المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409151
يتصفح الموقع حاليا : 311

البحث

البحث

عرض المادة

نظرة العلماء إلى أخطاء الرسل

أ. عبد المجيد فاضل

1) تنبيه: إن البحث في أخطاء الأنبياء مَحْفُوفٌ بالمزالق والخاطر؛ ولذلك فإنّه يلزمنا التأدُّب عند الخوض في هذه الأخطاء؛ جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): "يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ تَوْقِيرُ الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ تَعْظِيمُهُمْ وَإِكْرَامُ ذِكْرِهمْ، وَتَجَنُّبُ أَيِّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ". [الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، ج40 ص46].

وقال أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) في معرِض حديثه عن خطأ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ، إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِ اللَّهِ عَنْهُ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ. وَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا، الْمُمَاثِلَيْنِ لَنَا، فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ، النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ". [أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م، ج3 ص259].

2) أقوال بعض الأئمة وأهل العلم والتفسير:

جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): "الأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. (كشف الأسرار عن أصول البزدوي 3 / 199، والبحر المحيط 4 / 170).

وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ الإِجْمَاعَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخِسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ. (البحر المحيط 4 / 171).

وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ صُدُورَ الصَّغَائِرِ غَيْرِ الْخَسِيسَةِ أَيْضًا. (فواتح الرحموت 2 / 99، والبحر المحيط 4 / 170)". [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج38 ص218].

وهذه أقوالُ بعض الأئمة والعلماء في هذه المسألة بشيء من التفصيل:

* قالَ الإمامُ أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ) في كتابه (الفقه الأكبر): "القَوْلُ فِي الرَّسُول ﷺ: وَمُحَمّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حَبِيبُهُ وَعَبدُه وَرَسُولُهُ وَنبيُّه وَصَفِيُّه ونَقِيُّه، وَلم يَعبُدِ الصَّنَم، وَلم يُشْركْ بِاللَّه تَعَالَى طرفَة عين قطّ، وَلم يرتكبْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً قطّ". [الفقه الأكبر، أبو حنيفة النعمان، مكتبة الفرقان – الإمارات العربية، الطبعة الأولى، 1419هـ - 1999م، ص39].

تنبيه: كتاب (الفقه الأكبر) نسبه إلى أبي حنيفة ابن أبي العِز في شرح الطحاوية، والشيخ ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية، وقد ذكر ابن تيمية أنه معروف مشهور عند أصحابه، وأنهم رَوَوْه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي. [انظر موقع إسلام ويب، الفتوى رقم: 62923، جواباً عن السؤال حول مدى صِحّة نسبة كتاب (الفقه الأكبر) لأبي حنيفة، المنشورة بتاريخ: الأحد 28 ربيع الآخر 1426 هـ - 5-6-2005 م].

* وقال الإمامُ ابنُ حَزْم الظاهري (ت 456 هـ) في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل): "(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي هَل تعصي الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِم السَّلَام أم لَا؟ فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن رسل الله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم يعصون الله فِي جَمِيع الْكَبَائِر والصغائر عمدا، حاشى الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ فَقَط، وَهَذَا قَولُ الْكَرَّامِيَّة من المرجئة، وَقَولُ ابْن الطّيب الباقلاني من الأشعرية وَمَن اتَّبعهُ، وَهُوَ قَول الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَسمعت من يَحْكِي عَن بعض الْكَرَّامِيَّة أَنهم يُجَوِّزون على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ أَيْضا! وَأَمَّا هَذَا الباقلاني فإنا رَأينَا فِي كتاب صَاحبه أبي جَعْفَر السمناني قَاضِي الموصل، أَنه كَانَ يَقُول: إِن كل ذَنْب دق أوجل فَإِنَّهُ جَائِز على الرُّسُل حاشى الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ فَقَط، قَالَ: وَجَائِز عَلَيْهِم أَن يكفروا، قَالَ: وَإِذا نهى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن شَيْء ثمَّ فعله فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَن ذَلِك النَّهْي قد نسخ؛ لِأَنَّهُ قد يَفْعَله عَاصِيا لله عز وَجل، قَالَ: وَلَيْسَ لأَصْحَابه أَن ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ. وَجَوَّز أَن يكونَ فِي أمة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام من هُوَ أفضل من مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُذْ بُعِث إِلَى أَن مَاتَ!

(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُلُّه كُفْر مُجَرّد، وشِرْك مَحْض، ورِدَّة عَن الْإِسْلَام قَاطِعَة للولاية، مُبيحةٌ دمِ من دَان بهَا وَمَالِه، مُوجبَة للبراءة مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الْإِشْهَاد. وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز عَلَيْهِم كَبِيرَة من الْكَبَائِر أصلا وجوزوا عَلَيْهِم الصَّغَائِر بالعمد وَهُوَ قَول ابْن فورك الْأَشْعَرِيّ؛ وَذَهَب جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أهل السّنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إِلَى أَنه لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يَقع من نَبِي أصلا مَعْصِيّة بِعَمْدٍ، لَا صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة... وَهَذَا القَوْل الَّذِي نَدِينُ الله تَعَالَى بِهِ، وَلَا يحل لأحدٍ أَن يَدِينَ بسواه، ونقول أَنه يَقع من الْأَنْبِيَاء السَّهْو عَن غير قصد، وَيَقَع مِنْهُم أَيْضا قصْدُ الشَّيْء يُرِيدُونَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى والتقرب مِنْهُ، فيوافق خلاف مُرَاد الله تَعَالَى، إِلَّا أَنه تَعَالَى لَا يُقِرهم على شَيْء من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أصْلا، بل ينبههم على ذَلِك وَلَا بُدَّ، إثرَ وُقُوعه مِنْهُم". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، مكتبة الخانجي - القاهرة، ج4، ص2].

وقفة: لقد استغرب الدكتور محمد سليمان الأشقر موقفَ ابنِ حزمٍ مِن عصمة الأنبياء، وقال: "وأما الظاهريّةُ، فإنَّ ابنَ حزم ترك ظاهريّته هُنا، وقال بعصمة الأنبياء بعد النُّبُوَّة عن كل ذنب صغير أو كبير عمداً". [أَفْعَالُ الرَّسُول ﷺ وَدَلَالَتُهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة السادسة، 1424 هـ - 2003 م، ج1 ص146].

ويُرَدُّ عليه بما يأتي:

أوَّلًا: إنَّ ابنَ حزم لم يكن ظاهرياً في جميع المسائل، قال ابن كثير (ت 774 هـ) عن ابْنِ حَزْمٍ – عنْد كلامِه عن ما وقع من الأحْداثِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ هِجْرِيَّة –: "وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرِيًّا فِي الْفُرُوعِ، لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، لَا الْجَلِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا الَّذِي وَضَعَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ خَطَأً كَبِيرًا فِي نَظَرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي بَابِ الْأُصُولِ". [البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م، سنة النشر: 1424 هـ / 2003 م، ج15 ص796].

ثانياً: قد يُفهَمُ من كلام الدكتور الأشقر أنّ ابنَ حزم لم يأت بأي دليل من الكتاب أو السنة على عصمة الأنبياء، وهذا غير صحيح، فإن ابن حزم استدل ببعض النصوص، ورأى أن ظاهرَها يُفيد عصمة الأنبياء، فقال مثلاً: "وَمِنَ الْبُرْهَان على أَنه لم يكن الْبَتَّةَ أَن يَعْصِيَ نَبِيٌّ، قَوْلُه ﷺ: «مَا كَانَ لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين»، لَمّا قَالَ لَهُ الْأنْصَارِيُّ: «هلَّا أَوْمَأت إِليَّ» فِي قصَّةِ عبدِ الله بنِ سعد بن أبي سرح؛ فنَفى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَنْ تكونَ لَهُم خَائِنَةُ الْأَعْين، وَهُوَ أخفُّ مَا يكون من الذُّنُوب، وَمن خِلاف الْبَاطِن للظَّاهِر؛ فَدخل فِي هَذَا جَمِيعُ الْمعاصِي صغيرِها أَو كبيرِها، سرِّها وجَهْرِها". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، مكتبة الخانجي - القاهرة، ج4 ص22].

وقَالَ ابن حزم أيضاً: "فبِيَقِين نَدْرِي أَنَّ الله تَعَالَى صان أنبياءه عَن أَن يَكُونُوا لِبَغِيّة أَو مِن أَوْلَادِ بَغِيٍّ أَو مِن بَغَايَا، بل بَعثهم الله تَعَالَى فِي حَسَب قَومهمْ، فَإِذْ لَا شكّ فِي هَذَا فبيقين نَدْرِي أَن اللهَ تَعَالَى عصمهم قبل النُّبُوَّة من كل مَا يُؤْذَوْنَ بِهِ بعد النُّبُوَّة: فَدخل فِي ذَلِك السّرقَةُ والعدوان وَالْقَسْوَةُ وَالزِّنَا واللياطةُ وَالْبَغيُ، وأذى النَّاس فِي حريمِهم وَأَمْوَالهمْ وأنفسهم، وكلُّ مَا يُعابُ بِهِ الْمَرْء ويُتشكَى مِنْهُ، ويُؤْذَى بِذكْرِهِ؛ وَقد صَحَّ عَن النَّبِي ﷺ فِي هَذَا مَا حدّثَنَاهُ أَحْمدُ بن مُحَمَّد الطلمنكي أَنا ابْن فرج أَنا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد فراس أَنبأَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم النَّيْسَابُورِي أَنا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أنا وهب بن جرير بن حَازِم أنا أبي أَنبأَنَا محمد بن إِسْحَاق حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن قيس بن مخرمَة عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: مَا هَمَمْت بقبيح مِمَّا كَانَ أهلُ الْجَاهِلِيَّة يهمون بِهِ إِلَّا مرَّتَيْنِ من الدَّهْر، كلتاهما يعصمني الله مِنْهَا، قلت لفتى – كَانَ معي من قُرَيْش بِأَعْلَى مَكَّة فِي أَغْنَام لَهَا ترعى –: أبْصِر لي غنمي حَتَّى أسمر هَذِه اللَّيْلَة بِمَكَّة كَمَا يسمر الفتيان. قَالَ نعم؛ فَلَمَّا خرجت فَجئْت أدنى دَار من دور مَكَّة سَمِعت غناء وَصَوت دفوف وزمير؛ فَقلت: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فلَان تزوج فُلَانَة لرجل من قُرَيْش، فلهوت بذلك الْغناء وَبِذَلِك الصَّوْت حَتَّى غلبتني عَيْني، فَمَا أيقظني إلاَّ مسُّ الشَّمْس. فَرَجَعت إِلَى صاحبي، فَقَالَ لي: مَا فعلت؟ فَأَخْبَرته ثمَّ قلت لَهُ لَيْلَة أُخْرَى مثل ذَلِك، فَفعل فَخرجت فَسمِعت مثل ذَلِك، فَقيل لي مثل مَا قيل لي  فلهوت بِمَا سَمِعت حَتَّى غلبتني عَيْني فَمَا أيقظني إِلَّا مس الشَّمْس، فَرَجَعت إِلَى صَاحِبي فَقَالَ لي: مَا فعلت؟ قلت: مَا فعلت شَيْئا. فوَاللَّه مَا هَمَمْت بعْدهَا بِسوء مِمَّا يعْمل أهل الْجَاهِلِيَّة حَتَّى أكرمني الله بنبوته". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، مكتبة الخانجي - القاهرة، ج4 ص25].

ثمَّ قَالَ: "فصَحَّ أَنّه عَلَيْهِ السَّلَام لمْ يعْصِ قطُّ بكبيرة وَلَا بصغيرة، لَا قبْل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا، وَلَا هَمَّ قطّ بِمَعْصِيَة صغرت أَو كَبرت لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا، إِلَّا مرَّتَيْنِ بالسمَر حَيْثُ رُبمَا كَانَ بعض مَا لم يكن نُهِيَ عَنهُ بعْدُ؛ والهَمُّ حِينَئِذٍ بالسّمَر لَيْسَ هَمًّا بِزِنا، وَلكنه بِمَا يَحْذُو إِلَيْهِ طبْعُ الْبَريَّة من اسْتِحْسَان منظرٍ حَسنٍ فَقَط، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق". [المصدر السابق، ج4 ص25].

* وقال القاضي عياض (544هـ) في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى)/ القسم الثالث، الباب الأول: "أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ. وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كِتْمَانِ الرِّسَالَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّبْلِيغِ. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ... فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ بِالْمَصِيرِ إِلَى امْتِثَالِ أَفْعَالِهِمْ، وَاتِّبَاعِ آثَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ مُطْلَقًا، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَرِينَةٍ.. بَلْ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ.. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حكم ذلك...

وَأَيْضًا فَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الصَّحَابَةِ قَطْعًا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ ﷺ كَيْفَ تَوَجَّهَتْ، وَمِنْ كُلِّ فَنٍّ كَالِاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ، فَقَدْ نَبَذُوا خَوَاتِيمَهُمْ حِينَ نَبَذَ خَاتَمَهُ، وَخَلَعُوا نِعَالَهُمْ حِينَ خَلَعَ، وَاحْتِجَاجُهُمْ بِرُؤْيَةِ ابْنِ عُمَرَ إِيَّاهُ جَالِسًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ‏.‏

وَاحْتَجَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ شَيْءٍ مِمَّا بَابُهُ الْعِبَادَةُ أَوِ الْعَادَةُ بِقَوْلِهِ‏:‏ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُهُ...

وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نُحِيطَ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا عَلَى الْقَطْعِ اتِّبَاعُهُمْ أَفْعَالَهُ، وَاقْتِدَاؤُهُمْ بِهَا‏.‏ وَلَوْ جَوَّزُوا عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمَا اتَّسَقَ هَذَا وَلَنُقِلَ عَنْهُمْ، وَظَهَرَ بَحْثُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَا أَنْكَرَ ﷺ عَلَى الْآخَرِ قَوْلَهُ، وَاعْتِذَارُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ‏.‏..

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَمَنَعَهَا قَوْمٌ وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ.

وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَنْزِيهُهُمْ مَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَعِصْمَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ الرَّيْبَ.. فَكَيْفَ وَالْمَسْأَلَةُ تَصَوُّرُهَا كَالْمُمْتَنِعِ.. فَإِنَّ الْمَعَاصِي وَالنَّوَاهِي إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص335].

* وقال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره (المحرر الوجيز) – عند تفسيره لقوله تعالى: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128] –: "وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ في مَعْنى التَبْلِيغِ، ومِنَ الكَبائِرِ، ومِنَ الصَغائِرِ الَّتِي فِيها رَذِيلَةٌ. واخْتُلِفَ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَغائِرِ، والَّذِي أقُولُ بِهِ: أنَّهم مَعْصُومُونَ مِنَ الجَمِيعِ".

* وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) – عند تفسيره لقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [البقرة: 36] –: "وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الذَّنْبُ حَالَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا الصَّغِيرَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَفْحَشَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} [الْأَحْزَابِ: 30]، وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ وَغَيْرُهُ يُحَدُّ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الْأُمَّةِ فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ...

وَخَامِسُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَقْبَح مِنْ نَبِيٍّ رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى وَحْيِهِ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ يَسْمَعُ رَبَّهُ يُنَادِيهِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لِلَذَّتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى نَهْيِ رَبِّهِ وَلَا مُنْزَجِرٍ بِوَعِيدِهِ. هَذَا مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِالضَّرُورَةِ...

وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ لَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 44].

وَقَالَ: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ} [هُودٍ: 88]، فَمَا لا يلق بِوَاحِدٍ مِنْ وُعَّاظِ الْأُمَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 90]، وَلَفْظُ الْخَيْرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي وَتَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فَاعِلِينَ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَتَارِكِينَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ".

فائدة: قال الإمامُ الشوكانيُّ (ت 1250 هـ) – عند تفسيره للآيات من 35 إلى 39 من سورة البقرة –: "وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَاخْتِلَافُ مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ مُدَوَّنٌ فِي مَوَاطِنِهِ، وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فإنه مفيد".

* وقال شمس الدين القرطبي (ت 671هـ) – صاحب (التفسير الجامع لأحكام القرآن)، وهو من تلامذة الإمام أبي العباس أحمد القرطبي –: "فصل: واختلف العلماء هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النبوة صغائرُ من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها ويشفقون على أنفسهم منها أم لا، بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته وتسقط مروءته إجماعاً؟ عند القاضي أبي بكر وعن الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم خلافاً للرافضة حيث قالوا إنهم معصومون من جميع ذلك كله، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث وهذا ظاهر لا خفاء به.

وقال جمهورٌ من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر؛ لأنا أُمِرْنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسِيَرِهم مطلقاً من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة والحظر أو المعية ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين.

 قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني واختلفوا في الصغائر والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ومال بعضهم إلى تجويزها ولا أصل لهذه المقالة". [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، أبو عبد الله شمس الدين القرطبي، تحقيق ودراسة: الدكتور: الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ، ص609-610].

* وقَالَ الإمامُ النووي (ت 676 هـ): "اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْمَعَاصِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ لَخَصَّ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَقَاصِدَ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: «لَا خِلَافَ أَنَّ الْكُفْرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَيْسَ بِجَائِزٍ، بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كُلِّ كَبِيرَةٍ... وكذلك اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِبْلَاغَ فِي الْقَوْلِ فَهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِبْلَاغَ فِي الْفِعْلِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْعِصْمَةِ فِيهِ رَأْسًا وَأَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فيه، وتأوّلُوا أَحَادِيثَ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْمُظَفَّرِ الْإِسْفَرَايِنِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْمُحَقِّقِينَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَوُقُوعِهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ؛ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَيْهِ وَذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ إِمَّا فِي الْحِينِ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِمَّا قَبْلَ وَفَاتِهِمْ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِيَسُنُّوا حُكْمَ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُوهُ قَبْلَ انْخِرَامِ مُدَّتِهِمْ، وَلِيَصِحَّ تَبْلِيغُهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي تزرى بفاعلها وتحط منزلته وتسقط مروءته.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنْهُمْ، فَذَهَبَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ منصب النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عن مواقعها وَعَنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَمْدًا، وَتَكَلَّمُوا عَلَى الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَتَأَوَّلُوهَا، وَأَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى تَأْوِيلٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ مِنْ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَشْيَاءَ أَشْفَقُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا وَأَشْيَاءَ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْحَقُّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْنَا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ وَكَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ هَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ أَوِ التَّفْرِيقِ فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ أَوْ غَيْرِها. قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِنَا (الشِّفَاءْ) وَبَلَغْنَا فِيهِ الْمَبْلَغَ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى الظَّوَاهِرِ فِي ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ؛ وَلَا يَهُولُكَ أَنْ نَسَبَ قَوْمٌ هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَوَائِفَ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ؛ إِذْ مَنْزِعُهُمْ فِيهِ مَنْزِعٌ آخَرُ مِنَ التَّكْفِيرِ بِالصَّغَائِرِ، وَنَحْنُ نَتَبَرَّأُ إِلى اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ". [شرح صحيح مسلم، الإمامُ النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، ج3 ص53 - 55].

* وقال مظهر الدين الزَّيْداني الكوفي الضَّريرُ الشِّيرازيُّ الحَنَفيُّ المشهورُ بالمُظْهِري، من العلماء بالحديث (ت 727 هـ) – عند تفسيره للحديث «كلُّ بنيْ آدمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الخَطَّائينَ التوَّابُونَ»: "هذا لفظ يعُمُّ جميعَ بني آدم حتى الأنبياء، ولكن الأنبياء خارجون من هذا الحديث؛ لأن الأنبياء معصومون.

واختلف النّاسُ في أنهم معصومون عن الكبائر والصغائر جميعًا، أم هم معصومون من الكبائر دون الصغائر؟

فمَنْ قال: هم غير معصومين عن الصغائر، دليلهم: عصيانُ آدمَ ربَّه في أكل الشجرة، وكَذباتُ إبراهيمَ – كما يأتي في موضعه – وغيرُهما مما نُقل من زَلَاّت الأنبياء.

ومَنْ قال: بعضُهم معصومون عن الصغائر كما هم معصومون عن الكبائر، حملوا هذه الزلات المنقولةَ عن الأنبياء – عليهم السلام – على الخطأ والنسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى الزلَّة، وهذا هو الأولى؛ لأنّ في هذا تعظيمًا للأنبياء عليهم السلام، وقد أُمِرْنا بتعظيمهم وحُسْنِ الاعتقاد فيهم". [المفاتيح في شرح المصابيح، مظهر الدين الزَّيْدَانيُّ، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، نشر: دار النوادر، وهو من إصدارات إدارة الثقافة الإسلامية - وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م، ج3 ص185-186].

تعقيب على قول مظهر الدين الزَّيْداني: "وقد أُمِرْنا بتعظيمهم وحُسْنِ الاعتقاد فيهم".

روى البيهقي عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: "إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ تَجِدُ عَلَيْهِ فِيهِ فَاطْلُبْ لَهُ الْعُذْرَ بِجَهْدِكَ، فَإِنْ أَعْيَاكَ فَقُلْ: لَعَلَّ عِنْدَهُ أَمْراً لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمِي".

ورَوى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرَاً، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرَاً، فَقُلْ: لَهُ عُذْرٌ".

ورَوى عَنْ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّدٍ قال: "إذا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرَاً وَاحِدَاً إِلَى سَبْعِينَ عُذْرَاً، فَإِنْ أَصَبْتَهُ وَإِلَّا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرَاً لَا أَعْرِفُهُ".

فإذا كان المسلمُ مُطالَباً بالْتِماس الأعذار لأخيه المسلم المشهور بالصلاح، فإن التماسَ الأعذارِ للأنبياءِ وقَبولِها أوْلَى، تأدُّباً معهم، واحتراماً لمكانتهم؛ ولذلك فإن مجموعة من أهل العلم يرون – كما ذُكِرَ في المبحثِ السابق – أنَّ ما نُقِلَ عن الأنبياء مِمّا يُشعِر بِمعصِيّةٍ، ما دام له مَحْمَلٌ آخَرُ حُمِل عليه، وصُرِف عن ظاهِرِه؛ لأنّ ذلك أحْوطُ مِن نسبةِ المعاصي إليهم، وأمّا إذا لمْ يوجدْ له محمَل فيُفسَّرُ على أنَّهُ كان قبل البعثة، أو مِن قَبِيل ترك الأولى، أو أنَّهُ من قَبِيل صغائرَ صدرت عنهم سهواً. وهذا مَسلكُ مجموعة من العلماء، منهم: القاضي عياض، والإمامُ النّووِيُّ، وابن حزم الظاهري.

* وقال الشيخُ تاجُ الدين السبكي (ت 771 هـ): "والذي نختاره نحن، وندين الله تعالى به: أنه لا يصدر عنهم ذنبٌ لا صغيرٌ ولا كبيرٌ، لا عمدًا ولا سهوًا، وأن الله تعالى نزَّه ذواتهم الشريفة عن صدور النقائص – وهذا هو اعتقاد والدي أحسن الله إليه –، وعليه جماعةً: منهم القاضي عياض بن محمد اليَحْصُبي، ونَصَّ على القول به الأستاذ أبو إسحاق في كتابه في أصول الفقه". [الإبهاج في شرح المنهاج، شيخ الإسلام علي السبكي وولده تاج الدين السبكي، دراسة وتحقيق: الدكتور أحمد جمال الزمزمي - الدكتور نور الدين عبد الجبار صغيري، رسالة دكتوراه - جامعة أم القرى بمكة المكرمة، نشر: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م، ج5 ص1752-1753].

* وقال الإمامُ الشاطبي (ت 790 هـ) – في ردّه على مَن نسب إلى موسى عليه السلام الوقوع في المعصية بقتله القبطي –: "أَنَّ الْمَسْأَلَةَ سَهْلَةٌ فِي النَّظَرِ إِذَا رُوجِعَ بِهَا الْأَصْلُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ – عَلَيْهِمُ السَّلَامُ – فَيُقَالُ لَهُ: الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَنِ الصَّغَائِرِ بِاخْتِلَافٍ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ مُوسَى كَبِيرَةً، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ ذَنْبًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَنْبٍ...". [الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي، حققه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، تقديم: بكر بن عبد الله أبو زيد، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م، ج4 ص13].

تعقيب: قولُ الشاطبي: "وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ..."، يدل على أنَّهُ يرى أن عصمة الأنبياء من الصغائر هو الصواب والصحيح.

* وقال شهاب الدين الكوراني (ت 893 هـ) – عند شرحه لقول السبكي: "الأنبياء معصومون لا يصدر عنهم ذنب ولو صغيرة سهوًا" –: "وتحقيق هذه المسألة: هو أن حالهم ينقسم إلى ما قبل النبوة، وبعده.

أما قبل النبوة، فالأشاعرة على جوازه عقلًا، خلافًا للمعتزلة، والروافض بناء على ذلك الأصل الفاسد من القبح العقلي.

وأما بعد الرسالة، فما طريقه التبليغ لا يكون كذبًا، لا عمدًا، ولا سهوًا، لأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].

وأما غيره، فالجمهور: على أن الكبائر، والصغيرة التي لا تشعر بخسة لا تصدر عنهم، وغيرهما، فالأكثر على جوازه، ونقل المصنف عن جماعة المنع مطلقًا، وأقرَّه ونِعْمَ ما فعل، هو الذي عليه نحيا، وعليه نموت إن شاء الله تعالى". [الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع، شهاب الدين الكوراني، تحقيق: سعيد بن غالب كامل المجيدي: رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، نشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية، سنة: 1429 هـ - 2008 م، ج3 ص8-10].

* وقال الإمامُ الشوكانيُّ (ت 1250 هـ): "ذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ، وَكَذَا حَكَوا الْإِجْمَاعَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِمَّا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالدَّنَاءَاتِ وَسَائِرِ مَا يُنَفِّرُ عَنْهُمْ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا صَغَائِرُ الْخِسَّةِ، كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ". [إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد الشوكاني، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، دمشق - كفر بطنا، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1419هـ - 1999م، ج1 ص98].

وقال – أيضاً –: "وأمّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا تُزْرِي بِالْمَنْصِبِ، وَلَا كَانَتْ مِنَ الدَّنَاءَاتِ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا جَازَتْ هَلْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ فَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا عَنِ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازَ عَقْلًا، وَكَذَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ -أَيْضًا- عَدَمَ الْوُقُوعِ". [المصدر السابق: ج1 ص99].

* وقال الإمام محمد الطاهر ابن عاشور (ت 1393هـ): "والمذهب عند جمهور الأشاعرة منعُ صدور الكبائر منهم بعد البعثة وقبلها، وأما الصغائر فلا تصدر منهم بعد البعثة عمدًا، ويجوز صدورُها منهم سهوًا لكن لا يُصِرون عليها ولا يُقَرّون.

وذهب إمامُ الحرمين من الأشاعرة وأبو هاشم الجبائي من المعتزلة إلى تجويز صدور الصغائر منهم عمدًا. ويظهر أنهم أرادوا بالتجويز عدمَ الاستحالة، ولم يدَّعوا وقوعَ ذلك. وقد تقدم أن عياضًا أبطل الأدلةَ التي استدل بها مدَّعُو وقوع ذلك منهم، وكفى بذلك". [جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، جمعها وقرأها ووثقها: محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى، 1436 هـ - 2015 م، ج1 ص83-84].

وقال أيضاً – عند تفسيره لقوله تعالى: {وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُوا۟ ٱلۡمِحۡرَابَ. إِذۡ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَٱحۡكُم بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَاۤ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلصِّرَ ٰ⁠طِ. إِنَّ هَـٰذَاۤ أَخِی لَهُۥ تِسۡعࣱ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةࣰ وَلِیَ نَعۡجَةࣱ وَ ٰ⁠حِدَةࣱ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِیهَا وَعَزَّنِی فِی ٱلۡخِطَابِ} [ص: 21-23] –: "وَقَدْ حُكِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سِفْرِ «صَمْوِيلِ الثَّانِي» فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ عَشَرَ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْقُرْآنِ وَعَلَى خِلَافِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِصْمَةُ لِنُبُوءَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاحْذَرُوهُ.

وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحَقُّ، وَالْمُنْتَظِمُ مَعَ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، وَلَوْ حُكِيَ ذَلِكَ بِخَبَرِ آحَادٍ فِي الْمُسْلِمِينَ لَوَجَبَ رَدُّهُ وَالْجَزْمُ بِوَضْعِهِ لِمُعَارَضَتِهِ الْمَقْطُوعَ بِهِ مِنْ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ الْمُخْتَار". [التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 هـ، ج23 ص239].

* وقال الشيخُ سيد سابق (ت 1420 هـ): "الرسلُ اصطفاهم الله واختارهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].

ونزّههم عن السيئات، وعصمهم من المعاصي، صغيرها وكبيرها.

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161].

وحلّاهم بالأخلاق العظيمة من الصدق، والأمانة، والتفاني في الحق، وأداء الواجب،... وهُم وإنْ تفاوتوا في الفضل، إلا أنهم بلغوا الغاية من السمو الروحي والصلة بالله...

وهكذا نجد النصوص الكثيرة الواردة في القرآن بشأن الأنبياء والرسل، تُضْفي عليهم من الطُّهر والنزاهة والقداسة، ما يجعل منهم النموذج الحي، والصورة المُثْلى للكمال الإنساني.

ومِثل هؤلاء، لا يمكن إلا أن يكونوا معصومين من التورط في الإثم، ومُنزهين عن الوقوع في المعاصي، فلا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرّمًا، ولا يتصفون إلا بالأخلاق العظيمة التي تجعل منهم القدوة الحسنة، والمَثل الأعلى الذي يتجه إليه الناس، وهم يحاولون الوصول إلى كمالهم المُقدَّر لهم.

والله عز وجل هو الذي تولى تأديبهم وتهذيبهم وتربيتهم وتعليمهم، حتى كانوا قممًا شامخة، وأهلاً للاصطفاء والاجتباء...

فهذه الآيات أدلةٌ بيّنة على مدى الكمال الإنساني الذى أفاضه الله على أنبيائه ورسله، ولو لم يكونوا كذلك لسقطت هيبتُهم في القلوب، ولَصَغُر شأنُهم في أعين الناس، وبذلك تضيع الثقة فيهم، فلا يَنْقاد لهم أحد، وتذهب الحكمة من إرسالهم ليكونوا قادةَ الخلْق إلى الحق؛ بل لو فعلوا شيئًا مما يتنافى مع الكمال الإنساني بأن يتركوا واجبًا، أو يفعلوا محرّمًا، أو يرتكبوا ما يتنافى مع الخلق الكريم، لكانوا قدوة سيئة، ولم يكونوا مُثلاً عُليا، ومناراتِ هدى.

إن رسل الله يدركون بِحِسهم الذى تميزوا به على غيرهم من البشر، أنهم دائمًا في حضرة القدس، وأنهم يُبصِرون الله في كل شيء، فيرون مظاهر جماله وجلاله، ودلائل قدرته وعظمته، وآثار حكمته ورحمته، يرون ذلك في أنفسهم وفيمن حولهم: في الأرض والسماء، وفى الليل والنهار، وفي الحياة والموت، فتمتلئ قلوبهم إجلالاً لِلَّه ووقارًا له، فلا يبقى فيها مكان لشيطان، ولا موضع لهوى، ولا جنوح لشهوة، ولا إرادة لشيء سوى إرادة الحق والتفاني فيه والاستشهاد من أجله.

وما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهرُه بأنهم ارتكبوا ما يتنافى مع عصمتهم، فهو ليس على ظاهره". [العقائد الإسلامية، سيد سابق، دار الكتاب العربي - بيروت، ص181-183].

ولقد أشار القاضي عياض إلى هذا السُّمُوّ الروحي الذي ارتفعت إليه قلوب الأنبياءِ، فقال في كتابه (الشفا): "قَالَ اللَّهُ تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً.. لَجَعَلْناهُ رَجُلًا»، أي: ما كان إلا في صورة البشر الذين يمكنكم مخالطتهم إذ لا تطيقون مقاومةَ الملك، ومخاطبتَه، وَرُؤْيَتَهُ، إِذَا كَانَ عَلَى صُورَتِهِ..

وَقَالَ تَعَالَى: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا»، أَيْ: لَا يُمْكِنُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ إِرْسَالُ الْمَلَكِ إِلَّا لِمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاصْطَفَاهُ وَقَوَّاهُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ.

فَالْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ، يُبَلِّغُونَهُمْ أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، ويعرفوهم بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ، وَجَلَالِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَمَلَكُوتِهِ..

فَظَوَاهِرُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ وَبِنْيَتُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بأوصاف البشر، طارئ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَنُعُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ..

وَأَرْوَاحُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بِأَعْلَى مِنْ أَوْصَافِ الْبَشَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى، مُتَشَبِّهَةٌ بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ سَلِيمَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ والآفات..

لَا يَلْحَقُهَا غَالِبًا عَجْزُ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا ضَعْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ.. إِذْ لَوْ كَانَتْ بَوَاطِنُهُمْ خَالِصَةً لِلْبَشَرِيَّةِ كَظَوَاهِرِهِمْ لَمَا أَطَاقُوا الْأَخْذَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَرُؤْيَتَهُمْ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ، وَمُخَالَّتَهُمْ. كَمَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُمْ مِنَ البشر.

ولو كانت أجسادهم وَظَوَاهِرُهُمْ مُتَّسِمَةً بِنُعُوتِ الْمَلَائِكَةِ وَبِخِلَافِ صِفَاتِ الْبَشَرِ لَمَا أَطَاقَ الْبَشَرُ وَمَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ مُخَالَطَتَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى.

«فَجُعِلُوا مِنْ جِهَةِ الْأَجْسَامِ وَالظَّوَاهِرِ مَعَ الْبَشَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ وَالْبَوَاطِنِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ.

كَمَا قَالَ ﷺ: «لو كنت مُتّخِذاً من أمتي خليلا لاتخذت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ.. لَكِنْ صاحبكم خليل الرحمن.. وَكَمَا قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي».

وقال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ.. إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويسقيني»؛ فبواطنهم منزهة عن الآفات، مطهرة عن النقائص والاعتلالات". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص224-227].

* وقال الدكتور عويد المطرَفي: "ومِمّا لا ريب فيه أنّ كلَّ ذنب – مهما صغُرَ – لا بد من إشعاره بنقص، ويَلحَقُ صاحبَهُ المَعرَّةُ عند أهل التقوى؛ لوجوب التوبة منه، وهي ندمٌ يُشْعِر بالنقص والمعرة، فلا يصح القول بنسبة الصغائر إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". [آيات عتاب المصطفى ﷺ في ضوء العصمة والاجتهاد، د. عويد بن عيَّاد بن عايد المطرَفي، الناشر: كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز – مكة المكرمة، الطبعة الثالثة، 1426 هـ - 2005 م، ص66-67-68].

ولقد قال أبو حامد الغزالي (ت 505هـ): "والذين أثبتوا الصغيرة اضطربوا، ومثارُ الاضطراب في أنه هل يُوَرِّثُ التنفير؟". [المنخول من تعليقات الأصول، أبو حامد الغزالي، حققه وخرج نصه وعلق عليه: الدكتور محمد حسن هيتو، دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان، دار الفكر دمشق - سورية، الطبعة الثالثة، 1419 هـ - 1998 م، ص311].

وقال الدكتور عويد المطرَفي – أيضاً – في مبحث )توافر وسائل الرواية على عصمة النبي ﷺ من جميع الذنوب): "وحيث لم يُعلَمْ عنه ﷺ الإلمامُ بصغيرة ولا الدُّنوُّ من شيء منها، مع أن سُبُل النقل عنه ﷺ أحْصَت كل حركة من حركاته، وكل قول من أقواله، فما ترك الصحابة رضي الله عنهم فعلاً من أفعاله ﷺ ولا قولاً من أقواله دق أو جل إلا نقلوه إلينا عنه، حتى إنهم وصفوا يقظته ونومه، كما وصفوا حديثه وصمته، وقيامه وجلوسه، وسيره وركوبه وترجله، وجميع شمائله إلى غير ذلك مما هو مدون في كتب الحديث والشمائل والمغازي والسير؛ لأنهم كانوا يرون ذلك تبليغاً عنه، وقد أمرهم ﷺ بالتبليغ عنه بقوله ﷺ «ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه»، وبقوله ﷺ لعبد الله بن عمرو: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".

فلو رأى الصحابة – رضي الله عنهم – أو سمعوا منه شيئاً مما أجازه عليه بعض أهل العلم – عليه الصلاة والسلام – من قُرْبِه الصغائر – وحاشاه من ذلك – لما فاتهم نقل ذلك عنه ضمن ما نقلوا من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته.

ولكنهم – رضي الله عنهم – لم ينقلوا عنه شيئاً من ذلك – فيما علمنا – ولو رأوا منه شيئاً من ذلك أو علِموه عنه لنقلوه إلينا، وعُلِمَ عنهم لتوافر دواعي النقل عليه.

فالقول بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جميع الذنوب كبيرِها وصغيرِها، سرِّها وجهرِها، عمْدِها وسهوِها، هو ما ندين الله تعالى به، ونرجو مثوبته من الله – عز وجل –.

وما ثبت في حق نبينا محمد ﷺ من العصمة عن صغائر الذنوب عمداً وسهواً يثبت لغيره من الأنبياء والمرسلين إذ لا قائل بالفرق". [آيات عتاب المصطفى ﷺ في ضوء العصمة والاجتهاد، د. عويد بن عيَّاد بن عايد المطرَفي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز – مكة المكرمة، الطبعة الثالثة، 1426 هـ - 2005 م، ص75-77].

  • الخميس PM 03:25
    2022-10-20
  • 1072
Powered by: GateGold