المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412159
يتصفح الموقع حاليا : 345

البحث

البحث

عرض المادة

أرض بلا شعب: منظور يهودي

رغم الحديث المستمر عن الانتصارات الإسرائيلية الساحقة، والتقدم الاقتصادي المذهل، والقوة العسكرية المتزايدة، فإن الإسرائيليين يشعرون في أعماق أعماقهم بما سماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون «عقم الانتصار». أو كما قال المثقف الإسرائيلي شلومو رايخ: "إن إسرائيل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى هزيمتها النهائية المحتومة"، وكما قال الجنرال الفرنسي بوفر، الذي قاد القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦ ،فإنه حين ذهب يهنئ إسحق رابين بانتصاره العسكري في يونية ١٩٦٧ بعد انتهاء المعركة بعدة أيام، وكانت القوات الإسرائيلية المشتركة لا تزال في طريق العودة إلى قواعدها، فوجئ بأن الجنرال الإسرائيلي يقول وهو في قمة انتصاره: "ولكن ماذا سيتبقى من كل هذا؟".  فالانتصارات الإسرائيلية لم تؤد إلى الهيمنة الإسرائيلية المرجوة ولم تؤد إلى تطبيع الحالة الصهيونية الإسرائيلية، فالدولة الصهيونية لا تزال دولة/شتتل، قلعة مدججة بالسلاح في حالة حرب نفسية مع كل جيرانها، وفي حالة حرب فعلية مع بعضهم، ولا يزال الشعب الفلسطيني يرفضها رفضاً كاملاً (ولذا، فإننا نتحدث عن "الانتشارات" الإسرائيلية بدلاً من "الانتصاراتالإسرائيلية، فهو امتداد أفقي لا معنى له في المكان وليس تطوراً رأسياً في الزمان يحدث تغييرات ذات معنى)، كما أنها في حالة اعتماد مذل على الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كانت الدعاية الصهيونية المصقولة تتحدث عن الصابرا المتفائل المقاتل، فإن الوجدان الإسرائيلي يحكي قصة مغايرة تماماً: فهو وجدان مدرك للورطة التاريخية التي وضعت الصهيونية فيها المستوطنين الصهاينة، وهي ورطة لها أبعادها المختلفة المترابطة والمتعددةوهذا الإحساس بالورطة يعبِّر عن نفسه أحياناً بطريقة مأساوية، وأحياناً أخرى بطريقة ملهاوية، حين يتحول الإحساس بالنكبة إلى نكتة.  

والمشاكل التي يدركها الإسرائيليون ً تماما هي أن فلسطين ليست "أرضاً بلا شعب" كما زعمت الدعاية الصهيونية، وأن الفلسطينيين ليسوا مجرد عرب، وإنما هم كيان محدد داخل التشكيل الحضاري القومي العربي. وهذا الإدراك يدمر شرعية الوجود الصهيوني ويسحب من تحته البساط مهما كان حجم الانتصارات التي تحققها إسرائيل ومهما كان صخب دعايتهاوحتى إن غيَّرت منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقها لتؤكد للمستوطنين أنها لا تنوي تحطيم دولتهم الصهيونية فإن هذا لا يغيِّر الحقائق البنيوية، الحضارية والإنسانية والمادية القائمة، فالفلسطينيون هناك يقرعون الأبواب في سلام غاضب أحياناً، وأحياناً أخرى بالأحجار أو حتى بالنار، ليذكِّروا الإسرائيليين بأن كيانهم الصهيوني يستند إلى أكذوبة تاريخية.

ويقول عاموس إيلون إن الإسرائيليين "أصبحوا غير قادرين على ترديد الحجج البسيطة المصقولة وأنصاف الحقائق المتناسقة التي كان يسوقها الجيل السابق "، وذلك فيما يتعلق بأن فلسطين أرض بلا شعب. وقد عبَّر الشاعر الإسرائيلي إيلي إيلون عن هذه القضية بقوله: "إن البعث التاريخي للشعب اليهودي، وأي شيء يقيمه الإسرائيليون، مهما كان جميلاً، إنما يقوم على ظلم الأمة الأخرى. ولسوف يخرج شباب إسرائيل ليحارب ويموت من أجل شيء قائم أساساً على الظلم.. إن هذا الشك، هذا الشك وحده، يشكل أساساً صعباً للحياة".

ومن أكثر النكت دلالة تلك النكتة العبثية التي أطلقها يعقوب أجمون المسئول عن احتفالات الذكرى الأربعين لتأسيس إسرائيل، إذ يقول: المشروع الصهيوني كله يستند إلى سوء فهم وخطأ إذ كان من المفروض أن يتم في كندا بدلاً من فلسطين. ويرجع هذا إلى تعثُّر لسان موسى التوراتي، فحينما سأله الإله أي بلد تريد كان من المفروض أن يقول على التو «كندا»، ولكنه تلعثم وقال «كاكاكا - نانانا» فأعطاه الإله «أرض كنعان» (أي فلسطين) بدلاً من كندا، فهاج عليه بنو إسرائيل وماجو وقالوا له: "كان بوسعك أن تحصل على كندا بدلاً من هذا المكان البائس، الخرب، هذا الوباء الشرق أوسطي الذي تحيط به الرمال والعرب". والنكتة هنا تعبِّر عن إحساس عميق بالورطة التاريخية وبالطريق المسدود الذي يؤدي إلى العدمية الكاملة.  

ونجد نفس الإحساس في هذه القصيدة القصيرة التي خطها مستوطن صهيوني على حائط دورة المياه في الجامعة العبرية.  

ليذهب السفارد إلى إسبانيا  

والإشكناز إلى أوربا  

والعرب إلى الصحراء،  

ولنُعد هذه الأرض إلى الخالق -  

فقد سبب . لنا من المتاعب الكفاية  

بوعده هذه الأرض لكل الناس  

والقصيدة مثل نكتة أجمون تعبير فكاهي عبثي عن رفض فكرة الوعد الإلهي التي يستند إليها الخطاب الصهيوني.  

وتظهر العبثية في إحساس الإسرائيليين بحالة الحرب الدائمة، كما يتضح في قصيدة الشاعر شاليف "صلاة على جرحى الحرب" حيث يخاطب الشاعر الإله قائلاً:  

رب المصابين الساكنين في الجبس،  

رب المصابين ممن يتنفسون الأوكسجين،  

رب النفوس التي فوق أسرتها  

أكياس الدم أرجوانية اللون  

معلقة،

ومن المعروف أن التصور الصهيوني يؤكد أن الإله تربطه علاقة خاصة بالشعب اليهودي (أو كما قال بن جوريون، إذا كان الإله قد اختار الشعب فإن الشعب قد اختار الإله)ولهذا، تتسم كل المقدَّسات اليهودية بطابع قومي (وكل الظواهر «القومية»، مثل ظهور دولة إسرائيل، تحيطها هالة من القداسة في الوجدان الصهيوني). وتهدف استراتيجية الشاعر في هذه القصيدة إلى إزالة الغشاوة من على عيون الإسرائيليين وإخبارهم أن الإله لا تربطه بهم علاقة خاصة، وأنهم ليسوا شعباً مختاراً وإنما هم مثل بقية البشر تنزف دماؤهم ويحتاجون إلى نقل الدم. ومن هنا كانت الإشارات المتكررة للآلات والاصطلاحات الطبية الحديثة، ومن هنا أيضاً كان الابتهال الختامي في القصيدة الذي يختلف عن الابتهالات اليهودية التقليدية.  

جل يا رب النفوس التي تعيش  

ما بين عقاقير التهدئة وعقاقير التنويم  

ما لا يقدر على تجليته للأرواح سواك.  

ويظهر الإحساس بالورطة التاريخية في فقدان الإسرائيليين إحساسهم بالاتجاه كما يتضح في قصة ران أدليسط المعنونة أغنية الموت، أو في كلمات هذين الجندين الإسرائيليين الجالسين في الخنادق.  

 - هل ستسقط قنبلة،  

 - لقد سمعت أن الموقع البديل على طريق الإمدادات ينطوي على انتحار حقيقي.  

 - ماذا إذن؟ هل سنظل هكذا للأبد!  

 - هل جننت؟  

 - هل ننسحب؟  

 - هل جننت؟  

 - حرب جديدة إذن؟  

 - هل الموقف مجرد من الأمل إلى هذا الحد؟  

 - هل تعرف ماذا تريد؟  

 - كلا.. وأنت؟  

 - كلا...  

 - واحسرتاه.. هيا بنا نفتش عن الموقع الثانوي.  

 - بوم!  

إن الحديث المتفلسف بين الجنديين يتخطى حدود موقفهما ليشمل وضع الإسرائيليين ككلويظهر نفس الإحساس بالعبث وبالحركة الدائرية التي تقود الإسرائيليين من حرب إلى أخرى في قصيدة الشاعر يعقوب باسار "الحرب المقبلة":  

 -الحرب المقبلة  

ننشئها.. نربيها  

ما بين حجرات النوم  

وحجرات الأولاد..  

والنعاس  

آخذ في الاصطباغ بالسواد.  

يرى الشاعر إذن أن الجهد الإسرائيلي مُنصَّب على استنبات زهرات حديد للحرب المقبلة "ما بين حجرات النوم/وحجرات الأولاد".

ويتضح هذا الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين في ظهور موضوع «الخوف من الإنجاب» في القصص الإسرائيلي. فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما كوسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني، ولكن من المعروف أيضاً أن معدل الإنجاب في إسرائيل من أقل المعدلات في العالم. حتى أنهم فكروا في أن يعلنوا للإنجاب عاماً ينصرف فيه الإسرائيليون لإنجاب أطفال أكثر. وكان رد الإسرائيليين، كما هو متوقع، سريعاً وحاسماً وملهاوياً، إذ قال أحدهم إن على رئيس الوزراء أن يعود إلى منزله فوراً للقيام بواجبه الوطني مع زوجته. وهو واجب وطني بالفعل، فكما يقول أرنون سوفير أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي، فإن "السيادة على أرض إسرائيل لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة". ومن هنا الإشارة إلى المرأة الفلسطينية النفوض، التي تنجب العديد من الأطفال، بأنها "قنبلة بيولوجية". وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركُّز الإسرائيليين في المدن - علمنة المجتمع الإسرائيلي - التوجه نحو اللذة... إلخ). لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ كدولة مغروسة بالقوة في المنطقة. ففي قصة "الحالمة" للكاتبة بنيناه عاميت نجد أن البطلة سيطر عليها الخوف والكوابيس، فهي تحلم بالقنابل والمعارك والحرب، وحينما تسألها أمها "لماذا لا يكون لي حفيد في النهاية يا ابنتي؟" فإنها تلوذ بالصمت (والصمت هو الاستجابة الوحيدة المتاحة لكثير من أبطال القصص الإسرائيلية).  

ومن القصص الإسرائيلية الطريفة قصة "العَلمين" ليعقوب شافيت التي تعالج موضوع الخوف من الإنجاب وتدور حوادثها حول رغبة أم إسرائيلية في التخلص من الجنين، ولكن إحدى الشخصيات (العمة إيطة) تثنيها عن عزمها عن طريق الوعد والوعيد والتهديد بالفضيحة، وراوي القصة هو الطفل الذي وُلد فيما بعد، والذي يبدؤها بقوله "في أكتوبر ٤٢ أنقذت عمتي إيطة البشرية". ويذكرنا الراوي أنه في هذا اليوم كانت تدور رحى معركة العلمين (ولذلك تتخلل القصة فلاشات وصفية للمعركة والدبابات والدخان الأسود). والأم تحس بوضعها كإنسان ضعيف داخل هذا الإطار من الصراعات العالمية، ولذلك فهي تتساءل عن جدوى إنجاب الأطفال إذا كان مقدراً لهم أن يعيشوا حتماً داخل الحرب دون طعام حتى يقضوا. ولكن العمة إيطة تخبر الأم أنه لابد من الإنجاب من أجل البشرية، فترد عليها قائلة "فلتلدهم البشرية إذن". والعمة إيطة شخصية ضيقة الأفق "منهكة دائماً في إلقاء موعظة أخلاقية تربوية "، "تفيض بالعزم والتصميم "، "لا تتحدث إلا لتُصدر أوامر" وهي تهاجم الأم "كأنها حيوان مفترس يهاجم دجاجة".  

وفي داخل هذا العبث وفقدان الاتجاه، تسيطر السوداوية والحتمية والإحساس بأن حالة الحرب دائمة. ويظهر هذا الاستسلام الكامل في كلمات موشيه ديان في جنازة صديقه روي روتبرج الذي قتله الفدائيون الفلسطينيون. فقد قال وزير الدفاع والخارجية الإسرائيلي السابق:  "إننا جيل من المستوطنين، ولا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت، دون الخوذة الحديدية والمدفع؛ علينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الآلاف من العرب حولنا.  

علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا. إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".  

ومنذ بضع سنوات، لاحظ الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري بمرارة ما سماه «مركب إسحاق» وهو أن الإنسان الإسرائيلي يُولَد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، كما بيَّن جوري أن "هذا التراب (أي إسرائيل) لا يرتوي"، فهو يطالب دائماً "بالمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى"، إذ تبدو أرض إسرائيل كما لو أنها إلهة ثأر بذيئة لا مجرد قطعة أرض أو إقليم. كما لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عيزر أن الإسرائيليين الشباب، الذي يخدمون في الجيش، يشعرون أن أهلهم بالاشتراك مع الدولة يضحون بهم دون تعويض أو عزاء من عقيدة دينية تؤمن بالحياة بعد الموت، ولذا فهم يشعرون أن هذه الحروب هي "تضحية علمانية بإسحق "، أي تضحية بشرية لا هدف لها ولا معنى.  

ثم تظهر أساطير قومية تترجم هذا الوضع إلى بناء أيديولوجي أسطوري مُحكَم، ومن هنا ظهرت أسطورة ماساداه وشمشون. وفي كلتا الأسطورتين ثمة حالة حصار نهائية مغلقة، لا يمكن الفكاك منها إلا بتدمير الذات وتدمير الآخر، فنهايتها ليست سعيدة وإنما إبادية للجميعومع هذا، ورغم كل هذا الحديث عن الحصار والدمار، فإن الوجدان الإسرائيلي يتجاوز الأساطير الصهيونية المصقولة. فيشير يهوشوفاط هركابي إلى أن الإسرائيليين يميلون إلى تمجيد الوهم ويخفقون في إدراك أن الواقع مُحدَّد بحدود الممكن. ثم يشير إلى قصة صهيونية انتحارية أخرى هي قصة بركوخبا الذي تحالف مع بعض الحاخامات فأعلنوا أنه الماشيَّح وقرروا مواجهة الإمبراطورية الرومانية دون حساب موازين القوى أو معرفة مدى قوة الرومان فيما يعرف بالتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (١٣٢ - ١٢٥ ق.م). وبطبيعة الحال، تم القضاء على المتمردين وعلى تمرُّدهم وعلى البقية الباقية من الوجود اليهودي الهزيل في فلسطين، أي أن النزعة الانتحارية الشمشونية هنا لم تؤد إلى القضاء على الآخر وإنما على الذات وحسب، ويُسمِّي هركابي هذا "أعراض بركوخبا"، فالنزعة الانتحارية مرض يصيب صاحبه وهي ليست بالضرورة ماساداه التي تدمر الذات والآخر.  

وتتردد نفس النزعة نحو مراجعة أسطورة ماساداه في قصيدة الشاعر حاييم حيفر التي كتبها أثناء الانتفاضة. فبدلاً من ماساداه، يتحدث عن الطائرة المروحية الأمريكية، أي تلك الطائرة التي ستأتي حينما تحين لحظة النهاية وتحط فوق سطح السفارة الأمريكية (كما حدث في فيتنام) لتأخذ فلول المستوطنين وعملاء الولايات المتحدة.  

تبدأ القصيدة بالتصويت في الكنيست على الخروج الأخير.. ولذا "فلنرحل إلى أمريكا الآن/فلقد لملمنا حقائبنا وأمانينا". ويتدافع الجميع دون نظام ("لا تتزاحموا.. لكل مكانه /عفواً لا تضغطوا هكذا"). ويتصور رئيس الوزراء عملية الخروج السريع هذه وهو يجلس في مقعده في الطائرة "ويروق له المقام/يعلن أنه لا مكان للباقين" هنا، وكأن لسان حاله وحال وزرائه يقول "نحن ومن بعدنا الطوفان". إن الصورة السائدة هنا عكس صورة البطل الشمشوني في ماساداه الذي يهلك مع رفاقه:

وبسرعة أخذت الطائرة.. تطير  

أما الدولة  

فقد هُجرت  

وحيدة.. تُركت.. إسرائيل.  

وبعد بضعة أبيات وعظية احتجاجية ركيكة (أفلا يمكننا أن نحاول ثانيةً؟/أم أننا لسنا مواطنين مخلصين؟) نكتشف أن الطائرة قد طارت بالوزراء والأحلام:  

فإن كنا حقاً هكذا  

وعليه حزمت حكومتنا لأمريكا حقائب الرحيل  

فإنا جميعاً كذلك  

في الرحيل إليها.. راغبين.  

بعيداً عن ماساداه المتهالكة، بعيداً عن صهيون التي اشتعلت فيها النيران، إلى الولايات المتحدة الوطن القومي الآمن وربما الحقيقي.  

ومثل النكت والقصائد الفكاهية تتضح رنة الحزن في الأغاني الإسرائيلية، فهي مليئة بالعدمية وبالحديث عن الدمار والفقدان والضياع والعزلة. ففي أعقاب انتصار عام ١٩٦٧ لاحظ أفنيري أن من أكثر الأغاني شيوعاً أغنية تقول وبفرح شديد "العالم كله ضدنا". والفرح هنا تعبير عن إحساس المستوطن الصهيوني بمفارقة موقفه، فهو بعد انتصاره (الذي يعبِّر عن "اختياره") يجد نفسه معزولاً عن العالم، فالأغنية تشبه عبارة مثل: "الحمد الله فأنا مكروه تماماً من كل الناس!".  

وقد ازداد الإحساس بالضياع بعد عام ١٩٧٣ ،ولنأخذ على سبيل المثال أربيل زلبر، المغني الذي انضم إلى يهودا أدر وشالوم هانوخ وكوَّنوا جماعة غناء روك تُسمَّى «تموز».  والصورة العامة التي تشيعها هذه الجماعة هي صورة الشاب الشريد. وزلبر نفسه فقد ساقه وهو يلعب بقنبلة يديوية حين كان صبياً. وأهم أغانيه «هوليخ باطل» (حرفياً: "صار" أو "راحباطلاً أو "أصبح غير مجد" أي «مافيش فايدة») وتتحدث الأغنية عن متشرد يبحث عن المخدرات والجنس وقطع غيار السيارات المسروقة.  

كما تتحدث الأغاني عن أبطال العهد القديم وأنبيائه بطريقة تنم عن الاستخفاف الشديد، وهؤلاء الأبطال والأنبياء هم الرموز القومية اليهودية الصهيونية الأساسية. فأغنية داني ساندرسون تتحدث عن داود الذى يهزم طالوت "وتخرج أسفار موسى الخمسة لتشجع... إن كنت تريد أن تصبح ملكاً علينا، في سن السادسة فلتصنع لنا حلبة صراع". وتسخر أغنية زلبر الأخرى من شمشون وتشير إليه باعتباره «عاملاً في عربة قمامة». أما داود فهناك مسرحية تتحدث عنه باعتباره شاذاً جنسياً. ومعظم المغنين من نتاج الكيبوتس، وهم جميعًا ظهروا بعد عام ١٩٧٣ مع إدراك الصهاينة بداية أزمتهم.  

ومن أشهر الأغاني في إسرائيل في الثمانينيات أغنية مائير باتاي، وهي أغنية جميلة حزينة تعبِّر بشكل دقيق عن تساقط الشرعية الصهيونية وإحساس المستوطنين بذلك:  

كلهم ذاهبون إلى مكان ما،  

يرنون للمستقبل العذب،  

أما أنا، فأستيقظ في الصباح  

وأركب الحافلة رقم ٥ المتجهة للشاطئ،  

الحافلة مليئة بالدخان،  

وعجوزان،  

والمحصِّل.  

وهناك كتابة على حائط أسمنتي:  

ماذا حدث للدولة؟  

انظر إلى الدولة وانظر إلى الأسمنت!  

تغنّي الطيور «صباح الخير»  

لعلي أقدر أن أطير معها بعيداً، ولا أسقط.  

إن فراغ الحافلة رمز جيد للأزمة السكانية لدى المستوطن الصهيوني، فليس فيها سوى عجوزين (لعلهما يرمزان لـ «الشعب اليهودي» المسن). ويتساءل المغني عما حدث للدولة المكتوب اسمها على الأسمنت (وهو رمز للجمود والموت). ومقابل كل هذا، هناك غناء الطيور التي تبشر ببداية جديدة، خارج الحافلة الفارغة والأسمنت الصلب. ويود المغني أن يطير بعيداً، أن ينزح عن كل هذا. ولكن الأغنية، مع هذا، تعبِّر عن عدم اليقين من إمكانية الفرار، فالسقوط احتمال وارد! أي أنه لا مكان للتقدم للأمام ولا التراجع للخلف!  

ثمة إحساس إذن بفشل المشروع الصهيوني وخيبة أمل وإحباط نتيجة هذا، وهي أحاسيس عبَّرت عن نفسها في مجموعة من النكت الساخرة، والأغاني الحزينة والتي تحاول كلها الإفصاح عن وضع تاريخي مركَّب جداً لا مخرج منه، فالصهيوني غير قادر على الخروج من وضعه، وأثبتت الأيام أنه قد يكون قادراً على إلحاق بعض الأذى بالعرب ولكنه غير قادر على تطبيع الوضع والوصول إلى النهاية السعيدة: أي تفتُّت العرب واختفاء الفلسطينيين.  

وتدور أحداث قصيدة الشاعر إفرايم سيدون (التي رفض التليفزيون الإسرائيلي إذاعتها) في غرفة صالون يجلس فيه أربعة أشخاص: الأب والأم والطفل، أما رابعهم فهو الجندي الصهيوني، وبالتالي فهي خلية استيطانية سكانية مسلحة. وقد اندلع خارج المنزل حريق (رمز الانتفاضة وظهور الشعب الفلسطيني) وبدأ الدخان يدخل البيت عبر النافذة، إلا أن الأربعة يجلسون بهدوء ويشاهدون مسلسلاً تليفزيونياً ولا يكترثون بشيء. ثم ينشد الجميع:  

هنا نحن جميعاً نجلس  

في بيتنا الصغير الهادئ،  

نجلس في ارتياح جذل.  

هذا أفضل لنا، حقاً إنه أفضل لنا.  

 - الأم: جيد هو وضعنا العام.  

 - الجندي: أو باختصار .. إيجابي.  

 - الأب: والوقت "عامل" لصالحنا.  

 - الطفل: إذا كان الوقت "عاملاً" فهو بالتأكيد عربي.  

حينئذ يصفع الأب الطفل ويقول "أسكت يا وقح". وتعليق الطفل إشارة فكاهية للحقيقة المرة التي يدركها الإسرائيليون جيداً: تغلغل العمالة العربية في الكيان الإحلالي الصهيوني. ثم تبدأ الأسرة تتحدث عن الحريق، أو بالأحرى تنكر وجوده:  

 - الأب: وإذا كانت هنا جمرة تهدد بالحريق.  

 - الأم: طفلي سينهض لإطفاء الحريق.  

 - الأب: وإذا اندلعت هنا وهناك حرائق صغيرة.  

 - الأم: سيسرع ابني لإطفائها بالهراوة.  

 - الأب: انهض يا بني اضربها قليلاً.  

ويخاطب الأب النار فيخبرها أنها مسكينة، وأنها لن تؤثِّر فيه من قريب أو بعيد، وأنه سيطفئها في النهاية. وحينما تأكل النيران قدميه لا تضطرب الأم، فالأمر ليس خطيراً، إذ لديه "قدم صناعية" [لعلها مستوردة من الولايات المتحدة ]، فالوقت - كما يقول الأب " - يعمل لصالحنا".  ولكن الطفل ينطق مرة أخرى بالحقيقة المرة:  

 - الطفل: بابا، بابا، لقد حرقنا الوقت [الزمن].  

 - الأب: أسكت.  

 - الأم: إن من ينظر حولنا ويراقب، يرى كم أن الأب لا ينطق إلا بالصدق كعادته.   - الأب والأم: لقد أثبتنا للنار بشكل واضح.. من هو الرجل هنا ومن هو الحاكم.  

 - الطفل: ولكن بابا... البيت...  

 - الأب: لا تشغلنا بالحقائق.  

 - الطفل والجندي: شعاري: اجْلس في صمت ولا تتعب.  

 - الرجال: لا تتحرك، لا تتزحزح، لا تفقد أعصابك.  

 - الجميع: كهف ذا تُحارب النار.  

 - هكذا تُحارب النار.  

وهذه القصيدة الفكاهية، شأنها شأن النكت، تخبئ رؤية متشائمة بشأن مستقبل ما يُسمَّى «الشعب اليهودي» الذي أصبح مستقبل المستوطنين الصهاينة الذين يستقرون في المكان وينكرون الزمان، فتحرقهم الحقيقة وهم جالسون يراقبون مسلسلا تليفزيونيا في هدوء وسكينة أو يستمعون إلى الدعاية الصهيونية في رضا كامل!  

  • الخميس PM 04:20
    2022-08-18
  • 1149
Powered by: GateGold