المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412371
يتصفح الموقع حاليا : 306

البحث

البحث

عرض المادة

التحريف في العهد الجديد

ولقد يتساءل المرء أين وقع التحريف في الأناجيل؟ هل وقع من الإنجيليين وأصحاب الرسائل، أم من النساخ الذين تصرفوا في النصوص حسب أهوائهم وعقائدهم، أم من أولئك الذين أضافوا القداسة للكتب الشخصية التي خطها الحواريون، أم من ذلك كله؟ ولعل الأخير هو أولاها بالصواب.

أولاً: تحريف الإنجيليين: هل كان الإنجيليون أمناء في النقل عن بعضهم؟

أصبح من المسلم به - كما أسلفنا - أن لوقا نقل ما نسبته 51% من فقرات إنجيل مرقس، بينما نقل متى ما نسبته 90% من محتويات إنجيل مرقس. فهل كان متى ولوقا أمينان في نقلهما عن مرقس، أم كانا يتصرفان بنص مرقس كما يحلو لهما؟

الحقيقة البينة أن كلا الاثنين تصرف برواية مرقس حسب ما تبدى له، وخاصة متى الذي كان يضخم دائماً فيما ينقله من أحداث ينقلها من رواية مرقس، لتناسب غلوه في شخص المسيح أو لتحقق نبوءة توراتية لم تحققها رواية مرقس، وذلك يظهر من أمثلة كثيرة ذكرها المحققون، منها:

- يقول مرقس عن المصلوب: " أعطوه خمراً ممزوجةً بمر " (مرقس 15/ 23).

لكن متى نقل عن مرقس وغيّر، فقال: " أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة " (متى 27/ 34)، ومن المعلوم أن الخل غير الخمر.

ولقد قصد متى من هذا التغيير أن يحقق النبوءة التوراتية المزعومة " يجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً " (المزمور 69/ 21)، فأبدل كلمة الخمر التي كتبها مرقس بالخل.

- يقول مرقس: " إن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي " (مرقس 3/ 35).

وينقلها متى: " إن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي " (متى 12/ 50). فكلمة أبي وضعت لأسباب لاهوتية.

- ومثله يقال عندما سأل المسيح تلاميذه عما يقولون فيه، فأجاب بطرس: " أنت المسيح " (مرقس 8/ 29).

لكن متى عدل في إجابة بطرس وجعلها: " أنت هو المسيح ابن الله الحي " (متى 16/ 16).

- ومثله لما ظهر لهم المسيح مع موسى قال بطرس لسيده كما ينقل مرقس: " يا سيدي جيد أن نكون هنا " (مرقس 9/ 5).

ولكن متى يعدّل نص مرقس، ويقول: " يا رب جيد أن نكون ههنا " (متى 17/ 4).

- ومن غلو متى تغييره لما جاء في مرقس عن عدم قيام المسيح بالمعجزات في الجليل حيث يقول: " ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم، وتعجب من عدم إيمانهم " (مرقس 6/ 5 - 6). حيث لم يصنع ولا قوة واحدة، لكنه شفى قليلين، لكن شفاء القليلين لم يكن كافياً لإيمان أولئك القساة، فتعجب المسيح لعدم إيمانهم.

لكن متى عزّ عليه أن لا يصنع المسيح أي قوة، فقال: " ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم " (متى 13/ 58). إذاً هو صنع معجزات، ولكن ليس كثيراً، وبرر قلة المعجزات بعدم إيمانهم. فأصبحت سبباً لقلة المعجزات بعد أن كانت عند مرقس نتيجة لها.

- ومثله تلاعب لوقا بما نقله عن مرقس، فقد أورد مرقس - الذي تصفه المصادر المسيحية بأنه يقدم أصدق صورة عن المسيح - أورد آخر عبارات المصلوب على الصليب، وكانت صراخه اليائس "إلهي إلهي، لماذا تركتني " (مرقس 15/ 34).

لكن لوقا - وكما يرى ول ديورانت - لم تعجبه عبارة مرقس، ورآها لا تتفق مع تعليم بولس عن المسيح الفادي الذي جاء ليصلب، فأبدلها بقوله: " يا أبتاه في يديك أستودع روحي " (لوقا 23/ 46).

- والغلو عند متى في شخص المسيح جعله يخالف مرقس في كثير من الأحداث التي نقلها عنه، فزاد فيها بما اعتقد أنه يرفع من قدر المسيح، من ذلك أن مرقس ذكر خبر المجنون الممسوس بالشياطين والذي شفاه المسيح وأخرج منه الشياطين وجعلها تدخل في الخنازير، فيقول: " وجاءوا إلى عبر البحر، إلى كورة الجدريين، ولما خرج من السفينة للوقت استقبله من القبور إنسان به روح نجس ... فلما رأى يسوع من بعيد ركض وسجد له، وصرخ بصوت عظيم وقال: ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي. أستحلفك بالله أن لا تعذبني ...

وكان هناك عند الجبال قطيع كبير من الخنازير يرعى. فطلب إليه كل الشياطين قائلين: أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها. فأذن لهم يسوع للوقت، فخرجت الأرواح النجسة، ودخلت في الخنازير" (مرقس 5/ 2 - 13).

لكن متى جعل صاحب القصة مجنونان بدلاً من واحد فقال: "ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جداً ... وإذا هما قد صرخا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله! أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟

وكان بعيداً منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى. فالشياطين طلبوا إليه قائلين: إن كنت تخرجنا فأذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير. فقال لهم: امضوا، فخرجوا ومضوا إلى قطيع الخنازير" (متى 8/ 28 - 32).

ويحاول القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لإنجيل متى التوفيق بين روايتي المجنون والمجنونين، فيقول: "يبدو أن أحد المجنونين كان شخصية معروفة هناك، وأن جنونه كان شديداً بطريقة واضحة، فاهتم به القديسان لوقا ومتى متجاهلين المجنون الآخر". (1)

إذاً فشهرة أحد المجنونين جعلت البشيرين يغفلان ذكر معجزة المسيح بشفاء المجنون الآخر، لأنه مجنون مغمور وليس بمشهور!

- وذكر مرقس ولوقا شفاء الأعمى، يقول مرقس: "وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير كان بارتيماوس الأعمى ابن تيماوس جالساً على الطريق يستعطي. فلما سمع أنه يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود، ارحمني ... فأجاب يسوع، وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب. إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر، وتبع يسوع في الطريق " (مرقس 10/ 46 - 52، وانظر لوقا 18/ 35 - 42).

لكن متى روى نفس القصة وجعل الأعمى أعميين اثنين، فقال: " فيما هم خارجون من أريحا تبعه جمع كثير. وإذا أعميان جالسان على الطريق، فلما سمعا أن يسوع مجتاز صرخا قائلين: ارحمنا يا سيد، يا ابن داود ... فوقف يسوع وناداهما وقال: ماذا تريدان أن أفعل بكما؟ قالا له: يا سيد أن تنفتح أعيننا. فتحنن يسوع ولمس أعينهما، فللوقت أبصرت أعينهما، فتبعاه " (متى 20/ 29 - 34)، فهذا غلو من متى وتحريف للقصة التي ينقلها عن مرقس.

ولا يفوتنا هنا التنبيه على أن لوقا جعل القصة قبل دخول المسيح إلى أريحا فقال: " ولما اقترب من أريحا كان أعمى جالساً على الطريق يستعطي " (لوقا 18/ 35)، فهل شفى المسيح الأعمى قبل دخوله أريحا أم بعد خروجه منها؟!

وثمة تحريف آخر وقع به الإنجيليون، وهو مكان حصول هذه المعجزة، هل هو كورة الجدريين كما زعم مرقس (5/ 1) ولوقا (8/ 26) أم هو كورة الجرجسيين كما

 في متى (8/ 28)، فالاسمان يدلان على مكانين مختلفين، فالأول منهما كما تقول دائرة المعارف الكتابية تقع اليوم في "أطلال أم قيس على المرتفعات جنوبي العيون الساخنة في وادي اليرموك والمسماة "الحمة" على بعد نحو ستة أميال إلى الجنوب الشرقي من بحر الجليل".

وأما كورة الجرجسيين فتقع على بعد ستين كيلو متر إلى الجنوب من جدرة، وما تزال أطلال هذه المدينة الرومانية الشهيرة ترى اليوم في مدينة جرش الأردنية، وموقع المدينتين ظاهر لكل من نظر خريطة من خرائط الكتاب المقدس، ولسوف يلحظ الناظر للخريطة أمراً آخر مهماً، وهو أن كلا المدينتين لا تقعان بجوار بحر، فلا تصلحان مكاناً لهذه الأعجوبة.

ويحار الشراح في تقريب المكانين البعيدين، فتتفق عقلية كاتبي دائرة المعارف عن افتراض لا دليل عليه، فقالوا بأنه "من المؤكد أن سلطان جدرة - باعتبارها المدينة الرئيسية في تلك المنطقة - قد امتد إلى كل المنطقة شرقي البحر بما فيها مدينة " جرسة ". (2) وبهذه الطريقة البهلوانية أصبحت كورة الجرجسيين هي ذاتها كورة الجدريين!

- وأخبر مرقس عن قدوم المسيح لأورشليم راكباً على جحش فيقول: "أرسل اثنين من تلاميذه، وقال لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت وأنتما داخلان إليها تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحد من الناس. فحلاه وأتيا به ... فأتيا بالجحش إلى يسوع وألقيا عليه ثيابهما (أي التلميذين) فجلس عليه" (مرقس 11/ 1 - 7).

لكن متى بالغ في روايته لنفس الخبر، فجعل المسيح راكباً على أتان وجحش في وقت واحد! يقول متى: " حينئذ أرسل يسوع تلميذين قائلاً لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتاناً مربوطة وجحشاًَ معها، فحلاهما وأتياني بهما .... وأتيا بالأتان والجحش، ووضعا عليهما ثيابهما، فجلس عليهما" (متى 21/ 1 - 7).

ولم يبين لنا متى كيف كان هذا الركوب، وما هي هيئته، فذلك لا يهُم، المهم أنه أراد أن يحقق نبوءة توراتية في سفر زكريا " هو ذا ملكك، يأتي إليك وهو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان " (زكريا 9/ 9).

وقد صرح متى بذلك في نفس الخبر فقال: " فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون: هوذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان" (متى 21/ 4)، ومن أجل تحقيق هذه النبوءة خالف مرقس، وأركب المسيح على أتان وجحش معاً!

- ولما تحدث المسيح - عليه السلام - عن يوم القيامة أخبر أنه لا يعلم متى يكون، فقال: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن؛ إلا الآب" (مرقس 13/ 32)، وهو خبر لم يناسب متى الذي لا يتخيل المسيح غير عارف بموعد القيامة، فعدل النص وقال: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السموات؛ إلا أبي وحده" (متى 24/ 36).

- ومثله في التحريف زيادات متى الخيالية على الأحداث التي صاحبت موت المعلق على الصليب "فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم، وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين" (متى 27/ 50 - 53)، هذا ولم يذكر لنا متى شيئاً عما فعله هؤلاء العائدون من الموت، ولا عن ردة فعل الناس على ظهورهم وعلى تلك الأحداث العظيمة ....

وهذه الأعجوبة على ضخامتها وأهميتها لم يشر إليها مرقس، ولو كانت حقاً لما صح أن يهملها لأهميتها، كذلك لم يذكرها لوقا - المتتبع لكل شيء بتدقيق - ولا يوحنا، فثبت أنها من وضع متى ونسج خياله.

- ومثله تلاعب الإنجيليين بكلام المسيح، وهم ينقلون قوله لتلاميذه، فقد قال لهم - حسب لوقا -: "أنتم أفضل من عصافير كثيرة، أقول لكم: كل من اعترف بي قُدَّام الناس؛ يعترف به ابن الانسان قُدَّام ملائكة الله، ومن أنكرني قدام الناس؛ ينكر قُدَّام ملائكة الله " (لوقا 12/ 7 - 9)، فقد جعل لوقا اعتراف المسيح وإنكاره قدام ملائكة الله.

وهو بذلك يخالف متى الذي جعل إنكار المسيح واعترافه قدام الله، لا الملائكة، فقد نسب إلى المسيح قوله: "أنتم أفضل من عصافير كثيرة، فكل من يعترف بي قُدَّام الناس؛ أعترف أنا أيضاً به قُدَّام أبي الذي في السموات، ولكن من ينكرني قُدَّام الناس؛ أنكره أنا أيضاً قُدَّام أبي الذي في السموات" (متى 10/ 31 - 33)، فأيهما هو قول المسيح؟! وماذا عن الآخر؟

- ومن صور التلاعب بالنصوص والتصرف فيها ما صنعه متى ولوقا في كلام المسيح في وليمة الفريسي، ففي إنجيل متى أن المسيح قال: " لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى مدينة" (متى 23/ 34)، فالمسيح نسب إلى نفسه إرسال أنبياء وحكماء وكتبة.

لكن لوقا يخالفه، فيذكر أن المسيح نسب القول إلى حكمة الله، لا إلى نفسه، فيقول:"لذلك أيضاً قالت حكمة الله: إني أرسل إليهم أنبياء ورسلاً، فيقتلون منهم ويطردون" (لوقا 11/ 49).

[اعترافات بالتلاعب في الأناجيل]

أمام وضوح الحقيقة لا يجد المفسر جون فنتون في تفسيره لإنجيل متى (ص 271) من سبيل إلا يعترف بهذا التطوير للروايات، ويحاول تبريره فيقول: "لقد حدث تحوير ملحوظ في مخطوطات (الأناجيل)، وذلك في المواضع التي ذكرت فيها ألقاب الرب " (يسوع) (3)، فهو يعترف بوقوع التحريف، لكنه يتهم نساخ المخطوطات، ويبرئ متى الكاتب.

والصحيح أن التلاعب بالنص يرجع إلى كُتاب الأناجيل، وليس نساخ المخطوطات، إذ أن الزيادة تطرِد دائماً في متى عما في مرقس، ولو كان الخلل في المخطوطات لما اطردت الزيادة في متى دائماً.

وقد صدق العلامة كيز مان حين قال: " إن لوقا ومتى قد قاما بتغيير نص مرقس الذي كان بحوزتهما مائة مرة عن عمد لأسباب عقائدية ". (4)

ثانياً: تحريف الإنجيليين في نقلهم من المصادر التوراتية

وكذا وقع كتاب العهد الجديد في تحريف الأسفار التوراتية وهم ينقلون عنها، ليكون صورة أخرى من صور التحريف.

- فقد وقع به بولس وهو ينقل عن مزامير داود، يقول بولس: " لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع الخطايا، لذلك عند دخوله إلى العالم، يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرد، ولكن هيأت لي جسداً، بمحرقات وذبائح لم تسر ... " (عبرانيين 10/ 4 - 6).

وقد نقل بولس النص عن المزامير، وحرفه، ففي المزامير " بذبيحة وتقدمة لم تسر، أذني فتحت، محرقة وذبيحة خطية لم تطلب .. " (المزمور 40/ 7)، فقد أبدل " أذني فتحت " بقوله: "هيأت لي جسداً ".

واعترف بوقوع التحريف في أحد النصين جامعو تفسير هنري واسكات، ولم يعينوا الموضع المحرف منهما، فقد اعتبر آدم كلارك ما جاء في المزمور محرفاً، فيما اعتبره دوالي ورجر وديمنت في تفسيرهما ما جاء في رسالة بولس هو المحرف. (5)

- كما وقع التحريف من الإنجيليين بنسبة أقوال إلى التوراة لم تذكرها، منه ما جاء في متى عن المسيح "وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء: إنه سيدعى ناصرياً " (متى 2/ 23)، ولا يوجد شيء من ذلك في كتب الأنبياء.

ومما يؤكد أن التحريف هنا متعلق بمتى أن التلميذ نثنائيل حين بشره فليبس بالمسيح الناصري استغرب أن يبعث مسيح من الناصرة "فقال له نثنائيل: أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ " (يوحنا 1/ 46)، ولو كانت نبوءة الناصري موجودة قبلُ لما كان وجه للغرابة.

يقول طابعو الرهبانية اليسوعية تعقيباً على النص: "يصعب علينا أن نعرف بدقة ما هو النص الذي يستند إليه متى".

ويقول مؤلفو قاموس الكتاب المقدس: " ولم تكن الناصرة ذات أهمية في الأزمنة القديمة، لذلك لم يرد لها أي ذكر في العهد القديم، ولا كتب يوسيفوس ولا الوثائق المصرية والآشورية والحثية والآرامية والفينيقية السابقة للميلاد، وأول ما ذكرت في الإنجيل".

- ومثله ما أضافه التلميذ يعقوب إلى الكتاب في رسالته، وهو غير موجود في الكتاب بعهديه القديم والجديد، كما يشهد محققو الترجمة العربية المشتركة في تعليقهم على قوله: "أم تظنون أن الكتاب يقول باطلاً: الروح الذي حل فينا يشتاق إلى الحسد" (يعقوب 4/ 5).

- ومن صور التحريف ما وقع به يعقوب ولوقا حين تحدثا عن انقطاع المطر بدعاء النبي إيليا، فذكرا أنه استمر ثلاث سنين وستة أشهر، محرفين ما ورد في العهد القديم، الذي أفاد بأن انقطاع المطر لم يكمل الثلاث سنوات، فيقول يعقوب في رسالته: " كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا، وصلى صلاة أن لا تمطر، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر " (يعقوب 5/ 17)، ووافقه لوقا فزعم أن المسيح قال: "أقول لكم: إن أرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في أيام إيليا، حين أغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر، لما كان جوع عظيم في الأرض كله" (لوقا 4/ 25).

والقصة - كما أسلفت - منقولة ومحرفة عن سفر الملوك وفيه: " قال إيليا: .. إنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي " (الملوك (1) 17/ 1)، ثم " بعد أيام كثيرة كان كلام الرب إلى إيليا في السنة الثالثة قائلاً: اذهب وتراءى لأخاب فأعطي مطراً على الأرض " (الملوك (1) 18/ 1)، وفعل، فنزل المطر، وكان ذلك في السنة الثالثة، ولعله في أولها، أي لم يكمل انقطاع المطر ثلاث سنوات، فضلاً عن الأشهر الستة التي زادها يعقوب ولوقا.

- ومن صور التحريف ما نسبه بولس إلى كتب الأنبياء من وصف الجنة التي أعدها الله للمؤمنين، فقال: " بل كما هو مكتوب: ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه " (كورنثوس (1) 2/ 9)، وليس في كتب الأنبياء في العهد القديم مثل هذا البتة؛ وإن تشبث البعض بما جاء في سفر إشعيا " لم تر عين إلهاً غيرك يصنع لمن ينتظره، تلاقي الفرح الصانع البر، الذين يذكرونك في طرقك، ها أنت سخطت إذ أخطأنا" (إشعيا 64/ 3 - 4)، فبين النصين تباين لا يخفى، فالأول يتحدث عن جنة الله وجزائه، والثاني يتحدث عن الله الذي لا مثيل له في جزائه، وأيضاً فإن قول بولس: "ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان" لا مثيل له في النص التوراتي.

- ومثله ما نسبه متى إلى المسيح في إصحاح إنجيله الخامس وهو ينسخ أحكام القدماء التي وردت في شرائع التوراة، ومنها أنه قال: "سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم" (متى 5/ 43 - 44)، والفقرة التي يشير إليها من كلام القدماء هي قول سفر اللاويين: " لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك" (اللاويين 19/ 18)، وليس في هذه الفقرة ولا في غيرها أمر ببغض الأعداء، وزعمُ متى أنها موجودة في كتب القدماء محض ادعاء وتحريف، لذا قال القس صموئيل يوسف: "هل الله يوصي بالبغضة؟ ربما يعتقد الإنسان أن هذا حدث في العهد القديم، غير أنه لم يرد شيء من ذلك على الإطلاق في وصايا الله (قارن لاويين 19/ 18) ". (6)

- ويقتبس الإنجيليون نبوة زكريا القائلة: " ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زكريا 9/ 9)، ولكنهم - كالعادة - لا يجدون أي حرج في تغيير النصوص التوراتية عندما يجدون ما يستدعي ذلك، فقد قال متى: " ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون: هوذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان" (متى 21/ 5)، فقد أحدث متى عدداً من التغييرات في النص التوراتي، أهمها أنه عمد إلى اختصار النص، وحذف منه ما لا يتناسب مع شخص المسيح، وهو قوله: "عادل ومنصور"، فقد أدرك متى أن المسيح ليس بالملك الأرضي المنتظر الذي من صفاته العدل والظفر، فحذف هذين الصفتين، وأبقى صفة الوداعة والركوب على الحمار والجحش معاً.

وأما يوحنا فقد اختزل النص التوراتي أيضاً، وحذف منه ما حذفه متى، وأضاف إليه أن جعل المركوبَين واحداً، لأنه رأى أن الركوب على حيوانين - في وقت واحد - لا يتلاءم مع شخصية متزنة كالمسيح، كما أنه نقل النبوءة المزعومة من جو البهجة والسرور "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون" إلى جو منع الخوف " كما هو مكتوب: لا تخافي يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتي جالساً على جحش أتان" (يوحنا 12/ 15).

- وينقل متى من سفر النبي إشعيا، فيغير في النبوءة ليقدم لنا مثالاً للحرية التي تعامل بها الإنجيليون مع النصوص التوراتية، إذ يقول: " فقد تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة: تسمعون سمعاً ولا تفهمون، ومبصرين تبصرون ولا تنظرون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وآذانهم قد ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم، لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم" (متى 13/ 14 - 15).

وهو اقتباس تصرف فيه متى وهو ينقله من سفر إشعيا الذي يقول في سفره متوعداً بني إسرائيل: "فقال: اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سمعاً ولا تفهموا، وأبصروا إبصاراً ولا تعرفوا، غلِّظ قلب هذا الشعب، وثقّل أذنيه، واطمس عينيه، لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه، ويرجع فيشفى" (إشعيا 6/ 9 - 10).

فقد كان نص إشعيا حديثاً بصيغة المستقبل عما سيؤول إليه حال بني إسرائيل، فجعلها متى بصيغة الإخبار عن الحال الحاضر، ولو كان يعتبر ما يعاصره من عصيان اليهود وقسوة قلوبهم تفسيراً لتلك النبوءة، لكان فعله مقبولاً، لكنه بالحقيقة كان ينقل النبوءة ويغير بألفاظها " تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة: تسمعون .. ".

- ومثله تحرر بولس من كل ضوابط الأمانة والدقة في النقل، وهو ينقل عن سفر إشعيا فيقول: "مكتوب: أنا حيّ يقول الرب، إنه لي ستجثو كل ركبة، وكل لسان سيحمد الله" (رومية 14/ 11)، فقد تصرف في نص العهد القديم مرتين: الأولى: حين نسب إليه قول الرب بأنه حي. والأخرى: حين أخبر أن الألسنة ستحمد الله، بينما نص إشعيا يتحدث عن الألسنة التي ستحلف بالله، يقول إشعيا: "بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق، كلمة لا ترجع، إنه لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان" (إشعيا 45/ 23).

- ومن صور التحريف ما صنعه متى وهو يتلاعب بنسب المسيح، فيحذف من النسب ما لا يروق له، ثم يعمد إلى خداع القارئ والتمويه عليه، لقد أدرك متى أن ذرية الملك يهوياقيم محرومة من الجلوس على كرسي داود (انظر إرميا 36/ 30 - 31)، فحذف اسمه من نسب المسيح مخافة أن يدرك القارئ أنه لاحظّ للمسيح في الجلوس على كرسي داود، فقال: " ويوشيا ولد يكنيا وإخوانه عند سبي بابل" (متى 1/ 11)، ومن المعلوم أن يكنيا من أحفاد يوشيا، وليس ابنا مباشراً له، إذ هو ابن الملك المحروم يهوياقيم بن يوشيا (انظر الأيام (1) 3/ 14 - 15).

كما أخطأ متى ثانية حين زعم أن ولادة يكينيا عند سبي بابل "ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل" (متى 1/ 11)، إذ يكينيا قد ولد قبل السبي بوقت طويل، وتولى الملك وعمره ثماني سنوات أو ثمانية عشرة سنة، على خلاف بين الأسفار [انظر (الملوك (2) 24/ 8)، و (الأيام (2) 26/ 9)]، وتسمى بيهوياكين، وفي عهده (597 ق. م) دخل البابليون فلسطين أول مرة، وسَبَوه وكبار مملكته إلى بابل، وذلك قبل السبي الكبير بإحدى عشرة سنة، خلافاً لمتى الذي يزعم أنه ولد عند السبي، يقول سفر إرميا: "سبى نبوخذ راصر ملك بابل يكنيا بن يهوياقيم ملك يهوذ" (إرميا 24/ 1)، فكيف يزعم متى أنه ولد عند سبي بابل؟!

ومن تحريف متى نسبته المسيح إلى الملك يكنيا المسمى بيهوياكين وكنياهو (انظر إرمياء 37/ 1)، فهذا الملك عقيم لا ولد له، ولن يكون في نسله جالس على كرسي داود، لأن الرب حرمه من ذلك كما نقل سفر إرمياء: "هكذا قال الرب: اكتبوا هذا الرجل عقيماً، رجلاً لا ينجح في أيامه، لأنه لا ينجح من نسله أحد جالساً على كرسي داود وحاكماً بعدُ في يهوذا" (إرمياء 22/ 30)، فكيف يكون يكنيا من أجداد المسيح وهو رجل عقيم؟ وكيف سيرث المسيح على كرسي داود أبيه إذا كان من ذرية هذا الملك الذي حرم الله نسله من الملك؟ إن أحداً غير البشير متّى لا يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة!

- ومن التحريف ما صنعه لوقا حين زعم أن شالح هو ابن قينان بن أرفكشاد خلافاً لما ورد في التوراة في عدد من المواضع، يقول لوقا: "عابر بن شالح بن قينان بن أرفكشاد" (لوقا 3/ 35 - 36)، في حين إن سفر التكوين يقول: "وأرفكشاد ولَد شالح " (التكوين 10/ 24)، ويؤكده في السفر الذي يليه، فيذكر أن الأب أرفكشاد ولد ابنه شالح، وعمره خمس وثلاثون سنة "وعاش أرفكشاد خمساً وثلاثين سنة، وولد شالح" (التكوين 11/ 12) (وانظر الأيام (1) 1/ 18، والأيام (1) 1/ 24)، ولم يذكر في أي من المواضع التوراتية اسم قينان، فما صنعه لوقا تحريف ولا ريب، أو أنه كان يرى تحريف النصوص التوراتية، فخالفها لذلك.

ويوافقنا القس سمعان كلهون على وقوع التحريف في إضافة هذا الاسم، ويخالفنا في اسم المحرِّف، حيث يرى بأن قينان "ليس له ذكر في العهد القديم في الأصل العبراني، فالظاهر أنه قد دخل في غفلة أحد النساخ". (7) فالناسخ - حسب رأيه - هو المسؤول عن وقوع هذا التحريف، وليس الإنجيلي لوقا، وللقارئ أن ينسب التحريف إلى من شاء (الناسخ أو لوقا)، لكني أصر على أن يتفق معي ومع القس كلهون على وقوع التحريف في هذه الفقرة.

ومن التحريف ما أضافه لوقا إلى سفر إشعيا في الإصحاح 61 حيث زعم أن المسيح فتح السفر وقرأ فيه عبارة لا نجدها اليوم فيه، حيت يقول: "فدفع إليه سفر اشعياء النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه: روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لوقا 4/ 18)، فقوله: " وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية" غير موجودة في هذا الموضع الذي كان يقرأ منه المسيح (انظر إشعيا 61/ 1 - 3)، والفقرة الثانية منها موجودة في (إشعيا 58/ 6).

وينقل الأب متى المسكين حيرة العلماء في هذا الاختلاف بين النص التوراتي المقروء والمنسوب إليه في الإنجيل، فيقول: "وقد اختلفت آراء العلماء في هذه الإضافة، إذ يقول البعض: إنها من وضع مسيحي متأخر، وآخرون مثل العالم ك. بروت يقول: إن هذه الإضافة هي بسبب جمع النصين في قراءة واحدة في الليتورجية اليهودية، بينما العالم ب. ريكه يقول بكل جرأة: إن المسيح نفسه أضافها بسلطان نبوته الخاصة" (7)، فالجميع مقر بأن العبارة مضافة غير موجودة في إشعيا 61، لكنهم مختلفون في تحديد شخص الذي أضافها، هل هو المسيح، أم اليهود، أم المسيحيون في زمن متأخر.

  • وأخيراً، فإن من التحريف ما تصرف به متى وهو ينقل عن سفر ميخا، فقال: " هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي" (متى 2/ 5 - 6)، فميخا لم ينف عن بيت لحم أنها الصغرى من مدن يهوذا، بل وصفها بأنها الصغيرة بين مدن يهوذا فقال: "أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على اسرائيل" (ميخا 5/ 2).

ثالثاً: انتشار التحريف في الصدر الأول

رأينا قبل أصحاب النصوص الإنجيلية وهم يقعون في التحريف، في الصدر الأول من النصرانية، وقد كثر حينذاك المنتحلون للنبوة والزاعمون أنهم يكتبون القصة الحقيقية لعيسى عليه السلام.

ومنذ ذلك الحين صدرت الدعوات تحذر من التحريف الذي يتعرض له الإنجيل.

وهذا الذي دعا بولس للقول: " إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم، ويريدون أن تحولوا إنجيل المسيح " (غلاطية 1/ 6 - 7)، فتحدث بولس عن أناس يريدون تحريف إنجيل المسيح الذي سبق الحديث عن فقده.

ويقول أيضاً: " ولكن ما أفعله سأفعله لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضاً فيما يفخرون به، لأن مثل هؤلاء رسل كذبة، فعلة ماكرون مغيرون من شكلهم إلى شبه رسل المسيح " (كورنثوس (2) 11/ 12 - 13).

ويقول يوحنا: " أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح ... لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم " (يوحنا (1) 4/ 1)، لقد أصبح إدعاء النبوة والتحريف مرضاً مستشرياً في القرن الميلادي الأول.

ويحذر التلميذ يهوذا من أولئك الذين زوروا كلاماً على المسيح " إنه قد دخل خلسة أناس قد كتبوا منذ القديم لهذه الدينونة، فجار يحولون نعمة إلهنا ... هو ذا قد جاء الرب ليضع دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم ... وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار ... إنه في الزمن الأخير سيكون قوم مستهزؤون سالكين بحسب شهوات فجورهم " (يهوذا 4 - 18).

ويحذر بطرس من التحريف المعنوي بتغيير المعاني الصحيحة، فيقول: " كتب إليكم أخونا الحبيب بولس. أيضاً بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلها أيضاً متكلماً فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم " (بطرس (2) 3/ 15 - 16).

وكثرة التحريف والكتب التي تدعي الحق زوراً وكذباً هيّج لوقا لكتابة إنجيله، ففي مقدمته يقول: "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا ... أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمتَ به " (لوقا 1/ 1 - 4).

فلوقا رأى هذه الكتب الكثيرة محرفة، فكتب ما رآه صحيحاً، وقد بلغت هذه الكتب من الكثرة أن قاربت المائة.

وسريان التحريف وانتشاره انتشار النار في الهشيم جعل فاوستس (من فرقة المانويين في القرن الرابع) يصرخ، ويقول: " أنا أنكر الأشياء التي ألحقها في العهد الجديد آباؤكم وأجدادكم بالمكر، وعيبوا صورته الحسنة وأفضليته، لأن هذا الأمر محقق، إن هذا العهد الجديد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجل مجهول الاسم، ونسبه إلى الحواريين ورفقاء الحواريين ليعتبر الناس، وقد آذى بذلك الدين ... فقد ألف الكتب التي تمتلئ بالأغلاط والمتناقضات ".

وكان الفيلسوف كلزوس (ق2) يقول: " بدل المسيحيون أناجيلهم ثلاث مرات أو أربع مرات، بل أزيد من هذا تبديلاً، كأن مضامينها بُدلت ". (9)

وتقول مقدمة الرهبانية اليسوعية لرسالة يعقوب بأنه شاع في عصر المسيحية الأول نسبة المؤلفين المجهولين كتاباتهم إلى شخصيات مشهورة.

[استحلال آباء الكنيسة للتحريف]

ولكن الداهية التي ساهمت بانتشار التحريف هي ما يذكره المؤرخ وليم ميور في كتابه " تاريخ كليسيا " (الكنيسة)، حيث قال: إن أوريجانوس وغيره أفتوا بجواز جعل الكتب الكاذبة، ونسبتها إلى الحواريين أو التابعين أو إلى قسيس من القسيسين المشهورين.

يؤكد المؤرخ موشيم سهولة وقوع التحريف في الصدر الأول لانتشار مقولة أفلاطون وفيثاغورث " أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق عبادة لله، ليس بجائزين فقط، بل قابلان للتحسين، وتعلم أولاً منهم يهود مصر هذه المقولة قبل المسيح .. ثم أثر وباء هذه الغلط السوء في المسيحيين كما يظهر ". (10)

وقد كان بولس نموذجاً صارخاً لهذا النوع من التحريف باسم الدين، وقد اعترف به فقال: "إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده، فلماذا أدان بعد كخاطئ" (رومية 3/ 7).

[من كتب العهد الجديد؟]

نشرت مجلة تايم في عددها الصادر في اكتوبر 1986 مقالاً عن ندوة دولية حضرها 120 مشاركاً نصرانياً درسوا صحة الأقوال المنسوبة للمسيح في الأناجيل الأربعة، فوجدوا أنه لا يصح منها سوى 148 قولاً من بين 758 قولاً منسوباً إليه.

وذكر كتاب ( The Five Gospels: The Search for the Authentic Words of Jesus) " الأناجيل الخمسة " الذي أصدرته الندوة عام 1993م أن 18% فقط من الأقوال التي تنسبها الأناجيل إلى يسوع ربما يكون قد نطق بها فعلاً.

وفي اجتماع الندوة 1995 قرروا أن رواية ميلاد يسوع غير حقيقية سوى ما يتعلق باسم أمه، ومثله قصة آلام المسيح ومحاكمته، ونشروا ذلك في كتاب: ( The Acts of Jesus: The Search for the Authentic Deeds of Jesus) . (11)

رابعاً: ظهور الطباعة، والتحريف الطباعي للعهد الجديد

وفي القرن السادس عشر ظهرت الطباعة وأدواتها، ليظهر معها نوع جديد من أنواع التحريف، يؤكد أن القوم قد استمرؤوا باطلهم وتحريفهم.

وقد أصدر ارازموس سنة 1516م أول طبعاته.

وفي عهد الملك جيمس الأول ملك انجلترا واسكتلندا عقد مؤتمر ديني عام 1604م أسفر عن تشكيل لجنة ترجمة من البروتستانت تولت إنتاج النص الرسمي للكتاب المقدس باللغة الإنجليزية، وختم الملك جيمس هذه النسخة بخاتمه، وطبعت سنة 1611م.

ومنذ عهد الملك جيمس توالت الطعون لهذه الترجمة الأشهر في تاريخ المسيحية، فقد رفعت للملك جيمس عريضة تقول: " إن الزبورات التي هي داخلة في كتاب صلاتنا مخالفة للعبري بالزيادة والنقصان والتبديل في مائتي موضع تخميناً ".

وقال بروتن للقسس: " إن ترجمتكم الإنجليزية المشهورة حرفت عبارات كتب العهد العتيق في ثمانمائة وثمان وأربعون موضعاً، وصارت سبباً لرد أناس غير محصورين كتب العهد الجديد ودخولهم النار ".

وتوالت الطعون لهذه الترجمة والتي عنها ترجم العهد الجديد إلى أكثر لغات العالم.

وفي عام 1881م عُدلت نسخة الملك جيمس، وسميت بالنسخة القياسية المنقحة، ثم نقحت 1951م، وسميت أيضاً " النسخة القياسية المنقحة " ( R.S.V) ، وكان تنقيحها على يد اثنين وثلاثين عالماً لاهوتياً تساندهم هيئة استشارية تمثل خمسين طائفة دينية، ثم أعيد تنقيحها عام 1971م، وصدرت بنفس الاسم ( R.S.V) ، وجاء في مقدمة هذه الطبعة: " لكن نصوص الملك جيمس بها عيوب خطيرة جداً ... وإن هذه العيوب والأخطاء عديدة وخطيرة، مما يستوجب التنقيح في الترجمة الإنجليزية ".

ومما حذفته النسخة المنقحة نص يوحنا المشهور في التثليث (انظر يوحنا (1) 5/ 7) ونهاية إنجيل مرقس (انظر 16/ 9 - 20). (12)

وتبدو إمكانية تطوير النص أيضاً عند الكاثوليك، حيث جاء في مقدمة العهد الجديد للكاثوليك " بوسعنا اليوم أن نعد نص العهد الجديد نصاً مثبتاً إثباتاً حسناً، وما من داع إلى إعادة النظر إلا إذا عثر على وثائق جديدة ". (13)

وقد كان الكاثوليك قد أصدروا نسخة لاتينية خاصة بهم تسمى نسخة " دوي "، وطبعت لأول مرة عام 1582م ثم 1609م، وتختلف هذه النسخة عن نسخة الملك جيمس المعاصرة لها في أمور أهمها زيادة سبعة من الأسفار التوراتية (الأبوكريفا) غير موجودة في ترجمة الملك جيمس البروتستانتية.

[أمثلة لتحريف الطبعات]

وقد لجأ المحرفون إلى وسائل مستحدثة في التحريف، منها أنهم تعمدوا وضع إضافات للنص المطبوع، وجعلت هذه الإضافات في أقواس للدلالة على عدم وجودها في أقدم المخطوطات المعتمدة، وأنها إضافات تفسيرية.

ثم وفي طبعات أخرى تختفي الأقواس، ويصبح ما بين الأقواس جزء من النص المقدس، وفي طبعات أخرى تم حذف الأقواس وما بينها، فأي هذه النصوص كلمة الله؟ ومن الذي يحق له أن يزيد وينقص في الكتاب المقدس؟ أولا تزاد له الضربات المكتوبة حين يزيد في الكتاب، أو يحذف اسمه من سفر الحياة والمدينة المقدسة حين يحذف بعضاً مما هو منه. (انظر الرؤيا 22/ 18 - 19).

- ولعل أهم أمثلة تحريف الطبعات قاطبة ما جاء في رسالة يوحنا الأولى " فإن الذين يشهدون (في السماء هم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والذين يشهدون في الأرض) هم ثلاثة الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد " (يوحنا (1) 5/ 7 - 8)، والفقرة الأولى التي تتحدث عن شهود السماء غير موجودة في جميع النسخ اليونانية القديمة، كما أنها غير موجودة في جلسات المجمع النيقي.

والنص موجود في سائر تراجم العهد الجديد المطبوعة بعد القرن السادس عشر الميلادي، ولا يخفى أن إضافة هذا النص كان ضرورياً لتثبيت عقيدة التثليث التي تفتقر لمثل هذا الدليل القوي في دلالته.

وقد اعترف محققو النصرانية بإلحاقية هذا النص، ومنهم كريسباخ وشولز، وهورن المتعصب، وجامعو تفسير هنري، والمنصر الشهير كارل بافندر، ومارتن لوثر الذي حذف النص من ترجمته.

وقد كتب إسحاق نيوتن رسالة بلغت خمسين صفحة أثبت فيها تحريف هذه العبارة التي بقيت في سائر الطبعات والتراجم بلغات العالم المختلفة إلى أواسط هذا القرن.

وفي عام 1952م أصدرت لجنة تنقيح الكتاب المقدس نسخة ( R. S. V) ، النسخة القياسية المراجعة، وكان هذا النص ضمن ما حذفه المنقحون، لكن هذا التنقيح لم يسرِ على مختلف تراجم الإنجيل العالمية. (14)

وكانت بعض الطبعات العربية القديمة قد وضعتها بين هلالين لتدل على عدم وجودها في المخطوطات القديمة كما في ترجمة الشرق الأوسط 1933م، ومثلها صنعت طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.

لكن الفقرة أضحت جزءاً من النص، حين أدرجت فيه من غير أهلة، وذلك في الكثير من التراجم العالمية والعربية، وننبه هنا إلى أن النص محذوف في معظم الطبعات الجديدة للكتاب المقدس كطبعة العالم الجديد والرهبانية اليسوعية الكاثوليكية في مختلف اللغات العالمية والعربية منها، وكذلك الترجمة العربية المشتركة، فإن هذه الترجمات حذفت هذا النص المهم، واعتبرته - على أهميته اللاهوتية - نصاً دخيلاً ملحقاً بالكتاب المقدس.

يبرر محققو الترجمة العربية المشتركة حذفهم للنص بقولهم: "هذه الإضافة وردت في بعض المخطوطات اللاتينية القديمة" أي أنها من إضافة بعض المترجمين الذين ترجموا الكتاب من اليونانية إلى اللاتينية، ويجدر بالذكر هنا أن ترجمة القديس جيروم اللاتينية (الفولجاتا) لم تتضمن هذا النص.

- ومن النصوص المهمة أيضاً التي تعرضت لتحريف الطبعات، النصان الوحيدان اللذان يتحدثان عن صعود المسيح للسماء في خاتمة مرقس (16/ 19)، و (لوقا 24/ 51)، وقد حذف النصان من ( R. S. V) عام 1952م، وبقيا في سائر التراجم العالمية.

ثم في 1971م عرض أمام اللجنة (المنقحة) طلبات عديدة قدمها اثنان من الأفراد، وطائفتان دينيتان، ونتيجة لهذه الطلبات تم إعادة نص التثليث وخاتمة مرقس (16/ 9 - 20)، و (لوقا 24/ 51) في طبعة ثانية صدرت باسم ( R. S. V) أيضاً. (15)

أما الترجمة العربية المشتركة، فقد وضعت خاتمة مرقس بين معقوفتين، وأشارت في هامشها إلى أنه "لا يرد في أقدم المخطوطات".

- ومن صور تحريف الأقواس أنه جاء في إنجيل مرقس حسب ترجمة الشرق الأوسط التي اعتمدناها في هذه السلسلة " فاخرجوا من هناك، وانفضوا التراب الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم، (الحق أقول لكم: ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة) " (مرقس 6/ 11)، ولعل القارئ الكريم يلحظ أن بعض عباراتها كان بين أقواس، للدلالة على أنه زيادة تفسيرية في المتن، وليست أصلية.

لكنه وفي طبعات أخرى أزيلت الأقواس، وأدرج ما بينها في المتن، فيما حذفت النسخة الكاثوليكية - (ط. دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط 1992) - الأقواس وما بينها، وكذلك صنعت الترجمة العربية المشتركة، فهل هذه العبارة من كلمة الله أم لا؟ سؤال نطرحه على أولئك الذين ما زالوا يصرخون بأن الكتاب المقدس محفوظ من التحريف والتبديل، وأن زوال السماوات والأرض أيسر من ضياع حرف واحد منه!

ومثل هذا الصنيع سواء بسواء تكرر في عدد من المواضع، منها ما جاء في متى " (لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد) " (متى 6/ 13).

ومثله صنعت بعض الطبعات في قول بولس:" فلا تأكلوا من أجل ذاك الذي أعلمكم والضمير (لأن للرب الأرض وملأها) " (كورنثوس (1) 10/ 28)، وأما محققو الترجمة العربية المشتركة، فقد تلاعبوا في النص، فجعلوا ما بين الأقواس اقتباساً من المزمور 24، فقالوا: "فالكتاب يقول: الأرض وكل ما عليها للرب".

ومثله في استهلال بولس لرسالته إلى أهل كولوسي، حيث يقول: "إلى القديسين في كولوسي والإخوة المؤمنين في المسيح، نعمة لكم، وسلام من الله أبينا (والرب يسوع المسيح) " (كولوسي 1/ 2)، ومابين الأقواس محذوف في نسخة الكاثوليك (الرهبانية اليسوعية)، كما حذفته نسخة ترجمة العالم الجديد لعدم أصالته، ومثلهما صنع محققو الترجمة العربية المشتركة.

- وفي مواضع أخرى يتردد طابعو الكتاب المقدس (في الترجمات العربية والعالمية) في إيراد بعض النصوص، ولا يتفقون على أصالتها، إذ بعض الطبعات توردها داخل أقواس، لتنبه على عدم أصالتها، فيما يحذف آخرون النصوص، ويعتبرونها دخيلة على الكتاب ملفقة فيه، لكن ذلك لن يمنع نسخاً أخرى من حذف الأقواس، وجعل ما كان ما بينها جزءاً من كلمة الله التي لا تتبدل ولا تتغير!

ومن ذلك قول متى "ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، (لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة) " (متى 27/ 35)، فالطبعة الكاثوليكية الصادرة عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط تحذف الأقواس، وتجعل ما بينها جزءاً من النص، مخالفة النص البرتستانتي الذي يضعه بين أقواس، منبهاً بذلك على أنه إضافة تفسيرية، وليس من كلمة الله، أما نسخة ترجمة العالم الجديد لشهود يهوه فقد حذفت الأقواس وما بينها، ومثله صنعت نسخة الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية والترجمة العربية المشتركة.

ومثله سواء بسواء في قول متى: " (ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تأكلون بيوت الأرامل، ولعله تطيلون صلواتكم، لذلك تأخذون دينونة أعظم) "

(متى 23/ 14)، إلا أن الترجمة العربية المشتركة أبقت النص بين معقوفتين، وأشارت في الهامش إلى أن هذه الفقرة "لا ترد في معظم المخطوطات القديمة".

وكذا صنع الطابعون تحريفاً آخر في رسالة العبرانيين، فحرفوا ما كتبه كاتبها المجهول في قوله: "وضعته قليلاً عن الملائكة، بمجد وكرامة كللته، (وأقمته على أعمال يديك)، أخضعت كل شيء تحت قدميه" (عبرانيين 2/ 7 - 8). وهذه الزيادة أثبتتها طبعات كثيرة بغير أقواس، وحذفتها الترجمة العربية المشتركة ونسخة الرهبانية اليسوعية، التي تقول: "وكللته بالمجد والكرامة، وأخضعت كل شيء تحت قدميه".

- وفي مواضع أخرى من العهد الجديد رفعت الأقواس وتغير ما كان بينها، فقد جاء في النص البرتستانتي:"وإن كان روح أو ملاك قد كلمه (فلا نحاربنّ الله) " (أعمال 23/ 9)، لكن النسخة الكاثوليكية والترجمة العربية المشتركة أزالتا الأقواس وما بينها، وأصبح النص في النسخة الكاثوليكية هكذا: "إن كان قد كلمه ملاك أو روح فماذا لنا"، وأما نسخة الرهبانية اليسوعية فحذفت الأقواس، وغيّرت النص، فأضحى: "فلربما كلمه روح أو ملاك"، وأما نسخة ترجمة العالم الجديد فقد حذفت الأقواس وما بينها، ووضعت بدلاً عن المحذوف نقطاً للدلالة على وجود سقط في النص.

- وأما قول المؤلف المجهول لرسالة العبرانيين "وإن مست الجبل بهيمة ترجم (أو ترمى بسهم) " (عبرانيين 12/ 20)، فقد حذفته الرهبانية اليسوعية وترجمة دار الكتاب المقدس الكاثوليكية، فيما أثبتته الترجمة العربية المشتركة ضمن كلمة الله التي يزعمون أنها تثبت إلى الأبد.

- وفي أحايين أخرى لجأ المحرفون إلى الحذف أو الزيادة من غير أن يعوزهم أقواس يحذفونها أو يثبتونها حسب ما يتبدى لهم، ومن صور ذلك ما جاء في سفر أعمال الرسل

في نسخة الشرق الأوسط البرتستنتية والأخرى الكاثوليكية في سياق قصة فيلبُس مع عبد كنداكة ملكة الحبشة، وفيها أنهما مرا على ماء "فقال الخصي: هوذا ماء، ماذا يمنع أن أعتمد؟ فقال فيلبس: إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز، فأجاب وقال: أنا أُومن أن يسوع المسيح هو ابن الله، فأمر أن تقف المركبة، فنزلا كلاهما إلى الماء ... " (أعمال 8/ 36 - 38)، وهذا الحوار الذي جرى بعد رؤيتهما للماء لم تذكره نسخة شهود يهوه المسماة ترجمة العالم الجديد، كما حذفته نسخة الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية، والنص فيها: "فقال الخصي: هذا ماء، فما يمنع أن أعتمد؟ ثم أمر بأن تقف المركبة، ونزلا كلاهما في الماء "، وسبب حذفها له أن لم يرد في معظم المخطوطات القديمة.

وجاء في إنجيل يوحنا في سياق حديثه عن مجيء المسيح إلى بركة بيت حسدا، حيث لقي العميان والعرج والكسح، وفي ثناياه يقول بأنهم كانوا: " يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكاً كان ينزل أحياناً في البركة، ويحرك الماء، فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه" (يوحنا 5/ 3 - 4)، فهذه الفقرة محذوفة من عدد من النسخ والتراجم العالمية، ومنها الترجمة العربية المشتركة ونسخة الرهبانية اليسوعية التي بررت حذف هذا النص بقولها: "لم يرد في عدد كبير من المخطوطات، منها القديمة خاتمة الآية 3 والآية 4".

ومما عمد المحرفون فيه - من الطابعين والمترجمين - إلى تحريف النص من غير وضع أقواس ولا حذفها؛ تحريفهم لسؤال يسوع الذي سأله للأعمى الذي شفاه، ففي الترجمة المشهورة: "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجاً، فوجده، وقال له: أتؤمن بابن الله؟ " (يوحنا 9/ 34 - 35).

وقوله: "ابن الله" تحريف لقول المسيح، الذي قال حسب نسخة الرهبانية اليسوعية والترجمة العربية المشتركة وغيرهما من النسخ والتراجم العالمية: "أتؤمن أنت بابن الإنسان؟ "، فحرفوها إلى "ابن الله".! (16)

وأخيراً جاء في إنجيل لوقا أن المسيح قال لليهود: " من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالاً في يوم السبت" (لوقا 14/ 5)، وكلمة "حماره" استبدلتها العديد من التراجم العالمية بكلمة "ابنه" ومن بينها الترجمة العربية المشتركة ونسخة الرهبانية اليسوعية، وفيها: "من منكم يقع ابنه أو ثوره في بئر فلا يخرجه منها".

وهكذا يحار القارئ الكريم في التوفيق بين هذه النصوص المختلفة، ويبقى السؤال يطوف بمخيلته: أي هذه النصوص هو وحي الله؟

 


(1) وانظر اتفاق البشيرين، القس سمعان كلهون، ص (241).

(2) انظر دائرة المعارف الكتابية (2/ 511).

(3) المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (95 - 97).
(4) انظر: عقائد النصارى الموحدين بين الإسلام والمسيحية، حسني الأطير، ص (208).

(5) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (2/ 443).

(6) المدخل إلى العهد القديم، القس الدكتور صموئيل يوسف، ص (367).

(7) اتفاق البشيرين، القس سمعان كلهون، ص (86).

(8) الإنجيل بحسب القديس لوقا (دراسة وتفسير وشرح)، الأب متى المسكين، ص (202).

(9) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (2/ 542).

(10) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (1/ 69، 2/ 557 - 558).

(11) انظر: الكتاب المقدس في الميزان، عبد السلام محمد، ص (104).

(12) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (2/ 572 - 573)، المناظرة الحديثة، أحمد ديدات، ص (133 - 139)، هل الكتاب المقدس كلمة الله؟ أحمد ديدات، ص (18 - 19).
(13) انظر: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس، أحمد عبد الوهاب، ص (26).

(14) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (2/ 497 - 504)، البرهان المبين في تحريف أسفار السابقين، أحمد عبد الوهاب، ص (34 - 38)، هل الكتاب المقدس كلمة الله؟ أحمد ديدات، ص (26 - 28).

(15) انظر: هل الكتاب المقدس كلمة الله؟ أحمد ديدات، ص (26 - 28)، مناظرتان في استكهولم، أحمد ديدات، ص (65).

(16) ومثل هذه الصور من تحريف الأقواس وغيره كثيرة يطول المقام بتتبعها (انظر متى 18/ 11، 19/ 9، 20/ 16، 20/ 23، 23/ 14، مرقس 7/ 8، 7/ 16، 9/ 44، 10/ 21، 11/ 26، 15/ 28، لوقا 1/ 28، 8/ 45، 11/ 11، 17/ 36، 23/ 17، 24/ 42، يوحنا 3/ 13، 11/ 41، أعمال 9/ 5 - 6، 15/ 34، 24/ 6 - 7، 28/ 29، رومية 11/ 6، بطرس (1) 4/ 14)، وغيرها.

 

 

  • الخميس PM 03:03
    2022-05-12
  • 1335
Powered by: GateGold