المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408921
يتصفح الموقع حاليا : 332

البحث

البحث

عرض المادة

الادعاء بأن القرآن الكريم يقضي بدخول الناس جميعا النار حتى المؤمنين

          الادعاء بأن القرآن الكريم يقضي بدخول الناس جميعا النار حتى المؤمنين(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم نص على دخول الناس جميعا النار حتى المؤمنين؛ وذلك في قوله عز وجل: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71)( (مريم)**، والمقصود من هذه الآية في زعمهم هو: "ما من أحد من الناس إلا داخل في جهنم"، حتى الذين آمنوا يدخلون، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم داخل في هذا العموم، فإن هذا الحكم منطبق عليه كذلك.

وجوه إبطال الشبهة:

فى المعاجم العربية: ورد فلان على المكان، وورد المكان: أشرف عليه، ومر به، دخله أم لم يدخله، وقد حمل المتوهمون المعنى على "الدخول"، وقطعوا بذلك، ولم ينتبهوا إلى أن الإشراف على المكان والمرور به لا يعنى دخوله.

والدليل على هذا المعنى قوله تعالى: )ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون( (القصص: ٢٣)، وهذا الوهم الذي توهموه وليد فهم واه، وجهل عميق بأبسط قواعد اللغة العربية وأساليبها، وكذلك المعلوم من الدين بالضرورة؛ لذلك فهو مردود من وجوه:

1)    أن "الورود على جهنم" قضاء لازم، ومعناه: الجثو حواليها[1]، ولا يعني ذلك دخول الناس جميعا فيها.

2)  أن "الورود" أمر ثابت، ويشمل الأتقياء وغيرهم؛ لأن الصراط - الذي يمر عليه الجميع - مضروب على متن جهنم، فـ "الورود" يعني المرور السريع، وليس البقاء فيها[2].

3)    وقيل: إن "الورود" ليس لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وإنما هو خاص بالمشركين فقط[3].

التفصيل:

أولا. إن قوله تعالى: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71)( خطاب عام لجميع الخلق دون استثناء؛ بدليل قوله - عز وجل - بعدها: )ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)( (مريم)، يعنى الجثو هنا حواليها والاقتراب منها،[4] والدليل ما جاء في آية أخرى، والذي يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع حسيسها، قوله تعالى: )إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون (102)( (الأنبياء).

فمعنى قوله: "مبعدون" أي: عن عذاب النار وألمها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبين منها؛ فيكون الورود بمعنى القرب ومثله قوله تعالى: )ولما ورد ماء مدين(، فـ "الورود" يعني القرب[5]، وقال زهير:

فلما وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصي الحاضر المتخيم [6]

وذكر الراغب الأصفهاني أن "الورود" أصله قصد الماء، ثم يستعمل في غيره، يقال: وردت الماء، أرد، ورودا، وقوله: )وإن منكم إلا واردها(، فقد قيل: منه وردت ماء كذا: إذا حضرته، وإن لم تشرع فيه، وقيل: بل يقتضي ذلك الشروع، ولكن من كان من أولياء الله الصالحين لا يؤثر فيهم؛ بل يكون حاله فيها كحال إبراهيم عليه السلام؛ حيث قال تعالى: )قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69)( (الأنبياء)[7].

و "الورود على جهنم" أمر ثابت بالكتاب والسنة، فمعنى قوله: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71)( أي: إنكم جميعا - متقين ومجرمين - ستردون النار وترونها؛ لأن الصراط الذي يمر عليه الجميع مضروب على متن جهنم.

وقد ورد ذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان[8]، ثم يستجيز الناس، فناج مسلم، ومخدوش به ثم ناج، ومحتبس به، ومنكوس[9]، ومكدوس فيها»،[10] [11] ولعل الحكمة في ورود المؤمن جهنم معرفته نعمة الله عليه، فإذا رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله، ويعلم نعمته ورحمته به.

وتعقيبا على ما سبق يقول القرطبي: اختلف الناس في "الورود"، فقيل: "الورود"؛ أي: الدخول، وقيل: "الورود": الممر على الصراط المستقيم، وإنما نقول: وردت البصرة، ولم أدخلها، فالورود أن يمروا على الصراط، وفي الحديث: «ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، فيقولون: اللهم سلم سلم، وقيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "دحض مزلة [12] فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد، فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، والطير، وكأجاويد الخيل، والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم»،[13] وبه احتج من قال: إن الجواز على الصراط هو "الورود" الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول فيها، وقالت فرقة: "بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب، وهو بقرب جهنم، فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه"[14].

ثانيا. وقيل: إن معنى "الورود" في قوله سبحانه وتعالى: )وإن منكم إلا واردها( هو الجواز على الصراط، أو الرؤية، أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من المسيس[15]؛ لأن النار ستكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم عليه السلام، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم[16].

وقوله تعالى: )كان على ربك حتما مقضيا (71)( الحتم: إيجاب القضاء، أي: "كان ذلك حتما مقضيا"؛ أي: قضاه الله تعالى عليكم، وقال ابن مسعود: أي: "قسما واجبا"[17]؛ وعلى هذا فإن معنى هذه الآية: أنه ما من أحد إلا وارد جهنم، أي: بالغ إياها مار بها، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون فيجاوزونها إلى الجنة، وأما العصاة والكافرون فيسقطون فيها جزاء وفاقا لأعمالهم.

ثالثا. وقيل: إن المقصود بـ "الورود" في الآية الكريمة ليس جميع الناس؛ بل هو خاص بالمشركين فقط؛ فالخطاب في "وإن منكم" التفات عن الغيبة في قوله: "لنحشرنهم" و "لنحضرنهم"؛ فعدل عن"الغيبة" إلى "الخطاب" ارتقاء في المواجهة بالتهديد؛ حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة؛ فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة، ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها[18].

وعن ابن عباس أنه قال في قوله: "وإن منكم إلا واردها": هذا خطاب للكفار، وروي عنه أنه كان يقرأ: "وإن منهم" ردا على الآيات التي قبلها في الكفار، في قوله: )فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68)( (مريم)، وكذلك قرأ عكرمة - رضي الله عنه - وجماعة، وعلى هذا فإن المراد بـ "منكم": الكفرة فقط دون المؤمنين؛ لأن الكاف في "منكم" راجعة إلى "الهاء" في "لنحشرنهم"، وهذا نظير قوله تعالى: "وإن جهنم لموعدهم أجمعين"، فالمقصود الكافرون دون المؤمنين.

ومن ثم فليس الخطاب في قوله: )وإن منكم إلا واردها( لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم؛ لأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافى أن يسوقهم مع المشركين مساقا واحدا، كيف وقد قال الله عن المتقين: )يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85)( (مريم)، بينما أخبر عن الكافرين بقوله: )ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86)( (مريم)؟ وعلى هذا فقد زالت هذه الشبهة واتضح وجه الحق فيها[19].

الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:

  • استخدام حرف "إن" دلالة على النفي، وعدم استخدام الفعل "ليس"؛ لأن الحرف يفيد الثبات والديمومة بخلاف الفعل المؤقت بزمن معين.
  • الالتفات في الخطاب في "وإن منكم" التفات عن الغيبة في قوله: "لنحشرنهم" و "لنحضرنهم"؛ وقد عدل عن "الغيبة" إلى "الخطاب" ارتقاء في المواجهة بالتهديد؛ حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة، فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة، ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها[20].
  • استخدام طائفة من المؤكدات: "كان"، "على ربك"، "حتما" في قوله تعالى: )كان على ربك حتما مقضيا (71)(؛ حيث استخدم الفعل الماضي "كان" الذي يدل على تمكن الحدث، وكذلك استخدام "على ربك" وهي متعلقة بالفعل "كان"، أضف إلى ذلك أن "على" تفيد الإلزام، وحاشا لله أن يلزمه أحد بشيء، وإنما يدل هذا على تأكيد تنفيذ ما توعد به، وانتهاء الآية بـ "حتما مقضيا" يفيد لزوم ما قضى الله به.

وبذا يتضح بجلاء مدى دقة القرآن الكريم ونزاهته عما تجرأ هؤلاء من الافتراء عليه.

 

(*) الرد على كتاب "أخطاء إلهية في القرآن الكريم"، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.

[1]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج2، ص808، 509.

[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، مج15، ص9155.

[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص150.

[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج15، ص9154.

[5]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج1، ص150.

[6]. قال الزوزني في شرحه للمعلقات السبع: "فلما وردت هذه الظعائن الماء ـ وقد اشتد صفاء ما جمع منه في الآبار والحياض ـ عزمن على الإقامة كالحاضر المبتني الخيمة، ومعنى الجمام: هو ما اجتمع من الماء في البئر والحوض وغيرهما. (انظر: شرح المعلقات السبع، الزوزني، تعليق: محمد فوزي حمزة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 1427 هـ/ 2006م، ص63).

[7]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص519، 520.

[8]. حسك السعدان: هي عشبة تضرب إلى الصفرة، ولها شوك يسمى الحسك، لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس إلا من في رجليه خف أو نعل.

[9]. مكدوس في النار: مدفوع فيها، وتكدس الإنسان: إذا دفع من ورائه فسقط.

[10]. المنكوس: المطأطئ رأسه من الذل والهوان.

[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، (11096)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر البعث (4280)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8189).

[12]. دحض مزلة: بمعنى واحد، وهو الموضع الذي تزل فيه القدم.

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ( (القيامة)، (7001)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (472).

[14]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص137 بتصرف.

[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص139.

[16]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج1، ص150.

[17]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص141.

[18]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص149.

[19]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص149.

[20]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص150.

 

  • الاثنين PM 03:18
    2020-09-07
  • 946
Powered by: GateGold