المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409004
يتصفح الموقع حاليا : 394

البحث

البحث

عرض المادة

دلائلُ العصمة من الكتاب والسُّنة

أ. عبد المجيد فاضل

لقد وردَتْ نصوصٌ من القرآن الكريم والسُّنّةِ النّبَوِيَّةِ، يُستفاد منها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كان مِن أبعدِ الناس عن الوقوع في المعاصي والآثام، ومعصوماً من جميع الذنوب، نذكر منها:

أوَّلًا: دلائلُ العصمة من الكتاب.

النّصّ الأَوَّل: قوله تعالى: {قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی وَرَزَقَنِی مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنࣰاۚ وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَاۤ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِیقِیۤ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَیۡهِ أُنِیبُ} [هود: 88].

قال ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ أَيْ: لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ شَيْءٍ وَأُخَالِفُ أَنَا فِي السِّرِّ فَأَفْعَلُهُ خُفْيَةً عَنْكُمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يَقُولُ: لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ وأرْتَكِبَه".

وقال العلاّمةُ الطاهر بن عاشور (1393 هـ) في تفسيره: "ومَعْنى ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ عِنْدَ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ مِنَ التّابِعِينَ مِن بَعْدِهِمْ: ما أُرِيدُ مِمّا نَهَيْتُكم عَنْهُ أنْ أمْنَعَكم أفْعالًا وأنا أفْعَلُها، أيْ: لَمْ أكُنْ لِأنْهاكم عَنْ شَيْءٍ وأنا أفْعَلُهُ...

فَقَوْلُهُ: ﴿أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ أيْ أنْ أفْعَلَ خِلافَ الأفْعالِ الَّتِي نَهَيْتُكم عَنْها بِأنْ أصْرِفَكم عَنْها وأنا أصِيرُ إلَيْها. والمَقْصُودُ: بَيانُ أنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أمْرًا يَعُمُّ الأُمَّةَ وإيّاهُ. وذَلِكَ شَأْنُ الشَّرائِعِ، كَما قالَ عُلَماؤُنا: إنَّ خِطابَ الأُمَّةِ يَشْمَلُ الرَّسُولَ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ – ما لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلى تَخْصِيصِهِ بِخِلافِ ذَلِكَ، فَفي هَذا إظْهارُ أنَّ ما نَهاهم عَنْهُ يَنْهى أيْضًا نَفْسَهُ عَنْهُ. وفي هَذا تَنْبِيهٌ لَهم عَلى ما في النَّهْيِ مِنَ المَصْلَحَةِ، وعَلى أنَّ شَأْنَهُ لَيْسَ شَأْنَ الجَبابِرَةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ أعْمالٍ وهم يَأْتُونَها؛ لِأنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُنْبِئُ بِعَدَمِ النُّصْحِ فِيما يَأْمُرُونَ ويَنْهَوْنَ، إذْ لَوْ كانُوا يُرِيدُونَ النُّصْحَ والخَيْرَ في ذَلِكَ لاخْتارُوهُ لِأنْفُسِهِمْ، وإلى هَذا المَعْنى يَرْمِي التَّوْبِيخُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكم وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]، أيْ: وأنْتُمْ تَتْلُونَ كِتابَ الشَّرِيعَةِ العامَّةِ لَكم، أفَلا تَعْقِلُونَ فَتَعْلَمُوا أنَّكم أوْلى بِجَلْبِ الخَيْرِ لِأنْفُسِكم".

تعقيب: فلا يمكن أن نتصوّرَ أنّ مَن كان في مرتبة النُّبُوَّةِ، وسيدَ الأنبياء والمرسلين، أنْ ينهى عن معصية – ولو كانت صغيرة – ويرتكبها!

النّصّ الثاني: قوله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} [آل عمران: 102].

قال أبو حيان (745 هـ) في تفسيره (البحر المحيط): "قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والرَّبِيعُ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ: حَقَّ تُقاتِهِ هو أنْ يُطاعَ فَلا يُعْصى، ويُذْكَرَ فَلا يُنْسى، ويُشْكُرَ فَلا يُكْفَرَ. ورُوِيَ مَرْفُوعًا. وقِيلَ: حَقَّ تُقاتِهِ اتِّقاءَ جَمِيعَ مَعاصِيهِ".

تعقيب: لا شكّ أنْ النَّبِيَّ ﷺ كان إمامَ المُتّقين، ومن كان في هذه المنزلة فلا يمكن أن نتصوّرَ أنّ مثلَه لا يتّقي اللهَ حقَّ تُقاتِهِ، ويقع في معصية ولو كانت صغيرة.

النّصّ الثالث: قولُه تَعَالَى: {قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ. ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ. وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ} [المؤمنون 1-3].

قال ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ أَيْ: عَنِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ يَشْمَلُ: الشِّرْكَ – كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ –، وَالْمَعَاصِي – كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ –، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الْفَرْقَانِ: 72] ".

تعقيب: ولا شَكَّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كان أوّلَ المُعْرِضين عنِ اللَّغْوِ الذي يَشْمَلُ الشِّرْكَ وجميع المَعاصِي كبيرِها وصغيرِها، وكل ما لا فائِدَةَ فِيهِ مِنَ الأقْوالِ والأفعالِ.

ثانياً- دلائلُ العصمة من السُّنَّةِ:

المجموعة الأولى:

* عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – قالت: "ما خُيِّرَ النبيُّ ﷺ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه". [أخرجه البخاري ومسلم].

* وعَنْها – رضي الله عنها – أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا". [رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده قوي، وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان وغيرهما/ انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م].

قال السندي: "قوله: (فإنَّ لهما من الله طالباً)، أي: فإن لها ملَكاً يسألك، يجيئ من الله تعالى، كالمنكر والنكير في القبر مثلاً".

* وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ". [رواه الإمامُ أحمد، وقال مُحقِّقو المسند: حديث حسن لغيره].

 و(مُحقَّرات الذنوب)  – بفتح القاف المشددة – تعني: صغائر الذنوب (قاله السندي كما قال مُحقِّقو المسند).

* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكُمُ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}". [رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

قَالَ الطِّيبِيُّ: "وَالْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ يُشْبِهُهُمْ فِي اسْوِدَادِ الْقَلْبِ، وَيَزْدَادُ ذَلِكَ بِازْدِيَادِ الذَّنْبِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، لَكِنْ ذَكَرَهَا ﷺ تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْ يَحْتَرِزُوا عَنْ كَثْرَةِ الذَّنْبِ كَيْلَا تَسْوَدَّ قُلُوبُهُمْ كَمَا اسْوَدَّتْ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، وَلِذَا قِيلَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ". [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي الملا الهروي القاري، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002م، شرح الحديث 2342، ج4 ص1622-1623].

* وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذَلِكَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا، وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، اللهُ يُحِلُّ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَجَعَت امْرَأَتُهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ قَدْ أَخْبَرْتُهَا فَذَهَبَتْ إِلَى زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، اللهُ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ ﷺ مَا شَاءَ؛ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقَالَ: «واللهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ». [رواه الإمامُ مالك في مُوطّئِه، في (بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ)، ورواه أحمد مختصراً، وقال محققو المسند: إسناده صحيح].

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ (544 هـ): "غَضَبُهُ لِذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ جَوَّزَ وُقُوعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْهُ، لَكِنْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِذْ غُفِرَ لَهُ؛ فَأَنْكَرَ ﷺ ذَلِكَ، وَقَالَ: «وَاللهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ»، فَكَيْفَ تُجَوِّزُونَ وُقُوعَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنِّي؟" [شرح الزرقاني على الموطأ، محمد بن عبد الباقي الزرقاني، ج2 ص241].

وقَالَ ابْنُ حَزْم (ت 456 هـ): "فَأنْكر عَلَيْهِ السَّلَام؛ إِذْ جعل لَهُ ذَنبا بِعَمْد وَإِنْ صَغُر". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، مكتبة الخانجي - القاهرة، ج4 ص23].

تعقيب: لقد كان النَّبِيُّ ﷺ مِن أبعدِ النّاسِ عن الإثم، بشهادةِ زوجته عائشة رضي الله عنها، بل إنّه غَضِبَ ﷺ عندما عَلِمَ أنّ أحدَ الصحابة جَوَّز أن يصدر منه ﷺ ذَنبٌ صغير بِعَمْد؛ إذْ لا ينبغى لمِثْلِه ﷺ أنْ يتعمّد ارتكاب الذنوب ولو كانت من الصغائر. وكان ﷺ يُحذِّر من مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ لأنّ الذنْبَ – ولو كان صغيراً – يُسوِّدُ القلبَ ويُلوِّثُه؛ فلا يمكن أنْ نتصوّرَ أنّ النَّبِيَّ ﷺ قد وقع في ذنب من الذنوب، واسْوَدّ قلبُه الطاهر، الذي غسله جبريلُ عليهِ السلامُ بماء زمزم!

ثُمَّ إنّ المعصيةَ – كبيرةً كانت أو صغيرةً – لا بُدَّ أنْ تنقصَ مِن إيمان صاحبها، قال ابن قيم الجوزية (ت 751هـ): "وَأَمَّا صِيَانَةُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِضْعَافُ الْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ وَالْوُجُودِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ – كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ – «إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ فَأَذْنَبَ نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ؛ وَذَلِكَ الرَّانُّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]». فَالْقَبَائِحُ تُسَوِّدُ الْقَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ، وَالْإِيمَانُ هُوَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ. وَالْقَبَائِحُ تَذْهَبُ بِهِ أَوْ تُقَلِّلُهُ قَطْعًا؛ فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ نُورَ الْقَلْبِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُطْفِئُ نُورَ الْقَلْبِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ كَسْبَ الْقُلُوبِ سَبَبٌ لِلرَّانِّ الَّذِي يَعْلُوهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْكَسَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا كَسَبُوا، فَقَالَ: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]. وَأَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ سَبَبٌ لِتَقْسِيَةِ الْقَلْبِ. فَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]. فَجَعَلَ ذَنْبَ النَّقْضِ مُوجِبًا لِهَذِهِ الْآثَارِ مِنْ تَقْسِيَةِ الْقَلْبِ، وَاللَّعْنَةِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ، وَنِسْيَانِ الْعِلْمِ.

فَالْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ كَالْمَرَضِ وَالْحُمَّى لِلْقُوَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ". [مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة 1416 هـ - 1996م، ج2 ص27].

وقال الشيخُ ابن تيمية (ت 728هـ): "الإنسانُ لا يفعل الحرام إلا لِضَعْفِ إيمانِه ومحبته". [قاعدة في المحبة، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة - مصر، ص 104].

فلا يمكن أن نتصوّرَ أن النَّبِيَّ ﷺ تنقُص محبّته لربِّه ويضعُف إيمانه؛ فيقع في معصية ولو كانت صغيرة!

المجموعة الثانية:

* عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما مِنكُم مِن أحَدٍ، إلَّا وقدْ وُكِّلَ به قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ، قالوا: وإيَّاكَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: وإيَّايَ، إلَّا أنَّ اللَّهَ أعانَنِي عليه فأسْلَمَ، فلا يَأْمُرُنِي إلَّا بخَيْرٍ". [رواه مسلم].

قال الإمامُ النووي في شرحه لصحيح مسلم: "(فَأَسْلَم) بِرَفْعِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ؛ فَمَنْ رَفَعَ قَالَ مَعْنَاهُ أَسْلَمُ أَنَا مِنْ شَرِّهِ وَفِتْنَتِهِ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ إِنَّ الْقَرِينَ أَسْلَمَ مِنَ الإسلام، وصار مؤمنا لا يأمرني إِلَّا بِخَيْرٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَرْجَحِ مِنْهُمَا، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الرَّفْعُ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاضُ الْفَتْحَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِقَوْلِهِ ﷺ (فلا يأمرني إلاَّ بخير). وَاخْتَلَفُوا عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ، قِيلَ أَسْلَمَ بِمَعْنَى اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ، وَقَدْ جَاءَ هَكَذَا فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَاسْتَسْلَمَ؛ وَقِيلَ مَعْنَاهُ صَارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ الْقَاضِي وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي جِسْمِهِ وَخَاطِرِهِ وَلِسَانِهِ".

* وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضِيَ اللهُ عنْه أنَّهُ قال: "بَعَثَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ مِنَ اليَمَنِ، بذَهَبَةٍ في أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِن تُرَابِهَا، قالَ: فَقَسَمَهَا بيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بيْنَ عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، وَالأقْرَعِ بنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إمَّا عَلْقَمَةُ بنُ عُلَاثَةَ، وإمَّا عَامِرُ بنُ الطُّفَيْلِ، فَقالَ رَجُلٌ مِن أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بهذا مِن هَؤُلَاءِ، قالَ: فَبَلَغَ ذلكَ النبيَّ ﷺ، فَقالَ: أَلَا تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَن في السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإزَارِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ، فَقالَ: وَيْلَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ". [رواه البخاري ومسلم واللفظ له].

أَوَلَيْسَ النَّبِيُّ ﷺ أَحَقَّ أَهْلِ الأرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ، ويبتعِدَ عنْ جميعِ الذُّنُوبِ والمعاصي كبيرِها وصغيرِها؟

* وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ الله عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ". [رواه مسلم].

* وعنها رضي الله عنها، قالت: قال النبيّ ﷺ: يا عائِشةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا ينام قلبي". [متفق عليه].

* وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ مِائَةَ مَرَّةٍ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". [رواه أحمد].

* وعَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا»، قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا". [رواه الترمذي، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ].

تعقيب:

قَالَ الإمامُ ابْنُ قيِّم الجوزية (ت 751هـ): "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ الْخَلْقِ ذِكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ كَانَ كَلَامُهُ كُلُّهُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَتَشْرِيعُهُ لِلْأُمَّةِ ذِكْرًا مِنْهُ لِلَّهِ، وَإِخْبَارُهُ عَنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ، وَأَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ، وَتَمْجِيدُهُ وَحَمْدُهُ، وَتَسْبِيحُهُ ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ، وَسُؤَالُهُ وَدُعَاؤُهُ إِيَّاهُ، وَرَغْبَتُهُ وَرَهْبَتُهُ ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ، وَسُكُوتُهُ وَصَمْتُهُ ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ بِقَلْبِهِ، فَكَانَ ذَاكِرًا لِلَّهِ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَكَانَ ذِكْرُهُ لِلَّهِ يَجْرِي مَعَ أَنْفَاسِهِ، قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنْبِهِ، وَفِي مَشْيِهِ وَرُكُوبِهِ، وَمَسِيرِهِ وَنُزُولِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ". [زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة: السابعة والعشرون , 1415هـ /1994م، ج2 ص332، فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ في الأذكار والأدعية].

فلا يمكنُ لنا أن نتصوّرَ أنّ مَنِ اسْتُخْرِجَ من قلبِه حَظُّ الشَّيْطَانِ منه، ومَن كان قَرينُه من الجنّ لا يأمره إلا بالخير، وقلبُه لا ينام، وكانَ ذِكْرُهُ لِلَّهِ يَجْرِي مَعَ أنفاسِه؛ لا يمكنُ أن نتصوّرَ أنّه يتعمّد الوقوع في المعاصي والآثام؛ قال الشيخُ سيد سابق (ت 1420هـ): "إن رسل الله يُدرِكون بِحِسِّهِم الذي تميزوا به على غيرهم من البشر، أنهم دائمًا في حضرة القدس، وأنهم يُبصِرون اللهَ في كل شيء، فيرون مظاهرَ جمالِه وجلالِه، ودلائلَ قدرتِه وعظمتِه، وآثارَ حكمتِه ورحمتِه، يرون ذلك في أنفسهم وفيمن حولهم: في الأرض والسماء، وفى الليل والنهار، وفى الحياة والموت، فتمتلئ قلوبهم إجلالاً لله ووقارًا له، فلا يبقى فيها مكانٌ لشيطانٍ، ولا موضع لهوى، ولا جنوحٌ لشهوة، ولا إرادةٌ لشيء سوى إرادة الحق والتفاني فيه والاستشهاد من أجله". [العقائد الإسلامية، سيد سابق، دار الكتاب العربي – بيروت، مبحث (عصمة الأنبياء)، ص183].

المجموعة الثالثة:

* عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، أَنَّها قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي نِسْوَةٍ نُبَايِعُهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، قَالَ: (فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ). قَالَتْ: فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا بِأَنْفُسِنَا، هَلُمَّ نُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ، كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٌ)". [رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده صحيح، ورواه أيضاً الإمامُ مالك في المُوطّأ].

* وعن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: "أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ كانَ يَمْتَحِنُ مَن هَاجَرَ إلَيْهِ مِنَ المُؤْمِنَاتِ بهذِه الآيَةِ؛ بقَوْلِ اللهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]. قالَ عُرْوَةُ: قالَتْ عَائِشَةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشَّرْطِ مِنَ المُؤْمِنَاتِ، قالَ لَهَا رَسولُ اللهِ ﷺ: (قدْ بَايَعْتُكِ، كَلَامًا)؛ ولَا واللهِ ما مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ في المُبَايَعَةِ، ما يُبَايِعُهُنَّ إلَّا بقَوْلِهِ: قدْ بَايَعْتُكِ علَى ذَلِكِ". [متفق عليه، واللفظُ للبخاري].

* وفي رواية أخرى للبخاري عن عروة، عن عائشة رضي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {لا يشركن بالله شيئاً}. قَالَتْ: وَمَا مسَّت يَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَدَ امْرَأَةٍ إلاَّ امْرَأَةً يملكها".

قال الإمامُ زين الدين عبد الرحيم العراقي (ت 806 هـ) في الفائدة الرابعة لحديث عائشة رضي الله عنها السابق: "وَفِيهِ أَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ قَطُّ يَدَ امْرَأَةٍ غَيْرِ زَوْجَاتِهِ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، لَا فِي مُبَايَعَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا؛ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ هُوَ ذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ وَانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ فِي حَقِّهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَدَّ جَوَازُهُ مِنْ خَصَائِصِهِ". [طرح التثريب في شرح التقريب، زين الدين عبد الرحيم العراقي، الطبعة المصرية القديمة - وصوَّرَتْها: دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، ودار الفكر العربي، ج7 ص44-45].

تعقيب: إنّ امتناعَ النَّبِيِّ ﷺ من مصافحة النساء، لَدليلٌ على أنَّهُ كان مِن أبْعدِ الناس عن الوقوع في الذنوب، ولو كانت من الصغائر.

وقفة: لا دليلَ على أن النَّبِيَّ ﷺ كان يمس أيدي النساء:

1- قال أبو الحسنات اللكنوي (ت 1304هـ): "وجاءت أخبار ضعيفة بمصافحته النساء عند البيعة أحياناً، فعند الطبراني من حديث معقل بن يسار: أن النبي ﷺ كان يصافح النساء في بيعة الرضوان من تحت الثوب، وأخرج ابن عبد البر، عن عطاء وقيس بن أبي حازم: أن النبي ﷺ كان إذا بايع لم يصافح النساء إلاَّ على يده ثوب (وضع الثوب على يده كان في أول الأمر، كذا في الأوجز 15/262)، كذا ذكره ابن حجر والزرقاني، ولعله محمول على مصافحة العجائز، وقوله ﷺ في حديث الباب (لا أصافح النساء) الثابت بالطرق الصحيحة صريح في عدم مصافحته". [التعليق الممجد على موطأ محمد، أبو الحسنات اللكنوي، تعليق وتحقيق: تقي الدين الندوي، أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات، العربية المتحدة، دار القلم، دمشق، الطبعة الرابعة، 1426 هـ - 2005 م، ج3 ص472].

2- زعمَ بعضُهم أنَّهُ صحّ عن رسول الله ﷺ أنَّهُ كان يَمْسِك بأيدي النساء، واستدلوا بحديث أَنَس بْن مَالِكٍ الذي جاء فيه: "كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فتنطلق به حيث شاءت". [رواه البخاري].

ويُردّ عليه بما يأتي:

أولاً- لو ثبت عن النَّبِيِّ  ﷺ أنَّهُ كان يَمسِك بأيدي النساء، لكان ذلكَ منتشراً بين الصحابة، ولمَا غاب هذا الأمرُ عن عائشةَ رضي الله عنها التي رَوَتْ هذا الحديث بعد وفاتِه ﷺ، ولمَا قالت: "وَمَا مسَّت يَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَدَ امْرَأَةٍ إلاَّ امْرَأَةً يملكها"، ولما كان لِقولِها: "وَلَا واللهِ، ما مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ في المُبَايَعَةِ" مِن فائدة؛ إذْ ما الفرقُ بين مسّ أيدي النساء في المبايعة أو بدونها؟

ثانياً- لو كان يجُوز لِلنَّبِيِّ  ﷺ مس أيدي النساء بدون مبايعة، فلماذا كان يمتنع عن مسِّ أيديهِنّ عند المبايعة التي كانت تَتِمُّ عادةً بالمصافحة؟

3- زعم بعضُ الباحثين المعاصرين أنّ الحديثَ السابق خاصٌّ بالإماء فقط، وهو على ظَاهره، أي: أنّ النَّبِيَّ ﷺ كان يَمْسِكُهنّ بأيديهنّ.

 ويُرَدُّ عليه بما يأتي:

أولاً- الخصوصية تحتاج إلى دليل، ودعوى الخصوصية بدون دليل هي مجرد احتمال، و "الخصوصية لا تَثْبُتُ بمجرد الاحتمال" – كما هو مُقرّرٌ عند أهل التحقيق –. [انظر: الفوائد الحديثية - ضمن (آثار المعلمي)، عبد الرحمن المعلمي اليماني، ص115].

ثانياً- قالت عائشة رضي الله عنها: "وَمَا مسَّت يَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَدَ امْرَأَةٍ إلاَّ امْرَأَةً يملكها"؛ ومعلومٌ أنه لمْ يقلْ أحدٌ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى ﷺ كان يملك جميع إماء المدينة!

ثالثاً- التعبير (تأخذ بيده) فُسِّرَ بمعنى: تطلب مساعدته، فيُلَبِّي طلبَها وَينْقاد لها: قال شمس الدين الكرْماني (ت 786هـ): "والمقصود من الأخذ بيده: لازمه، وهو الرفق والانقياد، يعني: كان خُلُق رسول الله ﷺ بهذه المرتبة: وهو أنه لو كان لِأَمَة حاجةٌ إلى بعض مواضع المدينة وتلتمس منه مساعدتَها في تلك الحاجة، واحتاج بأن يمشيَ معها لقضائِها لَمَا تخلَّف عن ذلك حتى يقضيَ حاجتها". [الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، شمس الدين الكرماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، طبعة أولى: 1356هـ - 1937م، طبعة ثانية: 1401هـ - 1982م، ج21 ص206].

وقال ابن حَجَر العَسْقلاني (ت 852 هـ): "وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ: الرِّفْقُ وَالِانْقِيَادُ". [فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت، 1379، ج10 ص490].

وقال بدر الدين العيني (ت 855هـ): "وَالْمُرَادُ من الْأَخْذ بِيَدِهِ لَازمُه وَهُوَ الرِّفْق والانقياد، يَعْنِي: كَانَ خلق رَسُول الله ﷺ، على هَذِه الْمرتبَة، هُوَ أَنه لَو كَانَ لِأَمَة حَاجَةٌ إِلَى بعض مَوَاضِع الْمَدِينَة، وتلتمس مِنْهُ مساعدتَها فِي تِلْكَ الْحَاجة، واحتاجت بِأَن يَمْشيَ مَعهَا لِقضائِها لَمَا تخلَّف عَن ذَلِك حَتَّى يقْضِيَ حَاجَتَهَا". [عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج22 ص141].

وقال شهاب الدين القسطلاني (ت 923هـ): "والمراد بالأخذ باليد لازمه، وهو الانقياد؛ وفيه غايةُ تواضعه وبراءَتُه من جميع أنواع الكِبْر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرًا". [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، شهاب الدين القسطلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة السابعة، 1323 هـ، ج9 ص51].

وقال علي الملا القاري (ت 1014هـ): "قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ الرِّفْقُ". [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي الملا القاري، دار الفكر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002 م، ج9 ص3713].

وقال الشيخُ الدكتور مصطفى ديب البغا في تعليقه على صحيح البخاري: "(الأَمَة) المرأة المملوكة. (لَتَأخُذ بيده) أي تطلب مساعدته فيُلَبِّي طلبَها وينقاد لها، وليس المرادُ مَسْكَ يدِه. (فتنطلق به) تذهب ويذهب معها إذا احتاجت مساعدتها للذهاب. (حيث شاءت) أي موضع من مواضع المدينة يكون قضاء حاجتها فيه". [صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، دار اليمامة - دمشق، الطبعة الخامسة، 1414 هـ - 1993 م، حديث رقم 5724، ج 5  ص 2255].

إضاءة 1: لقد ورَدَ التعبيرُ (الأخذ باليد) بمعنى (الإعانة) في بعضِ الأحاديث الضعيفة، وهي وإن كانت ضعيفةً فإنَّه يُستفادُ منها أنَّ تفسيرَ التعبيرِ (الأخذ باليد) على غير ظاهِرِه كان شائعاً في الصَّدْرِ الأَوَّلِ، ونذكرُ من هذه الأحاديث:

* ما رُوِيَ ابن عبَّاس أنَّهُ قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "تَجَافُوا عن ذَنْبِ السَّخِيِّ، فإنَّ اللَّهَ آخذٌ بِيَدِهِ كُلَّمَا عَثَرَ عَثْرَةً". [رواه أبو بكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) في (تاريخ بغداد) – في ترجمته لِخَلَف بن محمد بن عليّ بن حَمْدُون الوَاسِطي أبو محمد –/ انظر: تاريخ بغداد، أبو بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002 م، رقم 4383، ج9 ص288].

وقال خلدون الأحدب – أستاذ الحديث وعلومه – في (زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة): إسناده ضعيف، أخرجه أبو نُعَيْم في (الحِلْيَة)، والقُضَاعي في (مسند الشِّهَاب)، والطبراني في (المعجم الأوسط)، والبيهقي  في (شُعَب الإِيمان)، وقال الحافظ العِرَاقي في (جزئه الذي ردَّ فيه على الصَّغَاني): "يشبه أن يكون إسناده حسنًا، ورواه ابن الجَوْزي في (الموضوعات)، وتَعَقَّبَه السُّيُوطيُّ في (اللآلئ) في إيراده له في الموضوعات، ولَخَّصَ تعقيبه ابن عَرَّاق في (تنزيه الشريعة)"./ انظر: زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة، خلدون الأحدب، دار القلم - دمشق، الطبعة الأولى، 1996 م، حديث رقم 1257، ج6 ص392 وما بعدها].

والذين أخرجوا هذا الحديث لمْ يكونوا بعيدين من الفترة النبوية، فلقد كانت وفاتهم في القرنين الرابع الهجري والخامس الهجري: فالطبراني توفي سنة 360 هـ، وأبو نعيم الأصبهاني توفي سنة 430 هـ، والقضاعي توفي سنة 454 هـ، والبيهقي توفي سنة 458 هـ، والخطيب البغدادي توفي سنة 463 هـ.

* ورُوِيَ عن ابن عبَّاس – أيضاً – أنّه قال: قال رسول الله ﷺ: "تَجَاوَزُوا عن ذَنْبِ السَّخِيِّ، وزَلَّةِ العَالِمِ، وسَطْوَةِ السُّلْطَانِ العَادِلِ، فإنَّ اللهَ تعالى آخذٌ بأَيْدِيْهِمْ كُلَّما عَثَرَ عَاثِرٌ مِنْهُمْ". [رواه أبو بكر الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) – في ترجمته لِ (هنَّاد بن إبراهيم بن محمد النَّسَفِيّ أبو المُظَفَّر) –/ انظر: تاريخ بغداد، أبو بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002 م، رقم7392 ، ج16 ص149].

وقال خلدون الأحدب: "إسناده ضعيف". [انظر: زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة، خلدون الأحدب، دار القلم  - دمشق، الطبعة الأولى، 1996م، حديث رقم2114 ، ج9 ص382].

إضاءة 2: تفسير (الأخذ باليد) على غير ظاهره كان معروفاً ومنتشِراً استعمالُه عند العلماء والأدباء والشعراء، بل وعامّة النّاسِ، قال ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ): "ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] .

قال ابن عباس: اليمين هاهنا: القوّة. وإنما أقام اليمين مقام القوّة، لأن قوة كل شيء في ميامنه.

ولأهل اللغة في هذا مذهب آخر قد جرى الناس على اعتياده: أن كان الله عز وجل أراده في هذا الموضع، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة رجل: خذ بيده وافعل به كذا وكذا. وأكثر ما يقول السلطان والحاكم بعد وجوب الحكم: خذ بيده واسفع بيده". [تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة الدينوري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ص99-100].

وقال صلاح الدين خليل الصفدي (ت 764هـ) – في ترجمته للقَاضِي كَمَال الدّين الشهرزوري –: "قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين أَبُو الْفضل ابْن أبي مُحَمَّد الشهرزوري ثمَّ الْموصِلِي الْفَقِيه الشَّافِعِي... وَكَانَ أديباً شَاعِرًا طريفاً فكه الْمجْلس أقره صَلَاح الدّين على مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَتُوفي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخمْس ماية، ولما كبر وَضعف كَانَ ينشد فِي كل وَقت قَول ابْن أبي الصَّقْر الوَاسِطِيّ:

يَا رَبِّ لاَ تُحْيِني إلى زَمَنٍ ... أَكُوْنُ فِيْهِ كَلًّا عَلَى أَحَدٍ

خُذْ بِيَدِي قَبْل أن أقُوْلَ لِمَنْ ... ألْقَاهُ عِنْدَ الْقِيَامِ خُذْ بِيَدِي". [الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث – بيروت، 1420هـ- 2000م، ج3 ص266-267].

وابْنُ أبي الصَّقْر الوَاسِطِيُّ فقيهٌ شافعيّ وكاتب وشاعر، عاش في القرن الخامس وتوفي سنة 498هـ.

وقال عماد الدين الكاتب الأصبهاني (ت 597 هـ):

ما كنت في مدحه إذ هزه كلمي ... إلا كما شعف المهوة الطالي

أقالني من عثاري آخذاً بيدي ... ندب به أورقت أغصان آمالي.

[خريدة القصر وجريدة العصر – قسم شعراء المغرب والأندلس جـ 2، عماد الدين الكاتب الأصبهاني، تحقيق: آذرتاش آذرنوش، نقحه وزاد عليه: محمد المرزوقي، محمد العروسي المطوي، الجيلاني بن الحاج يحيى، الدار التونسية للنشر (هذا هو الجزء الثاني من قسم شعراء المغرب والأندلس)، عام النشر: 1971 م، ص241]

ومن الأمثال السّائِرة التي كانت منتشرة في عامّة الناس قديماً، المثلُ الذي يقول: "خُذْ بِيَدِي اليَوْمَ، آخُذُ بِرِجْلِكَ غَداً"، أي: انفعني بقليلٍ، أنفعك عند حاجتك بكثير.

ذكره أَبُو بَكْر الخُوَارِزْمي (ت 383هـ) في كتابه (الأمثال المولدة). [انظر: الأمثال المولدة، الخوارزمي، أبو بكر، نشر: المجمع الثقافي، أبو ظبي، عام النشر: 1424 هـ، ص313].

وأَبُو بَكْر الخُوَارِزْمي: من أئمة الكُتّاب، وأحدُ الشعراء العلماء. كان ثقة في اللغة ومعرفة الأنساب.

تنبيه: حديث أَنَس بْن مَالِكٍ رواه عنه ابن ماجه بسندٍ آخر فيه عَلِي بْن زَيْدٍ، وجاء فيه: عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَتِهَا". [رواه ابن ماجه، وقال مُحَقِّقو سُنَن ابن ماجه: إسناده ضعيف، لِضُعف علي بن زيد – وهو ابن جدعان –/ انظر: سنن ابن ماجه، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد - محمَّد كامل قره بللي - عَبد اللّطيف حرز الله، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ - 2009 م، حديث رقم 4176، ج5 ص274؛ وقال البوصيري: هَذَا إِسْنَاد ضَعِيف لضعف عَليّ بن زيد بن جدعَان/ انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، البوصيري، ج4 ص230، حديث رقم 87/ وصححه مع ذلك الألباني! انظر: سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، حديث رقم 4177، ج2 ص1398].

وروى حديث أنس السابق الإمامُ أحمد – أيضاً – بلفظ: "إِنْ كَانَتِ الْوَلِيدَةُ مِنْ وَلَائِدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَتَجِيءُ فَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ". [قال محققو المسند: "إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد – وهو ابن جدعان –، وقد صحَّ الحديث بغير هذا اللفظ"/ انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ج20 ص178، حديث رقم 12780].

فائدةٌ هامّةٌ: قال ابن الأثير الجزري (ت 606هـ): "وَقَدْ تُطْلَق الْوَلِيدَةُ عَلَى الْجَارِيَةِ والأَمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً". [النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير الجزري، المكتبة العلمية - بيروت، 1399هـ - 1979م، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي].

وفي هذا ردٌّ على مَن ظنّ أنّ كلمة (الوليدة) التي وردت في الحديث السابق تُطلق على الصَّبِية.

وقفةٌ مع الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: جوّزَ الشيخُ الدكتور القرضاوي مصافحة النساء مِن غير المحارم، وَقوّى حُجّتَه بحديث أنسٍ السابق الذي رواه البخاري وقال: "وقد قال الحافظ في شرح حديث البخاري: «وَالمَقْصُودُ مِنَ الأَخْذِ بِاليَدِ لاَزِمُهُ، وَهُوَ الرِّفْقُ وَالاِنْقِيَاد...».

وما ذكره الحافظ – رَحِمَهُ اللهُ – مُسَلَّمٌ في جملته، ولكنْ صرْفُه معنى الأخْذِ باليد عن ظاهره إلى لازمه – وهو الرفق والانقياد – غيرُ مُسَلَّم؛ لأن الظاهر واللازم مُرَادَانِ مَعًا. والأصل في الكلام أن يُحْمل على ظاهره، إلَّا أنْ يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن هذا الظاهر. ولا أرى هنا ما يمنع ذلك، بل إن رواية الإمام أحمد – وفيها «فَلاَ يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ» – لَتَدُلُّ بوضوح على أن الظاهرَ هو المرادُ، وأنَّ مِن التَّكلفِ والاعتِسافِ الخروجَ عنه". [كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، ط. الشروق، صفحة 184].

ويُرَدُّ عليه بما يأتي:

أوَّلًا- الحديثُ الذي رواه البخاري عن أنس خاصٌّ بالإماء فقط، ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: "وَمَا مسَّت يَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَدَ امْرَأَةٍ إلاَّ امْرَأَةً يملكها"؛ فإنْ حُمِلَ الحديثُ على ظَاهره، فهذا يعني أنّ النَّبِيَّ ﷺ كان يملِك هؤلاء الإماء اللاتي كُنّ يأخذنَ بِيَدِهِ، ومعلومٌ أنه لمْ يقلْ أحدٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كان يملك جميع إماء المدينة!

ثانياً- حَمْلُ هذا الحديث على ظَاهره يتعارضُ مع قول النبيِّ ﷺ: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ، كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٌ"، الذي رواه أحمد، وإسناده صحيح؛ والمشهورُ عند علماء الأصول قولُهم: "يُرجح القولُ على الفعل؛ لأن القول أبلغ في البيان من الفعل". [الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق - سوريا، الطبعة الثانية، 1427 هـ - 2006 م، ج2 ص439].

وحَمْلُ الحديث على ظَاهره يتعارضُ – أيضاً – مع قولِ عائشة رضي الله عنها: "وَمَا مسَّت يَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَدَ امْرَأَةٍ إلاَّ امْرَأَةً يملكها"، الذي رواه البخاري.

وعند الأصوليين: يُرجَّح الخبر الموافق لخبر آخر؛ لأن الخبر الذي وافقه قد أفاد زيادةَ قوةٍ في الظّن في الخبر الموافق له. [انظر: الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقاتها على المذهب الراجح، عبد الكريم النملة (الأستاذ في قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، مكتبة الرشد - الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م، ص426].

وخبرُ عائشة يُوافق خبرَ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، الذي جاء فيه قول النبيِّ ﷺ: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ"، وبهذا فخبرُ عائشة يُفيد زيادة قوة في خبر أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ.

وهذا التّعارُضُ قرينةٌ كافيةٌ لِصَرْفِ حديث أنسٍ عن ظاهره، والقولِ بأنّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ، وَهُوَ: الرِّفْقُ وَالِانْقِيَادُ. وهذا لمْ يَغِبْ عن الكرماني وابن حجر العسقلاني والقسطلاني وغيرِهم من الأئِمّة الذين شرحوا حديثَ أنسٍ الذي رواه البخاري، وصرفوا معناه عن ظاهِرِه!

ثالثاً- التعبيرُ (الأخذ باليد) قابلٌ لُغَةً لصَرْفِه عن ظاهِرِه – كما رأينا سابقاً –؛ لذا وجب صرفُه عن ظاهره حتى لا يتعارضَ مع الأحاديث الصحيحة الأخرى التي لا تقبل أن يُصرَف معناها عن ظاهرها، والتي وردَ فيها أنّ النَّبِيَّ ﷺ لم يكن يصافح النساء.

رابعاً: أمَّا رواية الإمام أحمد، التي جاء فيها «فَلاَ يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ» فلقد ضعّفها الشيخُ المحدِّث شعيب الأرنؤوط والمحققون معه لِمُسند الإمام أحمد، وقالوا: إِسْنَاده ضَعِيف لضعف عَليّ بن زيد بن جدعَان، وضعّفه البوصيري في (زوائد ابن ماجه) وشعيبُ الأرنؤوط والذين حقّقوا معه سُنن ابن ماجه – كما رأينا سابقاً –.

وعند الأصوليين: "لا تعارض بين حديث صحيح مع حديث ضعيف أو مردود؛ لأن الحديث الضعيف أو المردود ليس حجةً أصلًا ولا دليلًا". [الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق - سوريا، الطبعة الثانية، 1427 هـ - 2006 م، ج2 ص409].

 فمِثلُ هذا الحديث لا يمكن الاحتجاج به، ورَدُّ الأحاديث الصحيحة الأخرى التي وَرَدَ فيها أنّ النَّبِيَّ ﷺ لم يكن يصافح النساء!

خامساً: يلاحَظ أن هناك اتِّفاقاً بين أكثر شُرّاح الأحاديث الذين شرحوا حديث أَنَس بْن مَالِكٍ الذي قَالَ فيه: "كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فتنطلق به حيث شاءت" على أنّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ: الرِّفْقُ وَالِانْقِيَادُ. ولا نجد لهم مخالفاً؛ وهذا قد يُعدّ إجماعاً.

  • الخميس PM 03:30
    2022-10-20
  • 789
Powered by: GateGold