المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413452
يتصفح الموقع حاليا : 207

البحث

البحث

عرض المادة

الطعن في نبوته - صلى الله عليه وسلم - بزعم خمول ذكره وفساد خصاله

                     الطعن في نبوته - صلى الله عليه وسلم - بزعم خمول ذكره وفساد خصاله(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس نبيا، ولا يصلح أن يكون نبيا، ويستدلون على ذلك بأن حياته ليس فيها ما يلفت النظر - إذا ما قيست بالمقاييس الحديثة - ذلك أنه عاش حياة عادية ساذجة طيلة أربعين سنة - قبل البعثة - ويزعمون أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن سويا نفسيا؛ وذاك أنه كان يتصف بصفات غير شريفة؛ كالغرور والطمع والمكر والخداع. ويهدفون من وراء ذلك إلى إنكار نبوته - صلى الله عليه وسلم - بوصم سيرته بما لم يكن فيها من خمول مدعى وفساد مزعوم.

وجها إبطال الشبهة:

1)  لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - على حال تلفت الأنظار إليه - خطيبا مفوها، أو شاعرا فحلا، أو كاتبا مبدعا أو عالما - لكان ذلك أدعى إلى التشكيك في نبوته، ولكنه عاش حسن السيرة، مشتهرا بالصدق والأمانة، وهذه الصفات من أقوى الأدلة على نبوته وإلهية ما جاء به.

2)  إن جميع الصفات النفسية التي حباها الله - عز وجل - محمدا - صلى الله عليه وسلم - لهي غاية ما يتصور في الإنسان من النبل والسمو، وما كان لهذه الصفات أن تجتمع بهذا الكمال إلا في نبي، بل إنها لم تكتمل في نبي كما اكتملت في محمد صلى الله عليه وسلم.

التفصيل:

أولا. حال النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته تؤكد نبوته وصدق ما جاء به:

هذه الدعوى تربط بين أمرين لا يصح لعاقل منصف أن يربط بينهما؛ فهي تربط بين النبوة التي يختار الله - عز وجل - لحملها أناسا يصطفيهم من خلقه، وبين الحياة التي يحياها هؤلاء المصطفون، قبل اصطفائهم واختيارهم للنبوة والرسالة، واشترط أصحاب هذه الدعوى أن يحيا الرسول المصطفى - قبل بعثته - حياة تأخذ بالأبصار، وحياة تلفت الأنظار.

ولقد وضع هؤلاء لهذه المعيشة وتلك الحياة مقاييس اكتفوا بوصفها بالحداثة! وهم يقصدون بتلك المقاييس الحديثة أن يتصف الرسول ـ أي رسول ـ قبل بعثته بالغنى والثراء، وأن يكون عالما كبيرا، أو شاعرا عملاقا، أو خطيبا مفوها، أو كاتبا مبدعا.. وكل هذه المقاييس في عرفهم تسلم المرء إلى أن يكون مشهورا لامعا يشار إليه بالبنان ويحترم في كل زمان ومكان.

وإن المرء ليعجب مما انطوى عليه فكر هؤلاء؛ لقد أنكروا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مستندين إلى أن حياته قبل البعثة لم تلفت أنظار الناس في عصره.

ولو كان - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحال التي تلفت الأنظار، كأن يكون خطيبا مفوها، أو شاعرا فحلا، أو عالما، أو كاتبا مبدعا، أو غنيا غنى فاحشا؛ لكان هؤلاء أول من استند إلى هذه الحال في إنكار نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإنكار إلهية ما أنزل عليه، ولكانوا أول قائل: إنه ألف القرآن من عند نفسه معتمدا في ذلك على ماله الكثير، أو إبداعاته في الشعر والخطابة!!

إننا نتفق مع هؤلاء في ذهابهم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش قبل النبوة حياة لا تلفت الأنظار مستندين في ذلك إلى مقاييسهم، وذلك أنه عاش أربعين سنة، فلم يشتهر بشيء أكثر من أنه كان قويم السيرة صادقا أمينا، وهذا من أقوى أدلة المسلمين على نبوته.

فإن رجلا يمضي زهرة الشبيبة، وهي عهد التوثب لبلوغ المجد، والتطلع لتحقيق المطامع، ساكنا وادعا، حتى إذا شارف سن الكهولة، هب بهمة لا تعرف الملل لجمع البشرية كلها على كلمة جامعة، مضحيا في سبيلها بنفسه وماله وصفاء باله، واجدا من جرائها من الاضطهاد وضروب الأذى ما لا قدرة لأحد على احتماله، في مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ثم يضطر بعدها لقضاء بقية حياته في جلاد وجهاد لتحقيق ما يرمي إليه لا يعقل أن يكون قد صدر في التحول الذي حدث في سيرته، عن هوى في نفسه، أو خبث في طويته، ولكن عن أمر جلل، لا يكون أقل من النبوة.

ولو نشأ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حال تلفت الأنظار من المواهب, لكان هذا أدعى إلى التشكيك في نبوته[1].

وعلى الرغم من ذلك فإن حياته - صلى الله عليه وسلم - لفتت الأنظار واسترعت الانتباه من زاوية أخرى، ومقاييس تختلف اختلافا بينا عن المقاييس التي وضعها الطاعنون وكأنها مقاييس ملك أو سلطان؛ وذلك أن حياته - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة لم تكن حياة عادية، فلقد جمع - صلى الله عليه وسلم - في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازا رفيعا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظا وافرا من حسن الفطنة, وأصالة الفكرة, وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأى عنها، ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجده حسنا شارك فيه، وإلا عاد إلى عزلته المعتادة؛ فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب[2]، ولا يحضر للأوثان عيدا ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وكان كارها للحلف باللات والعزى‏.

ولا شك أن الله تعالى أحاطه - صلى الله عليه وسلم - بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد - غير المحمودة - تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها[3]‏‏.

إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شخص ليس كبقية الأشخاص، فقد حباه الله - سبحانه وتعالى - عقلا راجحا لا نظير له في البشر جميعا، فما كان له أن يهجر عقله ويتبع غيره، ولذلك فإنه كان ينظر إلى العادات، والأعراف، والتصرفات السائدة في البيئة التي نشأ فيها نظرة فكر وتأمل، فإذا كانت صالحة كان أول الآخذين بها والمشجعين عليها.

أما إذا كانت العادة السائدة في هذه البيئة لا تتفق مع عقل ولا منطق ولا خلق كريم، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأثر بها تأثرا عكسيا، فيقف ضدها ويحاربها ويعمل على إزالتها[4].

ويتضح مما سبق أن المقاييس التي اشترط مثيرو هذه الشبهة وجودها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، والتي استندوا إلى نفي وجودها في حياته - صلى الله عليه وسلم - للخلوص إلى القول بإنكار نبوته - صلى الله عليه وسلم - لا تصلح أن تكون معايير للنبوة، وهي إن صلحت فإنما تصلح لأن ترصد في رجل يعد لملك أو سلطة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لفت الأنظار بمقاييس تختلف عن مقاييس هؤلاء، لفتها بمقاييس أخلاقية سامية أهلته لتحمل الرسالة.

ثانيا. جميع الصفات النفسية التي خلقها الله تعالى في محمد - صلى الله عليه وسلم - هي غاية ما يتصور في الإنسان من النبل والسمو:

لقد خالف هؤلاء المشككون - عن قصد أو جهل - الدلائل القاطعة التي تنص على نزاهته - صلى الله عليه وسلم - ونبل أخلاقه وسمو شمائله، من إقرار إلهي بسمو أخلاقه وعظمتها، متمثلا في قوله تعالى: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، ومن اعتراف بهذا السمو وتلك العظمة، من أعدائه قبل أتباعه!!!

إن مبدأ "المخالفة" يقتضي أن هؤلاء يشترطون في الشخص الذي يصطفى للرسالة والنبوة - شروطا، أهمها: ألا يكون متكبرا ولا طماعا ولا ماكرا ولا خداعا.. وهذه الصفات انتفت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتفاء محضا لا شبهة في ذلك، وثبتت أضدادها ثبوتا كاملا في شخصه صلى الله عليه وسلم.

ويعلق الشيخ محمد الخضري قائلا: "كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن قومه خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، فسموه الأمين لما جمع الله - عز وجل - فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة؛ من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفة، والجود، والشجاعة، والحياء، حتى شهد له بذلك ألد أعدائه - النضر بن الحارث - من بني عبد الدار؛ حيث يقول: «قد كان محمد فيكم غلاما حدثا[5]، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر!! لا والله ما هو بساحر» [6].

ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قائلا: «هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله»[7].

وقد حفظه الله - عز وجل - في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها, وبغضت إليه الأوثان بغضا شديدا حتى ما كان يحضر لها احتفالا أو عيدا مما يقوم به عبادها"[8].

وهكذا؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتمتع بأفضل الأخلاق وأشرفها، على عكس ما يدعون، فلم يكن مغرورا كما يدعون، بل على العكس من ذلك تماما، لقد كان صلى الله عليه وسلم - متواضعا أشد ما يكون التواضع، وهو في ذلك المثل الكامل، وله منه الحظ الوافر، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى:

  • فمن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» [9].

فقوله «لا تطروني» أي: لا تبالغوا في مدحي بالكذب كما بالغت النصارى في مدح سيدنا عيسى - عليه السلام - فجعلوه إلها، وابن إله، فإن هؤلاء إنما عميت أبصارهم عن دلائل الحدوث وشواهده، وقوله: إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله، وفي نسخة إنما أنا عبد الله: معناه: إنما أنا عبد ورسول بدليل قوله: فقولوا: عبد الله ورسوله، وفي هذا القول إشارة إلى قوله سبحانه وتعالى: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد( (الكهف: ١١٠)، ثم لا يلزم من كونه عبد الله ورسوله مساواة غيره له - صلى الله عليه وسلم - في العبودية لله - عز وجل - التي هي شهود الربوبية، وعدم الغفلة عنها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في هذا الوصف الذي هو عين الكمال الإنساني.

  • ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: "يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، وزاد أنس: فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها»،[10] والغرض من البعد ألا يسمع شكواها أحد ممن حضر معها، أو ممن كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاء: «أن الأمة كانت تأخذ بيده - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق في حاجتها».[11] وفي هذا من كمال تواضعه ما لا يخفى، وذكر: «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة» [12].
  • ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى خيره بين أن يكون نبيا عبدا، أو نبيا ملكا، فاختار العبودية تواضعا لله عز وجل، وهذا ثابت من حديث أبي هريرة، ولفظه: «جلس جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل عليه السلام: "هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة". فلما نزل قال: "يا محمد، أرسلني إليك ربك أملكا أجعلك أم عبدا رسولا"؟ فقال له جبريل: "تواضع لربك يا محمد"، فقال صلى الله عليه وسلم: لا, بل عبدا رسولا» [13]. فأين في هذا ما يزعمونه من طموح وغرور؟!

وثبت في كتب السيرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة ذبحت: فقال رجل: يا رسول الله، علي سلخها. وقال آخر: علي طبخها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعلي جمع الحطب"، فقالوا: يا رسول الله، نكفيك العمل، قال: "قد علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا عن أصحابه", فأين هذا مما يرمونه به من صفات غير شريفة؟

وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على غاية تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ورغبته الدائمة في التواضع، وفي التقليل من زخرف الدنيا ونعيمها وإظهار أنها حقيرة، وأن ما عند الله خير وأبقى؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يحب أن يمجده أصحابه أو يطروه، كما أطرت النصارى عيسى بن مريم - عليه السلام - فجعلوه إلها أو ابن إله فزاغوا وضلوا، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقف مع صاحب الحاجة حتى يقضيها له لا يستكبر على هذا, ولو كان صاحب الحاجة عبدا أو امرأة [14].

وبعد، فهل يعقل بعد هذه المواقف التي تدل دلالة واضحة قاطعة على تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي مدع فيدعي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مغرورا متكبرا؟! وإنا نطالب هؤلاء بأن يأتوا لنا بموقف واحد يدل على اتصافه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفة الذميمة، )كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف).

وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد المتواضعين كان سيد الزهاد القانعين ولم يكن طامعا في أمر من أمور الدنيا، كما ادعى مثيرو هذه الشبهة.

فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس، ويكفيك في تعريف ذلك أن فقره كان فقر اختيار لا فقر اضطرار؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فتحت عليه الفتوح وجلبت إليه الأموال وهو معرض عن الدنيا كل الإعراض، ينام على الحصير، حتى يرى أثره في جنبه الشريف، فإذا قيل له: ألا نبسط تحتك ألين منه، يقول: «ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار, ثم راح وتركها» [15].

وكان - صلى الله عليه وسلم - يقنع باليسير من الدنيا ويقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» [16] [17].

تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها -: ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط عشاء الغداء، ولا غداء العشاء, ولا اتخذ من شيء زوجين ولا قميصين، ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال[18].

 «وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يدخر شيئا لغد» [19]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «الذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع - صلى الله عليه وسلم - وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة[20] حتى فارق الدنيا» [21].

وكان يمر به الشهر والشهران وما يوقد في بيته نار، إنما هو التمر والماء، فعن عروة عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: «والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار، قال، قلت يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء...» الحديث[22].

«وقد قبض - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند رجل يهودي على ثلاثين صاعا من شعير أخذها رزقا لعياله» [23]. وتقول السيدة عائشة - رضي الله عنها -: «لقد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين» [24] [25].

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «اشتد وجع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده سبعة دنانير أو تسعة فقال: "يا عائشة، ما فعلت تلك الذهب"؟ فقلت: هي عندي، قال: "تصدقي بها"، قالت: فشغلت به ثم قال: "يا عائشة، ما فعلت تلك الذهب"؟ فقلت: هي عندي، فقال "ائتني بها"، قالت: فجئت بها فوضعها في كفه، ثم قال: "ما ظن محمد أن لو لقي الله وهذه عنده؟ ما ظن محمد أن لو لقي الله وهذه عنده» [26]؟

وبعد، فهل يعقل من لديه جزء يسير من عقل سليم أن رجلا يتصف بالطمع، ثم لا يكون في بيته قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - سوى سبعة دنانير يأمر أهله أن يتصدقوا بها[27]؟!!

وكذلك فلم يكن من صفاته المكر أو الخداع، فلم يعرف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نقض عهدا، أو خالف وعدا، أو غدر بإنسان، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقابل الغدر دائما بالعفو والصفح، وله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك من المواقف الكثير، و سنكتفي هنا بموقف واحد من ذلك:

"دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ولكن عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ومن جمعوا من الناس أبوا إلا قتالا، فهزموا وفروا، ثم استأمنوا فأمنوا، بل عفي عنهم، بل أعطوا من غنائم هوازن تأليفا لقلوبهم" [28].

"إن ظهور هذه الصفات النفسية والسلوكية في وقت مبكر من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن اطراد هذه الصفات، وعدم تخلفها في موقف من المواقف وبروزها بسرعة، ودون تكلف - ليدل على أنها صفات فطرية أصيلة في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي تركيبته السلوكية، أوجدها الله تعالى فيه؛ ليؤهله بها للرسالة التي يحمل أعباءها فيما بعد" [29].

قال القاضي عياض: "وكان - صلى الله عليه وسلم - مجبولا على هذه الصفات في أصل خلقته وأول فطرته، لم تحصل له باكتساب ولا رياضة، إلا بجود إلهي وخصوصية ربانية، وهكذا لسائر الأنبياء" [30].

وبهذا يتبين لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتصف بالغرور والطمع، والمكر، وخداع النفس؛ إذ لو كان كذلك، لاستخدم كل ما يمكن من وسائل ليصل إلى التسلط على قومه.

ثم إن ما حققه - صلى الله عليه وسلم - من الأمور العظيمة طوال مدة رسالته في كهولته وشيخوخته، لا يمكن تحققه في مثل تلك المدة اليسيرة على يد رجل يتصف بالغرور والمكر وخداع النفس.

الخلاصة:

  • لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته على حال تلفت الأنظار إليه - كأن يكون خطيبا أو شاعرا أو كاتبا مبدعا أو عالما - لكان ذلك أدعى إلى التشكيك في نبوته، وإلهية ما أنزل إليه، ثم إنه قد لفت الأنظار بمقاييس أخلاقية أخرى تختلف عن مقاييس الطاعنين التي لا تتناسب إلا مع الملوك والسلاطين، ولا تتناسب مع رسل رب العالمين.
  • لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلا يمتلئ قلبه بالغرور وصدره بالطمع؛ لاستخدم كل ما يملكه من وسائل ليصل إلى التسلط على قومه، ولكنه اتصف بكثير من الصفات النبيلة: كالزهد، والتواضع، وعدم المكر والخداع، وهذا النبل والسمو والاكتمال لا يمكن أن يجتمع في نفس إلا بعناية إلهية، ولمهمة خاصة يريد الله تعالى أن تحملها تلك النفس.

 

 

 

(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م. أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القرآن والسنة، د. أحمد عبد العزيز الحداد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م.

[1]. مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص91، 92 بتصرف يسير.

[2]. النصب: ما نصب ليعبد من دون الله مثل الأصنام.

[3]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص62، 63 بتصرف يسير.

[4]. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، محمد رواس قلعه جي، دار النفائس، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص39، 40 بتصرف.

[5]. الحدث: صغير السن.

[6]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب المبعث، اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله تعالى من الإعجاز.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  إلى الإسلام والنبوة (2782)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

[8]. نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد الخضري بك، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ص14.

[9]. أخرحه البخاري في صحيحه، كتاب الانبياء، باب ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها (          (مريم: 16) (3261).

[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب قرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الناس وتبركهم به (6189).

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الكبر (5724).

[12]. صحيح: أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب الجمعة، باب ما يستحب من تقصير الخطبة (1414)، وابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب من صفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخباره (6423)، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة (5833).

[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7160)، وأبو يعلى في مسنده، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (6105)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1002).

[14]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص167: 172 بتصرف.

[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنه (2744)، والحاكم في مستدركه، كتاب الرقاق (7857)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5669).

[16]. القوت: ما يقوم به بدن الإنسان.

[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه (6095)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (2474).

[18]. أخرجه بن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 101)، السيرة النبوية، باب ذكر تقلله وزهده وتبتله في العبادة.

[19]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزهد، باب معيشة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهله (2362)، وابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب من صفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخباره (6378)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4846).

[20]. الحنطة: القمح.

[21]. أخرجه مسلم في صحيحه، أوائل كتاب الزهد والرقائق (7649).

[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الهبة وفضلها، باب فضلها والتحريض عليها (2428)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب الزهد والرقائق (7642).

[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير, باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم (2759)، وفي مواضع أخرى.

[24]. أخرجه مسلم في صحيحه، أوائل كتاب الزهد والرقائق (7643).

[25]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص156: 158 بتصرف.

[26]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24604)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الرقائق، باب الفقر والزهد والقناعة (715)، وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[27]. انظر: الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص467.

[28]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص159.

[29]. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، د. محمد رواس قلعه جي، دار النفائس، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص75 بتصرف.

[30]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج1، ص97.

 

  • الخميس PM 11:33
    2020-09-17
  • 1342
Powered by: GateGold