المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413338
يتصفح الموقع حاليا : 234

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان رجلا سياسيا طامحا للسلطة والملك ولم يكن نبيا مرسلا

            الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان رجلا سياسيا طامحا للسلطة والملك ولم يكن نبيا مرسلا(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن نبيا مرسلا؛ بل كان مجرد طامح للسلطة والزعامة والرئاسة، ويبرهنون على ذلك بما يزعمونه من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان حلقة في سلسلة أجداده - قصي وهاشم وعبد المطلب - الذين كانوا زعماء لقريش ورأسوا مكة, وأن الظروف التي توفرت له - صلى الله عليه وسلم - جعلته أكثر حظا منهم لنيل السلطة والرئاسة في قومه، فحقق ما لم يحققه أجداده، وأسس الدولة القرشية التي كانت لها سيادة على العرب بفضل جهوده صلى الله عليه وسلم، فكان تتمة حسنة لأجداده. ويهدفون من وراء ذلك إلى تجريده من نبوته - صلى الله عليه وسلم - وقصر جهوده في الدعوة على ما وصموه به من طموح إلى السلطة والملك.

وجها إبطال الشبهة:

1)  لم يكن أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من تولوا زعامة مكة كما يزعم المتوهمون؛ بل كان قبلهم زعماء لها من قبائل أخرى كالجراهمة والخزاعيين، فلماذا لم يظهر منهم نبي كما ظهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قريش؟!

2)    إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجده أزهد الناس في الملك والزعامة، وأبعدهم عن مظاهر الحياة الدنيا وزخرفها، وقد ظل - صلى الله عليه وسلم - كذلك حتى بعد أن دان له العرب، ودخل الناس في دين الله أفواجا.

التفصيل:

أولا. لم يكن أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من تولوا زعامة مكة:

لقد كان العماليق، ثم الجراهمة، ثم الخزاعيون، على التوالي يسودون مكة قبل أجداد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأزمان طوال، وكان مضاض والسميدع الجرهميان يعشران - يحصلان العشر - من الداخلين إلى مكة. كذلك بلغ عمرو بن لحي من الشرف في مكة ما لم يبلغه أحد من قبل؛ فقد كان غنيا فاحش الغنى، وكان قوله فيها دينا يتبع، وكان يلي أمور البيت ويطعم الجميع اللحم.

أما آخر من تولى الكعبة من خزاعة فهو حليل بن حبشية بن سلول، الذي تزوج قصي ابنته حبى، وعن طريقها انتقلت ولاية البيت إليه.

وعلى أية حال فالكعبة والحج إليها كانا موجودين قبل قصي بدهر طويل، فيتضح مما سبق أنه ليس صحيحا أن قصيا هو أول رئيس لمكة أيا كان معنى الرئاسة، وحتى لو حصرنا نظرنا في أسلاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن قصي أولهم؛ إذ كان قبله فهر وبينه وبين قصي خمسة أبناء.

وعلى أية حال فإن الرئاسة والزعامة هنا إنما هما في أغلب الظن زعامة قبلية ومكانة اجتماعية أكثر منها أي شيء آخر.

ولعل أكبر ما يثير العجب هو أن ملوك اليمن أنفسهم لم يفكروا في أن يمدوا سلطانهم خارج حدود بلادهم، رغم أنهم كانوا أصحاب ملك موغل في القدم وحضارة مزدهرة، وتحت أيديهم الجيوش المجيشة، فكيف يفكر أي مكي قصيا كان أو غيره في هذا؟!!

ولم تكن أيضا في يد هاشم بن قصي أية سلطة سياسية أو عسكرية البتة؛ إذ عقب موت قصي انتقلت كل الزعامات التي كانت في يده إلى يد ابنه عبد الدار، الذي تنازع أولاده من بعده، وانتهى الأمر بانتقال الزعامة الدينية إلى بني ابنه عبد مناف والد عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، أما الزعامتان السياسية والعسكرية - وهما اللتان تحتاجهما الدول في نشوئها وبقائها - فذهبتا إلى عبد شمس جد الأمويين.

ثم لو كان عبد المطلب حاكما كما يزعم المتوهمون؛ أكانت قريش تنازعه في بئر زمزم حين أراد تجديدها بعد انطمارها وتقول له: "إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها"، فلا يجد بدا من أن يذهب معهم إلى كاهنة من بني سعد لتفصل في هذا الخلاف بينه وبينهم؟ وأيضا هل كانت تعترض عليه قريش عندما رأوه يحفر بين وثني إساف ونائلة، وكذلك في نذره حين لقي من قريش ما لقي: لئن ولد له عشرة نفر, ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة.. إلى آخر القصة المعروفة التي انتهت بمفاداة عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمائة من الإبل؛ إذ كان هو الذي خرجت عليه القرعة بالذبح كما هو معلوم.

ترى لو كان عبد المطلب حاكما ملكا على قومه كما يزعمون؛ فهل كان يحفر بيده بئر زمزم؟ فأين كانت حاشيته؟ وأين كان خدمه وعبيده؟

إن الأقرب إلى منطق العقل والأكثر تلاؤما مع وقائع التاريخ أن المجتمع المكي كان مجتمعا قبليا كما يقول د. شوقي ضيف: فهو لا يعدو أن يكون اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض في حلف؛ لغرض سدانة الكعبة من جهة، والقيام على تجارة القوافل من جهة أخرى، ولا سلطان لعشيرة على عشيرة، بل كل عشيرة تتمتع بالحرية التامة ولا طاعة عليها لأحد... ووجود ملأ فيها أو مجلس شيوخ لا ينقض هذه الحقيقة، إذ لم يكن عمله يعدو مجلس القبائل[1].

وبعد، فهل ورث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الزعامة، أو أنه ولد يتيما، وعاش يتيما يرعى الغنم، ويتاجر مع عمه حتى تزوج السيدة خديجة - رضي الله عنها ـ؟! وماذا أعد ليكون رئيسا أو سلطانا أو زعيما خلال مدة أربعين سنة قبل بعثته؟ إنه - صلى الله عليه وسلم - ما جاء إلا ليدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام دون أن يطمح إلى سلطة أو رياسة كما يزعمون.

ثانيا. إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجده أزهد الناس في الملك والزعامة وأبعد الناس عن مظاهرهما:

لقد جاءت دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتبين للناس أن الحاكم الحقيقي للبشر لا يجوز أن يكون غير الله، وأن خضوع البشر لغير سلطان الله وحاكميته شرك، وأن التفسير الأساسي الذي ينبغي أن يتم في العالم هو نقل البشر من خضوع بعضهم لحاكمية بعض إلى خضوع الكل لله الواحد الأحد، وأن الأمة التي تحمل هذه القضية بكل متطلباتها هي التي سيكون بيدها مفاتيح الحياة البشرية ولها قيادها، ومن هذه البداية - انسجاما معها - يقوم كل شيء في حياة البشرية ثانيا، وحياة الأمة التي تحمله أولا.

ونحن إذا تأملنا حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدايتها إلى منتهاها نجدها تطبيقا لهذه الدعوة، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الملك والرياسة والزعامة، وأبعد الناس عن مظاهرهما حتى بعد أن أقام دولته ودانت له العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا، ومما يدل على ذلك:

  1. رفضه - صلى الله عليه وسلم - محاولة قومه لإغرائه بالملك والسيادة:

قال ابن إسحاق: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة, وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم، قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه؛ حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم.

فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعا وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء[2]، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم[3]، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت لهذا الحديث تطلب به مالا؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا؛ فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيه.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني رسولا وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم" [4].

فها هو ذا محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الإسلام يعرض عليه الملك والسيادة في قومه - وهو لم يزل في بداية دعوته ولم يؤسس دولة ولم يفتح بلدانا - كي يتخلى عن دعوته، ولكنه يظل صامدا ويرفض إغراءات قومه ولا يبالي باضطهادهم، ترى لو كان هدفه الملك والسيادة هل كان يرفض مثل هذه العروض, أو يتحمل كل هذا الإيذاء؟ لا شك أنه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطمع في الملك لا ستجاب للإغراءات ولفرح بعروض قومه, ولاستطاع تحقيق هدفه في وقت مبكر دون أي مجهود، ولكنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله ليكون للعالمين بشيرا ونذيرا.

  1. ابتعاده - صلى الله عليه وسلم - عن مظاهر الملك والرياسة:

إن المتأمل في كل أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله يجدها تدل دلالة قاطعة على زهده في الملك والزعامة والرياسة؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس، وفقره - صلى الله عليه وسلم - كان فقر اختيار لا فقر اضطرار؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فتحت عليه الفتوح، وجلبت إليه الأموال وهو معرض عن الدنيا كل الإعراض، ينام على الحصير حتى يرى أثره في جنبه الشريف، فإذا قيل له: «ألا نبسط تحتك ألين منه؟ يقول:مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلاكراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار, ثم راح وتركها»[5].

وكان - صلى الله عليه وسلم - يقنع باليسير من الدنيا ويقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا»[6]، وتقول السيدة عائشة: «ما رفع رسول الله قط عشاء الغداء، ولا غداء العشاء، ولا اتخذ من شيء زوجين ولا قميصين ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال» [7].

وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس تواضعا وأبعدهم عن الكبر والخيلاء، لقد خير بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا؛ فاختار الثاني، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكره إذا خرج على أصحابه أن يقوموا له؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» [8]. وقال: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» [9]. ويقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» [10].

 وكان - صلى الله عليه وسلم - يركب البعير والحمار، ويردف وراءه غيره، ولا يقبل أن يسير أحد وراءه وهو راكب، وحج على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وقال: «اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة»[11]، ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» [12]؛ أي: اللحم المشقق المجفف[13].

كل هذا يدل دلالة قاطعة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ملكا ولا حتى طامحا إلى الملك والسيادة؛ لأن حياته التي عاشها كانت أبعد ما تكون عن مظاهر الملوك والسادة.

  1. شهادة معاصريه بأنه لم يكن ملكا:
  • شهادة هرقل ملك الروم:

عندما وصل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ملك الروم، أرسل يبحث عن بعض قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - في البلاد الشامية, فعلم بركب تجار من مكة المكرمة، على رأسهم أبو سفيان قائد الشرك، فدعاهم إلى مجلسه، وحول هرقل عظماء الروم، ثم دعا أبا سفيان ومن معه ودعا الترجمان, وقد جاء أن هرقل سأل أبا سفيان فيما سأله عن محمد صلى الله عليه وسلم: هل كان من آبائه من ملك؟ فقال أبو سفيان: لا. وقد قال له هرقل وهو يرد عليه: وسألتك؛ هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه.

فتأمل قول هرقل لأبي سفيان: «وسألتك؛ هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه»[14].

فقد استخدم هرقل مبدأ الاستدلال العقلي فتوصل إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن طالبا للملك, على الرغم من أنه لم يكن يعرف شيئا عن حياته.

  • شهادة عدي بن حاتم الطائي:

كان عدي بن حاتم نصرانيا، وهو ابن حاتم الجواد المشهور، وكان امرءا شريفا في قومه، وكان يأخذ من قومه المرباع،[15] فلما سمع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته كره دعوته، وترك قومه ولحق بنصارى الشام.

قال عدي: فكرهت مكاني هناك أشد من كراهتي له - أي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: لو أتيته فإن كان ملكا أو كاذبا لم يخف علي، وإن كان صادقا اتبعته. فخرجت حتى أقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: "من الرجل"؟ فقلت: عدي بن حاتم! فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق بي إلى بيته، فوالله، إنه لعامد[16] بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا، تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك!

ثم مضي بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم[17] محشوة ليفا، فقذفها إلي فقال: "اجلس على هذه"، قلت: بل أنت فاجلس عليها. فقال: "بل أنت". فجلست عليها، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأرض.

فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: "إيه يا عدي بن حاتم، هل تعلم من إله سوى الله"؟ قلت: لا. ثم قال: "هل تعلم شيئا أكبر من الله"؟ قلت: لا. قال: "ألم تكن ركوسيا"؟[18] قلت: بلى. قال: "أولـم تكن تسير في قومك بالمرباع"؟ قلت: بلى. قال: "فإن ذلك لم يكن يحل في دينك"؟ قلت: أجل والله. ثم قال: "لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجة أهله، فوالله، ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله، ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم"! قال: فأسلمت. قال عدي: فرأيت اثنتين: الظعينة[19]، وكنت في أول خيل أغارت على كنوز كسرى، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة.

ففي هذه القصة التي روتها كتب السيرة تحليل دقيق، بل وتجسيد واضح لشخصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشخصية التي ظهرت جلية واضحة لعدي بن حاتم، مصفاة عن شوائب الزعامة والملك وحب الإمارة والكبرياء والجاه، ولا يتراءى فيها سوى الإعلام بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين[20].

مما ذكرناه آنفا من رفضه - صلى الله عليه وسلم - إغراءات قومه له بالملك والسيادة، وكذلك ما ذكرناه من ابتعاده - صلى الله عليه وسلم - عن مظاهر الملك والزعامة في سلوكه وخلقه وتعامله مع الآخرين، وكذلك شهادة بعض معاصريه بنفي كونه - صلى الله عليه وسلم - ملكا, كل هذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يطمح لملك أو زعامة، بل كان نبيا أرسله ربه للعالمين بشيرا ونذيرا، فمثله مثل سائر الأنبياء - عليهم السلام - لم يكونوا يطلبون ملكا، ولا يطلبون دنيا، إنهم لا يطلبون إلا رضا الله - سبحانه وتعالى - عن طريق القيام بمهامهم على أفضل وجه[21]؛ لأنهم لو كانوا يطلبون دنيا أو ملكا ما صدقهم أحد ولما آمن بهم أحد؛ لأنهم حينئذ يعرفون مراميهم وأهدافهم وما يسعون إليه.

الخلاصة:

  • لم يعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - على سلطان أجداده لبناء دولة، ولكنه كان داعيا إلى الله سبحانه وتعالى, ومبلغا رسالته التي أمره الله بتبليغها للناس، مصداقا لقوله: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة: 67), ثم إن قصيا - الذي يزعمون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ورث السلطان عنه لم يكن أول رئيس لمكة فقد كان قبله بعض رؤساء القبائل الأخرى مثل: الجراهمة، والخزاعيين، فلماذا لم يظهر منهم نبي كما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قريش؟
  • لقد كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوة خاصة به، ولم يكن يريد الملك، ولا السلطة، وإنما كانت دعوته إلى توحيد الله - عز وجل - وإخلاص العبادة له عز وجل، ونبذ عقائد الشرك، وترك عبادة الأصنام التي كان يعبدها قومه.
  • لقد كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته خير دليل على عدم تطلعه لملك أو سلطة، فقد رفض - صلى الله عليه وسلم - إغراء قومه له حينما عرضوا عليه أن يجعلوه ملكا عليهم مقابل التخلي عن دعوته.
  • عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - متواضعا زاهدا بعيدا عن مظاهر الملك والرئاسة، فلم يؤثر عنه أنه استعمل حاجبا يمنع الناس الدخول عليه، ولا عاش عيشة الملوك في التنزه والترفع عن أتباعه, بل كان مثل سائر الأنبياء - عليهم السلام -، لا يطلب إلا رضا الله تعالى، ولا يبتغي ملكا ولا زعامة، ولا أية مصلحة دنيوية.

 

 

(*) مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. حنق اليهود على الأنبياء، د. محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، الأردن، 1998م. قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، د. ت. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م. ثورة الإسلام في ضوء ظروف البيئة التي ظهر فيها، ترجمة وتفنيد: د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1999م.

[1]. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض،، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م، ص137: 151 بتصرف.

[2]. البداء: ظهور الرأي بعد أن لم يكن.

[3]. العنت: المشقة.

[4]. الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، ط2، 1410هـ/ 1990م، ص90: 93.

[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنه (2744)، والحاكم في مستدركه، كتاب الرقاق (7858)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5669).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه (6095)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (2474).

[7]. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 101)، السيرة النبوية، باب ذكر تقلله وزهده وتبتله في العبادة.

[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12367)، والبخاري في الأدب المفرد، باب قيام الرجل لأخيه (946).

[9]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب أهل الكتابين، باب الأكل بيمينه والأكل وشماله في الأرض (19543)، ومن طريق البيهقي في شعب الإيمان، باب في المطاعم والمشارب وما يجب التورع عنه منها (5975)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (441).

[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ( (مريم: 16) (3261).

[11]. صحيح: أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، باب ما جاء في تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم (335)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (288).

[12]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب القديد (3312)، والحاكم في مستدركه، كتاب المغازي والسرايا (4366)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7052).

[13]. السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص656، 657 بتصرف يسير.

[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة آل عمران (4278)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

[15]. المرباع: وهو ربع ما يصلهم من غنائم الحروب، كان العرب يجعلون ذلك للرئيس منهم.

[16]. عمد: قصد.

[17]. الأدم: الجلد.

[18]. الركوسية: قوم لهم دين بين النصارى والصابئة.

[19]. الظعينة: المرأة المرتحلة.

[20]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص332، 333 بتصرف يسير.

[21]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص113 بتصرف يسير.

 

  • الجمعة AM 12:21
    2020-09-18
  • 1494
Powered by: GateGold