المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409049
يتصفح الموقع حاليا : 341

البحث

البحث

عرض المادة

اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنفاق

                            اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنفاق (*)

مضمون الشبهة:

يتهم بعض المتطاولين النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنفاق، إذ إنه كان يأمر بما لا يفعل، ويستدلون على ذلك بأن القرآن الكريم حث على قيام الليل وقلة النوم في قوله سبحانه وتعالى: )قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4)( (المزمل)، في حين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثير النوم، وكذلك كان يقوم من نومه ويصلي بغير وضوء مع أن هذا مخالف للشريعة الإسلامية، ويتساءلون: ألا يعد هذا مخالفة صريحة لما يأمر به النبي المسلمين من قيام الليل، وتجديد الوضوء لمن قام من النوم؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

وجوه إبطال الشبهة:

1)    دعت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى الصدق، والبعد عن النفاق والكذب، فهل من المعقول أن يأمر الله ورسوله المسلمين بأمر، ثم يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ وهو خير البشر - أول المخالفين له؟! ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فلم لم يخف الآيات التي تعاتبه في القرآن الكريم، وكذلك الآيات التي تتحدث عن أحداث خاصة به صلى الله عليه وسلم؟!

2)    من يطالع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه كان لا يركن إلى الراحة إلا قليلا، فقد كان كثير الصلاة والصيام والقيام والجهاد في سبيل الله لكي تصل الدعوة إلى كل أرجاء الأرض، فهل يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كل هذا وهو كثير النوم والراحة كما يدعي هؤلاء؟!

3)    اختص الله - عز وجل - النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الصفات التي يتميز بها عن بقية البشر، ومن هذه الصفات أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، فلا ينتقض وضوءه بالنوم.

التفصيل:

أولا. دعت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى الصدق والإخلاص، والبعد عن النفاق:

لقد ذم الله - عز وجل - النفاق والمنافقين، والضلال والمضللين، ومن بعده رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فسنته الغراء تجدها مليئة بالنهي عن الكذب والغش والنفاق، وتأمر بالصدق والأمانة، وهداية الناس وإعلامهم بالمعروف، فكيف يرد النهي عن شيء في الكتاب الخاتم على لسان النبي الخاتم ثم يفعله؟ ومن أراد مطالعة نصوص الكتاب يجدها موضحة ذلك ومبرهنة عليه لقوله عز وجل: )والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)( (الزمر)، وقال عز وجل: )ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24)( (الأحزاب)، وقال عز وجل: )ليعذب الله المنافقين والمنافقات( (الأحزاب: 73). وقال عز وجل: )لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61)( (الأحزاب).

 ونزلت سورة (المنافقون) أيضا مبرزة بعضا من أمورهم فقال الله - عز وجل - عنهم: )إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)( (المنافقون)، وآيات القرآن كثيرة في ذم النفاق والمنافقين وقبح فعلهم وسوء عاقبته.

وكذلك ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - النفاق والمنافقين، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - محذرا من النفاق وأهله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».[1] وقال أيضا: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»[2].

ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آمرا بشيء ثم وقع منه ما يخالفه لانفض عنه أول ما انفض أتباعه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة لهم، فإن أتى ما يخالف ما يأمر به لانحطت درجته في عيون متبعيه، ولشكوا في أمره وارتابوا في معتقده، ولقل مناصروه، وهو ما لم يحدث بل كثروا ويكثرون إلى قيام الساعة.

وسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كل السبل الصحيحة لكي تصل دعوة الإسلام إلى الناس كافة دون أي نقص أو زيادة فيها، ولذلك اتصف بالعديد من الصفات الحميدة التي تعينه على تبليغ دعوته، وقد أجملت السيدة عائشة رضي الله عنها كل هذه الصفات في كلمة واحدة فقالت: «كان خلقه القرآن».[3] فكيف ينافق أو يكذب من كان خلقه القرآن؟!

وليس أدل على صدق النبي وبعده عن النفاق من شهادة الأعداء له، فقد كان يلقب بين أهل مكة قبل الإسلام بـ "الصادق الأمين"، ولم تتغير هذه الصفة بعد الإسلام، فنجد أبا سفيان بن حرب - وكان لا يزال كافرا - عندما سأله هرقل ملك الروم عن النبيـ صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "ما جربنا عليه كذبا قط"، والأمثلة في هذا الجانب أكثر من أن تحصى.

ومما ينفي صفة النفاق المزعومة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ما جاء في القرآن الكريم من الآيات التي تعاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على تركه الفعل، وفعله نقيضه أو خلافه، فلو كان النبي منافقا لأخفى ذلك ولم يظهره حتى لا يكون ذلك مطعنا فيه.

فلقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تبليغ كل ما يوحى إليه من ألفاظ الوحي لكمال البلاغ، وأداء الأمانة، وهذا ينافي الكذب والنفاق والتضليل، فهو يبلغ عن ربه أدق التفاصيل، أو تلك الأحداث التي تتناول قصصا شخصية، أو قضايا ذات خطر وحساسية كبيرة، دونما تضليل أو تعمية، فنراه - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يثبت ويملي على كتبة الوحي كل ما يوحى إليه من كتاب رب العالمين.

انظر إليه - صلى الله عليه وسلم - وقد أثبت كل ما عوتب على فعله خلافا للأولى، ولو كان منافقا مضللا لأخفى هذا ولم يأت به في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، حتى لا يكون ذلك مطعنا فيه، كلا، بل رواه على علاته على هذا النحو من العتاب والتأديب والتقويم.

لقد كان - صلى الله عليه وسلم - صادقا مع نفسه أولا قبل أن يكون صادقا مع المخلوقين، وذلك حين أثبت كل ما ألقي إليه من الوحي بما فيه من عتاب له في غير آية مثل قوله سبحانه وتعالى: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة)، وقوله سبحانه وتعالى: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67)( (الأنفال)، وقوله عز وجل: )ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)( (التوبة)، ونحوه في القرآن الكريم، لم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - غضاضة في أن يذكره ويتلوه، إنها الأمانة التي تحملها الأمين والتي تنوء عن حملها الجبال الرواسي.

أبعد هذا كله يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مضلل ومنافق؟ لو كان كذلك لما زف لنفسه كل هذه الآيات ولاقتصر على ما يمدحه ويعلو بشأنه ويتفاخر به.

بل ما الداعي إلى أن يظهر الرسول الوحي الذي يتناول أهل بيته في حادثة الإفك، وهي قصة شخصية جدا؟ وما الذي يجبره على إثبات قضية أكثر حساسية وخطورة في وقت يزداد فيه أنصاره؟ أما يخشى أن يكون إثارتها مثارا للشبهات والريب حوله؟ ما الذي يجبره على فعل هذا إلا الصدق، وعدم النفاق كما في حادثة زيد بن حارثة متبناه؟ قال سبحانه وتعالى: )وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)( (الأحزاب).

ثم إننا نود أن نسأل هؤلاء الذين يرمون النبي - صلى الله عليه وسلم - بتهمة النفاق: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقا كما تزعمون، فلماذا لم ينافق ويداهن كبار كفار قريش حتى تدين له قريش بأكملها، وهو في أحلك الظروف، ليس لديه أنصار سوى الضعفاء وهم قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة؟ لـم لم يفعلها - ولو رياء - حتى يستقطب أناسا للدعوة، ثم ينقلب على ذلك الوضع بعدما تشتد قوته، ويكثر أنصاره، والضرورات تبيح المحظورات؟ إن كمال الصدق والوضوح الداخلي والخارجي لهذا النبي غالب، يأبي كل هذا ويرفضه؛ لأنه واضح والحق الذي جاء به صادح، وقد أخبر عن ذلك مولاه في قوله عز وجل: )ودوا لو تدهن فيدهنون (9)( (القلم)، ولم لم يخدع مسيلمة الكذاب حينما جاء يطلب إليه أن يجعل له الأمر من بعده حتى تسلم نجد بأكملها، وهو في أمس الحاجة إلى أنصار ومؤيدين؟ بل يأبى ويقول: )إن الأمر كله لله( (آل عمران: ١٥٤).

ثم ألستم تتفقون معنا أن أكبر الأسباب الداعية إلى النفاق هو الخوف والجبن من إظهار الشيء؟

إننا نتحداكم أن تأتوا بدليل واحد من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على جبنه وخوفه، لا شك أن التاريخ لن ينصركم، وستعجزكم الأدلة، وسترهقكم البراهين الساطعة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على شجاعته.

ثانيا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يركن إلى الراحة إلا قليلا:

لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف الناس بربه، وأعلمهم بجلاله وكماله وصفاته، ومن ثم كان أشدهم تقوى، وأكثرهم عبادة وقياما لليل، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت: يا رسول الله لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبدا شكورا».[4] وقالت: «كان عمل رسول الله ديمة[5] وأيكم يستطيع» [6]؟!

وكان الله - عز وجل - قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مبدأ أمره أن يقوم الليل إلا قليلا، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4)( (المزمل)، فكان قيام الليل واجبا محتوما، قيل: على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، وقيل: عليه وعلى أمته، ثم خفف عن أمته، فنسخ الوجوب وصار مندوبا لأمته، واجبا عليه، ولم يحدد للقيام وقت محدود، بل ترك ذلك إلى القدرة والاستطاعة، قال عز وجل: )إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن( (المزمل: ٢٠)، وقال عز وجل: )ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)( (الإسراء)، ومع ذلك كان دائم العبادة والتهجد، وكان دائم التذكر لله، والتفكر في خلق الله وآلائه، لا يغيب قلبه عن الله، فإن حصل ذلك بسبب شواغل الدنيا وهمومها، استغفر الله تعالى، وهذا هو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليغان[7] على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» [8] [9].

"وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يؤثر ألا ينام على فراش وثير مغرق في إراحة البدن؛ لئلا يستسلم للنوم والراحة، فيقعد به ذلك عن سرعة النهوض لأداء الواجبات؛ ولذلك كان فراشه أدما[10] حشوه ليف، وكانت وسادته أيضا أدما حشوها ليف، وكان له مسح[11] ينام عليه يثنى بثنيتين، وثني له يوما أربع ثنيات، فنهاهم عن ذلك وقال: "ردوه إلى حاله الأول؛ فإنه منعني صلاتي الليلة" [12].

وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحض على قيام الليل، ويبشر من يفعل ذلك بأن الله - عز وجل - يعطيه جائزتين:

الجائزة الأولى: أن الله - عز وجل - يتفضل عليهم برحمته.

الجائزة الثانية: أن يكتبهم الله من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح[13] في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء»".[14] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا - أو صلى - ركعتين جميعا كتبا في الذاكرين والذاكرات».[15] فكيف يحض الرسول على قيام الليل ولا يفعل ذلك، والشواهد تؤكد فعله؟!

وها هو ذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطال حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟! قال: هممت أن أجلس وأدعه» [16].

ولعل لابن مسعود - رضي الله عنه - عذره؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعة الأولى مثلا سورة البقرة، وفي الثانية آل عمران، وفي الثالثة سورة النساء، وكان يطيل القيام ويطيل الركوع، ويطيل السجود في صلاته منفردا في جوف الليل، أما إذا كان مع الناس فإنه يخفف.

وقد ورد في السنة الصحيحة: إطالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القراءة في الركعات التي يصليها في الليل، وبسبب هذه الإطالة كانت هذه الركعات لا تتجاوز إحدى عشرة ركعة، فعن عائشة - رضي الله عنها -: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يجيء المؤذن فيؤذنه» [17] [18].

وكان - صلى الله عليه وسلم - يواظب على قيام الليل، وكان أغلب قيامه لصلاة الليل في أول النصف الثاني من الليل، تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها -: «كان ينام أول الليل ويحيي آخره» [19].

وهذا القيام بعد هذا النوم حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أحب القيام بقوله: «وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود - عليه السلام - كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه». [20] وذلك ليستريح من نصب القيام، فإنه بعد القيام يريح البدن، ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم بخلاف السهر إلى الصباح.

وكانت له أوراد وقراءات قبل أن ينام، فقد جاء أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل - أي سورة الإسراء - والزمر، وجاء أنه: «كان لا ينام حتى يقرأ: )الم (1) تنزيل( (السجدة)، و)تبارك الذي بيده الملك( (الملك: ١)» [21].

وكان - صلى الله عليه وسلم - يواظب على صلاة الضحى، وكان تارة يصليها ركعتين، وهو أقلها وتارة أربعا، وهو الأغلب، وتارة ستا، وتارة ثمانية، وتارة اثنتي عشرة ركعة، وذلك أفضلها وأكثرها.

وكان إذا صلى الفجر تربع في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس، وكانت له نوافل مطلقة بعد المغرب، فتارة يصلي من بعد المغرب إلى العشاء، وتارة يصلي بعد المغرب ست ركعات" [22].

وهذا كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا ونهارا، فأين يجد الوقت الذي يكثر فيه النوم - صلى الله عليه وسلم - علاوة على أعباء الدعوة، المكلف بها، وبالدفاع عما يدعو إليه، هل فعل ذلك، وهو نائم؟!

إن كثرة النوم تتنافى مع طبيعة هذا الدين الذي يجعل من قيام الليل شريعة لازمة لبناء الداعي إلى الله، والسالك الجاد على جادة الجنة.. وهي أبرز سمات التقي، قال سبحانه وتعالى: )إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18)( (الذاريات)، وقال سبحانه وتعالى: )إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16)( (السجدة).

فكيف يكون هذا طابع المؤمن التقي من أهل الجنة، ولا يكون النبي الرائد كذلك؟ لقد وصفته عائشة - وهي أقرب الخلطاء من حياته - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه - فقالت: «كان خلقه القرآن».[23] ولا يمكن أن ندع صفة القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - لمفتريات خصم ليس له على زيفه بينة، بل إن منطق الحياة يصفع زيفه، إذ لا يتصور معه رجل كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيا في محيط خصومات عاتية من الفرس والروم ومشركي العرب، ثم يدع دفة سفينته بين الموج اللجي لينام. وهل ينام إنسان في الغابة، أو في بحر يقصف بشراع سفينته الرياح؟ إن عوام الناس يدركون من بدهيات الحياة أن الجائع والخائف لا ينامان، فما بالك بمن يحمل هم العالمين لا هم نفسه وحاجياته.

إن الرجل المشغول بجسام الأمور يبيت وهذه الأمور تلاحقه في نومه، فكيف الأمر ورسول الله يؤسس مجتمعا جديدا لبناء شامخ يضم البشرية كلها؟ إن صح لنا أن نحلل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحليلا نفسيا من كلماته فإننا نقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بدعوته إلى الحد الذي لا يهنأ له معه نوم، بل تلاحقه متاعب رسالته في نومه، وذلك هو ما توحي به عبارته المعروفة: «تنام عيني ولا ينام قلبي»[24].

وإن أردنا تحليله النفسي من تصرفاته لقلنا: إن الرجل النئوم يغط في نومه لا يأبه بشيء حوله، أما غيره فيهب من نومه لأقل نبأة[25]، وينهض في نشاط من فراشه، وقد ثبت أنه كان إذا سمع صريخ بالمدينة، وهب القوم لإغاثة الصريخ، وجدوا رسول الله قد سبقهم لإنقاذه، وآب بعد أن أدركه فردهم من الطريق، لقد نهض لأول همسة صياح نشيطا، فأدركه على فرس أبي طليحة ثم رجع ولما يصل القوم مكان الصريخ، وما لهذا دلالة نفسية إلا أن الرسول كان نومه خفيفا وقليلا، وإلا فمتى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف أمور "دين ودولة" - ولما تستكمل الدولة قوانينها ولا الدين شرائعه - إذا كان نئوما كما يزعمون[26].

إذن.. لقد كان النبي مشغولا بإيصال دعوته إلى الناس جميعا شرقا وغربا، وقد دافع عن تلك الدعوة، وخاض الغزوات والحروب، فهل فعل ذلك وهو نائم؟! بالطبع لا.

ثالثا. من الصفات التي اختص بها - صلى الله عليه وسلم - أنه كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه:

يختلف نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نوم غيره من البشر، فالإنسان العادي عندما ينام لا يتحرك من حواسه إلا ما يبقيه على قيد الحياة فقط، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينام قلبه وإن نامت عيناه فهو في ذكر متواصل لله - عز وجل - ولا يفتر قلبه عن ذكر الله وإن فتر لسانه، وأكدت العديد من الأحاديث النبوية على هذا، من ذلك ما جاء عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يا عائشة، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي». [27] فنومه - صلى الله عليه وسلم - كله يقظة؛ ليعي الوحي إذا أوحي إليه في المنام؛ إذ رؤيا الأنبياء - عليهم السلام - وحي؛ بدليل قوله - عز وجل - حكاية عن إبراهيم عليه السلام: )فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى( (الصافات: ١٠٢) [28].

ويؤكد ذلك ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: «كيف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني ولا ينام قلبي»[29].

وفي رواية أنس بن مالك: «والنبي - صلى الله عليه وسلم - نائمة عيناه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم».[30] فالأنبياء جميعا متوجهون لله بقلوبهم وأجسادهم وأرواحهم، حتى في نومهم، وإن كان قليلا، كما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

من خلال ذلك يمكن لنا أن نقول لهؤلاء الذين يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من نومه ويصلي بغير وضوء: إن ما تظنونه مطعنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا خطأ في فهمكم، فإن الحقيقة التي تجهلونها هي أن انتقاض الوضوء بالنوم راجع إلى فقد السيطرة عند النوم على أماكن الإخراج، فإن تمت السيطرة على هذه الأماكن وضبطها فلا ينتقض الوضوء، وبناء عليه فإن الذي ينام وهو جالس متمكن في جلسته - كما قرر بعض الفقهاء والعلماء - فإنه لا ينتقض وضوءه سواء في ذلك النبي أم غيره.

وإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام قلبه حين تنام عيناه، فإنه تكون له سيطرة على ذاته، وهذه منحة من الله له، معها لا ينتقض وضوءه كما لا ينتقض وضوء الرجل العادي إذا نام وهو جالس متمكن، والله يمنح الإمكانات لمن يشاء لا حرج على فضله.

فعلى الرغم من أن النبي يشارك أمته في التشريع غالبا، إلا أن له خواص اختصه الله بها، فيشدد عليه أحيانا على نحو ما فعل في قيام الليل، وصوم الوصال، وينقص له أحيانا على نحو ما فعل في إعفائه من المهر والولي، والشاهدين، والقسم بين الزوجات في المسائل العائلية.

وعليه فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بغير وضوء كما يزعمون؛ لأن وضوءه - بكل بساطة - لم يكن ينتقض بنومه صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة:

  • لقد التزم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدق ظاهرا وباطنا، فلم يؤثر عنه أنه كذب قط، وقد شهد له بذلك حتى أعداؤه مثل أبي سفيان - قبل أن يسلم - حينما سأله هرقل: «هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فأجابه: أن لا»، ولا شك أن المنافق لا يمكن أن يكون صادقا أبدا.
  • لقد حرص - صلى الله عليه وسلم - على تبليغ كل ما يوحى إليه من ربه من ألفاظ، فلم يكتم منها ما يخالف هواه، وهذا ينافي الكذب والنفاق والتضليل المنسوب إليه كذبا وزورا.
  • لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقا كما يزعم هؤلاء، لنافق كفار قريش في وقت ضعفه، وهو في أحلك الظروف، فإذ لم يثبت هذا، ثبت له كمال الصدق والوضوح.
  • لقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا من النفاق والمنافقين، ولو فعل - صلى الله عليه وسلم - ما حذر منه، لانفض عنه أتباعه ولشكوا في أمره، وهذا ما لم يكن؛ لأن ساحته - صلى الله عليه وسلم - بريئة من الكذب والتضليل والنفاق.
  • كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على طاعة الله - عز وجل - فكان يكثر من الطاعات لينال رضي الله - عز وجل - وكان كثير الصلاة في الليل وكثير الصيام في النهار، وجاهد في سبيل تبليغ دعوة الإسلام صحيحة واضحة لا عوج فيها، إلى جانب كونه مرشدا للمسلمين إلى طريق النجاة، فهل يعقل مع كل هذه المهام العظيمة أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير النوم والراحة كما يدعي هؤلاء المتوهمون؟!
  • ليس صحيحا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام نوما عميقا ثم يقوم يصلي بغير وضوء. وانتقاض الوضوء بالنوم - كما قرر بعض الفقهاء - راجع إلى فقد السيطرة عند النوم على أماكن الإخراج، فلا ينتقض وضوء النائم جالسا سواء كان النبي أم غيره، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، فكانت له سيطرة على ذاته، وهذه منحة إلهية وهبها الله لأنبيائه - صلوات الله عليهم - دون غيرهم من البشر.

 

 

 

(*) السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1998م. الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، القاهرة، 1407هـ/ 1987م. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (33)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (220).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب إذا خاصم فجر (2327)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (219)، واللفظ للبخاري.

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24645)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب ما دعا الله أن يحسن خلقه (308)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4811).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب التهجد، باب قيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى ترم قدماه (1078)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (7304).

[5]. الديمة: من الدوام؛ أي: متصلا.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6101)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1865).

[7]. الغين: الغفلة والسهو.

[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (7033).

[9]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص633، 634 بتصرف يسير.

[10]. الأدم: باطن الجلد.

[11]. المسح: كساء من جلد.

[12]. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، د. محمد رواس قلعجي، دار النفائس، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص 66، 67.

[13]. نضح: رش.

[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7404)، وأبو داود في سننه، كتاب التطوع، باب قيام الليل (1310)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5807).

[15]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصلوات، باب من كان يأمر بقيام الليل (6613)، وأبو داود في سننه، كتاب التطوع، باب قيام الليل (1/ 13)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1161).

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل (1084)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (1815)، واللفظ له.

[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الضجع على الشق الأيمن (5951)، وفي مواضع أخرى.

[18]. الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، عبد الحليم محمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974م، ص 145، 146 بتصرف يسير.

[19]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي في الليل (1762).

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود (3238)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا (2796).

[21]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14700)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (585).

[22]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص 215، 216.

[23]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24645)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب ما دعا الله أن يحسن خلقه (308)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4811).

[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنام عيناه ولا ينام قلبه (3376).

[25]. النبأة: صوت ليس بالشديد.

[26]. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1998م، ص110، 111 بتصرف يسير.

[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب التهجد، باب قيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالليل في رمضان وغيره (1096)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي في الليل (1757).

[28]. شمائل المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص 94 بتصرف يسير.

[29]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنام عيناه ولا ينام قلبه (3376).

[30]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنام عيناه ولا ينام قلبه (3377)، وفي موضع آخر.

 

  • الخميس PM 09:59
    2020-09-17
  • 1620
Powered by: GateGold