديرون المسائل وتتناقشون في الأمور حتى يظهر وجه الحق، فإن ظهر الحق عندك اتبعناك.

لقد انتهى اليهود من خطتهم تلك في يومهم الذي اجتمعوا فيه، وهم ينوون أن يرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثين رجلا بينهم من يخفي سلاحه في طي ملابسه، فينال به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيانة وغيلة، ووافق النبي حين وصله طلب اليهود، وأقبل في ثلاثين من قومه، غير أن اليهود قد تدارسوا الأمر مرة أخرى، وقال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إلى الرجل وهو في ثلاثين من قومه كل واحد منهم يريد أن يموت قبله؟ عاودوه في الأمر، وقولوا له يخرج إلينا في ثلاثة من أصحابه، ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا، فيسمعون منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك.

واستجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بلغته رسالة اليهود، فخرج إليهم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر، وأرادوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار, فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة[11].

وعلى الرغم من أن هذه المحاولة لم تكن الأولى ولا الأخيرة، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبهم على ذلك بسبب حسن خلقه الذي يقتضيه ألا يأخذ بالظنة، ولا يعاقب أحدا بالاحتمال.

  1. دفاع الله عن يهودي اتهم زورا: فقد حدث في المدينة أن رجلا مسلما يدعى "طعمة بن أبيرق" سطا على أهل بيت من المسلمين، وسرق منهم درعا، ثم خبأها عند يهودي. وبحث أصحاب الدرع عنها فوجدوها في بيت اليهودي، فاتهموه بأنه سارقها، وتضافرت كل القرائن على اتهامه، فطعمة يحلف أنه ما أخذ الدرع ولا استودعها أحدا، ويؤكد اليهودي أنه أخذها من طعمة وديعة.

وقد ذهب قوم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه أن ينتصر للحق الذي في جانب المسلم، وأن يأخذ اليهودي بالعقاب ويقتص منه، كما جاء قوم طعمة يجادلون عن صاحبهم ويبرئونه.

فإذا بالوحي ينزل كاشفا الغطاء عن الحقيقة، مبرئا ساحة اليهودي، دامغا خصمه بأنه خائن أثيم - وإن تظاهر بالإسلام - مؤنبا قومه لجدالهم، وسعيهم لدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كي يجادل عنه كذلك، فنزلت الآيات الكريمة بخطاب الرسول: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء), وبين القرآن الحقيقة قائلا: )ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112)( (النساء)[12].

أرأيت كيف أنصف الإسلام اليهودي البريء، وفضح المسلم المذنب؟! هذه قمة التسامح وقمة العدل الذي جاءت به دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

  1. لم تقتصر هذه المعاملة الحسنة لليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم, بل غرسها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، فقد حدث أن يهود خيبر أرادوا رشوة عبد الله بن رواحة، ليقلل ما يأخذه من خراج أرضهم على حسب الصلح الذي تم بينهم وبين المسلمين، فقال عبد الله: «يا أعداء الله، تطعموني السحت؟[13] والله جئتكم من أحب الناس إلي - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم على العدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض»[14] [15].

هذه بعض الأدلة من السيرة النبوية المطهرة الدالة دلالة واضحة على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الكتاب من اليهود على الرغم من عداوتهم له ولدعوته.

أما بالنسبة لتسامحه - صلى الله عليه وسلم - مع النصارى فيكفينا هنا هذان الشاهدان:

  1. قصة فارس والروم:

فقد حدث قبل الهجرة أن تحاربت فارس والروم، فغلبت فارس الروم، ففرح بذلك المشركون، وكانوا يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أصحاب أوثان مثلهم، وساء ذلك المسلمين؛ لأنهم كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، ولقي المشركون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب, ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله عز وجل: )الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7)( (الروم).

فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الكفار، فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟! فلا تفرحوا، ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

فقام إليه أبي بن خلف، فقال: كذبت يا أبا فصيل[16]، فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: أناحبك[17] عشر قلائص[18] مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين، فرجع الصديق أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر[19] وماده في الأجل"، فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال له: لعلك ندمت؟ فقال الصديق: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت[20].

فظهرت الروم على فارس قبل التسع، ففرح بذلك المسلمون؛ لأن الواقع جاء على ما أخبر به القرآن، وصدقت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصر الله الروم أهل الكتاب على الفرس المجوس[21].

هذا هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من النصارى، ولنتأمل كلمة أبي بكر: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟

نعم, إنها نظرة الأخوة!!

  1. أما الموقف الآخر الدال على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع النصارى، فهو موقفه من نصارى نجران:

نجران: بلد كبير على بعد سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا يدينون بالنصرانية.

وكانت وفادة أهل نجران سنة 9هـ، وقوام الوفد ستون رجلا منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران. أحدهم: العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة، واسمه عبد المسيح. والثاني: السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية، واسمه الأيهم أو شرحبيل. والثالث: الأسقف، وكانت إليه الزعامة الدينية والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة.

ولما نزل الوفد بالمدينة ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك حتى نزل عليه: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61)( (آل عمران).

ولما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بقوله في عيسى ابن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا أن يقروا بما قال في عيسى. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة[22] [23].

وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة، وقال: "وإذا أنا دعوت فأمنوا"، فائتمروا فيما بينهم، فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقا، وأنه ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه، وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة[24]، ألف في رجب، وألف في صفر، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد، واشترط عليهم ألا يتعاملوا بالربا، وأمنهم على أنفسهم ودينهم وأموالهم وكتب لهم كتابا جاء فيه: "ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم[25]، لا يغير أسقف على سقيف، ولا راهب عن رهبانيته، ولا واقف عن وقفانيته". وأشهد على ذلك بعض المسلمين، ثم رجعوا إلى بلادهم, فلم يلبث العاقب والسيد إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلما، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري، وأقام أهل نجران على ذلك حتى توفى الله نبيه[26].

هذه هي معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكتاب اليهود منهم والنصارى، معاملة قامت على العفو والتسامح والإحسان، ولا يمكن لمنصف أن يزعم أن هذه المعاملة قد تغيرت من مرحلة إلى أخرى؛ لأن هذا الزعم لا يقوم على أي دليل أو حجة تستند إلى الواقع، بل هو مجرد خيال قائم في ذهن أصحابه تخالفه شواهد التاريخ وأدلة الواقع.

ثانيا. لم يكن النزاع القائم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - واليهود بسبب كونهم يهودا مخالفين له في الدين:

ليس صحيحا ما يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تنكر لأهل الكتاب بعد أن قويت شوكة الإسلام في المدينة، وقامت دولته, فأصبح يطاردهم ويشردهم، ويحرض على قتالهم؛ لأن ما ذكرناه سابقا من أدلة على تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم منذ بداية دعوته حتى توفاه الله تدحض هذا الزعم من أساسه، وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر كما تقولون من أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يغير سياسته مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فلماذا حارب اليهود وطردهم من ديارهم وقتل سادتهم واستباح دماء بني قريظة؟!

وإننا نرد على هذا السائل بأن الأمر ليس كما تظن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين فعل ذلك مع اليهود، لم يكن بسبب كونهم يهودا مخالفين له في الدين، بل بسبب نقضهم للعهود وغدرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وخوضهم في أعراض المسلمين، ومحاولاتهم المستمرة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وموالاتهم الكفار ضد المسلمين، وإننا لو أردنا أن نتتبع جرائم اليهود التي استحقوا بها ما حل بهم من عذاب وعقاب على أيدي المسلمين، لما سمح المجال، ولكننا نكتفي بأقل القليل من هذه الجرائم التي لا يمكن العفو عن مرتكبيها بحال من الأحوال، وقد سبق أن تحدثنا عن بعض استفزازات اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين, وعلى الرغم من أنها من الأمور التي يستحقون عليها أشد العقاب، إلا أن حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم ـوسعة صدره معهم قد حالت بينهم وبين هذا العقاب، ولكن هناك من الأمور التي لا يمكن لحليم أن يتجاوز عنها، والتي ارتكبها اليهود مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين والتي واجهها النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بالحزم منها:

  1. ما حدث من بني قينقاع:

لقد سبق الحديث عما دار بين يهود بني قينقاع والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر، وقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ابن هشام في سيرته: "لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس".

وعلى الرغم من هذه المقولة التي يعلن فيها اليهود الحرب على المسلمين إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت إليها، لحرصه على السلام وأمن المجتمع، ولكن الشيء الذي لا يمكن أن يتهاون فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو اعتداؤهم على عرض إحدى المسلمات، فقد روى ابن هشام: أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشد اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع[27].

ومن ثم فإن القشة التي قصمت ظهر البعير هي حادثة المرأة المسلمة التي راودها اليهود عن كشف وجهها فأبت، ولم يكن مقتل المسلم أمرا فرديا، فلقد كان تمالؤا عاما من اليهود وإعلانا بنبذ العهد منهم، فلو كان حادثا فرديا لأمكن معالجته وقتل القاتل، ولكن الملأ من يهود هم الذين اجترؤوا وقتلوا، فأنزل الله عز وجل: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال).

فاحتمال الغدر منهم قائم كل لحظة، ولئن سكت المسلمون على هذه الجريمة، فهذا يعني أنهم ضعاف، وبالتالي فهم معرضون للغزو في كل لحظة، فلم يكن هناك خيار من المعركة، فلهذا حاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيوتهم، وحصونهم, وقد انتهى هذا الحصار بإجلائهم عن المدينة[28].

  1. ما حدث من يهود بني النضير:

وكان يهود بني النضير ممن عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ووادعهم على أن يأمن كل فريق الآخر، لكنهم لم يفوا بالعهد وهموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أن عمرو بن أمية الضمري الذي نجا من سرية القراء, لقي أثناء رجوعه إلى المدينة رجلين من بني عامر، فقتلهما وهو يظن أنه أصاب بذلك بعض الثأر من بني عامر، الذين غدروا بهم، ولم يشعر بعهدهما الذي لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت رجلين لأدينهما".[29] وكان بين بني عامر وبني النضير عهد وحلف.

فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية الرجلين في جماعة من صحابته منهم أبوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم, فلما جاءهم أظهروا له حسن الاستعداد لإجابته، ثم خلا بعضهم إلى بعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا إلى جنب جدار لهم - فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك الشقي عمرو بن جحاش فقال: أنا لذلك.

فصعد ليلقي الصخرة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قاموا في طلبه حتى انتهوا إليه بالمدينة، فأخبرهم بما كانت اليهود اعتزمته من الغدر بهم.

فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة إليهم يطلب منهم الخروج من جواره بالمدينة، وأمهلهم عشرة أيام وإلا حاق بهم الهلاك, فأيقنوا أن الله أطلعه على ما أرادوا، وصاروا متحيرين لا يدرون ما يفعلون، وبينما هم في حيرتهم وترددهم جاءهم رسل أهل النفاق ابن أبي وأتباعه، فقالوا لهم: اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمي حيي بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود؛ لذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم وقتالهم، وحاصرهم ست ليال، وقيل: خمس عشرة ليلة، وقاتلوهم، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع نخيلهم وتحريقها ليكون ذلك أدعى إلى تسليمهم، وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبي وجماعته، وخذلهم كما خذل بني قينقاع من قبل، فملأ الرعب قلوب اليهود واشتد الحصار عليهم، فسألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجلاء وتأمينهم على دمائهم ومتاعهم.

وبإجلاء بني النضير أراح الله المسلمين من شوكة ثانية، كانت تقض مضاجعهم[30].

  1. ما حدث من يهود بني قريظة:

استطاع حيي بن أخطب - زعيم اليهود - في جماعة من بني النضير أن يؤلب العرب على محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حتى كانت غزوة الخندق، وقد سعى إلى بني قريظة - والمشركون يحاصرون المدينة - أن ينقضوا ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نجح في ذلك حتى اشتد الكرب على المسلمين، وأصبحوا بين نارين: نار المشركين ونار اليهود، حتى اضطر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرسل بعض المسلمين لحراسة الذراري والنساء من غدر اليهود، بعد أن نقضوا العهد.

وبعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق، تفرغ لبني قريظة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديا ينادي في الناس: «ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» [31], فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى اشتد بهم الحال، ولم ير بنو قريظة فائدة من تحصنهم، وأنهم لا ناصر لهم من دون الله، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم رجلا من حلفائهم من الأوس، وهو سعد بن معاذ، فحكم بأن يقتل الرجال، وتسبى النساء والذرية [32].

وبالقضاء على بني قريظة تخلص المسلمون بالمدينة من آخر شوكة في ظهورهم، وأصبحت المدينة كلها - ما عدا المنافقين - على قلب رجل واحد موئلا للإسلام، وحصنه الحصين[33].

  1. ما حدث من يهود خيبر:

لئن كانت المدينة قد تطهرت من اليهود وغدرهم فها هي خيبر، لا تزال حصنا حصينا لليهود وأهلها، ومن نزح إليها من يهود بني النضير الذين يحملون الحقد والضغن على الإسلام والمسلمين، وغير بعيد عنا ما قام به زعماء بني النضير الذين اتخذوا خيبر مقاما لهم، من تأليب العرب على المسلمين في الخندق، وحملهم بني قريظة على نقض العهود التي كانت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم نجد أن خيبر أصبحت مركزا لتجمعات اليهود يقومون منها بما يريدون من غدر ومكايد.

ولئن كان المسلمون بعد فتح الحديبية قد أمنوا قريشا والجنوب، لكنهم لم يأمنوا ناحية الشمال، ولا سيما أهل خيبر الذين لا ينسون ما فعل بإخوانهم اليهود، وليس ببعيد أن يستعينوا بهرقل أو كسرى في النيل من المسلمين، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو السياسي المحنك - ليخفى عليه شيء من هذا؛ لذلك لم يكد يرجع من الحديبية ويستريح بالمدينة شهرا أو نحوه حتى أمر بالتجهز للخروج إلى خيبر.

وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مطلع عام سبع من الهجرة في جيش تعداده ألف وستمائة ومعهم مائتا فرس، وقد كانت يهود خيبر من أشد الطوائف اليهودية بأسا، وأكثرها مالا، وأوفرها سلاحا.

وقد استطاع المسلمون أن يستولوا على حصون اليهود حصنا بعد حصن، فاستولى اليأس على اليهود، فطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلح على أن يحقن دماءهم، فقبل الرءوف الرحيم، وصارت أرضهم لله ولرسوله وللمسلمين، فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إجلاءهم سألوه أن يقرهم على أن يعملوا في الأرض ولهم نصف التمر فقال لهم: «نقركم على ذلك ما شئنا» [34].

وقد كان من إحسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملة يهود خيبر أنه كان من بين ما غنم المسلمون منهم عدة صحف من التوراة, فطلب اليهود ردها, فأمر بتسليمها إليهم, ولم يصنع - صلى الله عليه وسلم - ما صنع الرومان حينما فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم, ولا ما صنع النصاري في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة[35].

ما ذكرناه آنفا هو بعض من جرائم اليهود التي ارتكبوها، واستحقوا بسببها ما نزل بهم من عقاب على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وما ذكرناه من هذه الجرائم هو جرائم جماعية اشترك فيها جموع غفيرة من اليهود، ولو أردنا أن نتتبع جرائمهم الفردية لطال بنا المقام.

ومن ثم لم يكن النزاع القائم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود نابعا من فراغ، بل كان اليهود دائما هم الذين يؤججون نار العداوة بينهم وبين النبي فكان لا بد أن يبادلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عداء بعداء كما بادلهم سلما بسلم.

هذا بالنسبة لليهود، أما بالنسبة للنصارى، فلم يكن لهم تجمعات تذكر في جزيرة العرب إلا في نجران، وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملتهم وبيعهم، ولم يصدر منهم أي بادرة عداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لدعوته، بل حافظوا على العهد، ودفع الجزية، فبادلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سلاما بسلام.

وهكذا يتضح لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغير سياسته مع أهل الكتاب، ولم يتنكر لهم كما يزعم الزاعمون، بل حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون العلاقة معهم قائمة على التسامح، والعفو، والتعاون المشترك، ولم يبادل عداوة اليهود بعداوة، إلا بعد أن نقضوا عهودهم، وأعلنوا الحرب على الإسلام، وعاونوا المشركين على محاربة المسلمين، وأرادوا استئصال شأفة المسلمين، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان لا بد أن يقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ضدهم هذا الموقف الحازم، الذي لم يخرج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا المسلمون عن مبدأ العدل، هذا الموقف الحازم الذي كان لا بد أن يتخذه؛ "لأن إدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، أمر يشق على النفوس, بل يتعذر على كثير من الناس أن يفعلوه، وربما جرأ الفجرة الأشرار على الصالحين الأخيار، وقد يتعين في بعض الأحوال، ومع بعض الناس أن يعاقبوا بمثل ما اعتدوا ولا يعفى عنهم,فيتبجحوا ويزدادوا بغيا وطغيانا" [36].

ولهذا تجلت واقعية النبي - صلى الله عليه وسلم - حين شرع مقابلة السيئة بمثلها بلا حيف ولا عدوان، فأقر بذلك مرتبة العدل، ودرء العدوان، وإن كان يؤثر دائما العفو، والصبر، والمغفرة، والتسامح، وقد شهد له بذلك غير المسلمين، ومن هؤلاء جوستاف لوبون العلامة الفرنسي إذ يقول عن سماحة محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الكتاب: "إن سماحة محمد - صلى الله عليه وسلم - لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، ولم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله، كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب" [37].

وبهذا تبطل حجة من يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اضطهد أهل الكتاب, بشهادة التاريخ والواقع وشهادة غير المسلمين أنفسهم.

الخلاصة:

  • لقد اتسمت معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المخالفين له في الدين بالتسامح، والعفو، والرحمة، حتى مع المشركين فما بالنا بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم أهل كتب سماوية، ولهم صلة بالأنبياء قوية؟! ومن أكبر دلائل تسامحه - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود مفاتحته لهم في أن يدخلوا معا في معاهدة سلام يحترمونها جميعا، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وقد كان من المنتظر أن تؤتي هذه المعاهدة ثمارها لولا طباع اليهود، التي جبلت على الغدر، فنقضوا هذه المعاهدة، ومن دلائل تسامحه كذلك تغاضيه - صلى الله عليه وسلم - عن استفزازات اليهود الكثيرة مثل: محاولاتهم إحراجه بالأسئلة التي لا يهدفون منها إلا محاولة تعجيزه، وتعديهم على الذات الإلهية، وإيذائه في جسده عن طريق سحره، ومحاولات اغتياله.
  • أما تسامحه - صلى الله عليه وسلم - مع النصارى فلا يستطيع أحد إنكاره، ولا يستطيع أحد أن ينسى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لهزيمة الروم النصارى على يد الفرس المجوس، وكذلك موقفه من نصارى نجران، والعهد الذي أخذه معهم والذي أعطاهم فيه الأمان على أنفسهم ودينهم، وأموالهم، والسماح لهم بالصلاة في المسجد النبوي، وقد كان ذلك في العام التاسع من الهجرة بعد استتباب الأمر في المدينة وإقامة الدولة.
  • إن العقاب الذي صبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود لم يكن بسبب مخالفتهم له في الدين كما يزعمون، وإنما بسبب نقضهم للعهود وغدرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وخوضهم في أعراض المسلمين ومحاولاتهم الدءوبة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ وموالاتهم الكفار ضد المسلمين، وقد كانت هذه الجرائم من اليهود جرائم جماعية اشتركوا فيها جميعا، وقد كانت الحكمة تقتضي أن يقف النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم هذا الموقف الحازم؛ لأن العفو عن بعض الناس قد يدفعهم إلى التعدي على الصالحين الأخيار ويزدادون بغيا وطغيانا.
  • أما في حالات السلم فقد بادلهم سلما بسلم ومودة بمودة، وقد شهد بهذه السماحة الكثير من غير المسلمين من المنصفين, ومن ثم فليس صحيحا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تعامل مع أهل الكتاب بأسلوبين مختلفين كما يزعمون.

 

 

 

(*) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، 2003م. المستشرقون والإسلام، محمد قطب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م. الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي, محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1, 1408هـ/ 1988م, مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م.

[1]. رسالة من النبي إلى الأمة من خلال تعامله مع خيانات اليهود، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص26، 27 بتصرف يسير.

[2]. الغائلة: المصيبة.

[3]. رسالة من النبي إلى الأمة من خلال تعامله مع خيانات اليهود، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص30 بتصرف.

[4]. يوتغ: يهلك.

[5]. فقه السيرة، محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص160، 161 بتصرف.

[6]. لا تخيروني على موسى: لا تفضلوني عليه تفضيلا يوهم بنقص قدره، أو يؤدي إلى الخصومة.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي (2280)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام (6302).

[8]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، تفسير سورة آل عمران، الآية (181)، (8300).

[9]. رسالة من النبي إلى الأمة من خلال تعامله مع خيانات اليهود، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص45، 46 بتصرف.

[10]. رسالة من النبي إلى الأمة من خلال تعامله مع خيانات اليهود، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص46، 47 بتصرف.

[11]. رسالة من النبي إلى الأمة من خلال تعامله مع خيانات اليهود، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص89، 90.

[12]. التعصب والتسامح بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2005م، ص248: 251 بتصرف.

[13]. السحت: الحرام الذي لا يجوز كسبه.

[14]. إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب المزارعة (5199)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب المساقاة، باب المعاملة على النخل بشطر ما يخرج منها (11406)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان.

[15]. التعصب والتسامح بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2005م، ص226.

[16]. الفصيل: البكر الصغير، يريد التهكم بالصديق.

[17]. ناحب: راهن.

[18]. القلائص: جمع قلوص، وهي الفتية من الإبل.

[19]. الخطر: الرهان.

[20]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، تفسير سورة الروم، الآية (1).

[21]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص389، 390.

[22]. المباهلة: طلب نزول لعنة الله على الظالم.

[23]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص450، 451.

[24]. الحلة: الثوب الجيد الجديد غليظا أو رقيقا، وكل ثوب له بطانة.

[25]. البيع: معابد النصارى.

[26]. السيرة النبوية، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ص548.

[27]. المنهج الحركي للسيرة النبوية، د. منير محمد الغضبان، دار الوفاء، مصر، ط15، 1427هـ/ 2006م، ص207.

[28]. المنهج الحركي للسيرة النبوية، د. منير محمد الغضبان، دار الوفاء، مصر، ط15، 1427هـ/ 2006م، ص209 بتصرف.

[29]. أدين: أدفع عنهما الدية.

[30]. السيرة النبوية، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص399، 400 بتصرف.

[31]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء (904)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من لزمه أمر فدخل عليه أمر آخر (4701).

[32]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل (2878)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد (4695).

[33]. السيرة النبوية، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص406: 409 بتصرف.

[34]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحرث والمزارعة، باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله. ولم يذكر أجلا معلوما (2213)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع (4047).

[35]. السيرة النبوية، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص414: 419 بتصرف.

[36]. سماحة الإسلام، د. عمر بن عبد العزيز قريشي، المكتبة الذهبية، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص47، 48.

[37]. سماحة الإسلام، د. عمر بن عبد العزيز قريشي، المكتبة الذهبية، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص97، 98 بتصرف.

 

  • الجمعة AM 12:37
    2020-09-18
  • 1518
Powered by: GateGold