المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412559
يتصفح الموقع حاليا : 282

البحث

البحث

عرض المادة

نفي الإعجاز العلمي في إخبار القرآن الكريم عن وصف العروج في السماء والظلمة الكونية

نفي الإعجاز العلمي في إخبار القرآن الكريم عنوصف العروج في السماء والظلمة الكونية (*)

 

مضمون الشبهة:

 

يذهب بعض المغالطين إلى نفي الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر)، زاعمين أن هذا لا يعدو أن يكون إخبارًا عن موقف المشركين المعاندين للدعوة الإسلامية وصدهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفهم له بأنه ساحر قد سحر عقولهم، وليس فيه ما يشير إلى كيفية العروج في السماء، وإلى حقيقة الظلمة الكونية التي اكتشفها العلماء مؤخرًا.

 

وجها إبطال الشبهة:

 

1)   لقد أشار القرآن الكريم إلى أن الخروج من السماء لا بد أن يكون من خلال أبواب محددة في قوله سبحانه وتعالى: )ولو فتحنا عليهم بابا من السماء(،وهذه الأبواب التي أشار إليها القرآن هي ما يعرف اليوم باسم منافذ الغلاف الجوي للأرض. كما أشار إلى حقيقة الصعود في السماء بقوله سبحانه وتعالى: )يعرجون(ومعناه: الصعود في خط منحنٍ، وهذا ما أثبته العلم الحديث، حيث أثبت العلماء أن حركة الأجسام في الكون لا بد لها من الانحناء؛ نظرًا لانتشار المادة والطاقة في كل الكون، وتأثير كل من جاذبية المادة والمجالات المغناطيسية للطاقة على حركة الأجسام.

2)    لقد عبر القرآن الكريم عن حقيقة الظلمة الكونية تعبيرًا رائعًا، حتى إنه جعل من يفاجأ بهذه الظلمة وشدتها كمن أطبق عينيه فلا يرى إلا الظلام، أو كمن سحر فلا يرى الأشياء على حقيقتها، وذلك في قوله سبحانه وتعالى)لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون(، وهذا ما أثبته العلماء بعد ما نجحوا في ريادة الفضاء؛ حيث فوجئوا بحقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس، وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه 200 كم فوق مستوى سطح البحر، وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك فإنه يرى الكون عبارة عن ظلام دامس لا يقطع ظلمته إلا بعض بقع الضوءالباهتة في مواقع النجوم.

التفصيل:

 

أولا-الحقائق العلمية تثبت أن للسماء أبوابًا، وتبين حقيقة العروج، وهذا ما أشار إليه القرآن:

1) الحقائق العلمية:

 

  • الحقيقة الأولى: أبواب السماء:

قبل سنوات قليلة لم يكن أحد من الناس يعلم أن السماء على اتساعها ليست فراغًا، ولكنها مليئة بالمادة على هيئة رقيقة للغاية، تشكلها غازات مخلخلة يغلب على تركيبها غازا الإيدروجين والهيليوم، مع نسبة ضئيلة جدًّا من الأكسجين، والنيتروجين والنيون، وبخار الماء، وهباءات نادرة من المواد الصلبة، مع انتشار هائل للإشعاعات الكونية بمختلف صورها في مختلف جنبات الكون، ولقد كان السبب الرئيس للتصور الخاطئ أن الكون فراغ تام، هو التناقص التدريجي لضغط الغلاف الغازي للأرض مع الارتفاع عن سطحها حتى لا يكاد يدرك شيء بعد 1000كم فوق مستوى سطح البحر.

وساعدت جاذبية الأرض على الاحتفاظ بالغلاف الغازي المحيط بها بكثافته التي تتناقص باستمرار بالبعد عنها حتى تتساوى مع كثافة السحابة الغازية الأولية التي تملأ أرجاء الكون وتندمج فيها؛ وعلى ذلك فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن السماء بناء محكم، تملؤه المادة والطاقة، ولا يمكن اختراقه إلا عن طريق أبواب تفتح فيه؛ فقد أثبت العلم أن السماء مليئة بمختلف صور المادة والطاقة التي انتشرت بعد انفجار الجرم الكوني الأول -الذي كان يضم مادة الكون، ومختلف صور الطاقة المنبثة في أرجائه اليوم-، وذلك عند تحويله من مرحلة الرتق إلى مرحلة الفتق كما يصفها القرآن الكريم، ويقدر علماء الكون أن ذلك قد حدث منذ مدة تقدر بنحو عشرة بلايين من السنين على أقل تقدير، وعند انفجار ذلك الجرم الكوني الأول تحولت مادته ومختلف صور الطاقة المختزنة فيه إلى سحابة هائلة من الدخان ملأت فسحة الكون، ثم أخذت في التبرد والتكثف بالتدريج حتى وصلت إلى حالة من التوازن الحراري بين جسيمات المادة وفوتونات الطاقة، وهنا تشكلت بعض نوى الإيدروجين الثقيل أو المزدوج الديوتريوم (Deuterium)، وتبع ذلك تخلق النوى الذرية لأخف عنصرين معروفين لنا، وهما الإيدروجين والهيليوم، ثم تخلق نسب ضئيلة من العناصر الأثقل وزنًا.

وبواسطة دوامات الطاقة التي انتشرت في سحابة الدخان التي ملأت أرجاء الكون تشكَّلت السدم، وهي أجسام غازية في غالبيتها، تتناثر بين غازاتها بعض الهباءات الصلبة، وتدور المادة فيها في دوامات شديدة تساعد على مزيد من تكدسها وتكثفها على ذاتها في سلسلة من العمليات المنضبطة حتى تصل إلى مرحلة الاندماج النووي التي تكون النجوم بمختلف أحجامها، وهيئاتها، ودرجات حرارتها، وكثافة المادة فيها، وغير ذلك من أجرام السماء الأمر الذي يشكل المجرات والتجمعات المجرية، وغيرها من نظم الكون المبهرة، ومن أشلاء النجوم تكونت الكواكب والكويكبات، والأقمار والمذنبات، والشهب والنيازك، والإشعاعات الكونية التي تملأ فسحة الكون بأشكالها المتعددة، وغير ذلك مما لا نعلم من أسرار هذا الكون([1]).

ولقد استطاع الإنسان أخيرًا أن يغزو الفضاء، وتبين للعلماء أن الغلاف الجوي يتكون من عدة طبقات مختلفة، صنفت من حيث سمكها ونوعية جزيئاتها وكثافتها والأدوار التي سخرت لها بتقدير مضبوط من رب العالمين لضمان الحياة والنمو لكل المخلوقات، وهذه الطبقات هي:

  • التروبوسفير(TroposphereThe):طبقة تأتي مباشرة بعد سطح الأرض، وترتفع إلى علو بين 8 : 15 كم، يوجد فيها 85% من الكتلة الكلية الجوية، أكبرها كمية هو خليط من لا هواء قابل للاستنشاق، ثم ثاني أكسيد الكربون، هذه المادة الحيوية والضرورية لتفكيك المادة العضوية، كما يتم في هذه الطبقة تنشيط السحب وتفعيلها لتمطر ماءً أو ثلجًا، وتنشيط الرياح والعواصف.

 

  • الستراتوسفير(StratosphereThe): طبقة تأتي من بعد التربوسفير إلى علو يناهز 50 كم، تتكون من جزيئات أكثرها الأوزون الذي يمتص تقريبًا كل الأشعة البنفسجية المضرة ويحصرها لحماية الكائنات الحية من الأمراض والأخطار.

 

  • الميزوسفير(MesosphereThe): طبقة تأتي بعد الستراتوسفير إلى علو يناهز 90 كم، وتلعب دورًا كبيرًا في حفظ الأرض وما عليها من كل جسم خارجي، حيث يتم احتراق وتفتيت الشهب والنيازك، والمكوكات الفضائية المستغنى عنها، والأقمار ال العاطلة، إلى غير ذلك من شظايا الأجسام الكونية التي تدخل الغلاف الجوي الأرضي.

 

  • التيرموسفير(TermosphereThe): طبقة تأتي من بعد الميزوسفير إلى علو يناهز 600 كم، وقد سخرت لضبط الحرارة عبر كل الطبقات وتكييفها.

 

  • الإكسوسفير(ExosphereThe): أعلى طبقة في الأجواء الأرضية، تدور فيها كل الأقمار ال والمكوكات الفضائية حول الأرض.

 

  • الأيونوسفير (IonosphereThe):وهي طبقة تقع تحت تأثير الأشعة الشمسية، خصوصًا منها: أشعة إكس، والأشعة تحت البنفسجية، والجزيئات الشمسية الأخرى، والأشعة الكونية الأخرى التي تدخل الغلاف فينتج تأين المادة بين علو (60: 600 كم)، وتسمى هذه الطبقة التي اكتشفها كنيلي([2])عام 1902م "طبقة الأيونوسفير"، وتتأثر بالمناخ الذي يسود المنطقة (فصل، نهار أو ليل، حرارة)، وتلعب الطبقة الموجودة على ارتفاع 110 كم -طبقة كنيلي- دورًا كبيرًا في انعكاس الأشعة الراديوية ذات الموجة القصيرة، وتستخدم بتسخير من الله عز وجل للاتصالات اللاسلكية بين البلدان والقارات.

 

  • الماغنيتوسفير(MagnetosphereThe): كما هو الشأن في الكواكب الأخرى يوجد في الأجواء العليا المحيطة بالأرض بعد طبقة اليونوسفير 650 كم إلى نهاية الغلاف الجوي، وهو يحصل نتيجة التفاعلات التي تقع بين الرياح الشمسية والجزيئات المكهربة، وتلعب هذه الطبقة المتمددة في الاتجاه المعاكس للشمس دورًا كبيرًا لمغناطيسية الأرض بقطبيها الشمالي والجنوبي.

 

لقد استطاع الإنسان أخيرًا أن يغزو الفضاء، وقد بدأ بخروج أول رائد فضاء -يوري جاجارين([3]) الروسي في 12 إبريل عام 1961م- ثم ساهمت وكالتا الفضاء الأمريكية ناسا (NASA) والسوفيتية بعدة رحلات فضائية، أولها كان إلى القمر بواسطة أبوللو 11 في 20 يوليو عام 1969م.

وقد يكون ذلك فتحًا لباب من هذه السماء بالعلم والمعرفة والتكنولوجيا التي مكنهم الله عز وجل منها بابًا من السماء (في الغلاف الجوي)، حيث عاكسوا قوة الجاذبية الأرضية وأفلتوا منها ووصلوا إلى الفضاء الخارجي، حيث تنعدم نسبيًّا تلك الجاذبية، وظلوا فيه يعرجون، ورأوا ما رأوا، وأدركوا أن حالة الليل هي الدائمة في الفضاء؛ أما الضياء الذي نشاهده حول جرم من الأجرام فهو نتيجة تشتت الأشعة الشمسية المرئية، على أن للسماء بابًا كذلك يفتح لتسرب وانتقال الأشعة الشمسية المرئية، كما أدركوا واكتشفوا في هذه السماء أبوابًا أخرى منها: منافذ الأشعة تحت الحمراء، ومنافذ للأشعة القصيرة جدًّا جدًّا.

لقد ضمن الله عز وجل العيش والنمو لجميع الكائنات الحية بإرسال -عبر أبواب من السماء- بعض الأشعة الشمسية الضرورية، ومن هذه الأشعة:

أشعة جاما وأشعة سين (RX Rayons X)والأشعة فوق البنفسجية (UV: Ultra-Violet) والأشعة المرئية (V: Visible)والأشعة تحت الحمراء (IR: Infra-Rouge) والأشعة الراديوية (Radio).

ونحن لا نرى هذه النوافذ التي يتسرب منها الضوء لكن نحس بها من خلال الأجهزة والمراصد والنتائج المتحصل عليها؛ حيث نلاحظ نافذة صغيرة محصورة بين 4,0 (m) و75,0 (m) لتسرب كل الأشعة المرئية تقريبًا، ثم نوافذ صغيرة لتسرب مضبوط للأشعة الراديوية الجد قصيرة (VHF) و(UHF)،وتستعمل هذه النافذة في الاتصالات اللاسلكية (أرض جو) عبر الأقمار الاصطناعية، وتهم المحطات الفضائية والهواتف النقالة، ومجالات أخرى مدنية وعسكرية للاتصال والمراقبة والرصد.

كما نلاحظ كذلك عدم انتقال الأشعة الراديوية (HF)،ويخص هذا الرد الإرسال الإذاعي ومجالات أخرى للاتصال (أرض جو) مدنية وعسكرية في الموجات نفسها، والشيء نفسه يحدث بالنسبة للأشعة البنفسجية والسينية، فهي ترد أو تمتص تقريبًا فيطبقات الجو الأرضية العليا.

وخلاصة ما تقدم أن السماء مكونة من أبواب فردية صغيرة الحجم (حجم الجزيئات أو الذرات) في كثافة متفاوتة حسب الطبقات، لكن إجماليًّا فهي تمثل بابًا كبيرًا مسخرًا؛ إما أن يكون مفتوحًا (شفافًا) أو مغلقًا (معتمًا) نسبيًّا أمام الأشعة الشمسية وأصنافها، ويلعب المناخ (سحب، غبار، رطوبة، حرارة، برودة) الذي يعم منطقة من المناطق -دورًا كبيرًا في انتقال أو انعكاس أو امتصاص هذه الأشعة.

 

 

 

 

لقد قدر الله عز وجل التركيبة المطلوبة في طبقات هذا الغلاف لتكون منفذًا (بابًا مفتوحًا) لتسرب أشعة ما وانتقالها، أو تكون حاجزًا (رجعًا) لانعكاس أشعة ما، وردها، أو بيتًا مفروشًا لامتصاص أشعة أخرى وتحويلها. كما جعل الله عز وجل الطبقة الجد منخفضة للغلاف الجوي التي تقع على علو لا يتعدى 10 كم ـ منطقة مهيأة لتنشيط وتفعيل السحب والغبار والرياح وإرجاع ذلك كله على أشكال من المطر أو الثلوج أو العواصف([4]).

 

 

 

 

ولقد أحاط الله الكرة الأرضية بهذا الغلاف الغازي، وكأنه سقف فوقنا ليحفظنا من العوامل المدمرة كالشهب والنيازك، كما أن رواد الفضاء عندما تقلع مركباتهم الفضائية في السماء فإنها تحلق ضمن خطوط مرسومة لها قبل إقلاعها، وعند وصولها إلى الغلاف الغازي، فإنه ليس بمقدورها الخروج منه إلا عبر هذه الأبواب، التي اصطلح على تسميتها علماء الفلك بمنافذ الغلاف الجوي([5]).

 

  • الحقيقة الثانية: العروج في السماء:

لقد ثبت علميًّا أن حركة الأجسام في الكون لا يمكن أن تكون إلا في خط منعطف منحنٍ، ولا يمكن أن تكون في خطوط مستقيمة، بل لا بد لها من الانحناء نظرًا لانتشار المادة والطاقة في كل الكون، وتأثير كل من جاذبية المادة بأشكالها المختلفة، والمجالات المغناطيسية للطاقة بتعدد صورها ـ على حركة الأجسام في الكون، فأي جسم مادي مهما عظمت كتلته أو تضاءلت لا يمكنه التحرك في الكون إلا في خطوط منحنية، وحتى الأشعة الكونية على تناهي دقائقها في الصغر (وهي تتكون من اللبنات الأولية للمادة مثل البروتونات والنيوترونات والإلكترونات)، فإنها إذا عبرت خطوط أي مجال مغناطيسي، فإن هذا المجال يحني مسار الشعاع بزاوية قائمة على مساره، فانتشار كل من المادة والطاقة في الكون عبر عملية الفتق وما صاحبها من انفجار عظيم كانت من أسباب تكوره، وكذلك كان انتشار قوى الجاذبية في أرجاء الكون من أسباب تكور كل أجرامه، وكان التوازن الدقيق الذي أوجده الخالق العظيم بين كل من قوى الجاذبية والقوى الدافعة (النابذة أو الطاردة) المركزية الناتجة عن عملية الفتق ـ هو الذي حدد المدارات التي تتحرك فيها كل أجرام السماء، والسرعات التي تجري بها في تلك المدارات، والتي يدور بها كل منها حول محوره.

فعند انفجار الجرم الكوني الأول انطلق كل ما كان به من مخزون المادة والطاقة بالقوة الدافعة الناتجة عن ذلك الانفجار العظيم (عملية الفتق)، التي أكسبت كل صور المادة والطاقة المنطلقة إلى فسحة الكون طاقة وحركة هائلة، وجعلتها بذلك واقعة تحت تأثير قوتين متعارضتين، هما قوة التجاذب الرابطة بينها والقوة الطاردة الناتجة عن ذلك الانفجار الكوني، والتوازن الدقيق بين هاتين القوتين المتعارضتين، هو الذي حفظ ولا يزال يحفظ أجرام السماء في مداراتها، ويجعلها تتحرك فيها حركة دائرية بخطوط منحنية باستمرار، كما جعلها تدور حول محاورها بسرعات محددة، إلى أن يرث الله عز وجل الأرض والسماء ومن فيهما.

ودوران الأجرام السماوية حول محاورها وفي مداراتها يخضع لقانون يعرف باسم "قانون بقاء التحرك الزاوي أو قانون العروج"، وينص هذا القانون على أن كمية التحرك الزاوي لأي جرم سماوي تقدر على أساس نسبة سرعة دورانه حول محوره إلى نصف قطره على محور الدوران، وتبقى كمية التحرك الزاوي تلك محفوظة في حالة انعدام مؤثرات أخرى، ولكن إذا تعرض الجرم السماوي لمؤثرات خارجية أو داخلية فإنه سرعان ما يكيف حركته الزاوية في ضوء التغيرات الطارئة.

فعلى سبيل المثال: تزداد سرعة التحرك الزاوي للجرم كلما انكمش حجمه، وكما سبق أن ذكرنا؛ فإن جميع الأجرام الأولية قد تكثفت مادتها على مراحل متتالية من سحابة الدخان الكوني التي نتجت عن انفجار الجرم الابتدائي الذي حوى كل مادة الكون وطاقته، تاركة كميات هائلة من الغازات والغبار والأشعات الكونية، وعلى ذلك فقد كانت الكواكب الابتدائية مئتي ضعف حجم الأرض الحالية (على الأقل)، وهذه الكواكب الابتدائية أخذت في التكثف على مراحل متتالية حتى وصلت إلى صورتها الحالية.

وبمثل عملية نشأة الكون تمامًا، وبالقوانين التي تحكم دوران أجرامه حول محاورها، وجريها في مدارات محددة لكل منها حول جرم أكبر منه أو وحدة أكبر ـ تتم عملية إطلاق الأقمار الاصطناعية ومراكب الفضاء من الأرض إلى مدارات محددة حولها، أو حول أي من أجرام مجموعتنا الشمسية، أو حتى إلى خارج حدود المجموعة الشمسية، وذلك بواسطة قوى دافعة كبيرة تعينها على الإفلات من جاذبية الأرض، من مثل صواريخ دافعة تتزايد سرعتها بالجسم المراد دفعه إلى قدر معين من السرعة، ولما كانت الجاذبية الأرضية تتناقص بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض، فإن سرعة الجسم المرفوع إلى الفضاء تتغير بتغير ارتفاعه فوق سطح ذلك الكوكب، وبضبط العلاقة بين قوة جذب الأرض للجسم المنطلق منها إلى الفضاء والقوة الدافعة لذلك الجسم (أي سرعته) يمكن ضبط المستوى الذي يدور فيه الجسم حول الأرض، أو حول غيرها من أجرام المجموعة الشمسية أو حتى إرساله إلى خارج المجموعة الشمسية تمامًا، ليدخل في أسر جرم أكبر يدور في فلكه.

وأقل سرعة يمكن التغلب بها على الجاذبية الأرضية في إطلاق جرم ما من فوق سطحها إلى فسحة الكون تسمى باسم "سرعة الإفلات من الجاذبية الأرضية"، وحركة أي جسم مندفع من الأرض إلى السماء لا بد وأن تكون في خطوط منحنية، وذلك تأثرًا بكل من الجاذبية الأرضية، والقوة الدافعة له إلى السماء، وكلتاهما تعتمد على كتلة الجسم المتحرك، وعندما تتكافأ هاتان القوتان المتعارضتان يبدأ الجسم في الدوران في مدار حول الأرض مدفوعًا بسرعة أفقية تعرف باسم "سرعة التحرك الزاوي أو سرعة العروج"، والقوة الطاردة اللازمة لوضع جرم ما في مدار حول الأرض تساوي كتلة ذلك الجرم مضروبة في مربع سرعته الأفقية -الماسة للمدار- مقسومة على نصف قطر المدار المساوي للمسافة بين مركزي الأرض والجرم الذي يدور حولها، ولولا معرفة حقيقة عروج الأجسام في السماء لما تمكن الإنسان من إطلاق الأقمار الاصطناعية، ولا استطاع ريادة الفضاء؛ فقد أصبح من الثابت أن كل جرم متحرك في السماء -مهما كانت كتلته- محكوم بكل القوى الدافعة له وبالجاذبية، الأمر الذي يضطره إلى التحرك في خط منحنٍ يمثل محصلة كل من قوى الجذب والطرد المؤثرة فيه([6])، وهذا يدل على أن الحركة في الفضاء لا بد أن تكون بانحناء.

 

2) التطابق بين الحقائق العلمية وإشارات القرآن الكريم:

 

لقد اعتاد المغالطون نفي الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، متجاهلين السبق القرآني للحقائق العلمية في آيات كثيرة، ومما ورد في القرآن يؤكد بعض هذه الحقائق قوله سبحانه وتعالى: )ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14)( (الحجر)؛ فقد سبق القرآن الكريم حقائق العلم الحديث، عندما أشار إلى أن للسماء أبوابًا لا يمكن العروج إلا من خلالها، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )بابا من السماء( (الحجر:14) ، ليس هذا فحسب، بل إنه أشار إلى أن الصعود في السماء لا يكون في خطوط مستقيمة، وإنما يكون بانحناءات دائمة، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله سبحانه وتعالى: "يعرجون"، ولقد أشار إلى هذه الحقائق بعض المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية، وإن لم يقفوا على حقيقة هذه الأبواب، ولكنهم لم ينكروا وجودها، وهذا يدل على مدى التطابق بين حقائق العلم الحديث وما أشار إليه القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام.

من أقوال المفسرين:

 

ذكر الإمام الطبري اختلاف أهل التأويل في قوله عز وجل:)فظلوا فيه يعرجون (14)( (الحجر) على معنيين، فمنهم من قال: إن المقصود هنا الملائكة. وقال آخرون: إنما عنى بذلك: بنو آدم. ومعنى كلامهم: لو فتحنا على هؤلاء المشركين من قومك يا محمد بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: سكرت أبصارنا، ثم ذكر من قال بهذا الرأي الثاني، فقال: قال قتادة: كان الحسن يقول: لو فعل هذا ببني آدم )فظلوا فيه يعرجون(14) ( (الحجر)؛ أي يختلفون )لقالوا إنما سكرت أبصارنا((الحجر:15). وأما قوله: )يعرجون( فإن معناه: يرقون منه ويصعدون، يقال منه: عرج يعرُج عروجًا إذا رقي وصعد([7]).

وقال الإمام الرازي رحمه الله في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )فظلوا فيه يعرجون (14) ( (الحجر)، يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا، إذا فعله بالنهار، ولا تقول: ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار، كما لا يقولون: بات يبيت إلا بالليل، والمصدر الظلول.

وقوله: )فيه يعرجون(14)((الحجر)، يقال: عرج يعرُج عروجًا، ومنه المعارج، وهي المصاعد التي يصعد فيها.

وأما قوله سبحانه وتعالى: )فظلوا فيه يعرجون(14)((الحجر)، من صفة المشركين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله عز وجل وقدرته وسلطانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون، لشكوا في تلك الرؤية، وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات([8]).

وقد أكد هذا المعنى الإمام القرطبي رحمه الله فقال: ظل يفعل كذا أي يفعله بالنهار، والمصدر الظلول؛ أي ولو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات، و"يعرجون" من عرج يعرُج، أي: صعد، والمعارج: المصاعد؛ أي: ولو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر. وقيل: الضمير في "عليهم" للمشركين، وفي "فظلوا" للملائكة، تذهب وتجيء؛ أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابًا من السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له([9]).

ولقد ذهب أبو السعود في تفسيره للآية مذهبًا يوضح معناها ودلالتها ويشير إلى حقيقة الصعود وحقيقة أبواب السماء، فقال: "ولو فتحنا عليهم"؛ أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين "بابًا من السماء"؛ أي بابًا ما، لا بابًا من أبوابها المعهودة كما قيل، ويسرنا لهم الرقي والصعود إليه "فظلوا فيه"؛ أي: في ذلك الباب "يعرجون" بآلة أو بغيرها، ويرون ما فيها من العجائب في ذلك الباب كما يفيده الظلول، أو فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونه عيانًا مستوضحين طول نهارهم، "لقالوا" لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: "إنما سكرت أبصارنا"؛ أي: سدت من الإحساس بالسكر: "بل نحن قوم مسحورون"([10]).

أما الشيخ سيد قطب رحمه الله فقد رسم صورة رائعة عند تفسيره لهاتين الآيتين حين قال: "ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها، يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب المفتوح أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها، ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا. لا. ليست هذه حقيقة، إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوممسحورون، سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكر مسحور"([11]).

وبناء على ما سبق من تحليل آراء وأقوال المفسرين نجد أنهم قد اتفقوا على أن للسماء أبوابًا لا تفتح السماء بغيرها، وهذا الإعجاز القرآني في قوله سبحانه وتعالى: "بابًا" يؤكد الحقيقة التي أقرها رواد الفضاء، فعندما تقلع مركباتهم الفضائية في السماء، فإنها تحلق ضمن خطوط مرسومة لها قبل إقلاعها، وعند وصولهم إلى الغلاف الغازي، فإنه ليس بمقدورها الخروج منه إلا عبر هذه الأبواب، التي اصطلح على تسميتها علماء الفلك بمنافذ الغلاف الجوي، وقد وصف الله عز وجل الصاعد في السماء "بالعروج" وهو وصف التزم به هذا الكتاب الخالد في وصفه لحركة الأجسام في السماء في خمس آيات متفرقات، وذلك قبل ألف وأربع مئة سنة من اكتشاف الإنسان لتلك الحقيقة المبهرة.

لقد وصف ربنا سبحانه وتعالى السماء بأنها ذات طرق، قال سبحانه وتعالى: )والسماء ذات الحبك (7)((الذاريات)، وهذا يدل على أن في السماء طرقًا كثيرة، ولكل طريق أبواب عدة، ولم ينفذ علماء الفلك من الغلاف الجوي الأرضي، ويسبروا شيئًا من أقطار السماوات والأرض، إلا من خلال الأبواب والطرائق الموجودة في الغلاف الجوي للأرض والفضاء الخارجي، كما أن الطرق الموصلة إلى هذه المنافذ ليست مستقيمة، إنما هي وعرة متعرجة([12]).

فهل بعد هذا من حجة ينكر الطاعنون بها إشارة القرآن إلى هذه الحقائق العلمية؟!

إن كلمة "يعرُج" هي الكلمة الوحيدة التي تعبر عن المعنى الحقيقي الكوني، وهو الصعود في مسار منحنٍ غير مستقيم، ولو أنه استخدم كلمة "يصعد" التي تحتمل الصعود في خط مستقيم أو منحنٍ لجاز لنا أن ننفي الإعجاز عن هذه الآية، ولكن المعنى دقيق في مكانه، وهذا دليل واضح على إلهية هذا القرآن.

ثانيًا -الظلمة الكونية حقيقة أشار إليها القرآن وأكدها العلم الحديث:

 

1)الحقائق العلمية:

 

  • الحقيقة الأولى: تسكير الأبصار في أثناء الصعود:

لقد فوجئ الإنسان عند أول محاولة له لارتياد الفضاء بحقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه، وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه 200 كم فوق مستوى سطح البحر، وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك، فإنه يرى الشمس قرصًا أزرق في صفحة سوداء حالكة السواد، لا يقطع حلوكة سوادها إلا بعض البقع الباهتة من الضوء في مواقع النجوم.

 

 

 

 

 

 

 

صورة حقيقية توضح رقة طبقة النهار على نصف الأرض المواجه للشمس وعموم الظلام على الكون

 

وإذا كان الجزء الذي يتجلى فيه النهار على الأرض محدودًا في طوله وعرضه بنصف مساحة الكرة الأرضية المواجه للشمس، وفي سمكه بمئتي كم، وكان في حركة دائبة دائمة مرتبطة بدوران الأرض حول محورها أمام الشمس، وكانت المسافة بين الأرض والشمس في حدود المئة وخمسين مليون كم، وكان نصف قطر الجزء المدرك من الكون يقدر باثني عشر بليون سنة ضوئية ـ اتضحت لنا ضآلة سمك الطبقة التي يعمها نور النهار، وعدم استقرارها لانتقالها باستمرار من نقطة إلى أخرى على سطح الأرض مع دوران الأرض حول محورها، واتضح لنا أن تلك الطبقة الرقيقة تحجب عنا ظلام الكون خارج حدود أرضنا ونحن في وضح النهار، فإذا جن الليل انسلخ منه النهار، واتصلت ظلمة ليلنا بظلمة الكون، وتحركت تلك الطبقة الرقيقة من النور لتفصل نصف الأرض المقابل بالتدريج عن تلك الظلمة الشاملة التي تعم الكون كله.

 وعلى ذلك؛ فإن تجلي النهار على الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض (بسمك 200 كم فوق مستوى سطح البحر) بهذا النور الأبيض المبهج هو نعمة كبرى من نعم الله على العباد. وتفسر بأن الهواء في هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض له كثافة عالية نسبيًّا، وأن كثافته تتناقص بالارتفاع حتى لا تكاد تدرك، وأنه مشبع ببخار الماء وبهباءات الغبار التي تثيرها الرياح من فوق سطح الأرض فتعلق بالهواء، وتقوم كل من جزيئات الهواء الكثيف نسبيًّا، وجزيئات بخار الماء، والجسيمات الدقيقة من الغبار بعديد من عمليات تشتيت ضوء الشمس وعكسه حتى يظهر بالنور الأبيض الذي يميز النهار كظاهرة نورانية مقصورة على النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض في نصفها المواجه للشمس.

وبعد تجاوز 200كم فوق مستوى سطح البحر يبدأ الهواء في التخلخل لتضاؤل تركيزه، وقلة كثافته باستمرار مع الارتفاع، ولندرة كل من بخار الماء وجسيمات الغبار فيه؛ لأن نسبها تتضاءل كذلك بالارتفاع حتى تكاد تتلاشى؛ ولذلك تبدو الشمس وغيرها من نجوم السماء بقعًا زرقاء باهتة في بحر غامر من ظلمة الكون؛ لأن أضواءها لا تكاد تجد ما يشتتها أو يعكسها في فسحة الكون([13]).

وهذا يدل على أن السماء العليا في ظلمة تامة ومستمرة، ولا يوجد فيها هواء، وتختفي فيها جاذبية الأرض؛ وعليه فالإنسان الذي يصل إلى هناك إذا فتح عينيه لا يرى شيئًا من شدة الظلمة إلا النجوم بألوان زرقاء لا تبدد من ظلمة السماء شيئًا، كما قال سبحانه وتعالى عن السماء: )وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29)((النازعات)، أي: جعل السماء في ليل دائم وظلام مستمر، ولو تكلم إنسان مع إنسان في السماء لا يسمعه؛ لأن الأصوات لا تنتقل إلا بوجود الهواء، فحيث لا هواء لا ينتقل صوت، فيرى الإنسان صاحبه يحرك لسانه وشفتيه -وهو بجواره- ولا يسمع له صوتًا، كما أن الإنسان هناك يحس أن جسمه لا وزن له، فهو في حالة انعدام الوزن.

فالإنسان في السماء لا يبصر بعينيه شيئًا، ولا يسمع بأذنيه صوتًا، ولا يحس لنفسه وزنًا، ولا يستقر له قرار، فيظن الجاهل أن سحرًا قد مسه فصار مسحورًا. أما الإنسان العالم فيدرك أن ذلك ليس سحرًا، إنما هو بسبب النواميس الكونية التي قدرها الله عز وجل في السماء، وهكذا تتعطل حواس الجسم في السماء العليا لو وصل الإنسان إليها؛ لأن الله عز وجل خلقها في الإنسان بقدرات معينة تتناسب مع الحياة على الأرض، وليس في الفضاء الكوني([14]).

  • الحقيقة الثانية: عموم الظلام في السماء:

 

بعد عملية الانفجار العظيم بنحو ثلاثين مليون سنة تخلقت النجوم وبدأت عملية الاندماج النووي الحراري بداخلها، ولا تزال مستمرة إلى يومنا هذا بعد أكثر من عشرة مليارات من السنين، وإلى أن يشاء الله عز وجل، وبذلك بدأت النجوم في إرسال أضوائها إلى فسحة السماء، وإن كانت أغلب تلك الأضواء غير مرئية لتكونها من سلسلة متصلة من الأمواج الكهرومغناطيسية لا تختلف فيما بينها إلا في تردداتها وأطوال موجاتها.

ويمتد الطول الموجي للطيف الكهرومغناطيسي بين عدة كيلو مترات لموجات الراديو- الموجات اللاسلكية- وبين جزء من المليمتر لأشعة جاما، أما الأشعة البصرية فتتراوح أطوال موجاتها بين 0,01 ميكرون ومئة ميكرون (الميكرون = 0,001 مليمتر) وتضم موجات الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، وتميز عين الإنسان من أطياف الضوء المرئي: الأحمر، وهو أطولها ترددًا، ثم البرتقالي، فالأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي، وهو أقصر موجات الطيف المرئي وأعلاها ترددًا.

وهذه الموجات لا ترى بوضوح إلا في طبقة النهار، وهي جزء يسير من الغلاف الغازي للأرض المحيط بنصفها المواجه للشمس لا يتعدى سمكه 200 كم، وفيه يتم انعكاس هذه الأطياف بواسطة هباءات الغبار وجزيئات الهواء والبخار وقطيرات الماء، واختلاطها مع بعضها بعضًا لتعطينا نور النهار الأبيض الذي يتمتع به أهل الأرض([15]).

 

 

 

 

صورة توضح رقة طبقة النهار في الغلاف الغازي للأرض

 

وعليه؛ فإن الإنسان إذا عرج به إلى السماء في وضح النهار فإنه يفاجأ بظلمة الكون الشاملة، تحيط به من كل جانب؛ الأمر الذي يفقده النطق أو يجعله يهذي بما لا يعلم من هول المفاجأة. ومن الأمور التي تؤكد ظلمة الكون الشاملة ـ أن باطن الشمس مظلم تمامًا على الرغم من أن درجات الحرارة فيه تصل إلى خمسة عشر مليون درجة مئوية أو يزيد؛ وذلك لأنه لا ينتج فيه سوى الإشعاعات غير المرئية مثل أشعة جاما، والإشعاعات فوق البنفسجية والسينية، وتحت الحمراء، وموجات الراديو (الموجات اللاسلكية)، أما ضوء الشمس المرئي فلا يصدر إلا عن نطاقها الخارجي فقط الذي يعرف باسم النطاق المضيء، ولا يرى بهذا النور إلا في الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس.

 

 

 

صورة لرائد فضاء يعبر نطاق النهار ليفاجأ بظلمة الليل

 

 

 

  • الحقيقة الثالثة: ضعف سمك طبقة النهار:

لقد أثبت العلم الحديث بدقة شديدة أن ظلمة الكون الشاملة تتم بمجرد العروج لمدة قصيرة في السماء، ثم تظل تلك الظلمة إلى نهاية الكون، فإذا نسبنا سمك طبقة النهار إلى مجرد المسافة بين الأرض والشمس لاتضح لنا أنها تساوي 200 كم/ 150,000,000 كم = 1/ 750,000 تقريبًا، فإذا نسبناها إلى نصف قطر الجزء المدرك من الكون اتضح أنها لا تساوي شيئًا البتة، وهنا تتضح روعة التشبيه القرآني في مقام آخر يقول فيه الحق سبحانه وتعالى: )وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37)( (يس)([16]).

والسلخ أصل معناه: فصل الجلد من اللحم، وحيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل، فإن المقصود أن يسلخ من مكان الليل -وهو الأصل- نور النهار الذي يظهر مؤقتًا في القشرة السفلى من الغلاف الجوي المحيط بالأرض، وذلك عند تشتت ضوء الشمس على ذرات هذه القشرة التي لا يتعدى سمكها المتغير 200 كم، وبهذا فالظلام بالنسبة إلى النور كجسد الشاة بالنسبة إلى جلدها، فظلام الفضاء الكوني هو الأصل؛ لأنه سائد ودائم حول الأجرام السماوية لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث النور بالتشتت لدرجة أن هذا الظلام يغطي -أي يغشى- الشمس من جميع جوانبها على الرغم من توهجها كما في قوله تعالى: )والليل إذا يغشاها (4)((الشمس)، وتظهر الشمس في الفضاء كقرص متوهج في سماء حالكة السواد، ولا يظهر نورها إلا في القشرة المنيرة من غلاف الأرض وفي بعض الكواكب والأقمار التي لها غلاف جوي، والتي بدورانها حول محورها يسلخ النور منها لتواجه الظلام، وبهذا يتم التكوير والإيلاج والسلخ للنهار والليل نتيجة الدوران المغزلي للأرض، التي لو توقفت لحدثت كارثة لأهلها -لا قدر الله- لعدم تبادل الليل والنهار في هذه الحالة الغريبة التي تعطينا ليلاً سرمديًّا أو نهارًا سرمديًا([17]).

2) التطابق بين الحقائق العلمية وإشارات القرآن الكريم:

لقد أشار سبحانه وتعالى في قوله تعالى:)لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر) إلى حقيقة كشف عنها العلم الحديث مؤخرًا كما رأينا، وهي حقيقة ظلمة الكون ورقة طبقة النهار في الجزء المواجه للشمس من الكرة الأرضية في قوله: )فظلوا( (الحجر: 14)؛ بل إنه أشار إلى حقيقة هذه الظلمة التي تملأ الكون، حتى إن الناظر إلى الكون في الفضاء يحس أنه قد عمي أو أصابه السحر فلا يرى الأشياء على حقيقتها، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في صورة بليغة وصفت حال الصاعد في السماء عندما يفاجأ بهذه الظلمة الشديدة الحالكة، فلا يرى شيئًا فكأنه قد سحر.

وإذا ما ذهبنا إلى أقوال المفسرين وجدناها تشير إلى هذا المعنى وتؤكده.

  • من أقوال المفسرين:

يقول الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: واختلفت القراءة في قوله: "سكرت" فقرأ أهل المدينة والعراق بتشديد الكاف، بمعنى: غشيت وغطيت. وذكر عن مجاهد أنه كان يقرأ بالتخفيف، وذهب في قراءته إلى: حبست أبصارنا عن الرؤية من سكر الريح، وذلك سكونها وركودها. وقد حكي عن أبي عمرو ابن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، وأن معناه: قد غشى أبصارنا السكر. وقيل: سدت، ومعناها: منعت النظر، كما يسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان السكر الذي يسكر به. وقيل: أخذت أبصارنا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما  إنما أخذ أبصارنا. وشبه علينا، وإنما سحرنا.

ومن قرأ "سكرت" مخففة، فإنه يعني سحرت، وكأن هؤلاء وجهوا المعنى إلى أن أبصارهم سحرت، فشبه عليهم ما يبصرون، فلا يميزون بين الصحيح وغيره. ثم قال: وأولى هذه الأقوال عندي قول من قال: معنى ذلك: أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حد إبصارها([18]).

وإلى هذا المعنى أشار الإمام ابن كثير، حيث قال: يخبر الله عز وجل عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق: أنه لو فتح لهم بابًا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه، لما صدقوا بذلك، بل قالوا:)إنما سكرت أبصارنا((الحجر: 15)([19]).

أما الإمام الرازي فقد أشار إلى هذا المعنى إشارة قوية تعبر عما يحدث للصاعدين في السماء، ثم نقل قول أبي علي الفارسي: سكرت: أي صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها، وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري([20]).

وقد ذهب السمرقندي في تفسيره لهذه الآية مذهبًا يقارب ما قاله العلماء عند الصعود في السماء يقول عز وجل: )لقالوا إنما سكرت أبصارنا((الحجر: 15)؛ أي: أخذت وغشيت أبصارنا،) بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر)؛ أي: ولقالوا سحرنا فلا نبصر، و"سكرت" بالتشديد أي: غشيت، ومنه يقال: سكر النهر إذا سد، ومنه يقال: سكر الشراب وهو الغطاء على العقل. ومن قرأ "سكرت" بالتخفيف يعني: سحرت؛ أي إنهم لا يعتبرون به كما لم يعتبروا بانشقاق القمر حين رأوه معاينة([21]).

ومن خلال استعراضنا لأقوال المفسرين نجد أنها توافق هذه الحقيقة العلمية؛ إذ إن المسافر إلى الفضاء يعاين مشهدًا ساحرًا ومحيـرًا لم يسبق لأحد رؤيته من قبل في الأرض، وهو مشهد الليل الدائم على الرغم من بزوغ الشمس.

إن الآية تفيد أن الذي يعرج في السماء يكون كمن سكرت أبصاره فلم يعد يرى غير ظلام الكون الشامل، أو كمن اعتراه شيء من السحر فلم يدرك شيئًا مما حوله، وكلا التشبيهين تعبير دقيق عما أصاب رواد الفضاء الأوائل حين عبروا نطاق النهار إلى ظلمة الكون فنطقوا بما يكاد أن يكون ترجمة دقيقة إلى الإنجليزية لمعنى قوله تعالى: )لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر)([22])، وهذا يؤكد سبق القرآن الكريم لكل الحقائق التي أشار إليها وجاءت مطابقة لما تم اكتشافه في العصر الحديث، وهذا التعبير القرآني الفريد البليغ من الآية الكريمة قد نطق به بعض رواد الفضاء في أثناء رحلاتهم؛ إذ يقول -بعدما جاوز الغلاف الجوي للأرض حيث الظلام الدامس-: لقد أصبحنا عميًا لا نرى شيئًا، فما الذي حصل([23])؟

أليست هذه الآيات دليلاً على السبق العلمي للقرآن الكريم، وعلى التطابق التام بين هذه الحقائق وما أشار إليه القرآن منذ زمن بعيد؟! فلماذا ينكرون سبق القرآن الكريم إلى ذلك بحجة أن الآيات تتحدث عن عناد الكفار وصلفهم وصدهم عن الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا صحيح، إلا أنها أيضًا قد أشارت إلى هذه الحقائق التي اكتشفها العلماء حديثًا بوضوح كما رأينا.

 

3) وجه الإعجاز:

لقد أثبت العلم الحديث أن السماء بناء محكم متماسك لا يمكن الصعود إليه إلا عن طريق أبواب معينة في الغلاف الجوي للأرض، وهذا الصعود لا يمكن أن يكون في خط مستقيم أبدًا، بل لا بد من الانحناء نظرًا لانتشار المادة والطاقة في كل الكون، وتأثير كل من جاذبية المادة والمجالات المغناطيسية للطاقة على حركة الأجسام في الكون، وأن السماء في ظلام دائم على الرغم من بزوغ الشمس على كوكب الأرض في وقت النهار، وهذا الظلام الدائم الدامس قد جعل من يعرج إلى السماء يظن أنه فقد عينيه، أو أنه قد سحر فلم يعد يرى شيئًا، وهذه الحقائق قد عبر عنها القرآن الكريم منذ زمن بعيد في قوله تعالى:)ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر).

وهذا يدلنا على مدى التطابق بين الحقائق العلمية الحديثة وما أشار إليه القرآن الكريم؛ حيث وضح ربنا سبحانه وتعالى أن للسماء أبوابًا ومنافذ يمكن أن ينفذ من خلالها البشر، وهي ما اصطلح على تسميتها بمنافذ الغلاف الجوي، والطريق إليها ليس مستقيمًا، إنما فيه انحناءات وتعرجات للخروج من إطار الأرض وجاذبيتها، وهو ما عبر عنه ربنا سبحانه وتعالى بقوله: "يعرجون"، وهناك تختل الرؤية البصرية؛ لأن السماء عبارة عن ظلام دامس، فالنهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه 200 كم فوق مستوى سطح البحر، وهذا ما يجعل الصاعد في السماء يحس كأن عينيه قد أصابهما العمى فهو لا يرى شيئًا، وأنه أصبح كالمسحور الذي لا يرى الأشياء على حقيقتها، وهذا ما عبر عنه ربنا سبحانه وتعالى بقوله: )لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر).

 

 

 

 

(*)نقض النظريات الكونية، محمد بن عبد الله الإمام،دار الأثار، صنعاء، ط1، 1429هـ/ 2008م.

 

[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م،  ص407- 409.

 

[2]. كنيلي آرثر أدوين (kennelly Arthur Ediwin) (1861م- 1939م): مهندس كهربائي أمريكي، تنبأ بوجود الأيونوسفير عام 1902م.

 

[3]. يوري جاجارين (1934م- 1968م): رائد فضاء سوفيتي، أول من قام برحلة فضائية حول الأرض عام 1961م.

 

[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، دمشق، ط3، 1429هـ/ 2008م، ج1، ص42- 47.

 

[5]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد التفتنازي، دار المعرفة للطباعة والنشر, 2006م، ص278.

 

[6]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص409- 412.

 

[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مؤسسة الرسالة، ط.1، 1427هـ/ 2006م، ج17، ص71.

 

[8]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، 1401 هـ/ 1981 م، ج5، ص213 بتصرف.

 

[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج10، ص8.

 

[10]. إرشاد العقل السليم، أبو السعود، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج3، ص65.

 

[11]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص2129.

 

[12]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد التفتنازي، مرجع سابق، ص273.

 

[13]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص413، 414.

 

[14]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2005م، ج4، ص43.

 

[15]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط3، 1429هـ/ 2008م، ص109-110.

 

[16]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص415.

 

[17]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1418هـ/ 1998م، ص270.

 

[18]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420 هـ/ 2000م، ج17، ص72-73.

 

[19]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط.2، 1420هـ/1999م، ج4، ص547.

 

[20]. مفاتيح الغيب، الرازي، مرجع سابق، ج5، ص214 بتصرف.

 

[21]. بحر العلوم، السمرقندي، دارالفكر العربي، بيروت، 1997م، ج2، ص261 بتصرف.

 

[22]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص414.

 

[23]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، مرجع سابق، ص51.

  • الخميس AM 02:33
    2020-09-03
  • 1403
Powered by: GateGold