المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412249
يتصفح الموقع حاليا : 310

البحث

البحث

عرض المادة

جهود علماء المسلمين -فترة البحث- في نقد عقيدة الحلول والاتحاد

اختلف النصارى اختلافًا كبيرًا حول شخصية المسيح -عليه السلام- بين مؤمن معترف به كنبي ورسول وبين مغالٍ فيه فتارة يعتقدون بألوهيته وبنوته وتارة يقولون إنه إله تام وإنسان تام وتارة أخرى يقولون بحلول الله في جسد المسيح واتحاده به .. إلى غير ذلك من الشطط والانحراف.

ولقد اجتهد علماؤنا الأجلاء -فترة البحث- في إبطال هذه المزاعم المفتراة بالأدلة العقلية تارة وبالأدلة النقلية تارة أخرى.

وفي هذا المبحث أبين بعون الله وتوفيقه كيف نقد علماء المسلمين عقيدة الحلول والاتحاد .. ولذلك يمكن حصر ما قاموا به في النقاط التالية:

1 - آراء الطوائف النصرانية في الحلول والاتحاد وجهود العلماء في الرد عليها.

2 - الأدلة التي يستندون عليها في الحلول والاتحاد وجهود العلماء في الرد عليها ونقدها.


(1) الحلول لغة: النزول، وهو عبارة عن اتحاد الجسمين بحيث تكون الإشارد إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، كحلول ماء الورد في الورد، والحلول نوعان عام وخاص، فالحلول العام معناه: حلول الله في الكون فيصبح الكون كله بكل جزيئاته محلًا له سبحانه وتعالي وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون: "إن الله بذاته في كل مكان ولا يخلو منه مكان"، والحلول الخاص: يُقصد به حلول ذات الله أو صفة من صفاته في جسد إنسان معين من خلقه أو روحه أو في أي كائن آخر حيًا كان أو جمادًا بحيث يصبح هذا الشخص المعين أو الكائن المعين محلا للإله ومظهرًا له .. وهذا النوع من الحلول هو الذي تقول به النصارى حيث يقولون: إن ذات الله حلت في عيسى كحلول الماء في الإناء، وكلا النوعين باطل في حق الله لما يترتب عليه من المحاولات في حقه عز وجل. (انظر: لسان العرب 2/ 972)، والتعريفات للجرجاني ص82، 83، ط/ الحلبي، 1938م، موقف ابن تيميه من النصرانية: 1/ 212 - 214، باختصار.
(2) الاتحاد لغة: صيرورة الشيئين واحدًا: "وأحد الاثنين أي صيرهما واحدًا" انظر: تاج العروس: (2/ 288) فصل الهمزة باب الدال، والتعريضات للجرجاني ص6. والاتحاد نوعان: عام وخاص، فالاتحاد العام هو اتحاد الذات الإلهية مع جميع الكائنات فتصبح عين وجودها وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أن ذات الله هي عين وجود الكائنات. والاتحاد الخاص: هو اتحاد الذات الإلهية ببعض الناس المخصوصين وامتزاج هذه الذات مع الإنسان في شخص واحد، كما تقول بذلك فرق النصارى حيث يقولون: باتحاد اللاهوت والناسوت معًا، وامتزاجهما في شخص المسيح -عليه السلام- وكلا النوعين باطل في حق الله عَزَّ وَجَلَّ لما يترتب عليهما من المحاولات في حقه سبحانه وتعالي. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيميه: 2/ 171، بتصرف، موقف ابن تيميه من النصرانية: (1/ 215).

[آراء الطوائف النصرانية في الحلول والاتحاد وجهود العلماء في نقدها والرد عليها]

ذكر الشيخ المسعودى، مقالات الفرق الثلاث من النصارى اليعاقبة والروم والنسطورية في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت. وقال إن عقائدهم في الإله مختلفة وآراؤهم فيه غير مؤتلفة وسبب خبطهم وخلطهم أن كلامهم قد تفرع عن أصل فاسد (1) ثم ناقش قول كل فرقة على حده وأبطل ما ذهبت إليه من آراء باطلة والملاحظ لمناقشته لهذه العقيدة أنه استخدم الأدلة العقلية في رؤيته النقدية وأكد ما يقول بأدلة من الأناجيل ذكر بعضها والبعض الآخر ذكرها باختصار شديد واكتفي بذكر محتوى الدليل.

وقد بين أ. د/ بكر زكي عوض، مواضع هذه الأدلة في الكتاب المقدس مع ذكر طرفًا منها وإحالته على آيات أخرى فيذكر السفر ورقمها فيه.

[رأى الفرقة الأولى: فرقة اليعاقبة]

هذه الفرقة منسوبة إلى يعقوب السروجى ويسمى البرادعى أيضًا وقد ادعت أن المسيح صيره الاتحاد طبيعة واحدة وأقنومًا واحدًا قالوا: لأنّ طبيعة اللاهوت تركبت مع طبيعة الناسوت، فالمسيح عندهم إله كله وإنسان كله فهو يفعل أفعال الله وما يشبه أفعال الإنسان وهو أقنوم واحد والأقنوم الشخص والأقانيم الأشخاص (2).

ففى نقد الشيخ المسعودى لرأى هذه الفرقة في الاتحاد يستخدم الافتراضات الجدلية في محاورته العقلية لأصحاب هذا المذهب استدراجًا لإبطال ما يدعون من الاتحاد فيقول: حكايته هذا المذهب تكفى بالرد عليه إذ محصلته أن الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله فيقال لهم أخبرونا عن هاتين الطبيعتين اللتين صارتا طبيعة واحدة، هل تغيرت كل واحدة عما كانت عليه قبل التركيب أم لا؟ فإن زعمت فرقة (اليعاقبة) أنها لم يتغيرا فقد نقضوا مذهبهم ورجعوا عن قولهم إلى قول من يقول إن المسيح بعد الاتحاد كهو قبله، وإن زعمت أن الطبيعتين صارتا طبيعة واحدة تركبت من الأوليتين فهذا تصريح بأن هذه الطبيعة لا إله ولا إنسان فلا يوصف المسيح بواحد منهما بل هو شيء آخر عجيب غريب فإن زعموا أنها كانتا قبل التركيب كاملتين لم يخرجهما عن الكمال، بل بقى المسيح إلهًا كاملًا وهو بعينه إنسان فقد تحامقوا أو زعموا أن القديم صار بعينه الحادث وأن الزمني صار بعينه الأزلي بمثابة قول القائل: "الحركة هى السكون والسواد هو البياض وذلك مردود بوجوه منها:


(1) المنتخب الجليل للمسعودي: ص (151).
(2) المرجع السابق: ص (152).

[الوجه الأول]

جاء في الإنجيل: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهى وإلهكم" يوحنا: (20/ 18) ففرق بين الذاهب والذي يذهب إليه فبطل اتحادهما. اتحد الذاهب والمذهوب إليه والداعى والمدعو له ودعاء المسيح نفسه محال.

[الوجه الثاني]

أن طبع الإله والإنسان صارا واحدًا والإله خالق والإنسان مخلوق فطبع الخالق هو طبع المخلوق وطبع العلة هو طبع المعلول وذلك محال.

[الوجه الثالث]

الأناجيل الأربعة تذكر أن المسيح بكي على صديقه العازر وفرح بتوبة التائب وأكل في دعوات أصحابه وشرب وركب الأتان وتعب من وعر الطريق وحزن من نزول الموت وقال: إلهي اصرف عني هذا الكأس، وهذه النقائص قبيح إضافتها إلى الأزلي فبطلا أن يكونا شيئًا واحدًا (1).

ويقول العلامة الألوسي:

وأما الاتحاد: فإن المتحد والمتحد به إن كانا موجودين بعد الاتحاد فلا اتحاد لبقاء الكثرة على حالها وإن كانا معدومين فلم يكن ذلك اتحادًا بل إعدامًا، ويلزم ألا يكون المسيح إلهًا ولا إنسانًا فضلًا عن أن يكون إلهًا وإنسانًا، وإن كان أحدهما موجودًا والآخر معدومًا، فالمعدوم لا يكون نفس الموجود وبالعكس، وأيضًا فالموجود إن كان هو الإنسان فالمسيح إنسان فقط، وإن كان هو الإله فهو إله فقط ويبطل أن يكون إلهًا وإنسانًا فالقول بالاتحاد باطل (2).

[الفرقة الثانية: فرقه الملكانية]

ومذهبها أن المسيح بعد الاتحاد جوهران وهو أقنوم واحد وقد تقدم أن الأقنوم هو الشخص قالوا: فله بطبيعة اللاهوت مشيئة كمشيئة الأب وبطبيعة الناسوت مشيئة كمشيئة داود وإبراهيم غير أنه أقنوم واحد فردوا الاتحاد إلى الأقنوم إذ رأوه مستحيلًا بالنسبة إلى الجوهر (3).

وللشيخ المسعودى جهد طيب في الرد على هذا المذهب فحاورهم محاورة عقلية من واقع كلامهم وسلم لهم ما يدعون ثم تدرج في الاقناع إلى أن أبطل ادعاءاتهم وقد رد عليهم بوجوه كثيرة منها ما يلي:


(1) المنتخب الجليل: 152 - 155.
(2) الجواب الفسيح: 1/ 240.
(3) المنتخب الجليل: ص (155).

الوجه الأوّل:

يُقال لهم إذا قلتم إن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعته ومشيئته كما كان قبل الاتحاد فقد أبطلتم الاتحاد إذ الاتحاد عبارة عن صيرورة الأكثر من الواحد واحدًا فإذا كان جوهر الأزلي باقيًا بحاله وجوهر الإنسان باقيًا بحاله فقد آل الاتحاد إلى مجرد تسمية فارغة عن المعني خالية من الفائدة.

[الوجه الثاني]

يُقال لهم أتقولون أن اللاهوت اتحد بالناسوت حقيقة أو مجازًا فإن قالوا إن ذلك تجوزًا وتوسعًا أبطلوا الاتحاد وتجوزوا بإطلاق ما لا يجوز إطلاقه على القدير سبحانه، وإن قالوا إنه اتحد حقيقة لزمهم أن يكون مشيئتهما واحدة؛ لأنّ الواحد لا يكون له إلا مشيئة واحدة إذ لو كان للواحد مشيئتان للزما أن يكونا متماثلتين أو مختلفتين فإن كانتا متماثلتين فإحداهما معنية عن الأخرى وإن كانتا مختلفتين تناقضت أحكامهما وامتنع حصول مرادهما فثبت أنه لا بد من إبطال إحدى المشيئتين إن كان الاتحاد حقيقة، أو إبطال الاتحاد جملة إن ثبتت المشيئتان (1).

[الفرقة الثالثة: فرقة النسطور]

وهم نصارى المشرق أصحاب نسطورس (2) أخذوا الأمانة عن المسيح ساعدوا نسطورس على رأيه فنسبوا إليه، ومذهبها: أن المسيح بعد الاتحاد جوهران وأقنومان باقيان على طباعهما كما كانا قبل الاتحاد وردوا الاتحاد إلى خاص البنوة وهو علم الباري قالوا: هذا الشخص المأخوذ من السيد شارك الله في هذه الخاصة فصار بها ابنًا وشريكًا ومسيحًا (3).

وقد رد عليهم الشيخ المسعودى بطرق عقلية كثيرة وأدلة نقلية من الكتاب المقدس أظهرها ما يلي:

1 - أن يُقال: إذا قلتم إن الجوهرين باقيان والأقنومين باقيان فلا موقع للاتحاد وصار اسمًا ساذجًا لا ثمرة له ولا فائدة.

2 - أن يُقال: كون المسيح أقنومين مكذب بالحس وذلك أن الذي يراه كل ذى بصر صحيح من المسيح إنما هو شخص واحد، وتكذيب أصدق الحواس وهو البصر لا سبيل إليه.


(1) المنتخب الجليل: ص 155 - 156.
(2) النسطررية هم: أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، قال إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة "الوجود والعلم والحياة" وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات ولا هي هو واتحدت بجسد عيسي -عليه السلام- كما تشرق الشمس على بلور أو النقش في الخاتم يرون أن المسيح إله تام وإنسان تام انظر: الملل والنحل للشهرستاني (2/ 53) بهامش الفصل في الملل والنحل.
(3) المنتخب الجليل: ص157، مع الحذف.

3 - قول بولس: "واحد هو الله هو المتوسط بين الله والناس (1) " فشهد بأن المسيح شيء واحد وأنه غير الله الواحد. وقال أيضًا: "إن رب الشعوب واحد غني متسع لكل من يدعوه، وكل من يدعوه باسم الرب يحيا ولكن كيف يدعوه من لم يؤمن به؟ " (2).

ثانيًا: الأدلة التي يستند عليها النصارى في عقيدة الحلول والاتحاد وجهود العلماء في الرد عليها:

ذكر الإمام ابن تيميه بعضًا من هذه الأدلة وفندها ورد عليها وكذلك صاحب كتاب الجوهر الفريد رد تلك الأدلة التي استند عليها صاحب كتاب القول الصريح في تثليث الأقانيم وتجسد المسيح.

وقد قام علماؤنا الأجلاء بإثبات زيف هذه الأدلة وتحريفها ومن ثم لا يصح الاستشهاد بها في باب العقائد وأما بيان عدم دلالتها على ما يعتقدونه إذا فهمت على وجهها الصحيح -وذلك على فرض صحتها ولو جدلًا- وبيان أنهم يحملون ألفاظها من الدلالات مالا تحتمله (3).

من هذه الأدلة التي فندها الإمام ابن تيميه في كتابه الجواب الصحيح ما يلي:

احتجاج النصارى على حلول اللاهوت في المسيح بقول النبي حبقوق: "إن الله في الأرض يترآى ويختلط مع الناس ويمشي معهم" (4). كما يحتجون بقول أرمياء النبي أيضًا في ذلك: "الله بعد هذا في الأرض يظهر ويتقلب مع البشر فيقول أنا الله رب الأرباب" (5).


(1) ورد في الرسالة الأولي إلى أهل تيموثاوس: "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسرع المسيح" تيموثاوس الأولي (2/ 5).
(2) ورد في الرسالة إلى أهل رومية: "لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأنّ ربًا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به لأنّ كل من يدعو به باسم الرب يخلص فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به وكيف يسمعون بلا كارز؟ " رومية: (10/ 12 - 14)، وانظر: المنتخب الجليل: ص 158.
(3) انظر: موقف ابن تيميه من النصرانية: (1/ 229).
(4) لم أجده في حبقوق ولعله كان موجودًا في نسخة على زمن المؤلف، وبمرور الزمن حرفت، وهناك نص يشير إلى نفس المعنى وهو: "الله ظهر في الجسد ... " تيموثاوس الأولى (3/ 16).
(5) لم أجده أيضًا في أرمياء، وهناك نص يدلّ على هذا العني وهو: "وكان الرب يسير أمامهم نهارًا ... " خروج: (13/ 20 - 22).

ومعنى هذا أن الذي ترآى للناس ومشي، بينهم وتقلب بين ظهرانيهم باسم المسيح ليس جسدًا مجردًا من اللاهوتية بل إنما الذي فعل ذلك هو الله بعد حلوله -في زعمهم- في شخص المسيح، ولهذا أسندت إليه كل الأفعال التي قام بها المسيح بهذا الاعتبار (1).

ويجيب الإمام ابن تيميه على ذلك بأن هذا يحتاج إلى تثبيت بنوة هذين النبيين وإلى ثبوت النقل عنهما، وثبوت الترجمة الصحيحة المطابقة وبعد هذا يكون حكم هذا الكلام حكم نظائره، ففي، التوراة ما هو من هذا الجنس ولم يدل ذلك باتفاق المسلمين واليهود والنصارى على أن الله حلّ في موسى، ولا في غيره من أنبياء بني إسرائيل بل قوله يترآى هو بمنزلة يتجلى ويظهر، وقد ذكر في التوراة أنه تجلي وترآى لإبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام من غير أن تكون ذاته قد حلت بأحد منهم (2).

[تفسير معنى الحلول عند النصارى ورد ابن تيمية على ذلك]

يستشهد النصارى بما ينقلونه عن النبي زكريا من قوله: "افرحي يا بنت صهيون لأني آتيك وأحل فيك وأترايا، قال الله: ويؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة ويكونون له شعبًا واحدًا ويحل هو وهم فيك، وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا ويملك عليهم إلى الأبد" (3).

فهم يرون في هذا نصًا صريحًا على إتيان الرب لمريم، وحلوله فيها وترائيه في شخص المسيح، وأنه هو الذي سكن فيها أي أن هذا الكلام نص صريح في عقيدة حلول الله في عيسي وظهوره في صورته كما يزعمون (4).

ويرد الإمام ابن تيميه عليهم بقوله: مثل هذا قد ذكر عندهم عن إبراهيم وغيره من الأنبياء أن الله تجلي له واستعلن له وتريا له ونحو هذه العبارات ولم يدلّ ذلك على حلوله فيه، وكذلك إتيانه وهو لم يقل إني أحل في المسيح وأتحد به وإنما قال عن بنت صهيون: "آتيك وأحل فيك".

كما قال مثل ذلك عندهم في غير هذا ولم يدل على حلوله في بشر وكذا قوله: "وتعرفين أني أنا الله القوى الساكن فيك" ولم يرد بهذا اللفظ حلوله في المسيح فإن المسيح لم يسكن بيت المقدس وهو قوي بل كان يدخله وهو مغلوب مقهور حتى أخذ وصلب -حسبما يعتقدون- أو شبهه والله سبحانه وتعالى إذا حصلت معرفته والإيمان به في القلوب اطمأنت وسكنت، وكان بيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح -عليه السلام- بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك (5).


(1) موقف ابن تيميه من النصرانية: 1/ 242.
(2) الجواب الصحيح: 2/ 237.
(3) زكريا: (12/ 10 - 12) رجل بيده حبل قياس.
(4) موقف ابن تيميه من النصرانية: 1/ 235.
(5) الجواب الصحيح: 2/ 221.

وقد احتج النصارى أيضًا على عقيدة الحلول والاتحاد بما جاء في سفر الملوك: "والآن يا رب إله إسرائيل ليتحقق كلامك لداود لأنه حق أن يكون أنه سيسكن الله مع الناس على الأرض وكل من فيها فيكون الرب عليها شاهدًا من بيته القدوس ويخرج من موضعه وينزل ويطأ على مشاريق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب" (1).

تقول د/مريم زامل:

(إذا كان المسيح هو الذي وطئ أطراف الأرض وساكن الناس فيها فإن هذا النص قد عبر عن ذلك بأن الله هو الذي فعل ذلك، فالمسيح إذًا -كما يزعمون- إنما فعل ذلك باعتباره ربًا لحلول الرب فيه واتحاده به) (2).

ويجيب الإمام ابن تيميه على هذا الدليل بأن هذا السفر "الملوك" يحتاج إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي وأن ألفاظه ضبطت وتُرجمت إلى العربية ترجمة مطابقة ثم بعد ذلك يُقال فيه ما يقال في أمثاله من الألفاظ الموجودة عندهم، وليس فيها ما يدل على اتحاده بالمسيح فإن قوله: "إن الله سيسكن مع الناس في الأرض" لا يدلّ على المسيح، إذا كان المسيح لم يسكن مع الناس في الأرض، بل لما أظهر الدعوة لم يبق في الأرض إلا مدة قليلة ولم يكن ساكنًا في موضع معين، وقبل ذلك لم يظهر منه شيء من دعوى البنوة فضلًا عن الإلهية ثم إنه بعد ذلك رُفع إلى السماء فلم يكن يسكن مع الناس في الأرض، وأيضًا إذا قالوا سكونه هو ظهوره في المسيح -عليه السلام- قيل لهم: أما الظهور الممكن المعقول كظهور معرفته ومحبته ونوره وذكره وعبادته فهذا لا فرق فيه بين المسيح وغيره. وأما قوله: "فيكون الرب عليها شاهدًا" فيقال شهود الله على عباده لا يستلزم حلوله أو اتحاده ببعض مخلوقاته، بل هو شهيد على العباد بأعمالهم كما قال: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (3)} (4).

إلى غير ذلك من الردود التي رد بها الإمام ابن تيميه على النصارى وأثبت من خلال التفسير الصحيح للنصوص أن الله -عز وجل- لم يحل بالمسيح -عليه السلام- وقد بين أيضًا أنه مجرد الشك في نبوة حبقوق وأرميا وغيرهم كفيل برد النصوص الواردة التي استدل بها النصارى ونسبوها إليهم .. وهذا كله يُثبت بُطلان عقيدة الاتحاد والحلول.


(1) انظر: ملوك الأوّل: (8/ 26 - 27) وهذا النص محرف في النسخة الحالية، وليس الملوك الثالث كما ذكر ابن تيميه.
(2) موقف ابن تيمية من النصرانية: 1/ 237.
(3) سورة يونس الآية: (46).
(4) الجواب الصحيح: 2/ 228.

أما صاحب كتاب الجوهر الفريد فقد أدلى بدلوه في قضية الحلول والاتحاد وأسهم في إبطالها والرد على مزاعم النصارى الباطلة، وكان منهجه في مناقشة هذه القضية قائم على ما يلي:

1 - الاستدلال بنصوص من الكتاب المقدس تدل على بطلان القول بالحلول والاتحاد وتعارض ما يدعيه النصارى.

2 - رد التفسير الخاطئ لرؤية الله في الدنيا وأنه ليس على الحقيقة إلى ضرورة استخدام المعني المجازى في مثل هذه الأمور وبيان أن الأخذ بالظاهر وحمل اللفظ على حقيقته لا يجوز.

وقال: يستدل النصارى على اتحاد المسيح بالله وحلول الله فيه اتحادًا وحلولًا حقيقيًا بقول جبرائيل الملك للسيدة مريم الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك (1) وبقول السيد المسيح: "الذي رآني فقد رأى الأب (2) " وقوله: "إن إني أنا في الأب والأب فىّ" (3) وغير ذلك من الأقوال (4).

وفي رده عليهم يقول: إن الاستدلال بمثل هذه الألفاظ على الاتحاد والحلول الحقيقى مردود بجملة وجوه منها:

أن لفظ الحلول يطلق على كثير من الخلق غير المسيح بل وعلى الجمادات ففى مواضع متعددة من الكتاب المقدس منها: "حل روح الرب على داود" (5)، حل روح الله على شاول (6)، وفي سفر القضاة: "ولبس روح الرب جدعون" (7). وغير ذلك من النصوص.


(1) لوقا: (1/ 34 - 35) البشارة بميلاد يسوع.
(2) يوحنا: (14/ 9) أنا هو الطريق والحق والحياة.
(3) يوحنا: (14/ 10) السابق.
(4) الجوهر الفريد: ص 55.
(5) صموئيل الأوّل: (16/ 13) صموئيل يمسح داود ملكًا.
(6) صموئيل الأوّل: (10/ 10) شاول يصبح ملكًا.
(7) الإصحاح: (6/ 34) جدعون.

3 - إقرار المسيح -عليه السلام- نفسه وأنه قد صرح مرارًا بأن الله تعالى واحد لا يُري ولا يُسمع صوته وأنه شيء آخر غيره وأنه إلهه وإله العالمين ونادى عن نفسه بأنّه إنسان وابن إنسان وقوله: "الله بالحقيقة فيكم" (1) .. وغير ذلك من الأقوال التي تنافي الحلول والاتحاد الحقيقي وقول بولس: "الله بالحقيقة فيكم" أظهر من قوله: "يحل عليك" وقول المسيح: "أنا في الأب والأب فىّ".

4 - إن رؤية الله تعالى في الدنيا ممتنعة واعتراف المسيح نفسه بأنّه تعالى لا يُري وذلك يعارض الأخذ بظاهر قول الإنجيل: "من رآنى فقد رأى الأب" وهذا يتضح معناه هو أن من رأى صنع الله تعالى على يديه من الآيات كإحياء الميت وإبراء المرضي فكأنه رأى الله كما يؤيد ذلك بقوله: "لو عرفتموني لعرفتم أبى (2) " (3).

ثم يضيف العلامة أحمد ديدات حول هذا الاتحاد المزعوم قائلا:

(لو كان عيسى يكون مع الله شيئًا واحدًا، ولو كان هذا التوحد معه، يجعل منه إلهًا، لكان لنا أن نعتبر: "يهوذا الخائن وتوما وبطرس" إلى جانب التسعة الآخرين الذين تخلوا عنه عندما كان في شدة الحاجة إليهم، آلهه) (4).


(1) رسالة بولس إلى كورنثيوس: (14/ 25) البنوة والألسن.
(2) يوحنا: (8/ 19) أنا هو نور العالم.
(3) الجوهر الفريد: ص 56 - 58.
(4) المسيح في الإِسلام: ديدات، ص 80، ولمزيد من التفصيل، انظر: ص78 - 80.

  • الثلاثاء PM 05:42
    2022-05-17
  • 1106
Powered by: GateGold