المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412181
يتصفح الموقع حاليا : 268

البحث

البحث

عرض المادة

هوية أم هويات يهودية؟

في محاولة فرض الواحدية على واقع الجماعات اليهودية يفترض الصـهاينة وجـود هويـة يهودية واحدة، ولكن تفكيك هذا المصطلح وما يرتبط به من مصطلحات يكشف علـى الفـور التحيزات الصهيونية الكامنة التي تتنافي مع الواقع التاريخي.  

  • الشخصية أو الهوية اليهودية

مصطلح "الشخصية" في اللغة العربية مأخوذ من لفظ "شخص" ويعني مجموعة الصفات التـي تميز هذا الشخص. أما كلمة "هوية" فهي اسم منقول من المصدر الصناعي "هوية" المأخوذ من كلمة "هو"، وتعني مجموعة الصفات الجوهرية والثابتة في الأشياء والأحياء.  

ويشكل استخدام مصطلحات مثل "شخصية يهودية" و"هوية يهودية" تبنيـاً غيـر واعٍ للنماذج التفسيرية الاختزالية الصهيونية والمعادية لليهود التي تفترض وجود طبيعـة يهوديـة ثابتة وسمات أساسية للشخصية اليهودية. فهي من منظور المعادين لليهود شخصـية متـآمرة عدوانية استغلالية ومنحلة، وهي كذلك شخصية تجارية بطبعها، أما الصهاينة فينسـبون إلـى هذه الشخصية سمات إيجابية، فاليهودي يتسم بالإبداع والمقدرة على الانسـلاخ مـن مجتمـع الأغيار، وهو يدافع بشراسة عن نفسه ضد العنف لكنه لا يرتكب العنف أبداً ضد الآخـرينويؤسس الصهاينة نظريتهم في القومية اليهودية والشعب اليهودي انطلاقاً من تأكيد وجود هذه الشخصية اليهودية.  

إلا إن النموذج الكامن وراء مقولات مثل "الشخصية" أو "الهويـة اليهوديـة الثابتـةالواحدة يتسم بالقصور. فأعضاء الجماعات اليهودية ليسوا تجاراً بطبعهم، إذ عمل العبرانيـون بالزراعة في فلسطين، كما كان منهم الجنود المرتزقة في الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، ومعظمهم الآن من المهنيين في الغرب. وهم ليسوا متآمرين بطبعهم بل وسقط منهم ضـحايا للتآمر، لكن هذا لا يمنع وجود متآمرين وتجار بينهم، وهم ليسوا منحلين في كل زمان ومكان إذ كانت هناك أزمنة وأمكنة استمسك فيها أعضاء الجماعات اليهودية بأهداب الفضـيلة ولـم تعرف بينهم ظواهر مثل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين.  

وهناك خلل يتمثل في الحديث عن اليهود بشكل مجرد، فمن يود أن ينسب العبقرية إلى الهوية أو "الشخصية اليهودية" سيجد قرائن على ذلك في مكان وزمان معينين، ومن يـود أن ينسب إليهم التآمر سيجد أيضا قرائن على ذلك في مكان وزمان آخرين، ثم يتم تعميم الجـزء على الكل. وهذا ما يقوم به الصهاينة عن وعي أو عن غير وعـي حينمـا يتحـدثون عـن "الشخصية اليهودية" أو عن "الهوية اليهودية".

  • الهويات اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً

يمكن القول إن الهويات اليهودية تشكل أيضاً تركيباً جيولوجياً تراكمياً، ولكنه لم يكن ملحوظـاً بسبب انفصال أعضاء الجماعات اليهودية ووجودهم في أماكن متفرقة مـن العـالم. فيهـود اليديشية نتاج مجتمعاتهم وكذا يهود اليمن ويهود فرنسا وهكذا، ومع ذلك كان يشار إليهم جميعاً باسم "الشعب اليهودي" مع افتراض وجود وحدة ما دون التحقق من صدق هذه المقولة. إلا إن حقائق الواقع تثير الشكوك في هذه المقولات وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية للهويـات اليهودية بشكلٍ واضح، كما هو الحال مثلاً في أمريكا اللاتينية ومجتمعات وجبال القوقاز.  

والفكر الصهيوني يصدر عن نموذج اختزالي ينكر واقع الجماعات اليهودية الحضاري الفسيفسائي الجيولوجي التراكمي ويطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة، وتـتم عمليـة تسمية الواقع وتصنيفه من هذا المنظور، ومن ثم فإن مصطلحات مثـل "يهـود الدياسـبوراو"يهود المنفى" و"الشعب اليهودي" تفترض جميعها وحدة اليهود وتجانسهم. ولكن حين يصـل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل يتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود، إذ يصـبحون مـرة أخرى مصريين ومغاربة وروساً وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بحسب ذلك. ولهذا ينكر كثير من المغاربة هويتهم العربية ويصرون على أنهم فرنسيون وليسوا يهوداً وحسب! وبالمثـل، فـإن يهود العالم العربي، الذين تم تهجيرهم باعتبارهم يهوداً بشكل عام، يصبحون مرة أخرى يهوداً شرقيين يقبعون في آخر درجات السلم الاجتماعي الإسرائيلي، كما يصبح يهود روسيا إشكنازاً أو غربيين ويُعطون المنح والقروض وأفخر المنازل ثم يشغلون قمة السلم الاجتماعي، ومـن هنا تظهر الهويات اليهودية المختلفة، وهو ما يؤدي إلى طرح قضية "الهوية اليهوديـة " علـى بساط البحث. ولعل تفجر قضية "من هو اليهودي" هو تعبير عن أن ما يسمى "الهوية اليهوديةليس كلاً يتسم بقدر من التجانس وإنما هي في واقع الأمر تركيب تراكمي من عـدة عناصـر مستقلة متعايشة جنباً إلى جنب دون أن تمتزج أو حتى تتفاعل.  

وفي مواجهة نزعة التعميم التي يلجأ إليها الصهاينة والمعادون لليهود، ينبغي التوصل إلى نموذج تفسيري أقل عمومية يمكنه أن يصف المتغيرات التاريخية والثقافية والدينية التـي دخلت على هذه الهوية وحولتها إلى هويات مختلفة. ولذلك فمـن الأدق اسـتخدام مصـطلح "الهويات اليهودية" (وكذلك مصطلح "أعضاء الجماعات اليهودية")، فهو مصطلح يعبـر عـن نموذج أكثر تركيبية ومن ثم أكثر تفسيرية لواقع أعضاء الجماعات اليهودية، حيث ينسبهم إلى مجتمعاتهم ويؤكد استقلالهم النسبي عن محيطهم دون أن ينسبهم إلى تاريخ يهودي عـالمي أو جوهر ثابت. ومن الضروري أيضاً فهم هذه الهويات لا من خلال العـودة إلـى مـا يسـمى "التاريخ اليهودي" أو إلى كتب اليهود المقدسة أو شبه المقدسة أو إلى بروتوكـولات حكمـاء صهيون، وإنما بالعودة إلى التشكيلات الحضارية والتاريخية المختلفة التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية والتي تفاعلوا معها وأثروا فيها وتأثروا بها، وإن كانت درجة تأثرهم تفوق كثيراً درجة تأثيرهم كما هو الحال عادة مع أعضاء الأقليات. ومن ثم يمكن الحديث عن هوية بابلية يهودية وأخري فارسية يهودية وثالثة أمريكية يهودية ورابعة عربية يهودية.  

وهذا النموذج التفسيري لا يهمل البعد اليهودي في بناء هذه الهويات، فالدين اليهـودي (بخاصيته الجيولوجية التراكمية) عنصر أساسي فيها، كما أن الرؤية الدينية بعد حيوي ومهم. ولكن من الضروري عدم النظر إلى هذا العنصر بشكلٍ مجرد، بل رؤيته في تفاعله مع الأبعاد الحضارية الأخرى مع عدم إضفاء أية مركزية تفسيرية عليه. ولهذا لا يدور الحـديث عـن "هوية يهودية" عامة مطلقة أو عن غياب أية هوية يهودية، بل عن هويات يهودية متنوعة لكلٍ سياقها التاريخي والحضاري المحدد

  

الخصوصية اليهودية

  

تشير معظم الكتابات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية إلى «الثقافة اليهودية» و «التراث اليهودي» و«الموروث اليهودي». وهذه المصطلحات، شأنها شـأن مصـطلحات «التـاريخ اليهودي» و«القومية اليهودية» و«الخصوصية اليهودية» وأمثالهـا، تفتـرض أن الجماعـات اليهودية في العالم لها حضارة مستقلة وثقافة مستقلة وتراث مستقل عن المجتمعات التي يوجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية، وأن الإسهامات الحضارية المختلفة لليهود سواء في بابـل أو فلسطين (في العصور القديمة) أم في فرنسا (في العصور الوسطى في الغرب) أم في بولنـدا والهند والصين (في القرن السادس عشر) أم في ألمانيا (في القـرن التاسـع عشـر) أم فـي الولايات المتحدة واليمن (في القرن العشرين)، برغم تنوعها الحتمي والمتوقع، تعبر عن نمط واحد (وربما جوهر يهودي)، ومن ثم تبدو كل هذه الإسهامات باعتبارها ً تعبيرا عن حضـارة يهودية أو ثقافة يهودية واحدة. ويستند مفهوم الإثنية اليهودية (وهو مفهوم صهيوني أساسـي)  إلى افتراض وجود مثل هذه الثقافة المستقلة.  

وتجدر الإشارة هنا إلى كلمة «ثقافة» لها معنيان أو استخدامان رئيسيان: أولهما معنى واسع، ويعني أسلوب الحياة في المجتمع بكل ما ينطوي عليه من موروث مادي ومعنوي حيوالثاني معنى ضيق، ويعني الأنشطة الإبداعية المتميزة في الآداب والفنون الأدائية والتشكيليةونحن نستخدم الكلمة بكلا المعنيين.  

وفي بداية الحركة الصهيونية، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، كان العِـرْق كأساس لتعريف شعب ما هو النمط السائد في أوربا. وقـد تبنـى الصـهاينة هـذا الأسـاس التصنيفي، وحاولوا إثبات أن الانتماء اليهودي انتماء عِرْقي. ولكن، بعد ظهور هتلـر، وبعـد قيامه بذبح الملايين من أعضاء الجماعات اليهودية والبولنديين والروس والغجـر والمعـوقين وغيرهم من البشر باسم التفوق العِرْقي الآري، أسقط الصهاينة المفهوم العِرْقي للهوية اليهودية وأخذوا يؤكدون بدلاً من ذلك المكون الثقافي الإثني كأساس للهوية. ولم يكن هتلر وحده هـو الذي دفع الصهاينة للتخلي عن الاعتذاريات العِرْقية التي سادت في الخطاب الحضاري الغربي منذ منتصف القرن التاسع عشر. فعلى الرغم من محاولاتهم الأولى في إثبات أن اليهود شعب واحد (آين فولك) بالمعنى العِرْقي، إلا أنهم وجدوا أن إثبات وحدة عِرْقية لليهود أمر في غاية الصعوبة. إذ يوجد يهود بيض ويهود سود ويهود صُفر، ويهود من كل لون. ولذا، لـم يكـن هناك مناص من التخلي عن الاعتذاريات العِرْقية الفجة على أن تحـل محلهـا الاعتـذاريات الإثنية المصقولة. وقد تعمق مفهوم الهوية الإثنية المستقلة حتى تغلغل تماماً في النسق الـديني اليهودي ذاته. فاليهودية المحافظة، على سبيل المثال، تدور حول مفهـوم التـاريخ اليهـودي والثقافة اليهودية. وقد أسس المفكر الديني الأمريكي اليهودي مردخاي كابلان فرقـة يهوديـة تسمَّى «اليهودية التجديدية» تستند إلى الإيمان بالحضارة اليهودية والثقافة اليهودية والتـراث اليهودي، وإلى أن هذا التراث شيء مقدس يشغل نفس المكانة التي شغلها الخالق في التفكيـر الديني اليهودي التقليدي. وغني عن القول إن المشروع الصهيوني بأسره يستند إلـى رفـض الأساس الديني الغيبي للهوية اليهودية ويحل محلها فكرة الثقافة اليهودية المستقلة.  

و«الخصوصية اليهودية» تعبير يفترض وجود سمات وخصائص (ثقافية أو عِرْقيـة)  ثابتة، مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية، تمنحهم خصوصيتهم وتفردهم وتحدد سلوكهم أينما كانوا وتشكل إطاراً حقيقياً لوجدانهم ولرؤيتهم للكون. أما سماتهم وخصائصهم الأخـرى (غير اليهودية) فهي سمات وخصائص سطحية لا ترتبط بصميم وجودهم أو وجدانهم. وفكرة «الخصوصية اليهودية» و«التفرُّد اليهودي» فكرة محورية في كافـة الأدبيـات الصـهيونية والمعادية لليهود، ذلك لأن أعضاء الفريقين يرون أن ثمة طبيعة بشرية أو هوية ثقافية يهودية مستقلة. ويذهب أعضاء الفريق الأول إلى أن هذه الطبيعة أو هذه الهوية هي مصدر إبداعيـة اليهود وإنتاجيتهم وحركيتهم، بينما يرى أعضاء الفريق الثاني أنها مصـدر عدميـة اليهـود وتخريبيتهم بل وإجرامهم. ورغم اختلاف النتائج التي يصل إليها أعضـاء الفـريقين، إلا أن المقدمات الفلسفية والافتراضات الفكرية واحدة.  

ويرتبط مفهوم الخصوصية اليهودية تمام الارتباط بمفهوم الثقافة اليهوديـة المسـتقلةوسنركز على مفهوم «الثقافة اليهودية المستقلة» كمدخل لدراسة الخصوصية اليهودية.  

ويمكن القول بأن ثمة تشكيلين حضاريين (يهوديين) يتمتعـان بقـدر محـدود مـن الاستقلال عما حولهما من تشكيلات حضارية:  

أولهما: الثقافة العبرية القديمة التي تمتعت بقـدر مـن الاسـتقلال داخـل التشـكيل الحضاري السامي في الشرق الأوسط القديم. ولكن هذا الاستقلال ظل ً محدودا للغايـة بسـبب بساطة الحضارة العبرانية وضعف الدولة العبرانية وتبعية الدولتين العبرانيتين (مملكة يهـودا ومملكة يسرائيل) للإمبراطوريات الكبرى في الشرق الأوسط القديم (المصرية - الآشورية - البابلية - الفارسية). وقد كانت التبعية السياسية، خاصةً في العصور القديمة، تؤدي إلى تبعية ثقافية بل وأحياناً دينية، ولذا فقد استعارت الثقافة العبرانيـة الكثيـر مـن حضـارات هـذه الإمبراطوريات.  

أما الثاني فيتمثل في الثقافة الإسرائيلية (أو العبرية الحديثة). وهذه الثقافة مسـتقلة ولا شك عن التشكيل الحضاري الغربي. ولكنها، مع هذا، لا تزال ثقافة جديدة لم تكتمل مفرداتهـا الحضارية بعد، كما أن الصراع الثقافي الحاد بين العشرات من الجماعات اليهودية التي انتقلت إلى إسرائيل ومعها تقاليدها الحضارية (السفارد - الإشكناز - يهود البلاد العربية - الفلاشـاه  - بني إسرائيل في الهند - يهود بخارى - اليهود القراءون - السامريون... إلخ) يجعل مـن العسير بلورة مثل هذه الثقافة.  

ولكن العنصر الأساسي الذي يتهدد عملية بلورة خطاب حضاري إسرائيلي مستقل هو أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع استيطاني يدين بالولاء الكامل للولايـات المتحـدة الأمريكيـة ويعاني من تبعية اقتصادية وعسكرية مذهلة ومذلة لها، فهو يدين لها ببقائه وبمستواه المعيشي المتفوق، وعلى هذا فإن ثمة اتجاهاً حاداً نحو الأمركة يكتسح في طريقه كل الأشكال الإثنيـة الخاصة التي أحضرها المستوطنون معهم من أوطانهم الأصلية. ومما يعمق من هذا الاتجـاه أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع علماني تماماً، ملتزم بقيم المنفعة واللـذة والإشـباع المباشـر والنسبية الأخلاقية والاستهلاكية، وهذا يتعارض مع محاولة التراكم الحضاري. ومع ظهـور النظام العالمي الجديد والاستهلاكية العالمية، فإنه من المتوقع أن تزداد الأمور سوءاً.  

وبخلاف الحضارة العبرانية القديمة والثقافة الإسرائيلية الجديدة، لا يمكن الحديث عن ثقافة أو حضارة يهودية مستقلة أو شبه مستقلة. فاليهود، مثلهم مثل كافة أعضـاء الجماعـات والأقليات الدينية والعِرْقية الأخرى، يتفاعلون مع ثقافة الأغلبية التـي يعيشـون فـي كنفهـا ويستوعبون قيمها وثقافتها ولغتها. ولئن كان هناك درجة من الاستقلال لكل جماعة يهودية عن الأغلبية، فإن هذا الاستقلال لا يختلف عن استقلال الأقليات الأخرى عن الأغلبية، كما أنـه لا يعني بالضرورة أن ثمة عنصراً عالمياً ً مشتركا بين كل جماعة يهودية وأخرى. فالعبرانيون، منذ ظهورهم في التاريخ، تبنوا حضارات الأمم الأخرى، ابتداءً من اللغة، ومروراً بالمفـاهيم الدينية، وانتهاءً بالطراز المعماري. وعلى سبيل المثال، ليس هناك طراز يهودي معماري، أو فن يهودي مستقل، فقد كان هيكل سليمان يتبع الطراز الآشوري الفرعوني (المصري )، ولـم يكن يختلف ً كثيرا عن الهياكل الكنعانية. وكذلك تتبع المعابد اليهودية في العالم العربي الطراز العربي. أما في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر، فإن المعابد اليهودية كانت تُبنى على الطراز النيوكلاسيكي السائد هناك آنذاك. والفنانون التشكيليون اليهـود فـي العصر الحديث، أمثال مارك شاجال، ينتمون إلى تراث فني غربي ولا يمكن رؤيتهم في إطار ثقافة يهودية مستقلة. وليس هناك تراث أدبي يهودي مستقل معروف، فالأدباء اليهود العـرب في الجاهلية والإسلام اتبعوا التقاليد الأدبية السائدة في عصورهم، كما أن إبداع الأدباء اليهود في الولايات المتحدة وإنجلترا مرتبط بالتراث الذي ينتمون إليه، وهذا أمر طبيعي.  

لا توجد إذن ثقافة يهودية عالمية مستقلة تحدد وجدان اليهود وسلوكهم وإنمـا هنـاك ثقافات يهودية مختلفة باختلاف التشكيل الحضاري الذي يوجد اليهود داخله. ولذا، قد يجدر بنا أن نتحدث عن ثقافة غربية يهودية أو ثقافة عربية يهودية، وبذا نخفض من مستوانا التعميمـي حتى يتلاءم مع الظاهرة موضع الدراسة. ولكننا، لو فعلنا ذلك، سنكتشف، على سبيل المثـال، أن الثقافة العربية اليهودية هي، في نهاية الأمر، جزء من الثقافة العربية، وأنه لا توجد ملامح يهودية خاصة إلا في بعض الموضوعات وبعض المضامين المختلفة إذ تظل البنية العامة بنية عربية. ولنضرب مثلاً بيعقوب صنوع، وشهرته «أبو نظارة»، أحد رواد المسرح والصـحافة الساخرة، وأحد رواد الحركة القومية في مصر. فقد كتب أبو نظارة عدة مسرحيات بالعاميـة المصرية، إلى أن منعته الحكومة في عام ١٨٧٢ ،ووجه سهام نقده ضد الإنجليز الذين كـانوا قد احتلوا مصر. ويثير أبو نظارة قضية الهوية اليهودية والثقافة اليهودية، وتصنفه المراجـع الصهيونية باعتباره مثقفاً يهودياً، لكن هذا التصنيف لا يفسر أياً من الجوانب الهامة من حياته، أدبية كانت أم سياسية، فهي حياة لا تفهم في كليتها إلا بالعودة إلى حركيات المجتمع المصري وتقاليد الفكاهة المصرية وحركة التحرر الوطني في مصر في أواخر القـرن التاسـع عشـر وأوائل القرن العشرين. ولتحاول هذه المراجع، على سبيل التجربة، أن تفسر سـيرة حياتـه الشخصية والفكرية في إطار الجيتو اليهودي في شرق أوربا أو قصة النجاح اليهوديـة فـي الولايات المتحدة أو عنصرية يهود جنوب إفريقيا، لكنها لو فعلت ذلك لاكتشفت مـدى عجـز مثل هذا النموذج التفسيري الذي يفترض وجود ثقافة يهودية واحدة عالمية.  

وقل الشيء نفسه عن الفنان المصري داود حسني، فهو ملحـن وموسـيقي مصـري يهودي يقرن اسمه بموسيقيين من أمثال سيد درويش وكامل الخلعي حيث لعب دوراً ً بارزا في نهضة الموسيقى في مصر وفي إثرائها في العقود الأولى من القرن العشرين. وقد تميـز داود حسني بشكل خاص في المسرح الغنائي المصري حيث لحَّن ً كثيرا من المسرحيات الغنائيـة، وكان أول من قام بتلحين أول أوبرا مصرية هي «شمشون ودليلة»، كما لحَّن أوبرا أخرى هي «ليلة كليوباترا» التي ألفها حسين فوزي. وقد تتلمذ على يديه كثير من المطربين والمطربـات الذين حققوا شهرة واسعة فيما بعد مثل أم كلثوم وأسمهان.  

وتشير الإذاعة الإسرائيلية إلى داود حسني باعتباره موسيقاراً يهوديـاً، وهـو أمـر يستحق التأمل دون شك، لأننا لو حاولنا البحث عن أي مكون يهودي فـي موسـيقاه لأعيتنـا الحيلة. ولذا، يدهش كثير من المصريين الذين يعرفون أغانيه وأدواره، كما يدهش كثير مـن المتخصصين الذين درسوا موسيقاه، حينما يعرفون أنه يهودي.  

ولبلورة وجهة نظرنا بشكل أكثر حدة (وربما طرافة) وبيان المقدرة التفسيرية لنموذجنا المقترح (في مقابل النموذج الصهيوني القائل بالثقافة اليهودية ووحدتها)، دعنـا ننظـر إلـى ظاهرة مثل الرقص الشرقي الذي يقال له البلدي (أي هز البطن). كـان يوجـد العديـد مـن الراقصات المصريات اليهوديات في كاباريهات القاهرة في فترة الأربعينيات، وهناك الآن عدد لا بأس به منهن في الولايات المتحدة (خاصةً كاليفورنيا). ويوجد عدد من الراقصات "البلديفي الدولة الصهيونية، بل وتوجد مدرسة متخصصة لتدريس هذا الفن في إسرائيل (وقد أثـار المتدينون اليهود قضية بدلة الرقص الفاضحة أثناء إحدى جلسات الكنيسـت). هـل أصـبح الرقص الشرقي بذلك "فناً يهودياً" وجزءاً من «التراث اليهودي» أم أنه ظل فناً شرقياً لا يمكن فهمه أو حتى فهم اشتغال بعض اليهوديات به إلا في إطار آليات وحركيات الحضارة العربية خاصةً في مصر؟  

ستتضح المقدرة التفسيرية لنموذجنا التفسيري المقترح (عدم وجـود ثقافـة يهوديـة واحدة) حينما نطبقه على الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية، إذ سنلاحظ أنه لا توجـد ثقافة يهودية غربية واحدة وإنما ثقافات يهودية بعدد الدول التي يتواجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية، فثقافة يهود إسبانيا (السفارد) هي ثقافة إسبانية، ً تماما مثلما أن ثقافة يهود ألمانيا ثقافة ألمانية، وثقافة يهود إيطاليا ثقافة إيطالية وثقافة يهود أمريكا ثقافة أمريكية... وهكذا. ويقـول المؤلف الإنجليزي اليهودي آرثر كوستلر إن ما يُعرف بالتراث اليهودي أو الثقافـة اليهوديـة (بمعنى عام لا بمعنى ديني وحسب) أمر ليس من السهل تعريفه لأن كل ما يصدر عن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ليس يهودياً بالمعنى المحدد وليس جزءاً من تراث يهودي قـائمفالإنجازات الفلسفية والعلمية والفنية لليهود تتوقف على معطيات ثقافـة الشـعوب الأخـرى وحضاراتها.  

  • الخميس PM 03:33
    2022-08-18
  • 653
Powered by: GateGold