المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409116
يتصفح الموقع حاليا : 257

البحث

البحث

عرض المادة

نقد الجرائم والعقوبات في العهد القديم

رصد علماؤنا الأجلاء بعض الجرائم التي ورد ذكرها في نصوص العهد القديم ووقفوا معها وقفة فاحصة مبينين مقدار ما قررته تلك النصوص من عقوبات على هذه الجرائم، وإذا كان الخروج على أحكام الشريعة في العهد القديم له عقابه الذي قد يصل إلى حدّ القسوة فإن المغالاة في العقاب لدرجة لا يرضاها عقل ولا دين قد صبغت معظم النصوص التشريعية في هذا الجانب ما بين جرائم قتل وإبادة على يد الرسل والأنبياء كما تدعي التوراة وبين قسوة ووحشية فلا رحمة ولا عدل حتى بالنساء والأطفال والشيوخ.

وقد انتقد العلماء هذه التشريعات كلها، ويمكن حصر ما انتقدوه تحت العناوين التالية:

1 - ارتكاب الجرائم والخروج على أحكام الشريعة.

2 - أنواع العقوبات.

أ- عقوبات مادية.

ب- عقوبات معنوية.

[1 - ارتكاب الجرائم والخروج علي أحكام الشريعة]

وإذا افترض فرضًا جدليًا بسلامة الشريعة في العهد القديم فهل التزموا بها أم أنهم خرجوا عليها؟ يقول د/ كامل سعفان: (إن التوراة تعرض حالات كثيرة وصور العقاب عليها تميل إلى العدل الرادع الذي قد يصل إلى حدّ القسوة لكن مع هذا، فإن أحداث إسرائيل الواردة في التوراة، كثيرًا ما تخرج على ما ورد في الشريعة فإن كان كل إنسان بخطيئته يقتل (1). فماذا حدث لداود وقد قتل أوريا الحثى حتى يظفر بزوجته؟ وكيف قتل أبشالوم بن داود أخاه أمنون، ويكون للملك حق العفو عن القاتل (2)؟، ثم كيف تقول الشريعة: "لا يقتل الآباء عن الأبناء، ولا يقتل الأولاد عن الآباء (3) " أو يقول الرب: "أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي (4) ". وتاريخ بني إسرائيل حافل بالقتل الجماعى، رجالًا ونساءً وأطفالًا وبهائم وكل نسمة حية، إذا حمى غضب الرب، أو حمي غضب نبي من أنبيائه، أو قائد من قادته) (5).

ويقرر د/ بدران هذه الحقيقة البشعة من أن التوراة صورت الأنبياء خارجين عن المهمة الأساسية التي أرسلوا من أجلها فبدلًا من أن يكونوا سببًا في هداية الناس كانوا أداة في تشريدهم وإبادتهم- كما يزعمون- فيقول:

(يرسل الله أنبيائه الأطهار ليطهر بهم الأرض ويملؤها بهم عدلًا ورحمة ويطرد بهم الظلمة ليحل مكانها النور، ويهدي بهم أهل الأرض، لم يرسلهم ليقتلونهم ويقتلوهم ولكن للتوراة وكتبتها رأى آخر ويرون غير ذلك تمامًا، فتبيح الدم والعرض، دم الأطفال والشيوخ والعجزة، وعرض الأطفال والنساء وتروى قصصًا يقولون أنها حدثت على يد أنبياء الله قصص لا يجرؤ على فعل مثل أحداثها سوى مجرمي الحروب، يقولون عنها أن الله هو الذي دبر أحداثها، أي إله هذا؟، وأي ديانة تلك) (6). ثم استدل على ما قاله بما جاء في سفر التثنية من أن الله خاطب موسى بقوله: "حين تَقْرُب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك" (7).


(1) تثنية: (24/ 16) بدون.
(2) صموئيل الثاني: (11/ 14) داود وبتشيع.
(3) تثنية: (24/ 16) بدون.
(4) خروج: (20/ 5) الوصايا العشر.
(5) اليهود تاريخًا وعقيدة، ص 252.
(6) التوراة: د/ بدران، ص 72.
(7) الإصحاح: (20/ 10 - 11) الخروج للحرب.

وينتقد هذا النص بقوله: "هل إله إسرائيل بهذه القسوة والوحشية ولكن صبرًا، فهذا قليل من كثير، حيث يأمر (إله إسرائيل) نبيه بأشياء أكثر قسوة وعنفًا فيقول: "وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاها الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا أما مدن هؤلاء الشعوب القريبة منك التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة" (1).

ويعلق على ذلك بقوله: شريعة وحشية تقشعر لها الأبدان وترتجف منها الأطراف وتشيب لها الولدان ليس فيها من الرحمة أو العدل شيئًا شريعة يرفضها كل إنسان متحضر (2).

[نقد العقوبات في العهد القديم]

لقد رصد كل من د/ بدران، د/ كامل سعفان، د/ المطعني، مواضع متعددة في التوراة تبيّن مقدار العقوبات التي تطبق على المرتكبين للجرائم سواء أكانت جرائم قتل أو زنا أو سرمة ووقف كل واحد منهم مع ما استدل به من نصوص لبيان ما فيها من اعتدال أو تطرف في الشريعة اليهودية، وبعد الاطلاع على ما كتبوه حول هذا الموضوع يمكن تقسيم هذه العقوبات من خلال نقدهم إلى:

1 - العقوبات المادية.

2 - العقوبات المعنوية.

أولًا: العقوبات المادية:

يقول د/ كامل سعفان: قدمت التوراة صورًا من العقوبات المادية، يمكن أن تكون وسيلة إلى حماية الحقوق: "إذا رعي الإنسان حقلًا أو كرمًا، وسرح مواشيه، فرعت في حقل غيره، فمن أجود حقله يعوض" (3)، "إذا خرجت نار وأصابت شوكًا، فاحترقت أكداس زرع أو حقل، فالذي أوقد الوقيد يعوص" (4)، إذا أعطي إنسان صاحبه فضة أو أمتعة للحفاظ، فسرقت من بيت الإنسان فإن وجد السارق يعوض باثنين، وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم، هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه" (5)، "وإذا استعار إنسان من صاحبه شيئًا فانكسر، أو مات صاحبه وليس معه يعوض وإن كان صاحبه معه لا يعوض" (6).


(1) التثنية: (20/ 12 - 17) السابق، انظر: التوراة د/ بدران، ص 73.
(2) التوراة: د/ بدران، ص 73.
(3) خروج: (22/ 5) حماية الأملاك.
(4) خروج: (22/ 6) السابق.
(5) خروج: (22/ 7 - 8) السابق.
(6) خروج: (22/ 14 - 15) السابق.

ثم يعقب د/ كامل سعفان، على هذه النصوص منتقدًا لهذه العقوبات فيقول:

يؤخذ على هذه العقوبات وغيرها الكثير، أنها تتحدث عن التعويض دون بيان ما إذا كان المعتدي لا يملك ما يعوض به، كما أن التعويض لا يلتزم بقاعدة مطردة، فهو تارة بالمثل، وتارة الضعف، وقد يصل إلى خمسة أضعاف، مع أن (التكييف القانوني) متشابه إلا أن الأحكام ترتبط بحالات معينة، لا بكل الحالات (1).

وفي حديثه عن جريمة القتل يقول:

الأصل فيها: "ولا تقتل البريء والبار" (2) وإذا حدث العدوان "فلا تشفق عينك، نفس بنفس، عين بعين، سن بسن، يد بيد، رِجْل برجل" (3)، "كل من قتل نفسًا فعلي فم شهود يقتل القاتل، وشاهد واحد لا يشهد على نفس للموت ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل" (4). ثم يعلق على ذلك بقله حكم صارم لا يشوبه إلا أن "ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه" (5) مما يساعد على مزيد من القتلى، لأنه يأخذ بطابع الثأر، لا عدالة القصاص وإن كنا نجد في (خروج) أن الكهنة هم الذين يتولون القصاص: "فمن عند مذبحي تأخذه للموت" (6) فتبعة التغيير تقع على أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، دون إدراك لقداسة الكلمة (7).

[عقوبة القتل الخطأ]

يستدل د/ كامل بالنص التالي:

(إن دفعه بغتة، بلا عداوة، أو ألقي عليه أداة ما دون تعمد، أو حجرًا ما مما يقتل به بلا رؤية أسقطه عليه فمات، وهو ليس عدوًا له، ولا طالبًا أذيته، تقضي الجماعة بين القاتل وولي الدم، وتنقذ الجماعة من ولى الدم، وترده الجماعة إلى مدينة ملجئه التي هرب إليها، فيقيم هناك إلى موت الكاهن العظيم الذي مسح بالدهن المقدس ولكن إن وجده ولى الدم خارج حدود مدينة ملجئه، وقتل ولى الدم القاتل فليس له دم) (8).


(1) اليهود تاريخًا وعقيدة ص 251 وتفصيل ذلك في خروج الإصحاح الثاني والعشرون كله.
(2) خروج: (23/ 7) أحكام العدل والرحمة.
(3) تثنية:: (19/ 21) الشهود.
(4) عدد: (35/ 29 - 32) مدن الملجأ.
(5) عدد:: (35/ 21) السابق.
(6) خروخ: (21/ 14) الضرر بالأشخاص.
(7) اليهود تاريخًا وعقيدة ص 251،252.
(8) عدد (35/ 22 - 27) مدن الملجأ.

ثم ينتقد النص السابق بقوله:

(من هنا اختلط العدل بالجور فقضاء الجماعة بين القاتل خطأ وولي الدم قد يصل إلى دية مرضية، وإبعاد القاتل علاج نفسي يدعمه الحزن العظيم على الكاهن العظيم، أما أن يلتقى ولي الدم بعد ذلك بالقاتل فيقتله، دون عقاب فأمر ليس من العدالة في شىء وبخاصة أن من السهل تحقيق هذا اللقاء) (1).

ثانيًا: العقوبات المعنوية:

ذكر د/ المطعني بعض الفئات في التوراة قد أصدرت عليهم عقوبة معنوية ولكنها عقوبة في غير محلها، وهذه العقوبة هي الحرمان الأبدي من الدخول في جماعة الرب وهذه الفئات كالتالي:

[أ- المخصي والمجبوب]

واستدل على هذا النوع بالنص التوراتي الذي يقول: "لا يدخل مخصي بالرض أو مجبوب في جماعة الرب" (2). وينتقد ذلك د/ المطعني قائلًا: (حرمان أبدي .. ولماذا؟ المقصود من جماعة الرب هم المؤمنون، والإيمان لا علاقة له بالأمراض العضوية مهما كان نوعها، يكفى أن يكون لدي الإنسان فطرة سليمة، وقلب طاهر، وعقل مدرك فيصدق بكلمات الله ورسله وكتبه ووعده ووعيده، ويعمل بشريعته فيكون مؤمنًا ويحق له الدخول في جماعة الرب، ولكن التوراة تضع أمام إيمان المؤمنين عقبة كؤودًا فبعض المرضي كالخصي والمجبوب لا يدخلون أبدًا في حظيرة الإيمان ولماذا؟ لأنهم مجبوبون أو مخصيون؟!) (3).

[ب- ولد الزنا]

واستدل بالنص التوراتي الذي يقول: "لا يدخل ابن زني في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لا يدخل منه أحد في جماعة الرب" (4). ثم ينتقده بقوله: (وأبناء الزنى ما هو ذنبهم الذي جنوه حتى يطردوا من حظيرة الإيمان؟ إن الجاني الحقيقى هنا هو الأب الزاتي والأم الزانية، لا من وُلد عن هذه العلاقة المحرمة فكان من الأولي ألا يدخل الزناة آباءً وأمهات في جماعة الرب) (5).


(1) اليهود تاريخًا وعقيدة، ص 252.
(2) تثنية: (23/ 1) المحظور انضمامهم إلى جماعة. الرب.
(3) الإِسلام د/ المطعني، ص 230.
(4) تثنية: (23/ 2، 3) السابق.
(5) الإِسلام د/ المطعني، ص 230.

ج- "المؤابي" (1) و"العموني" (2):

واستدل على عدم دخولهم جماعة الرب بالنص التوراتي القائل: "لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب إلى الأبد من أجل أنهم لم يلاقوكم بالخبز والماء في الطريق عند خروجكم من مصر" (3). ثم ينتقد هذا النص بقوله: (ولا علاقة أيضًا للإيمان بالجنس أو اللون أو العنصر فكل الناس صالحون لأنّ يكونوا مؤمنين إذا توافرت لهم أسباب الإيمان، ولكن التوراة تقضى هنا بأن العمونيين والمؤابيين لا يدخلون في جماعة الرب إلى الأبد لماذا؟ لأنهم لم يقدموا لبني إسرائيل الطعام والماء حين خروجهم من مصر) (4).

د- الأبرص والذي به جرح يسيل دمًا أو قيحًا:

قدم د/ المطعني للنص الذي استدل به بقوله: "لأنه هذه الأمراض يصبح المريض نجسًا فيطرد من المدينة المقدسة وفي هذا يقول سفر اللاويين: "فهو إنسان أبرص إنه نجس، فيحكم الكاهن بنجاسته إن ضربته في رأسه والأبرص الذي فيه الضربة تكون ثيابه مشقوقة، ورأسه يكون مكشوفًا ويغطي شاربيه، وينادي نجس، نجس، كل الأيام التي تكون الضربة فيه يكون نجسًا إنه نجس، يقيم وحده، خارج المحلة يكون مقامه" (5).

وينتقد د/ المطعني قائلًا:

(ما ذنبه؟ مسكين والله! ما ذنب المريض ببرص أو غير برص حتى يستوجب اللعنة والطرد من جماعة الطهارة، ويا لشقاء الإنسان تحت وطأة الكهان، والمريض في حاجة إلى مواساة، تخفف عليه مرضه لا أن يُضاعف عليه الإحساس بالألم فنصدر حكمًا باسم الوحى بأنّه ملعون ومطرود) (6).

[وخلاصة هذا البحث]

1 - أن الجرائم والعقوبات عليها في العهد القديم فيها من التعارض والتناقض ما فيها، ففى الوقت الذي ينهى فيه العهد القديم عن قتل الأبرياء والبررة، توجد نصوص أخرى تؤكد حدوث مجازر وحشية راح ضحيتها أطفال ونساء وشيوخ لا ذنب لهم، ولم يرتكبوا جريمة يستحقوا عليها ذلك سوى أنهم من أهل كنعان. حدث ذلك في البلاد التى لم تدخل مع بني إسرائيل في صلح؛ بل حاربتهم ووقفت في وجههم؛ لأنهم معتدون، حتى أولئك الذين لم يحاربوا بني إسرائيل وعقدوا معهم صلحًا لم يسلموا من تسلطهم وقهرهم، وكان الأمر في التشريع اليهودي بتسخيرهم واستعبادهم إلى الأبد، هذا عن العقوبات المادية.

2 - أما عن العقوبات المعنوية، يدعي كتبة العهد القديم أن جماعة الرب المقصود بها "بني إسرائيل" هم المؤمنون وحدهم، وبالتالي قصروا هذا اللفظ على أنفسهم؛ بل قد استبعدوا منهم المخصي والمجبوب وولد الزنا والأبرص والعموني والموآبي، كل هؤلاء في نظر الشريعة اليهودية لا يجب أن يدخلوا ضمن جماعة الرب، وفي هذا من الظلم والطغيان ما فيه.

 


(1) هو: بكر ابنة لوط من أبيها هو أبو المؤابيين (قاموس الكتاب المقدس 927).
(2) هو: نسل ابن عمى ابن لوط الذي ولد في مجاورة صوغر، وانتشرت ذريته في الشمال وسكنت جبال جلعاد بين نهري أنون ويبوق، وعَمّى .. اسم عبري معناه" شبعي" هو ما أمر به هوشع اليهود أن ينادوا اخوتهم به، للدلالة على أنهم لا يزالون شعب الله (هوشع 2/ 1) بعد أن سبق له أن سمى ابنه لو عمى أي ليس شعبي (هوشع 1/ 9) (قاموس الكتاب المقدس، ص 640).
(3) تثنية: (23/ 4) المحظور انضمامهم إلى جماعة الرب.
(4) الإِسلام: د/ المطعني، ص 231.
(5) الإصحاح: (13/ 44 - 46) فرائض الأمراض الجلدية المعدية.
(6) الإِسلام: د/ المطعني، ص 232.

 

  • الثلاثاء PM 04:53
    2022-05-17
  • 1093
Powered by: GateGold