المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411880
يتصفح الموقع حاليا : 258

البحث

البحث

عرض المادة

السرديات الكبرى: بين هدف عظيم ومآل أعظم

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com 

جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

يامحمد عش ماشئت فإنك ميت، واعمل ماشئت فإنك مجزى به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عن الناس (رواه الطبرانى)

ما أعظم هذه الحقائق التي أقرتها كلمات هذا الحديث، وهي حقائق وجودية غابت عن بال الكثير.

وقد أطلق فلاسفة الغرب ومدعي الحداثة على هذه الحقائق لقب السرديات الكبرى.

ولم يكتفوا بإطلاق الألقاب عليها، بل وأعلنوا نهايتها بضرورة الاستغناء عنها ونسيانها.

وبالتالي تفرق البشر.

لأنه مهما اختلف الناس على السرديات الصغرى تظل الكبيرة تجمعهم.

كنت قد سمعت مرة شرح بسيط للدكتور عبد الوهاب المسيري عن السرديات الصغيرة بقوله أنها ما شابه بعض الأمثال الشعبية المتداولة، حيث قال:

نقول في المثل:

اسعى يا عبدي وأنا أسعى معاك.
ومن خرج من داره نزل قدره.
وهما مثلان متناقضين بطبيعة الحال.

فعلق الدكتور قائلاً:

فالسرديات الصغيرة تعني أن الأمور نسبية وليست مطلقة، وكل فرد عليه أن يأخذ بما يراه مناسبًا.

وهذه الفكرة تبنّاها الغرب وسعى إليها، ودعى إلى إلغاء السرديات الكبيرة، والتي تضم معرفة حقيقة:

مصدر الوجود.
غاية الوجود.
المآل بعد الموت.
الحساب والعقاب.
لم أفهم هذه الفكرة جيدًا إلا عندما ناقشت سيدة بريطانية عن القيم الأخلاقية، وفاجأتني قائلة:

قد يبدو لكِ الزواج من الحيوان عمل مستقبح، ولكن هو بالنسبة للبعض طبيعي.وقد يعد له البعض حفلات زفاف راقية وباهظة الثمن.

قالت مستطردة:

لا يوجد خالق ولا مخلوق، ولا رازق ولا مرزوق.

وكل منا يجب أن يعيش حياته بطريقته.

فقلت في نفسي:

الآن فهمتها.

قال تعالى:

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ (الحج:46)

قالت مديرة شركة إيطالية كبيرة يومًا:

أنا ليس عندي اعتبار ولا وقت للخالق.

أنا مشغولة جدًا بعملي ونجاحاتي المستمرة.

قلت لها:

والخالق سوف ينساكي يوم لقائك به، ولن يكون لديه اعتبار لك ولا لوجودك.

وتذكرت الآية الكريمة التي تقول:

نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( التوبة:67)..

وقوله تعالى:

﴿ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴾
[ الحشر: 19]

وهذه بالطبع النهاية الطبيعية لمن ينسى خالقه.

قالت:

أنتم المؤمنون رغم إيمانكم دائمًا في خوف وجزع من لقاء الخالق.

قلت لها:

ما هو شعور موظف عندما يتغير طاقم العمل حوله فجأة، سوف يرتبك وتختلط عليه المشاعر فقط، وليس خوفًا وجزعًا.

فاعتياد المؤمن على وجوده في هذه الحياة هو ما يسبب له الارتباك من رحيله منها واقباله على حياة أخرى

وهذا خوف فطري وطبيعي. وهو محمود أيضًا.

فهو يجعل الإنسان دائم الاستعداد لهذا الموعد العام والمصيري مع خالقه.

قد يبكي المولود الخارج من رحم أمه خوفًا من المجهول لكنه يدرك في النهاية أنه أصبح في يدي أم حنونة.

إن استعداد الإنسان للقاء خالقه إنما هو هدف عظيم، ويجب أن يجمع المؤمن في قلبه بين الخوف والرجاء. الخوف من ذنوبه، والرجاء في رحمة خالقه.

واستحضار رحمة الخالق بمجرد تخيل موقف لقاء الإنسان بأمه التي هي أرحم به من جميع البشر.

قد يرتبك طلاب المدرسة لمجرد تبديل مدرس قد اعتادوا على وجوده بمدرس آخر، لكنهم قد يدركوا في النهاية أن هذا المدرس الجديد قيمة علمية كبيرة.

خوف العبد من لقاء خالقه والحياة بعد الموت لا يجب أن يكون إلا احساس شبيه بمن استعد للسفر من دولة إلى دولة أفضل من الأولى بجميع المقاييس.

يستحق المؤمن الرحلة الأبدية إلى الجنة باستعداده لهذه الرحلة في حياته الدنيوية قبل الموت.

علمًا أن هذا كله لا يتحقق إلا برحمة الخالق أولاً.

حياة المؤمن بعد الموت سهلة وسلسة.

انتظار يوم الحساب في حياته البرزخية بعد الموت يمر كأنه دقائق معدودة.

فترة انتظار الحساب يوم القيامة لدخول الجنة يمر وكأنه دقائق معدودة.

وهذا بالضبط ما نشعر به بالفعل عندما تمر علينا أحيانا فترات معينة وكأنها أعوامًا، بينما تمر فترات أخرى بسرعة البرق.

أما من نسي خالقه ولم يستعد لهذا اللقاء فهو من سوف يجزع ويرتعد خوفًا عند الموت، وبعد الموت، وإلى أبد الآبدين.

وصف الخالق حياتنا على هذه الدنيا بأنها ليس أكثر من ساعة يتعارف البشر فيها.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (يونس:45)

وهذا أيضَا قد نشعر فيه بواقعنا، فخلال تجوالي حول العالم، مكثت في بعض البلدان بضعة ساعات، وفي أخرى سنوات طويلة، وجميعها في ذاكرتي الآن وكأنها ساعة واحدة فقط.

قال تعالى:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد:20)

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

“اللَّه هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة فإن نُسِي اللَّه ركيزة الكون كلها تنتهي”.

قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:

(من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمة، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ).

عندما قرأت هذا الحديث تذكرت كلمات ذكرها المهندس لؤي صبري في مقال له حيث يقول:

“الخصام والشقاق بين الإنسان وربه يعود لحقيقة أن الإنسان يريد الدنيا في حين أن الله يريد له الآخرة“.

{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } الأنفال: 67

{ أَوَلَمۡ یَرَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن نُّطۡفَةࣲ فَإِذَا هُوَ خَصِیمࣱ مُّبِینࣱ } [ياسين: 77]

فكل ما يرتبط بغير وجه الله الباقي يفنى!

وكل حب لغير وجه الله الباقي هو حبٌ فاني.

يقول الدكتور مصطفى محمود:

قال تعالى:

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة:249)

لقد ربط الخالق الانتصار في المعركة بالانتصار على النفس.

ففي القصة القرآنية، وكأنما الله يقول لهم رغم العطش لا تشربوا. وعند اشتداد العطش حسبكم غرفة قليلة لتسدوا بها رمقكم.

فكانت النتيجة:

فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ

وهؤلاء هم القليل في كل عصر.

شعارهم:

نقاوم ما نحب، ونتحمل ما نكره.

وتتلخص الحياة في نظر الكاتب في هاتين الكلمتين.

ووصف الكاتب الدنيا بالنهر الذي يجري تحت أرجلنا.

وكل منا يغترف منه.

شخص يأخذ ما يكفيه، وآخر يأخذ ما يفيض عن حاجته.

هؤلاء القليل هم الذين خلق الله الدنيا من أجل فرزهم، وتمييزهم عن الكثرة.

وخصص لهم جنات كرمه في الآخرة، لأنهم هم أهل الله وخاصته.

أما الباقي فهم حطب الشهوات في الدنيا، وحطب النار في الآخرة.

ويقول الكاتب أخيرًا:

اللهم اجعلنا ممن يقاوم ما يحب ويتحمل ما يكره.


سألني علماني كندي يومًا:

كيف يعرف الخالق أن علمه هو حق وصحيح؟

قلت له:

الخالق هو الحق.

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (الحج:62)

وكيف تسأل من هو الحق عن الحق.

وكأنك تقول أثبتي لي أن يوم الأربعاء هو يوم الأربعاء.

أو كيف تعرفين أن عيناك اللتان على وجهك هما عيناك.

الحق: هو ما طابق الواقع.

الخالق حق.
الموت حق.
الفراق حق.
الحساب حق.
العدل حق.
فغياب العدالة المطلقة في هذه الدنيا يقودنا إلى حقيقة وجودها في مكان ما.

ولا يجب أن يفلت المجرم من الحساب على إجرامه.

ويجب أن يثاب المحسن على إحسانه.

والحق مطلق وليس نسبي.

قال:

لا يوجد حساب ولا عقاب، ولا لقاء للخالق.

الخالق خلقنا وانشغل.

قلت له:

من أخبرك بهذا؟

قال:

هذا قراري.

أنا من أقرر مصيري بعد الموت، وأنا من أقرر ما هي صفات خالقي، وأنا من أقرر أولوياتي.

وأنا قررت أنني بعد الموت سوف أصبح نبتة مفيدة للناس.

وقد اشتريت الأرض وأوصيت أختي أن تعتني بها لأنني أنا الشجرة التي سوف تنبت فيها.

أنا عانيت من طفولة صعبة وفقر مطقع، والآن أنا غني جدًا، أريد أن أصبح شجرة لأنفع البشرية.

لقد أضحكتني إجابته وقلت في نفسي:

إن أفظع تبعات الحداثة المزعومة أن جعلت البشر كالمرضى النفسيين الذين فقدوا القدرة على التمييز بين ما يصلحهم وبين ما يودي بهم إلى أسفل سافلين.

قلت له مباشرة:

لماذا لا تشتري بنقودك مزرعة كبيرة وتهبها للفقراء لكسب الثواب من خالق البشرية، فيكون أفضل لك من أن تتحول بنفسك إلى شجرة.

وما الفائدة من نفع البشرية بدون اعتبار لوجود خالق البشرية، مادمت أنت والبشرية إلى فناء حتمي؟

وقلت له أيضَا:

ومن أعطاك الحق لاتخاذ هذا القرار أصلاً؟

قال:

جوهر العلمانية أن الإنسان هو القيمة المطلقة وأنه هو صاحب القرار.

قلت له:

إذًا فأنت عابدٌ لنفسك.

فأنت تصبح في هذه الحالة إله مزيف تعبده نفسك، وعبادة الإله المزيف لن تنفع صاحبها بشئ لأنه لا ينفع ولا يضر.

فأنت في الواقع بمجرد إصابتك بفيروس بسيط كفيروس الكورونا فإنك لن تستطيع أن تنقذ نفسك من موت محقق وليس لأن تقرر نصيرك فحسب.

لأنك لو كان بيدك تقرير مصيرك لقررت البقاء على قيد الحياة ولدفعت عن نفسك الموت أصلاً.

فلو ادعى شخص أنه بالعلم وحده مثلاً وبدون الحاجة إلى الخالق استطاع أن يشفي طفله من المرض، فكان أولى به أن يمنع عنه المرض أصلاً، ويضمن له الحياة الأبدية على هذه الدنيا.

قلت له أيضًا:

الخالق مالك لما يخلق.

فأنا إن اخترعت شئيًا معينًا فسيعتبرني الجميع بدون تردد مالكة لهذا الاختراع.

والمالك هو الوحيد الذي له الحق في تقرير مصير اختراعه، وكيفية عمل الاختراع، والهدف من هذا الاختراع.

وهذا حسب القانون البشري، والذي يقول أن المالك الحكيم هو من له هذا الحق.

ومن خلق الكون يجب منطقيًا أن يكون أحكم من البشر الذين خلقهم.

فهو بحكمته لن يترك ما خلقه دون رعاية وعناية كما تدعي.

ولن يترك الخالق البشر يعانون من البحث عن إجابات لأسئلة تدور في خلدهم عن مصدر وجودهم، و تزويدهم بمنهج للسير عليه في حياتهم.

وهو الوحيد أيضًا الذي يستطيع أن يقرر في مصيرك بعد الموت. خلقك لهدف معين، وأعطاك حرية الاختيار. والتي بناءً عليها سوف تحاسَب.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري.

جوهر الإيمان هو:

“الإستعداد أن يُحكم عليك من قيمة خارجية عليا“.

فمجرد قراءتي لكلمات الدكتور المسيري هذه خطر ببالي أن تميز كل شخص عن غيره أمام الخالق هو بدرجة استعداده للقاء الخالق للحساب.

تمامًا كما يكون تميز التلميذ المجتهد في المدرسة عن غيره من زملائه بدرجة استعداده وتحضيره للاختبار.

ويقول الدكتور المسيري أيضًا:

” النسبية الإسلامية هي: أن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقًا واحدًا هو كلام اللّه، وماعداه فاجتهادات إنسانية نسبية في علاقتها بالمطلق الذي يوجد خارجها”.

قال السائل:

ومن هو الإله الحقيقي؟ فهناك آلهة مختلفة يقدسها البشر.

قلت له :

آمن بالإله الذي لا ينسب له أتباعه صفات بشرية أو حيوانية.

القوة التي في السماء التي يرجع إليها الجميع في الضراء.

الذي هو خالق محمد والمسيح عليهم السلام.

وخالق بوذا ورام وكرشنا.

فبينما تدّعون أنكم لستم بحاجة إلى الخالق، فإنكم أول من تستغيثون به عندما تنفذ كل الوسائل الدنيوية لنجدتكم.

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (يونس:22)

فجميع البشر سوف يلقون الخالق بلقاء خاص وحدهم.

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (مريم:95)

وعلى البشر الاستعداد بأجوبة لثلاثة أسئلة.

من هو ربك؟
الإجابة:

الخالق الذي هو واحد أحد، ليس له شريك في ملكه ولا ولد، خلق المسيح بلا أب كما خلق آدم بلا أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد.

ما هو دينك؟
الإجابة:

دين التوحيد وهو عبادة الخالق مباشرة، وليس من خلال قسيس ولا قديس, ولا نبي الله محمد ولا أي فرد من آل بيته، ولا أي وسيط.

من هو رسولك؟
الإجابة:

الإيمان بأنبياء الله أجمعين، من آدم إلى محمد بما فيهم موسى و المسيح عليهم السلام أجمعين.

ولا يجوز التوسل إلى أنبيائه باللجوء والطلب بما فيهم نبي الله محمد، ولا بأي فرد من آل بيته.

فيجب على البشر اللجوء إلى الخالق كما لجأ النبي إلى الخالق، وليس باللجوء إلى النبي المرسل من الخالق.

فما تفرق البشر وتعددت الديانات الوضعية إلا بسبب عبادة غير الخالق.

قال تعالى:

إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (فاطر:14)

وقد روى في الأثر من أخبار بني اسرائيل أن الخالق يقول:

إني والإنس والجن في نبأ عظيم؛ أَخلُق ويُعبد غيري، أَرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتودَّد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلى بالمعاصي وهم أفقرُ ما يكونون إليَّ.


لقد لفتت انتباهي شهرة الفيلسوف الألماني نيتشة الذي أعلن نهاية الحقائق المطلقة والعظيمة مثل وجود خالق للكون والمآل بعد الموت.

طرح نيتشه فكرة موت الإله، وكان ذلك بحزن عميق وليس بفخر وسعادة كما يعتقد البعض.

وكان ذلك في كتابه ” العلم المرح” الذي نشر عام 1882.

حيث قال:

لقد مات الإله. ونحن الذين قتلناه. كيف لنا أن نعزي أنفسنا ونحن قتلة؟

في حوار لي مع فرنسي كان قد تعرض خلال الحوار لنقطة عدم وجود حقائق مطلقة، وأبدى إعجابه بنيتشة قائلاً:

العظيم نيتشة أعلن انتهاء السرديات الكبرى بمعنى إعلان هدم الحقائق العظمى بخصوص أصل الوجود.

قلت له:

من يهدم ما هو عظيم ليس بعظيم.

نهاية الحقيقة المطلقة (عدم وجود خالق للكون) يعني بعدم وجود مرجعية، وأن الإنسان هو المرجعية وصاحب القرار في اطلاق القيم والحقائق، وهذا لا يصح. هذا يجعل حياة البشر كالغابة يترنح الجميع فيها بين قيم وأفكار نابعة من أهواء وميول شاذة.

وجهل البشر بحقيقة معينة أو تجاهلهم لها لا يجعلها غير موجودة أو يلغي وجودها. فإنكار الأبناء لوجود والديهم لا يعني عدم وجود هذين الوالدين.

وقناعتي أن منزلي أكبر منزل في العالم لا يعني بعدم وجود أكبر من منزلي بالفعل.

ويجب على البشر التمسك بالحقائق العظمى التي تجيب على أسئلة البشر.

مثل:

من أين جئنا؟
لماذا نحن هنا؟
إلى أين نذهب؟
ولا يجب علينا تعظيم من يحاول هدم هذه الحقائق والقيم العليا.

ممكن أن نستوعب أن يكون نيتشة أعلن موت الإله المزيف الذي له ولد ويموت ويصلب.

كما أن الواقع المادي لا يزود الإنسان بقيم بل بحقائق مادية بحتة. على سبيل المثال:

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

“أننا إذا صهرنا الحديد فإنه سوف يتمدد، وإذا صهرنا جسد طفل فإنه سوف يتمدد، وهذه حقيقة من منظور مادي. فمن تثيره الشفقة على الطفل فهذا لا يتحدث من منظور علمي مادي. إنما يتحدث من منطلق قيمة أخلاقية غير مادية”.

وهذا ما تزودنا به الحقائق الكبرى.

وحتى نفهم موقف نيتشة يجب أن ندرك أن الصراع لم يكن بين نيتشه (الإنسان الفاني) وبين الإله الخالد، وإنما كان بين نيتشه والكنيسة، وبين نيتشه وبين مفاهيم يقوم الكهنوت بغرسها في نفوس النّاس، والتي تدعو الى الإستكانة والخنوع والخضوع والعزوف عن الحياة.

ورفض نيتشة الداروينية لأنّ الإنسان بالنّسبة له يولد من رحم الارادة، وليس مجرد طفرة تطورية وراثية ذات طابع عشوائي ورفض أن يكون الإنسان أصله قرد.

فبينما يتناقش البشر على سبيل المثال عن مصدر الوجود مستخدمين عقلانيتهم، نجد القردة تتنقل بين الأشجار.

فلا يمكن المساواة بين الإنسان والقرد في أي حال من الأحوال.

فلقد ميز الخالق الإنسان بالعقلانية التي تؤهله للتمييز بين الحق والباطل.


إنّ نشأة الالحاد والنظرة المادية المرتبطة به والدعوة الى التّمرد على المنظومة الأخلاقية الدينية التي تبناها نيتشه لم تنشأ من فراغ، بل كانت إحدى النتائج الجانبية للثورة الفكرية في القرن التاسع عشر.

فقد وجد نيتشه أنّ أوروبا قد أقصت الدين عن حياتها، ولم يبق منه سوى روحانية بسيطة تتنكر للجسد وحقه، وتحتقر مباهج الحياة ومتعها، فرفض بدوره الإيمان بالدين كلية .

لكن نيتشه لم ولن يستطيع أن يعلن موت القوة العظمى التي ليس لها بداية أو نهاية. الخالق الأبدي الذي لا يموت. والذي هو الحقيقة المطلقة وأصل الوجود.

وعمومًا فإن فكرة التخلي عن الموروث الديني وعن الحقائق العظمى هي فكرة باطلة في الأصل.

ذلك أن هذا التخلي المطلق عن الموروث يستحيل تطبيقه عمليًا، فلا يستطيع الإنسان أن يجعل من نفسه صفحة بيضاء نقية يخط فيها ما يشاء ابتداءً، مهما زعم بعضهم إمكان تصور هذا الحال.

وحتى أولئك (الغربيون) الذين تنكروا للماضي وتراثه وحصروا أنفسهم في الحاضر، واندفعوا بقوة نحو المستقبل، لم يسعهم إلا أن يستعينوا ببعض المفاهيم من تراثهم في تحقيق إنجازاتهم.

فالملحد الذي يدعي الانسانية والرفق بالحيوان وحقوق المرأة، إنما هو يستعير هذه الأخلاق من موروثه الديني.

لأن الإنسان من منظور مادي يجب أن يكون محايدًا للخير والشر كالمادة والبكتيريا تمامًا. فيجب بناءً على هذا المنظور المادي أن يكون الإنسان مجرد من أي عقلانية، منطقية أو مشاعر.

فهو بإلحاده يستطيع أن يصنع صاروخًا، ولكن لا يستطيع أن يعرف من خلال إلحاده أن قتل البشر بالصاروخ تصرف خاطئ.

وهذا هو دور الدين والمنهج الذي أرسله الخالق مع رسله، وزرع في الإنسان مبادئ أخلاقية مبدئية لتستوعب ما في الرسالة الربانية.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

“إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغاية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيى العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادى ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث”.

 

  • الاربعاء PM 06:17
    2022-05-18
  • 1206
Powered by: GateGold