المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411985
يتصفح الموقع حاليا : 311

البحث

البحث

عرض المادة

توهم مجانبة القرآن الكريم الصواب في إعادة الضمير المفرد على الجمع

           توهم مجانبة القرآن الكريم الصواب في إعادة الضمير المفرد على الجمع(*)

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( (التوبة: ٣٦) مخالفة لقواعد اللغة؛ حيث عاد الضمير المفرد في "منها" على الجمع "اثنا عشر"، ويظنون أن الصواب أن يقال: "منهن " وليس "منها"؛ للتوافق مع قوله عز وجل: )فلا تظلموا فيهن أنفسكم( (التوبة: ٣٦) **.

وجه إبطال الشبهة:

الأصل أن يعود الضمير على ما يوافقه تذكيرا وتأنيثا، وإفرادا وتثنية وجمعا، فإذا زاد العدد عن العشرة لم تكن العرب تراعي هذا التطابق، وقد توهم بعضهم مخالفة في عود الضمير في "منها" وهو مفرد مؤنث على "اثنا عشر" وهو جمع لمذكر، وتوهمهم هذا مردود عليه بأن:

العرب يعاملون ما يزيد عن العشرة معاملة المفرد، ومن ثم فلا إشكال في قوله عز وجل: )منها(، فإذا عاد الضمير على ما فوق العشرة جيء به مفردا مؤنثا، وإذا عاد على ما تحت العشرة جيء به جمعا مؤنثا.

التفصيل:

معلوم من قواعد اللغة العربية أن الأعداد من ثلاثة إلى عشرة هي جمع قلة، وتعامل معاملة الجمع المؤنث، فإن زاد العدد عن عشرة كان جمع كثرة، والعرب تعامله معاملة المفرد المؤنث؛ كما في قوله عز وجل: )منها أربعة حرم(، ومن ثم فلا إشكال؛ لأن عود الضمير في "منها" - وهو مفرد - على "اثنا عشر" - وهو جمع - من صميم قواعد العربية، ولزيادة الأمر توضيحا نقول: معي خمسة عشر كتابا، منها ثلاثة مستعارة، ولا نقول: منهن ثلاثة مستعارة؛ لأن العدد المذكور يزيد عن عشرة.

ويجعلون "الهاء والنون" للعشرة فما دونها إلى الثلاثة، فنقول: عندي ثلاث مكتبات، منهن واحدة صوتية، ولا نقول: منها واحدة صوتية؛ لأن العدد المذكور أقل من عشرة، وهذا ما جاء به القرآن في مواضع أخر، ففي سورة يوسف قال عز وجل: )وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف( (يوسف: ٤٣)، فقال: "يأكلهن" ولم يقل "يأكلها"؛ لأن العدد المذكور أقل من عشرة، ومثل ذلك قوله عز وجل: )فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها( (فصلت: ١٢)، فقد قال تعالي: "فقضاهن" ولم يقل: "فقضاها"؛ لأن العدد "سبع" أقل من عشرة.

أما في الشعر: ما هجا به أحد الشعراء جماعة من الجماعات لقلتها، فقال:

لا أبالي فجـ

ـمعهن كل جمع مؤنث

ولما كان عددها قليلا لا يتجاوز العشرة قال: "جمعهن"، ولم يقل: "جمعها".

وعلي هذا جاءت الآية مطابقة لقواعد العربية وسنن العرب في كلامهم.

الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:

  • الآية الكريمة بها استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمة علي الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لنظام الأرض، وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه؛ لتتوجه أسماع الناس وألبابهم إلى وعيه[1].
  • وفي قوله عز وجل: )فلا تظلموا فيهن أنفسكم( الضمير المجرور بـ "في" عائد إلي الأربعة الحرم؛ لأنها أقرب مذكور، ولأنه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيهن وإلا كان مجرد اقتضاب بلا مناسبة[2].
  • وقوله عز وجل: )أنفسكم(، أي: أنفس غير الظالمين، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أن الأمة كالجسد الواحد.
  • قوله عز وجل: )وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)( (التوبة) وقعت هذه الآية موقع الاحتراس من الظن بأن النهي عن انتهاك الأشهر الحرم، يقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدءوا بقتال المسلمين، وهذا يوضح التشبيه التعليلي في قوله عز وجل: )كما يقاتلونكم كافة(، فيكون المعنى: فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي، أو باعتدائكم على أعدائكم، فإن بادءوكم بالقتال فقاتلوهم.
  • "الكاف" في قوله عز وجل: )كما يقاتلونكم كافة( أصلها كاف التشبيه، استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلته؛ لأنه يقع على مثالها، ومنه قوله تعالى: )واذكروه كما هداكم( (البقرة: ١٩٨).

ويعلق صاحب "الظلال" تعليقا متأملا حول هذه الآية؛ يوضح فيه ما اشتملت عليه هذه الآية من إعجاز بياني وعلمي تقرره الكشوف والحقائق العلمية الحديثة قائلا: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره الله عليها، وإلى أصل الخلقة، ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة، مقسمة إلى اثني عشر شهرا، يستدل علي ثباتها بثبات عدة الأشهر، فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة، وإن ذلك في كتاب الله، أي: في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون، فهي ثابتة على نظامها، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة لأنها تتم وفق قانون ثابت، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده الله يوم خلق السماوات والأرض.

هذه الإشارة إلي ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها؛ ليقول: إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس الله ثابت كثباتها، لا يجوز تحريفه بالهوى، ولا يجوز تحريكه تقديما وتأخيرا، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت، وفق ناموس لا يتخلف: )ذلك الدين القيم(.

فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل الذي تقوم به السماوات والأرض منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة.. يتبع بعضها بعضا. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهدا أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه، ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه؛ ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره، وثبات أسسه، وقدم أصوله.. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها هينة يسيرة، قريبة مألوفة.

)ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم( لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض، ذلك الناموس هو أن الله هو المشرع للناس، كما أنه هو المشرع للكون.. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها الله لتكون فترة أمان وواحة سلام؛ فتخالفوا عن إرادة الله. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب الله في الآخرة، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض، حين تستحيل كلها جحيما حربيا لا هدنة فيها ولا سلام1.

 

 

(*) thegood.way.com.

[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص180.

[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص185.

 

  • الاثنين AM 04:23
    2020-09-07
  • 1215
Powered by: GateGold