المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409000
يتصفح الموقع حاليا : 410

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى اضطراب القرآن الكريم في حديثه عن يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز

دعوى اضطراب القرآن الكريم في حديثه عن يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين اضطراب القرآن في حديثه عن قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز؛ حيث ذكر بعض المفسرين عند تفسير آيات سورة يوسف من (25: 29)، أن الشاهد على براءة يوسف - عليه السلام - كان ابن عم لها وكان صبيا في المهد. ويتساءلون: من أين جاء هذا الصبي ولم يكن في البيت أحد؟! كما يتساءلون: كيف يسجن عزيز مصر يوسف مع علمه ببراءته؟ وكيف يرضى بهذا العار؟ وكيف تهدد الزوجة يوسف بالسجن إن لم يفعل ما أمرته به من الفحشاء فيقبل أن يسجن لا لفحشه، بل لعفته؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) لم يتناقض القرآن بشأن قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - ولا في غيرها؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومن ذلك ما في الكتاب المقدس من ترهات في هذا الشأن.

2) حديث القرآن الكريم عن سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز في غاية السلاسة والإحكام، مما يدل على أنه الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

3) قول بعض المفسرين: إن الشاهد على براءة سيدنا يوسف - عليه السلام - كان طفلا في المهد أنطقه الله تجاوز وإسراف لا يحتمله السياق، بل الأصوب أنه كان ابن عم لها وكان يجلس مع زوجها ساعة الحدث.

4) براءة يوسف - عليه السلام - لا تقتضي أن يسجنه ع0زيز مصر، كما شهد له الجميع: عزيز مصر، الزوجة، والنسوة، كما شهد له رب العزة وكفى بها شهادة. لكنه سجنه درءا لفضيحة زوجته، وسترا لعرضه؛ حتى ينسى الناس هذه الحادثة.

التفصيل:

أولا. لم يتناقض القرآن في هذا الشأن؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومن ذلك ما في الكتاب المقدس من ترهات وتناقضات:

إن القرآن الكريم الذي تكفل الله - سبحانه وتعالى - بحفظه من التحريف والتغيير: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). يرد على ما جاء في الكتاب المقدس من تحريفات عظيمة في حق أنبياء الله ورسله، وفي غيرها من الأمور الأخرى، وقد فضح الله أمرهم وأخبر بتحريفهم للتوراة والإنجيل؛ يقول سبحانه وتعالى: )يحرفون الكلم عن مواضعه( (النساء: 46)، ويقول سبحانه وتعالى: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة).

ثم إنك لتعجب أشد العجب من قصص وقصاص التوراة الذين أطلقوا العنان لخيالهم المريض وأفكارهم الخبيثة التي تبث سمومها وأمراضها على صفحات كتاب يفترض أن يكون مقدسا - كما يزعمون - ولا ندري مصدر القداسة في هذه القصص القبيحة أو الحكايات الأسطورية الفاضحة أو الخيالات الماجنة عن أشخاص أكمل الله لهم الخلق والخلق، وجعلهم للناس قادة وللبشر سادة[1]، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: أن داود - عليه السلام - وقع على بتشيع زوجة القائد أوريا، وزنا بها، وجره عشقه لها وهيامه بها أن دفع زوجها إلى مقدمة الجيش حتى قتل غدرا بوشية من داود إلى أحد قادته في جيش أوريا، ومنها أن هارون - عليه السلام - صنع عجلا وبنى له مذبحا وعبده مع بني إسرائيل وسجدوا له، وذبح الذبائح وقدم القرابين بين يديه، وتحدى تعاليم الله عليه السلام وخالف أوامره!! ومنها أن إبراهيم - عليه السلام - تاجر بامرأته لكل ملك نزل بأرضه وجعلها عرضا مباحا، لا يرد عنها يد لامس، ولا يكبح عنها[2] شهوة راغب[3].

وقد برأ الله في القرآن أنبياءه مما لحق بهم يقول سبحانه وتعالى: )وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47)( (ص)، ويقول سبحانه وتعالى: )ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32)( (الدخان)، وقال سبحانه وتعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران).

وبناء على ذلك فإن عدم ذكر التوراة لقصة الشاهد التي ورد ذكرها في القرآن الكريم - في قصة امرأة العزيز مع سيدنا يوسف - عليه السلام - لا يعني اضطراب القرآن أو تناقضه؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومضيفا لما ورد في كتبهم من قصص، وإنما يدل هذا على إحكامه، وعلى أنه الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم تذكر التوراة أيضا قصة استباق الباب من يوسف - عليه السلام - وامرأة العزيز، مما تفرد به القرآن وإنما ساقت التوراة أنها لما أمسكت بثبوت يوسف خلعه لها، فنادت الخدم وأخبرتهم، بأن بعلها جاء برجل عبراني يداعبها، وأن يوسف لما رأى المكان خاليا طلب منها أن يضاجعها، فأبت وصرخت بصوت عظيم، وكان استعد للأمر، فخاف حين استغاثت وهرب وترك عندها قميصه. وهذا يدل على التشويه الذي أصاب قصة يوسف - عليه السلام - وغيرها في نصوص التوراة المحرفة[4].

ثانيا. حديث القرآن عن سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز، في غاية السلاسة والإحكام:

 فالتصوير الحقيقي للقصة في القرآن الكريم هو التصاعد الصادق لأحداث الموقف بين الطرفين، فسيدنا يوسف - عليه السلام - يمتنع عنها، ويقوم مبادرا إلى الباب للهرب منها، فتتعلق بقميصه من الخلف، فتجذبه لمنعه من الهرب دون الوصول إلى مأربها، وبذلك شق القميص، ووجدا زوجها عند الباب جالسا مع ابن عمها؛ فهابته، وألصقت التهمة به؛ لتتحول من جانية إلى مجني عليها بكل مكر ودهاء وقالت: )قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25)( (يوسف)، ونلاحظ هنا أن خلق يوسف - عليه السلام - ما كان ليجعله يفشي هذا السر ويفضح المرأة لكنها قلبت الحقائق؛ ليتحول الجاني إلى مجني عليه، فكان عليه أن يبرئ نفسه؛ لأن هذا طعنا في أمانته مع من أحسن إليه، وإذا نظرنا إلى الموقف نظرة فاحصة لوجدنا أن امرأة العزيز تصعد رغبتها من مراودة إلى تغليق الأبواب إلى تهيؤ وطلب صريح، إلى محاولة الاقتراب منه بالقوة، وهو يقابلها بتصعيد الرفض والإباء: )قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)( (يوسف) [5].

فيوسف - عليه السلام - لم يجد معاذا إلا الله؛ لأنه سبحانه الذي أعطاه الحكم والعلم، وقال له: هذا حلال وهذا حرام، والله تعالى قادر دائما أن يعيذ عباده، ويمنع عنهم ما يكرهون وكلمة "معاذ الله"عند المؤمن إذا قالها فلا بد أن الأمر عصيب.

ولم يوافق يوسف - عليه السلام - على ما تريده، وطلب العون من الله، وقوله عليه السلام: )أحسن مثواي( أي نجاني من الجب ومن شر إخوتي، وهيأ لي مكانا رغدا؛ لأعيش فيه فلا أكافئه بأن أعصيه، وأن أجعل نعمه على وسيلة لمعصيته خاصة أن زوجها عزيز مصر، قد أكرم يوسف - عليه السلام - فهو القائل: )عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا( (يوسف: 21)[6].

وبذلك يتضح لنا أدب اللجوء إلى الله في القرآن الكريم، وهو ما أدب الله - عز وجل - به أنبياءه وعباده الصالحين.

ثالثا. تحديد الشاهد:

لا بد أن زوج المرأة بطبيعة الحال لجأ للتحقيق في القضية، والتحقق من الأمر، فوجد خيطا يدله على التعرف على تحديد الجاني، والمجني عليه، )قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26)( (يوسف) ويكفي أنه من أهلها حتى يكون ألزم وأقوى في الحجة، وأظهر في براءة يوسف - عليه السلام - وأنفى للتهمة.

واختلف العلماء في شاهد يوسف - عليه السلام - فقال السدي: إنه ابن عمها، الذي كان جالسا أمام الباب مع زوجها بدليل قوله عليه السلام: )وشهد شاهد من أهلها( (يوسف: 26) وقال سعيد بن جبير والضحاك: كان الشاهد صبيا في المهد أنطقه الله.

 أما عن الحكم فقد لخصته الآية الكريمة فيما يلي: )وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف).

وهنا تظهر فراسة الشاهد في إحقاق الحق، فقد حكم بما قرأناه في الآية الكريمة قبل أن يرى ثوب يوسف؛ لذا نجد نوعا من العدالة، ثم رتب على رؤيته للقميص ترجيح حكم على آخر، ثم كان الحكم، والكيد هو الاحتيال على إيقاع السوء بشخص ما على أن يتم ذلك في الخفاء؛ لأن المحتال ليس له القدرة على أن يواجه عدوه؛ لذلك يدبر له في الخفاء، وقوله - عليه السلام - على لسان الزوج: )إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف) دليل على أن المرأة كيدها عظيم وضعفها أعظم.

وحينما عرف العزيز أن المرأة هي المذنبة، طلب من يوسف - عليه السلام - ألا يتحدث في هذا الأمر حتى لا تسوء سمعة العزيز وزوجته بين الناس )يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف)[7].

رابعا. براءة يوسف عليه السلام:

وهنا نجد أن براءة سيدنا يوسف - عليه السلام - شهد بها الكثيرون، كما قال الإمام الفخر الرازي: إن يوسف قد شهد الله تعالى ببراءته بقوله سبحانه وتعالى: )إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف).

وشهد الشيطان ببراءته بقوله سبحانه وتعالى: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص)، وشهد ببراءته الشاهد من أهل امرأة العزيز، إذ قال: )إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف).

وشهد ببراءته النسوة اللائي قطعن أيديهن بقولهن: )ما علمنا عليه من سوء( (يوسف:51)، وشهدت ببراءته امرأة العزيز بقولها: )الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف). فالذي يريد أن يتهم يوسف - عليه السلام - بالهم عليه أن يختار أن يكون من حزب الله، أو من حزب الشيطان، وكلاهما شهد ببراءة يوسف - عليه السلام - فلا مفر من الإقرار بالحق على أية حال[8].

شيوع الخبر في المدينة، وتحدث النساء به:

رغم هذا التحفظ والتستر شاع الخبر في المدينة، وانتشر بين النساء، فربما يكون أحد العاملين بالقصر هو الذي أشاع الخبر أو ربما أشاعه امرأة من النسوة اللاتي يعملن في خدمة امرأة العزيز، فالمنطقي أن الخدم سمعوا الضوضاء وأمر كهذا لا يخفى على هؤلاء على كثرتهم في القصر.

المهم أن الخبر شاع ولاكته[9] أفواه النساء، لائمين امرأة العزيز على غرامها بغلام مملوك اشتروه بدراهم معدودة، وهي امرأة العزيز[10]، ولما عرفت امرأة العزيز ما سمعته من أخبار، وعرفت أنهن يردن إهانتها والتشهير بها مكرت بهن حتى يدخلن في تجربة عملية ويراودن يوسف - عليه السلام - عن نفسه فلا يكون هناك لوم ولا عذل.

قال سبحانه وتعالى: )فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا( (يوسف: 31)، ثم قالت ليوسف عليه السلام: )اخرج عليهن( حتى لا ينتبهن من شدة جمال يوسف - عليه السلام - وحسنه فيقطعن أيديهن: )فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31)( (يوسف)، حيث وجدنه أكبر مما تخيلنه، وهنا يظهر عناد المرأة وكبرياؤها مرة أخرى؛ حيث أعلنت أمام النسوة بعد أن فقدت حياءها وتحفظها: )ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)( (يوسف)، ولم تقل سأبيعه أو أطرده؛ لأنهن قد يسارعن بشرائه فقطعت بذلك هذا الأمل الذي ربما يساورهن، معلنة أنه لن يخرج من القصر، فهن أكبرنه، وهي ستذله وتهينه إذا لم يستجب لها.

ولم يجد يوسف إزاء هذا الموقف إلا اللجوء لربه سبحانه ليعصمه من كيدهن: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف: 33). فاستجاب له ربه - عز وجل - ونجاه من هذا الوسط الحافل بالفتن، فالله - عز وجل - يريد في قولهعليه السلام: )وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33)( (يوسف) [11] أن يثبت ليوسف - عليه السلام - بشريته وفحولته، فكان قوله هكذا: إما أن يصرف الله - عز وجل - عنه كيدهن، وإما أن يقع فيما لا رغبة له فيه، فدعا الله مخلصا في ساعة اضطرار فهو في سن خطيرة سن البلوغ والرجولة، فقد يميل إليهن ويكون من الجاهلين إن لم يعصمه الله وهو سميع لما يقول عليم بحاله: )فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34)( (يوسف) [12].

إذن فقد يتساءل بعضهم: لماذا لم ينجه ربه من محنة السجن؟ لقد كان أمام يوسف - عليه السلام - محنتان: محنة السجن ومحنة فتنة النساء وكيدهن، والله تعالى قادر على أن ينجيه من كل المحن والفتن، ولكنه البلاء والابتلاء الذي هو سنة في حياة الأنبياء والمرسلين، فهم أشد الناس بلاء، والبلاء تمحيص واختبار ورفعة في المنازل والدرجات، ولا يصح أن يبتلي نبي من أنبياء الله تعالى بالوقوع في المعصية، إنما يصح أن يبتلى بأي بلاء آخر: كالسجن أو الإيذاء والتعذيب؛ لأن ذلك - مما لا شك فيه - يصقل مواهبه و يرفعه الدرجات العلى، كما أن الابتلاء بالسجن كان له من الحكمة وجوه منها ما تدركه عقول البشر، ومنها ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل - وربما يكون من الحكم صرف فتنة النساء عن يوسف - عليه السلام - فإنه لشدة جماله تعرض للفتنة من جميع من رأينه - كما ذكر القرآن - فقد يخرج من بيت العزيز ثم يتعرض إلى نفس الفتنة في أماكن أخرى؛ فكان السجن صرفا له وإبعادا عن أعين النساء، كما كان السجن مجالا خصبا لدعوة يوسف - عليه السلام - وهو المنطلق الذي وصل منه - بإرادة الله عز وجل - إلى التمكين في الأرض وتحقيق رؤياه.

وقد يتساءل آخر: لماذا سجنه العزيز، وقد تأكد من براءته؟ الراجح أنه أراد أن يستر خطأ امرأته ويدرأ عن بيته الفضيحة حتى يعلم الناس أن يوسف هو الجاني، ولكن يبقى مع هذا موقف العزيز دالا على أنه كان ضعيف الغيرة على عرضه؛ لأنه عبر عنه بمجرد لوم زوجته، وطلب الاستغفار: )يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف). يقول سيد قطب: "وهنا تبدو صورة من الطبقة الراقية في المجتمع الجاهلي، رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية، وميل إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز إلى يوسف - عليه السلام - البريء، فيأمره بكتم الأمر، وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجه الخائن بأسلوب لبق[13] يواجه به الحادث الذي يثير الدم في العروق"[14].

ولعل مكوث يوسف فترة من الزمن في السجن كان خيرا له: )وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم( (البقرة: 216)، وكما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء[15] شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء[16] صبر فكان خيرا له...»[17].

وهكذا نجد سيدنا يوسف - عليه السلام - لا يفتر عن الدعوة في سجنه، وشهد له رفاق السجن بذلك: )إنا نراك من المحسنين (36)( (يوسف) أي: ليس من المنحرفين الذين يستحقون الإهانة بسجنهم وتعذيبهم.

كما خرج من سجنه كأكرم ما يكون الرجل، وهيئ له ملك مصر، والخير كله كان في يده آنذاك.

وبهذا يتبين لنا أن براءة سيدنا يوسف - عليه السلام - قد أثبتها القرآن الكريم، دون تناقض أو اضطراب، كما يدعون، فقد عرض القضية عرضا سلسا جميلا، حيث أقر الجميع ببراءة سيدنا يوسف - عليه السلام - وكان من نتيجة ذلك ليس خروجه من السجن فحسب، لكن ملك خزائن مصر وصارت الأمور بيده. فأين التناقض أو الاضطراب إذا في عرض القصة؟!

الخلاصة:

  • لم يتناقض القرآن الكريم بشأن قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز، ولا في غيرها؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومضيفا إليها مثل: قصة الشاهد، وحادثة استباق الباب وغيرها، ومصوبا ما جاء في الكتاب المقدس من ترهات، وتناقضات في هذا الشأن؛ فمثلا نجد الكتاب المقدس، يذكر أن يوسف - عليه السلام - فر من امرأة العزيز تاركا ثوبه، فهل من المعقول أن يخرج عاريا أمام الزوج؟ فيثبت على نفسه الجريمة، أفلا يتناقض هذا مع المنطق والعقل السليم؟!
  • إن القرآن محكم تمام الإحكام إضافة إلى ما نلمحه من أدب التناول بألفاظ خفيفة، لا تخدش الحياء، على عكس التوراة التي تتسم بالسفور الصارخ، ولا عجب في ذلك فهي محرفة، من وضع البشر، فشتان ما بين هذا وذاك.
  • حديث القرآن الكريم عن سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز غاية في السلاسة والإحكام؛ فالأحداث مرتبة لا تناقض فيها يسلم بعضها إلى الآخر، مما يدل على أنه الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فمثلا: مسألة الشاهد التي يزعمون أن القرآن تناقض بشأنها جاءت واضحة رقراقة[18] في القرآن الكريم، فقد ذكر أنه كان من أهلها، ورغم ذلك فقد حكم ببراءة يوسف - عليه السلام - على أساس من المنطق السليم.
  • أن قول بعض المفسرين إنه كان طفلا في المهد أنطقه الله من قبيل المغالاة، ولا يستدعيه سياق الموقف، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فلا تناقض في ذلك.
  • أما مسألة تبرئة سيدنا يوسف - عليه السلام - فقد برأه رب العزة فقال سبحانه وتعالى: )إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف)، فضلا عن الآخرين: العزيز، والزوجة، والنسوة، الشاهد، بل الشيطان نفسه، ورغم تأكد الزوج من براءة يوسف كان لا بد من سجنه درءا للشبهات وسترا لعرضه الذي لاكته الألسنة، أما تهديد الزوجة يوسف - عليه السلام - بالسجن أمام النسوة فكان من قبيل الضغط عليه حتى يقبل ما تريده منه، ثم من قبيل امتهانه وإذلاله بعد أن أحست بالطعن في كبريائها وضياع كرامتها كأنثي فقد أبي يوسف - عليه السلام - أن يفعل بها الفاحشة - وإن شئت فقل عصمه ربه - وهي لا تزال تريده وقد شغفها حبا، كما حكى القرآن الكريم وقد أرادت إذلاله أمام النسوة إن ظل على عناده واعتصامه.

 

 

 

 

(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.islameyat.com

[1]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص30 بتصرف يسير.

[2]. يكبح عنها: يرد عنها.

[3]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص33 بتصرف يسير.

[4]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص158: 161 بتصرف.

[5]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص135 بتصرف.

[6]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص181 بتصرف يسير.

[7]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص136 بتصرف.

[8]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص160، 161.  سيب

[9]. لاكته: تحدثت به.

[10]. قيل: إن لفظ العزيز كان يطلق في هذا الزمان على رئيس الشرطة.

[11]. أصب: أحن وأميل إليهن.

[12]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص187: 193 بتصرف.

[13]. لبق: ظريف.

[14]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص1983 بتصرف.

[15]. السراء: الشيء السار.

[16]. الضراء: الشيء الضار.

[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره لله خير (7692).

[18]. الرقراقة: الواضحة المتلألأة.

  • الثلاثاء PM 10:32
    2020-09-08
  • 1504
Powered by: GateGold