المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409176
يتصفح الموقع حاليا : 381

البحث

البحث

عرض المادة

توهم اضطراب القرآن الكريم في استخدام حروف الجر

            توهم اضطراب القرآن الكريم في استخدام حروف الجر(*)

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المغالطين أن هناك اضطرابا في استخدام حروف الجر في القرآن الكريم، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت( (البقرة: ٢٨٦)، وقوله )ولا تكسب كل نفس إلا عليها( (الأنعام: ١٦٤)، فتارة يستخدم الكسب مع "على "، وتارة مع "اللام"، وعليه فإن الكسب في الآية الأولى للنفس، وفي الثانية عليها، وهذا في ظنهم تناقض**.

وجها إبطال الشبهة:

الأصل في حروف المعاني، ومنها حروف الجر، اختلاف معانيها لاختلاف دلالاتها، وقد يأتي بعضها بمعنى بعض فيحل محلها. وغير المتأمل في هاتين الآيتين قد يظن أن القرآن اضطرب في استخدام حرفي الجر "اللام" و "على" في الآيتين، ويمكن إبطال هذا التوهم من وجهين:

1)  أن الفعل "كسب" يأتي في سياق الخير، وأما الفعل "اكتسب" فيأتي في سياق الشر، و "اللام" في "لها" تفيد الملكية والاختصاص؛ لأنها تكسب النفس ثوابا؛ ولهذا جاءت "لها" مع كسب، وجاءت "عليها" مع "اكتسبت" في آية البقرة.

2)  أن الكسب أمر طبيعي لا يحتاج إلى جهد ومشقة، أما الاكتساب فيحتاج إلى جهد ومشقة؛ لأن "اكتسب" على وزن "افتعل"؛ أي: تكلف فعل الشيء، وكما هو معلوم؛ فالزيادة في المبنى تستتبع زيادة في المعنى، وهكذا كل أفعال الشر تأتي اكتسابا لا كسبا لما فيها من تكلف المشقة.

أما استخدام القرآن للفعل "كسب" مع أفعال الشر - في آية سورة الأنعام - فللدلالة على إلف العصاة للمعاصي وسهولة تحصيلهم لأسبابها واعتيادهم عليها.

التفصيل:

أولا. إن الفعل "كسب" يأتي في سياق الخير والثواب، والفعل "اكتسب" يأتي في سياق الشر، وحرف الجر "اللام" في "لها" يفيد الملكية والاختصاص، أما حرف الجر على في "عليها" فيفيد الوزر[1]؛ وعلى هذا جاء قوله تعالى: )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت(. فعبر عن لفظ الحسنة "بكسب"؛ وذلك لاقتناء الحسنة ثوابها؛ لقوله تعالى: )من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها( (الأنعام: ١٦٠)، وجاء الفعل "اكتسبت" في السيئة تنفيرا منها وتهويلا وتشنيعا لارتكابها.

ثانيا. إن "الكسب" أمر طبيعي لا يحتاج إلى افتعال، أما "الاكتساب" فيحتاج إلى افتعال وتكلف وجهد؛ لأن "اكتسب" على وزن "افتعل" أي: تكلف فعل الشيء، وهكذا كل أفعال الشر تأتي اكتسابا لا كسبا، ومن هنا كانت أفعال الشر تحتاج إلى جهد ومشقة؛ ولهذا كان قوله تعالى: )ولا تكسب كل نفس إلا عليها( أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها؛ أي: على النفس، وهذا ما تؤكده بقية الآية: )ولا تزر وازرة وزر أخرى(؛ أي: لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يؤاخذ إنسان بجريرة غيره.

وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن صيغة الفعل "كسب" تعني أن هناك فرقا في المعالجة الفعلية بينه وبين صيغة الفعل "اكتسبت"؛ لأن "اكتسب" على وزن "افتعل"؛ أي: تكلف فعل الشيء، وقام بفعل أخذ منه علاجا، أما "كسب" فهو أمر طبيعي. إذن فـ "كسب" غير "اكتسب" وكل أفعال الخير تأتي كسبا لا اكتسابا[2].

وقد وضح سيبويه[3] هذا المعنى حين اعتبر أن "كسب" بمعنى: أصاب. وأما "اكتسب" فهو التصرف والطلب، والاجتهاد بمنزلة الاضطراب؛ ومن ثم فقد عدلت الآية في التعبير عن الشر إلى الاكتساب؛ للدلالة على التكلف والاجتهاد والاضطراب والتصرف؛ لأجل تحصيل المعصية، ويناسب ذلك ما في المعصية من مخالفة للأعراف والفطر السليمة؛ مما يدعو العاصي إلى الاحتيال فيها.

 قال جماعة من العلماء: "افتعل" يدل على شدة الكلفة، وفعل السيئة شديد، لما يؤول إليه. وقال الزمخشري: "فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال؛ أي: تكلف، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه، وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد؛ فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن في باب الخير كذلك وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال، وهو "كسب".

وجاءت العبارة في الحسنات بـ "لها" من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه، ويسر بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات بـ "عليها" من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما تقول: لي مال، وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: "اللهم عن فلان، فإن أبى فلي وعلي".

ويمكن التوفيق بين ما ذكر بحمل الفعل المجرد "كسب" في حق العاصي على معنى إلفه لارتكاب تلك المعاصي، فلم يعد يتكلفها أو يجد مشقة أو عنتا في مواقعتها أو تحصيل أسبابها، وهذا هو سر استخدام القرآن للفعل "كسب" في حق العصاة، في آية سورة الأنعام: )ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤).

أما "اكتسب" فلم تأت في القرآن الكريم بمعنى كسب الحسنات؛ ومن ثم لم يرد في القرآن تعبير عن كسب الطاعة إلا بصيغة "فعل"، أما في المعصية فقد عبر: "بفعل" و "افتعل"؛ ليشمل كل معصية سواء ما كان باعتمال وتكلف، واجتهاد ومبالغة، أم ما كان بلا مبالاة ولا تكلف.

ويؤيد ذلك ورود الفعل "كسب" المجرد؛ فأغلبه يأتي في وصف الكافرين أو الفاسقين الذين تجرءوا على المعصية فصاروا لا يبالون بها. أما الفعل "اكتسب" فلم يأت في القرآن إلا في أربعة مواضع: اثنان منها في آية واحدة يتحدثان عن اكتساب المال، وهما: قوله تعالى: )للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن( (النساء: ٣٢).

وواضح أن اختيار صيغة "افتعل" في هذا الموضع مناسب لاكتساب المال، وما يلزم له من تصرف واجتهاد وكلفة.

أما الموضعان الآخران: فهما آية البقرة: )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت(، والحديث فيها في حق من يفترض فيه امتثاله للشرع، واستجابته لتكليفه؛ بدليل ما قبلها )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦) فهي في حق المؤمن بهذا التكليف؛ حيث لا يقدم على المعصية إلا بتكلف ومراودة لنفسه التي تتأبى على العصيان، ولا يحملها عليه إلا غلبة الشهوة والهوى؛ فكأن نفس المؤمن لا تقدم على المعصية إلا بنوع تردد وتكلف، بخلاف نفس الكافر والفاجر الذي جرؤ على المعاصي[4].

 وأما الموضع الأخير فهو قوله تعالى في جزاء من خاض في عرض عائشة رضي الله عنها: )لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم( (النور: ١١)، وهؤلاء الذين خاضوا في عرضها ليسوا كفارا؛ بل هم من المسلمين بدلالة قوله تعالى: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم( (النور: ١١). وإن كان الذي تولى كبره منافقا، فإنه مسلم في الظاهر كذلك، والخطاب إنما يراعى فيه الأغلب وهم جماعة المؤمنين، ومن ثم جاء التعبير عن اكتساب المعصية هنا بصيغة: "افتعل"؛ مناسبة لحال هؤلاء المسلمين الذين ضعف إيمانهم وزلت ألسنتهم، فخاضوا مع ذلك المنافق في عرض أم المؤمنين؛ فهم لم يقدموا على تلك القولة الشنيعة مع ما عندهم من إسلام وتعظيم لبيت النبوة إلا بقدر كبير من التكلف والاعتمال. أما ذلك المنافق فقد أقدم عليها بملء فيه ملتويا في قيلها متصرفا فيها، مبالغا فيها أشد المبالغة، ومن ثم فقد ناسب صيغة "افتعل" بدلالتها على التكلف والاعتمال والمبالغة والاجتهاد حال الفريقين من المسلمين والمنافقين الخائضين في عرض أم المؤمنين أتم المناسبة[5].

 

 

(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/1981م.

(**) يقول صاحب "صفوة التفاسير" في تفسير قوله تعالى: ) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (: أي لكل نفس جزاء ما قدمت من خير، وجزاء ما اقترفت من شر. وفي معنى الآية الثانية: ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها (: أي لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها.

[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص1244.

[2]. الخصائص، ابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2006م، ج3، ص264: 269.

[3]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص130، 131.

[4]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص132.

[5]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص132.

 

  • الاثنين AM 03:41
    2020-09-07
  • 1213
Powered by: GateGold