المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409064
يتصفح الموقع حاليا : 234

البحث

البحث

عرض المادة

توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين النعت والمنعوت في التذكير والتأنيث

           توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين النعت والمنعوت في التذكير والتأنيث(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم خرج عن الصواب في اللغة، فلم يطابق بين النعت ومنعوته في النوع: التذكير والتأنيث، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )وأحيينا به بلدة ميتا( (ق: 1١)، وقوله تعالى: )وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6)( (الحاقة: 6)؛ حيث وصف "بلدة" وهي منعوت مؤنث بالنعت "ميتا" وهو مذكر، ووصف "الريح" وهي منعوت مؤنث بالنعت "صرصر" وهو مذكر، والصواب في ظنهم أن يقال: "بلدة ميتة" و "ريح صرصرة"**.

وجها إبطال الشبهة:

الأصل في الصفة أن تتبع الموصوف في أربعة أمور هي:

  • النوع: التذكير أو التأنيث.
  • الإعراب: الرفع أو النصب أو الجر.
  • العدد: الإفراد أو التثنية أو الجمع.
  • التعيين: التعريف أو التنكير.

كما في نحو: استغرق في نوم عميق، فقد توافق النعت "عميق" مع منعوته "نوم" في أربعة أمور، هي: التنكير، الإفراد، الجر، التذكير، وبتطبيق هذه القاعدة على الآية الكريمة، قد يتصور بالنظرة العجلى أن الآيتين فيهما مخالفة للقاعدة المشروحة؛ حيث يظن أن النعت في الآية الأولى؛ وهو كلمة "ميتا" قد وافق المنعوت "بلدة" في ثلاثة أمور فقط، لا أربعة كما يقتضيه القياس وهي التعريف والإفراد، والإعراب، وقد خالفه في النوع، وهو التأنيث، وكذلك الحال في الآية الثانية حين يرون الصواب أن يقال: "بريح صرصرة".

وبين أيدينا وجوه في رد هذا التوهم؛ منها:

1)  فيما يتعلق بقوله سبحانه وتعالى: )بريح صرصر( فإن لفظة "صرصر" وصف خاص لكلمة "الريح" المؤنثة، ولا تأتي وصفا لمذكر؛ فلا تحتاج إلى علامة فارقة بين المذكر والمؤنث، مثل: حائض، وحامل، ومرضع، فكلها أوصاف خاصة بالمؤنث.

2)    وفيما يتعلق بقوله سبحانه وتعالى: )بلدة ميتا( ففيه وجهان:

  • لفظة "بلدة" هنا بمعنى البلد والمكان، وهذا يعرف في العربية بالحمل على المعنى؛ ومن هنا نعتت "بلدة" المؤنثة بنعت مذكر، وهو "ميتا"؛ حملا على معناها.
  • لفظة "بلدة" مؤنث مجازي، يجوز في وصفه والإخبار عنه، التذكير والتأنيث على حد سواء.

التفصيل:

أولا. فيما يتعلق بقوله تعالى: )بريح صرصر(، فإن كلمة "صرصر" من الصفات المختصة بالمؤنث، مثل: حائض، وحامل، ومرضع؛ وذلك أن التاء التي للتأنيث - تأتي للتفريق بين المذكر والمؤنث، إذا كانت الصفة تستعمل لهما معا، كما تقول: طالب وطالبة، أما إذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث، فليس هناك حاجة لهذه التاء. والصرصر: الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي: دوي في هبوبها من شدة تنقلها وسرعتها، وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها؛ كتضعيف كبكب للمبالغة في كب، وأصله: صر، أي: صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه؛ لأنه لا يجري إلا على الريح، وهي مقدرة للتأنيث[2].

ولم يرد في القرآن إلا وصفا للريح بدون التاء في جميع المواضع، وهي:

  • قوله سبحانه وتعالى: )فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات( (فصلت: ١٦).
  •  وقوله سبحانه وتعالى: )إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19)( (القمر).
  • وقوله سبحانه وتعالى: )وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6)( (الحاقة).

والمعنى: وأما عاد - قوم هود - فأهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد وهي الدبور، وفي الحديث: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور»[3] [4].

ثانيا. أما فيما يتعلق بقوله تعالى: )بلدة ميتا( ففيه وجهان:

  1. جاء النعت "ميتا" مذكرا، مع أن المنعوت "بلدة" مؤنث؛ لأن البلدة في معنى البلد والمكان، والمعنى: وأحيينا به مكانا ميتا، وليس المراد إحياء البشر، وهذا يعرف في العربية بـ "الحمل على المعنى"، وهو كثير جدا في لغة العرب وفي أحاديثهم، بل هو أكثر من أن يحصى، ومن ذلك قول الشاعر:

فإن تعهديني ولي لـمة

فإن الحوادث أودى بها [5]

حيث قال: "أودى"، ولم يقل: "أودت"؛ لأنه حمل الحوادث على معنى الحدثان، وقال آخر:

هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي

بناقة سعد والعشية بارد

فقال: "بارد" ولم يقل: "باردة"؛ لأنه حمل العشية على معنى العشي، ولو قيل فيها: ميتة، لجاز ذلك أيضا؛ لأن المقصود المكان، فقال: "ميتا"[6].

  1. هناك توجيه يرى أن "بلدة" مؤنث تأنيثا مجازيا لا حقيقيا، ومن هنا جاز في الاستعمال اللغوي تأنيث خبرها وصفتها، وجاز تذكيرهما كذلك على حد سواء، سواء كان ذلك في ضرورة الشعر أم في النثر، ومثل ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)، فـ "قريب" هنا جاءت مذكرا، وهي خبر لمبتدأ مؤنث، لكنه مؤنث مجازي؛ ولذلك جاز تذكير قريب.

الأسرار البلاغية في الآيات:

  • في قولـه تعالـى: )وأمـا عـاد فأهلكـوا بريـح صرصـر عاتيــة (6)( (الحاقة) لفظ "عاتية" وصفت به "الريح" على سبيل الاستعارة؛ لشدة عصفها، وأفاد معنى آخر إلى جانب الشدة وهو التمرد، فهي ريح شديدة متمردة.

وفي لفظ "صرصر" أتى اللفظ مطابقا لمقتضى الحال من العذاب والإيلام، فهو يعني: شديدة الصوت، والتي تحدث صرصرة. وقيل: الريح الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق لشدة بردها.

  • في قوله تعالى: )وأحيينا به بلدة ميتا( (ق: 1١) من النكت البلاغية ما يعرف بـ "المجاز المرسل"؛ حيث ذكر هنا "البلدة" وأراد بها الأرض، والمجاز هنا علاقته المكانية، فالله - عز وجل - أحيا بهذا الماء أراض ميتة جرداء.

وكذلك في الآية "استعارة مكنية" [7]؛ حيث صور الأرض أو البلدة بإنسان يحيا، وفيها تشخيص للبلدة، وهذه الاستعارة غرضها استحضار الصورة، وبيان الفرق بين الحيوية والنشاط من جهة، والخمود والموات من جهة أخرى.

وفي الآية كذلك شبه "الجدب" بـ "الموت"، وذلك في انعدام ظهور الآثار، وتذكير "الميت" وهو وصف للبلدة، وهي مؤنث على تأويله بالبلد؛ لأنه مرادفه، وبالمكان لأنه جنسه[8].

 

 

(*) www.godd. way.com

(**) جاء في تفسير هذه الآية ) بريح صرصر عاتية ( أي: باردة تحرق ببردها كإحراق النار؛ مأخوذة من الصر، وهو البرد. قال الضحاك: وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج18، ص259).

وعامة المواضع التي ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها إرسال الريح بلفظ الواحد، فعبارة عن العذاب، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة. (المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص206).

) وأما عاد ( ـ قوم هود ـ فأهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد، وهي الدبور، وفي الحديث: « نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ».  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا" (988)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (2124). و ) عاتية ( أي: متجاوزة الحد في الهبوب والبرودة؛ كأنها عتت على خزانها، فلم يتمكنوا من ضبطها. (صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1600).

[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج11، ص259.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب" (988)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (2124).

[4]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1600.

[5]. اللمة: الشعر الكثيف الذي يلم بالمنكب.

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص7.

[7]. الاستعارة المكنية: هي التشبيه المضمر في النفس المتروك أركانه سوى المشبه، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه.

[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص294.

 

  • الاثنين PM 03:45
    2020-09-07
  • 1525
Powered by: GateGold