المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412472
يتصفح الموقع حاليا : 393

البحث

البحث

عرض المادة

المزمور الثامن عشر بعد المائة (نبوءة بنجاة المسيح من الموت)

وكذا يؤمن النصارى أن المزمور الثامن عشر بعد المائة نبوءة عن المسيح عليه السلام، إذ يتحدث المزمور في آخره عن الحجر الذي رفضه البناؤون، فيقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا ... مبارك الآتي باسم الرب"، وقد اعتبره بطرس نبوءة عن المسيح المصلوب متناسياً ما جاء في مقدمة المزمور عن هذا الحجر العظيم، يقول بطرس: "فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً، هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية " (أعمال 4/ 10 - 11).

يقول الأب متى المسكين: "أما المزمور 118 فهو أغنى المزامير في وصف رسالة المسيح الخلاصية". (1)

وينقل تادرس يعقوب ملطي في شرحه لإنجيل متى عن القديس كيرلس قوله: «المخلّص هو الحجر المختار، وقد رذَله هؤلاء الذين كان يجب عليهم بناء مجمع اليهود، وقد صار رأس الزاوية. يشبِّهه الكتاب المقدّس بحجر زاوية، لأنه يجمع الشعبين معًا: إسرائيل والأمم في إيمان واحد وحب واحد (أف2: 15)» (2).

يقول المزمور متحدثاً عن الحجر الذي رفضه البناؤون: "من الضيق دعوت الرب فأجابني، من الرحب، الرب لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان، الرب لي بين معينيّ، وأنا سأَرى بأعدائي، الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء" (المزمور 118/ 5 - 9)، لقد توكل المسيح على الرب، الذي أجابه من الضيق وأعانه.

ثم يتحدث المزمور عن أعداء المسيح ومؤامرتهم عليه، ويترنم بانطفاء نارهم وإبادتهم، وفشل مؤامرتهم، فيقول: " كل الأمم أحاطوا بي، باسم الرب أبيدهم، أحاطوا بي واكتنفوني، باسم الرب أبيدهم، أحاطوا بي مثل النحل، انطفأوا كنار الشوك، باسم الرب أبيدهم، دَحَرَتني دحوراً لأسقط، أما الرب فعضدني، قوتي وترنمي الرب، وقد صار لي خلاصاً" (المزمور 118/ 10 - 15).

لقد خلصه الله من الموت ولم يسلمه إليه، لذا فهو يبتهج ويفرح باستجابة الله له وبخلاصه من الموت " صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين، يمين الرب صانعة ببأس، يمين الرب مرتفعة، يمين الرب صانعة ببأس، لا أموت، بل أحيا، وأحدث بأعمال الرب، تأديباً أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني، افتحوا لي أبواب البر، ادخل فيها، واحمد الرب، هذا الباب للرب، الصديقون يدخلون فيه، أحمدك لأنك استجبت لي، وصرت لي خلاصاً، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلّص، آه يا رب أنقذ، مبارك الآتي باسم الرب" (المزمور 118/ 15 - 26)، فالمزمور كما رأيتَ شهادة أخرى بنجاة المسيح وخلاصه من يد أعدائه.


(1) الإنجيل بحسب القديس متى (دراسة وتفسير وشرح)، الأب متى المسكين، ص (84).
(2) من تفاسير الآباء الأولين، تفسير إنجيل متى، القمص تادرس يعقوب ملطي، ص (452).

وذات الصورة تتكرر في سائر إصحاحات سفر المزامير الذي يعتبره القمّص سرجيوس سفر مسيّا الخاص، ونختم منه باقتباس من المزمور الأربعين بعد المائة، وفيه: "أنقذني يا رب من أهل الشر، من رجل الظلم احفظني. الذين يتفكرون بشرور في قلوبهم، اليوم كله يجتمعون للقتال، سنّوا ألسنتهم كحية، حمة الأفعوان تحت شفاههم. سلاه. احفظني يا رب من يدي الشرير، من رجل الظلم أنقذني، الذين تفكروا في تعثير خطواتي. أخفى لي المستكبرون فخاً وحبالاً، مدوا شبكة بجانب الطريق، وضعوا لي أشراكاً. سلاه، قلت للرب: أنت إلهي، أصغ يا رب إلى صوت تضرعاتي ... لا تعط يا رب شهوات الشرير، لا تنجح مقاصده" (المزمور 140/ 1 - 8).

[خلاصة نبوءات المزامير]

ويخلص الأستاذ العلامة منصور حسين في دراسته الرائعة إلى نتيجة واضحة بينة، ويسطرها في قوله: " مِن جماع ما تقدم لا نخلص إلا بأن المزامير تنبأت بحق بأن الله مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، يرفعه من أبواب الموت، يرفعه فوق القائمين عليه، يرسل من العُلا فيأخذه.

أما يهوذا الإسخريوطي الذي حفر له هذه الحفرة، وأتى على رأس الجمع من جنود وخدام ليقبضوا عليه، على المسيح سيده، فإنه في الحفرة نفسها يقع، وبعمل يديه يعلق، رجع تعبه على رأسه، وعلى هامته هبط ظُلمه، صار عاراً عند البشر، فقبض عليه هو بدلاً من المسيح، وحوكم هو، وصلب بدلاً منه.

وهكذا تستقيم النبوءة في المزامير، وهكذا تتجلى النبوءة في المزامير، في أسطع وأروع وأسمى ما تكون النبوءة، ليست آية نحرفها، أو كلمة نُحوّر معناها، بل صورة كاملة، عشرات الآيات، عشرات المزامير، كلها تنطق بصورة واحدة متكاملة، تتكرر كثيراً، ولكن أبداً لا تتغير.

هذه الحقيقة هي تلك التي نطق بها القرآن، واعتقدها المسلمون ... ولمن يريد أن يزيد يقيناً، فها هي المزامير كلها في الكتاب المقدس، الذي يؤمن به المسيحيون، ويتداولونه، وإليها فليرجع، ولن يزيده هذا إلا يقيناً وتقديراً لهذه الحقيقة التي انتهينا إليها .. ".

وإذا أراد القارئ المزيد من اليقين فليقرأ ما جاء في سفر الأمثال: " الأشرار يكونون كفارة لخطايا الأبرار " (الأمثال 21/ 18)، وليتأمل بمزيد عناية قوله: " بر الكامل يقوم طريقه، أما الشرير فيسقط بشره، بر المستقيمين ينجيهم، وأما الغادرون فيؤخذون بفسادهم، الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه " (الأمثال 11/ 5 - 8).

ولا يفوتنا في خاتمة هذا المبحث أن نذكر أن الاحتجاج بنبوءات المزامير على نجاة المسيح قديم، بل يرجع للمسيح - إن صح ما في إنجيل برنابا -، فقد جاء فيه أن المسيح قال: " إن واحداً منكم سيسلمني، فأباع كالخروف، ولكن ويل له، لأنه سيتم ما قاله داود أبونا عنه، أنه سيسقط في الهوة التي أعدها للآخرين" (برنابا 213/ 24 - 26).

وإذا قلنا: إن المزامير بشرت بنجاته، فللنصارى أن يقولوا: كيف لم يعرف المسيح ذلك من العهد القديم؛ لم قال عن نفسه بأنه سيصلب كما في الأناجيل؟

والإجابة عن هذا التساؤل لا تلزمنا نحن المسلمين الذين لا نعتد بما جاء في هذه الكتب، إلا ما قام على صدقه وتوثيقه دليل من ديننا.

ثم القصة هي امتحان للمسيح عليه السلام، كما كان الأمر بالذبح امتحاناً لإبراهيم وابنه الوحيد، ولو عرف المسيح نتيجة الامتحان مقدماً لما كان له أي معنى، كما لو عرفها إبراهيم، فلذلك خفيت عليه، وليس لقصور فهمه أو إدراكه، حاشاه، ولكن لتتحقق إرادة الله بامتحانه، ونجاحه في الامتحان.

ثم لا يمكن القطع بأن المسيح لم يعرف المعنى الصحيح الذي تدل عليه النبوءات، بل قد يكون المسيح عرف ذلك، فلجأ إلى الله يتضرع إليه ويسأله صرف هذه الكأس، لأنه عرف أن الله يستجيب دعاءه وتضرعه، بينما لو وافقنا الرواية الإنجيلية بأن المسيح علم أنه سيصلب ثم صلب، فما فائدة تضرعه ودعائه، ولم كان جزعه يأسه وصراخه على الصليب "لماذا تركتني"؟

كما ثمة أمر آخر يجدر التنبه له، وهو أن فهم النبوءات لا يعني يقيناً معرفة الساعة، وتحديد اليوم الذي سيسعى أعداؤه فيه للقبض عليه، فهذا قد يكون سبب خفاء وقت تحقق هذه النبوءات على المسيح عليه الصلاة والسلام.

[هل ما جاء في سفر إشعيا نبوءة عن صلب المسيح؟]

لكن النصارى يرون أن ثمة نبوءة في غير المزامير قد وردت عن صلب المسيح، ألا وهي ما جاء في إشعيا 52 و 53، وفيه: " هو ذا عبدي يعقل، ويتعالى، ويرتقي ويتسامى جداً، كما اندهش منه كثيرون، كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم، هكذا ينضح أمماً كثيرين، من أجله يسد ملوكُُ أفواههم، لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به، وما لم يسمعوه فهموه.

من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب، نبت قدامه كفرخ، وكعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستَّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به.

لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصلوباً، مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا، كلنا كغنم ضللنا، مِلْنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظلم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه.

من الضغطة، ومن الدينونة أُخذ، وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته، على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش.

أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنحج، من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها، لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء، يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمةٍ، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين " (إشعيا 52/ 13 - 53/ 12).

ويربط النصارى بين هذا السفر وبين ما جاء في مرقس " فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة " (مرقس 15/ 28)، ومقصوده كما لا يخفى ما جاء في إشعيا " سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمة " ومثله في سفر أعمال الرسل. (انظر أعمال 8/ 22 - 23).

والنص ولا ريب قد تعرض للكثير من التلاعب والتحوير، وتجزم بهذا التلاعب عندما تلحظ غموض عباراته، وحين تقارن نص إشعيا مع ما جاء في أعمال الرسل، وهو ينقل عنه، وفيه " وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه، فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزه، هكذا لم يفتح فاه، في تواضعه انتزع قضاؤه، وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض " (أعمال 8/ 32 - 33)، فثمة فروق بين ما جاء في إشعياء وما نقله عنه أعمال الرسل.

فالنعجة في سفر إشعيا تحولت في أعمال الرسل إلى خروف، و "من الضغطة، ومن الدينونة أُخذ" أضحت: "في تواضعه انتزع قضاؤه".

لكن الفارق الأكبر بين السفرين نجده في قول إشعيا: "وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء"، فيما يقول سفر الأعمال: " وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض".

كما أن النص الكاثوليكي للسفر يزيد عبارة أسقطتها الطبعات البروتسنتية لما فيها من إبهام، ففي نسخة الشرق الأوسط الكاثوليكية "من الضيق والقضاء أُخذ، ومن يصف مولده، إنه قد انقطع من أرض الأحياء"، فقوله: "ومن يصف مولده" نص موجود في الترجمة السبعينية واللاتينية، وتسقطه النسخ التي اعتمدت النص العبراني فقط.

أما نسخة الرهبانية اليسوعية فقد حورت النص ليتلائم مع السياق الذي تريده، فجعلته "بالإكراه والقضاء أُخذ، فمن يفكر في مصيره، قد انقطع من أرض الأحياء"، فأضحى النص فيها متحدثاً عن صلب المسيح بدلاً من مولده! كما أضحى انتزاع حياته بالإكراه، لا مجرد ابتلاء وضيق!

- وجاء في خاتمة القصة في سفر أعمال الرسل في نسخة الشرق الأوسط البرتستنتية، والأخرى الكاثوليكية أن فيلبُس مر مع العبد الحبشي على ماء " فقال الخصي: هوذا ماء، ماذا يمنع أن أعتمد؟ فقال فيلبس: إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز، فأجاب وقال: أنا أُومن أن يسوع المسيح هو ابن الله، فأمر أن تقف المركبة، فنزلا كلاهما إلى الماء ... " (أعمال 8/ 36 - 38)، وهذا الحوار الذي جرى بعد رؤيتهما للماء لم تذكره نسخة شهود يهوه المسماة ترجمة العالم الجديد، كما حذفته نسخة الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية، والنص فيها: "فقال الخصي: هذا ماء، فما يمنع أن أعتمد؟ ثم أمر بأن تقف المركبة، ونزلا كلاهما في الماء".

وهذه الفروق وذلك التلاعب يدلنا على مدى الحرية التي تعامل بها القديسون أو المترجمون للنصوص الكتابية.

لكن التحريف الأكبر الذي صنعه النصارى لنص إشعيا هو اجتثاثه من سياقه الذي كان يتحدث عن عودة بني إسرائيل من السبي وفداء الله لهم وخلاصهم من ذلهم، فالقصة التوراتية لا تبدأ من حيث يبدأ النصارى "هوذا عبدي يعقل ويتسامى"، فإن الابتداء بها بتر للنص وإخراج له عن سياقه ومعناه الطبيعي، حيث يقول: "هكذا قال السيد الرب: إلى مصر نزل شعبي أولاً ليتغرب هناك، ثم ظلمه آشور بلا سبب، فالآن ماذا لي هنا، يقول الرب: حتى أُخذ شعبي مجاناً ... صوت مراقبيك يرفعون صوتهم، يترنمون معاً، لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون، شيدي ترنمي معاً يا خِرب أورشليم، لأن الرب قد عزى شعبه، فدى أورشليم، قد شمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا، اعتزلوا اعتزلوا، اخرجوا من هناك لا تمسوا نجساً، اخرجوا من وسطها (في نسخة كتاب الحياة التفسيرية: اخرجوا من وسط بابل)، تطهروا يا حاملي آنية الرب، لأنكم لا تخرجون بالعجلة، ولا تذهبون هاربين، لأن الرب سائر أمامكم، وإله اسرائيل يجمع ساقتكم، هوذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً ... " (إشعيا 52/ 3 - 13).

وبعد انتهاء النبوءة - المدعاة عن المسيح - عاد النص للحديث عن عزاء أمة بني إسرائيل بعد عذابها الطويل في بابل، قيقول مخاطباً أورشليم: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل. قال الرب: أوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي، أطيلي أطنابك، وشددي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمماً، ويعمر مدناً خربة، لا تخافي لأنك لا تخزين، ولا تخجلي لأنك لا تستحين، فإنك تنسين خزي صباك، وعار ترملك لا تذكرينه بعد، لأن بعلك هو صانعك، رب الجنود اسمه" (إشعيا 54/ 1 - 5).

لذا حق للمحققين أن يروا ما ورد في إشعيا نصاً حُور لفظاً ومعنىً لينطبق على المسيح، ودليل ذلك أن المسيح لم يخبر أن ما جاء في إشعيا نبوءة عنه المسيح، فالمسيح لم يشر إلى هذه النبوءة من قريب أو بعيد.

والمسلمون لا يرون في هذا النص أي نبوءة عن المسيح، ويستغربون ويستنكرون ربط النصارى بين نص إشعيا وقصة الصلب في الأناجيل، فنص إشعيا يتحدث وفي أكثر من موضع عن عبد، فيما يقول النصارى بألوهية المسيح، فكيف يجمعون بين عبوديته لله وألوهيته في وقت واحد.

وهذا العبد قبيح في منظره، مخذول محتقر لا يعتد به، فهو ليس المسيح على أي حال " هو ذا عبدي ... كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم .. لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به"، أفهذه صورة المسيح عندهم؟.

والنص أيضاً يتحدث عن الذي " لم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه "، بينما المسيح تكلم مراراً وتكراراً، فقد تكلم طويلاً في البستان، وهو يناجي، طالباً من الله أن يعبر عنه هذه الكأس ... ثم نطق فقال لبيلاطس أثناء محاكمته: " أنت تقول: إني ملك، لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل من هو في الحق يسمع صوتي " (يوحنا 18/ 37).

وكان قد قال له قبل: " مملكتي ليست في هذا العالم، لو كانت مملكتي في هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هذا " (يوحنا 18/ 36).

كما تكلم في المحاكمة لما لطمه أحد الخدم فأجابه المسيح: " إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني؟ " (يوحنا 18/ 22).

فإن أصر النصارى بعد ذلك على أن النبوءة تنطبق على المسيح، فقد قالوا إذاً بأن المسيح تكلم وهو مغلق الفم!!!

كما يذكر نص إشعيا شجاعة وتماسكاً لا تتناسب وصراخ المصلوب، وجزعه، وقنوطه، فالمصلوب لم يظهر كشاة أمام جازيها صامتة، "وهكذا لم يفتح فاه "، بل كان يصرخ على الصليب: "إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ " (متى 27/ 46).

والنص متحدث عن صاحب نسل وولد، فيقول: " يرى نسلاً تطول أيامه "، وقد سُرّ الرب بعذابه وبالعاهات التي تصيبه " وأما الرب فسُرّ بأن يسحقه بالحزن "، والنص في النسخة الكاثوليكية يفسر الحزن بالعاهات، فيقول: "والرب رضي أن يسحقه بالعاهات"، وفي نسخة الرهبانية اليسوعية: "والرب رضي أن يسحق ذاك الذي أمرضه"، فهل يسَرُّ الله لأحزان عبده البار، المسيح عليه الصلاة والسلام، وهل كان المسيح مصاباً بعاهة من العاهات أو مرض من الأمراض؟

ويرى الأستاذ محمد الأفندي (1) أن لا علاقة بين هذا الإصحاح في إشعيا، وبين حادثة الصلب، فالإصحاح يتحدث عن قصة بني إسرائيل، وذلهم في بابل بسبب معاصيهم ومعاصي سلفهم، فحاق بهم عقوبة الله التي عمّت صالحيهم وفجارهم، ثم أنعم الله عليهم بالعود من بابل مرة أخرى إلى فلسطين، وهذا المعنى هو ما كان يتحدث عنه السياق التوراتي في سفر إشعيا.

وقوله: " هو ذا عبدي .. كما اندهش منك كثيرون كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم " فالمقصود بالعبد شعب إسرائيل.

وقد عُهد في التوراة إطلاق لفظ الفرد، والمراد الشعب كما في إشعيا: "يقول الرب، خالقك يا يعقوب، وجابلك يا إسرائيل ... وإذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك، لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل، مخلصك، جعلت مصر فديتك " (إشعيا 43/ 1 - 3)، وفي سفر ميخا: " إني أجمع جميعك يا يعقوب" (ميخا 2/ 12)، ومثله في مواضع كثيرة، منها (إشعيا 41/ 8) و (ميخا 1/ 5)، والمقصود من ذلك كله شعب إسرائيل.

وفي إشعيا 52 و 53 يتنبأ النبي عن غربة بني إسرائيل ويصف ذلتهم، ثم يتحدث عن عودة أبنائهم من أرض السبي "نبت قدامَه كفرخ، وكعرق في أرض يابسة " فقد عادوا للأرض المقدسة، ونبتوا فيها، من جديد، كما في سفر النبي إرمياء "وأجعل عيني عليهم للخير، وأرجعهم إلى هذه الأرض، وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم، ولا أقلعهم" (إرمياء 24/ 6)، وقوله: "وأفرح بهم لأحسن إليهم، وأغرسهم في هذه الأرض بالأمانة بكل قلبي وبكل نفسي" (إرمياء 32/ 41). (وانظر إرمياء 31/ 27 - 28).

وقد تغيرت صورتهم بسبب الذل فكان الشعب " محتقر مخذول .. الرب وضع عليه إثم جميعنا " ويفسره قول إرميا وقد شاهد الأسر البابلي: " آباؤنا أخطؤوا، وليسوا بموجودين، ونحن نحمل آثامهم، عبيد حكموا علينا، ليس من يخلص من أيديهم، جلودنا اسودت من جري نيران الجوع " (المراثي 5/ 7 - 10).

وقوله: " ظلِم أما هو فتذلل " كقول سفر إشعيا عن اضطهاد بني إسرائيل على يد الآشوريين: "نزل شعبي أولاً ليتغرب هناك، ثم ظلمه آشور بلا سبب " (إشعيا 52/ 4)، وكقوله: "إن بني إسرائيل وبني يهوذا معاً مظلومون " (إرميا 50/ 33).

وأما قوله: " كشاة تساق إلى الذبح .... " فهو حديث ذبح ملك بابل لبني إسرائيل، وقد ساقهم كما تساق الشياه إلى الذبح، كما في قوله: " أنزلهم كخراف للذبح، وككباش مع أعتدة " (إرميا 51/ 40) فمات أكثرهم جوعاً، ونحوه قوله عنهم: "وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليّ أفكاراً قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها، ونقطعه من أرض الأحياء، فلا يذكر بعد اسمه" (إرميا 11/ 19).

وقوله: " وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته " إشارة إلى أن دفنهم في بابل كان مع الوثنيين، ولا يمكن للنصارى حمله على المسيح المدفون - حسب كتابهم - وحده في بستان، في قبر جديد، لم يدفن فيه معه لا شرير ولا غني.

وقوله: " أحصي مع أثمة " هو أيضاً يحكى عن وجود بني إسرائيل مع الوثنيين في بابل، ولا يصح أن يقال: الأثمة هما اللصان، إذ قد وعد أحدهما الفردوس، فكيف يوصف بعد ذلك بالآثم؟!

وقوله: "فسَّر أن يسحقه بالحَزَن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه"، وفي النسخة الكاثوليكية يتضح المعنى أكثر: "والرب رضي أن يسحقه بالعاهات، فإنه إذا جعل نفسه ذبيحة إثم يرى ذرية، وتطول أيامه"، وفي الترجمة التفسيرية المسماة كتاب الحياة: "فقد سُر الله أن يسحقه بالحزن، وحين يقدم نفسه ذبيحة إثم فإنه يرى نسله وتطول أيامه"، فالنص كما هو واضح ليس حديثاً عن المسيح الفادي، بل هو إشارة إلى تكفير الله خطايا بني إسرائيل بسبب توبتهم، حيث يرفع الله عنهم الاضطهادات، ويعيدهم إلى وطنهم، حيث تطول أيامهم ويعيشون ويتوالدون في فلسطين بعد السبي وآلامه وعاهاته وبلاياه.

وقوله: " على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش" حديث عن طهر أولئك الذين يعودون من السبي الذين عنهم "يقول الرب: لأني أصفح عن إثمهم، ولا أذكر خطيتهم بعد" (إرمياء 31/ 34)، كما قال عنهم: "وأرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل وأبنيهم كالأول، وأطهرهم من كل إثمهم الذي أخطؤوا به إليّ، وأغفر كل ذنوبهم التي أخطؤوا بها إليّ والتي عصوا بها عليّ" (إرمياء 33/ 7 - 8).

 


(1) انظر: عقيدة الصلب والفداء، محمد رشيد رضا، ص (106 - 122، 196)، فقد ضمنه كتاب الأفندي.

وأما قوله: " عبدي البار بمعرفته يبرر كثيرون، وآثامهم هو يحملها " يتحدث كيف شمل البؤس بررة بني إسرائيل وعصاتهم، كما قال الله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال: 125).

وإكراماً لهؤلاء البررة من بني إسرائيل، طهرهم الله من ذنبهم، ورفع عنهم هذه العقوبة، كما في إرميا: " في تلك الأيام يطلب إثم إسرائيل فلا يكون، وخطية يهوذا فلا توجد، لأني أغفر لمن أبقيه" (إرميا 50/ 20)، فقد حملوا خطيئة آبائهم، ثم غفرت ذنوبهم.

سوف يبدأ عهد جديد لا تضرس فيه أسنان الأبناء بحصرم آبائهم، ولا يعاقبون ثانية بجريرتهم، فقد تحملوا من آثامهم ما يكفي "في تلك الأيام لا يقولون بعد: الآباء أكلوا حصرماً، وأسنان الأبناء ضرست، بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه، ها أيام تأتي يقول الرب، وأقطع مع بيت اسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً" (إرميا 31/ 29 - 31). (1)

وهكذا فالإصحاح يتحدث عن شعب إسرائيل، وسبيه، وذلته، ثم نجاته. وهذا هو مفهوم النص عند اليهود وهم أصحاب الكتاب الأصليين، بل هو رأي كثير من المفسرين المسيحيين، كما نقل القس الخضري حين قال: "إن عدداً لا بأس به من المفسرين يتردد كثيراً في نسب هذه النصوص إلى المسيح ظناً منهم بأن النبي يتكلم عن إسرائيل كله كشخص محتقر مخذول ومطرود". (2)


(1) ينقل القس صموئيل عن بعض العلماء رأيه في معنى هذا النص أنه يشير "إلى الأبناء الذين ولدوا في أرض المعاناة والضيق، وكل كرب وألم في أرض سبيهم، وحملوا من إثم آبائهم في هذه الأرض الغريبة [بابل] ". المدخل إلى العهد القديم، القس الدكتور صموئيل يوسف (298).
(2) تاريخ الفكر المسيحي، الدكتور القس حنا جرجس الخضري (1/ 36).

 

  • الاربعاء AM 11:30
    2022-05-11
  • 1286
Powered by: GateGold