المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409045
يتصفح الموقع حاليا : 316

البحث

البحث

عرض المادة

تفرد أحد الإنجيليين في الرواية

وينفرد أحد الإنجيليين بذكر حوادث قد تكون مهمة، ومع ذلك أَغفلها الآخرون، وقد يتبادر للذهن لأول وهلة أن ذلك يرجع لنظرية تكامل الروايات التي لا تعتبر زيادات البعض في روايتهم ضرباً من التناقض والتعارض.

وهذا ليس بصحيح، إذ معرفتنا البسيطة بتدوين الإنجيل وتاريخه تُنبئنا بأن الإنجيليين اعتمد اللاحق فيهم على السابق، فإغفال اللاحق لبعض ما ذكره سلفه، إنما يرجع لتشككه في جدوى الرواية، أو صحتها، أو تناسقها مع المعتقد، وهو ما يقال أيضاً في الإضافة التي قرر المتأخر زيادتها عن السابق.

ولعل مما يوضح الصورة ويجليها نقل مقدمة لوقا الذي يقول: " رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق .. لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمتَ به " (لوقا 1/ 3 - 4)، فهو ينقل عن السابقين له بتدقيق وإمعان في رواياتهم، وما يدعه من مروياتهم إنما تركه لعدم وثوقه بهذه الروايات.

وقد انفرد بعض الإنجيليين بذكر أحداث مهمة تثير أسئلة استفهام كبيرة، تبحث عن إجابة، ومن هذه الأمور التي انفرد بها أحد الإنجيليين:

- انفرد لوقا فذكر في وصف ليلة القبض على المسيح أموراً لم يذكرها غيره، ومنها: أنه بالغ في إظهار جزع المسيح، حتى إن الله أيده بملاك يقويه، وكأنه أوشك على الانهيار. يقول لوقا: "وظهر له من السماء ملاك يقويه، وإذ كان في جهاد، كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " (لوقا 22/ 43 - 44).

وهاتان الفقرتان - رغم وجودهما في أكثر النسخ المتداولة - فإن المراجع القديمة تحذفهما، كما نقل أحمد عبد الوهاب عن جورج كيرد مفسر إنجيل لوقا حيث يقول: " فإن هذا الحذف يمكن إرجاع سببه إلى فهم أحد الكتبة بأن صورة يسوع هنا قد اكتنفها الضعف البشري، كان يتضارب مع اعتقاده في الابن الإلهي الذي شارك أباه في قدرته القاهرة ". (1)

ولعل هذا ما دعا الإنجيليين إلى تجاهل هذا الوصف الدقيق، بل إن يوحنا لم يذكر شيئاً عن معاناة المسيح وآلامه تلك الليلة، وذلك للسبب نفسه بالطبع.

ولنا أن نتساءل كيف عرف لوقا بنزول الملاك؟ وكيف شاهد عرقه وهو يتصبب منه على هذه الكيفية؛ كيف ذلك وجميع التلاميذ نيام كما وصفهم لوقا بعدها مباشرة بقوله: " ثم قام من الصلاة، وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياماً من الحزن " (لوقا 22/ 45)؛ كما أن المسيح لم يكن بجوارهم، فقد كان يصلي بعيداً عنهم "انفصل عنهم نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلى " (لوقا 22/ 41).

- ذكر الإنجيليون ضرب أحد التلاميذ لعبد رئيس الكهنة بالسيف، وأنه قطع أذنه، وتتكامل الروايات، فيذكر يوحنا أن اسم العبد ملخس، وأن الأذن هي اليمنى، فيما لم يحدد متى ومرقس اسم الضارب، كما لم يحددا الأذن المضروبة.

لكن أحداً منهم - سوى لوقا الغائب حينذاك - لم يذكر أن المسيح أبرأ أذن العبد وردّها، وهي ولاشك معجزة كبيرة ستترك أثراً في تلك الجموع الكافرة .. "فأجاب يسوع: دعوا إليّ هذا، ولمس أذنه وأبرأها " (لوقا 22/ 51)، ولم يذكر لوقا أي ردة فعل للجند والجموع تجاه هذه المعجزة الباهرة. وكأن شيئاً لم يكن.


(1) انظر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (140 - 143)، وانظر حاشية النص في الترجمة العربية المشتركة.

- كما انفرد مرقس بواحدة أخرى، وهي: قصة الشاب الذي هرب من الشبان، فأمسكوا بإزاره الذي يلبسه على عري، فترك الإزار، وهرب منهم عرياناً (انظر: مرقس 14/ 51 - 52).

- وأيضاً انفرد يوحنا بأن المسيح طلب من الجند أن يدعوا تلاميذه يهربون. (انظر: يوحنا 18/ 8) مع أن أحداً لم يتعرض لتلاميذه، لكن يوحنا يريد بذلك أن يحقق نبوءة توراتية، فقد قال بعدها "ليتم القول الذي قاله: إن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحداً " (يوحنا 18/ 9).

- وانفرد يوحنا عن بقية الإنجيليين، فذكر أن الجند لما همّوا بالقبض على يسوع، وقعوا على الأرض، يقول يوحنا: "فلما قال لهم: إني أنا هو رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/ 6)، ولم يذكر هذا الخبر - على أهميته - غيره، فما الذي أخاف الجنود حتى سقطوا؟

إنه خوفهم من الملائكة الذين حموا المسيح، فذاك الذي سبب لهم هذا السقوط، كما في النبوءة التوراتية: " لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك، لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصطدم بحجر رجلك " (المزمور 109/ 14 - 16).

- وانفرد يوحنا فذكر ذهاب الجند بالمسيح إلى حنان حما رئيس الكهنة قيافا، ثم أخذه بعدها إلى قيافا الكاهن. (انظر يوحنا 18/ 12 - 13).

- وانفرد لوقا بذكر إرسال بيلاطس المسيح إلى هيرودس حاكم الجليل (انظر لوقا 23/ 8)، مع أن هيردوس مات قبل ذلك بكثير، وذلك إبان طفولة المسيح، يقول متى: " فلما مات هيردوس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلاً: قم وخذ الصبي وأمه، واذهب إلى أرض إسرائيل، ولكن لما سمع أن ارخيلاوس يملك

على اليهودية عوضاً عن هيرودس أبيه ... " (متى 2/ 19 - 20).

فلو صدق متى في خبر وفاة هيرودس زمن طفولة المسيح فإن لوقا حينذاك من الكاذبين رغم تتبعه لكل شيء بتدقيق.

والذي دعاه لإحضار هيرودس من الموت -كما يرى مفسر إنجيل لوقا جورج كيرد -: أنه أراد أن يشرك ملكاً آخر مع بيلاطس، ليحقق نبوءة المزمور الثاني، وفيه " قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معاً على الرب، وعلى مسيحه " (المزمور 2/ 2). (1)

- وانفرد متى فذكر عجائب حصلت والمسيح على الصليب في اللحظة التي فارق فيها الحياة، فيقول: "وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين " (متى 27/ 51 - 53)، فهذه الأعاجيب ينفرد بها دون سائر الإنجيليين والمؤرخين ومنهم لوقا المتتبع بالتدقيق لكل شيء.

ولو صح مثل هذا لكان من أعظم أعاجيب المسيح، ولحرص الجميع على ذكره، لذا فهو إلى الكذب أقرب، يقول نورتن المسمى " حامي الإنجيل ": " هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكاية كانت رائجة في اليهود، بعدما صارت أورشليم خراباً، فلعل أحداً كتب في حاشية النسخة العبرانية لإنجيل متى، وأدخلها الكُتاب في المتن، وهذا المتن وقع في يد المترجم، فترجمها على حسبه ".

وقد نقلت هذه الأخبار عن الأساطير القديمة، يقول المفسر كيرد في تفسيره (ص 253): "كان الشائع قديماً أن الأحداث الكبيرة المفجعة يصحبها نذر سوء،


(1) انظر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (162 - 163).

وكأن الطبيعة تواسي الإنسان بسبب تعاسته ".

ويقول المفسر نينهام في تفسيره (ص 427): " لقد قيل: إن مثل تلك النذر لُوحِظَتْ عند موت بعض الأحبار الكبار، وبعض الشخصيات العظيمة في العصور القديمة والوثنية، وخاصة عند موت يوليوس قيصر ".

ويقول المفسر جون فنتون في تفسيره (ص 444) مدافعاً عن تحريف متى، مبرراً إضافاته في القصة: "لقد كان قصد متى من هذه الأحداث الخرافية أن يبين أن موت يسوع كان عملاً من صنع الله". (1)

ومما يدل على كذب كاتب إنجيل متى في هذه الزيادة، أن نتأمل أثر ظهور هذه العجائب في الأحداث التالية، فلو وقع ما ذكره متى لما تجرأ اليهود على الرجوع إلى بيلاطس، وطلب حراسة القبر، ولو وقعت هذه الأحداث الخرافية لما تجاسر قيافا أن يصف المسيح وقتئذ بالمضل، ولانتقم منهم بيلاطس، بل وعامة اليهود، ولآمن كثيرون بالمسيح، كما آمن كثيرون في أعجوبة أقل من ذلك، حين نزل روح القدس على التلاميذ، فآمن ثلاثة آلاف شخص. (انظر أعمال 2/ 40 - 41)، وما ذكره متى من عجائب تزامنت مع موت المسيح أعظم من ذلك.

ثم ماذا عن هؤلاء الأموات؟ هل عادوا بأكفانهم؛ أم حفاة عراة؟ ومع مَن تكلموا؟ هل كان خروجهم حزناً عليه أم نصرة له؛ أم فرحاً به؟ ثم كم عاشوا؟ وكيف ماتوا؟ ومتى؟

  • وانفرد يوحنا بذكر وجوده إلى جوار المسيح، وأم المسيح معه وقت الصلب
  • (يوحنا 19/ 25 - 26)، وأمر كهذا لا يتصور أن تغفله الأناجيل لو كان حقاً، كما لا يمكن تصور أن الجند يسمحون لذوي المسيح من الاقتراب منه وهو على الصليب، وهم الذين أنكر بطرس بين أيديهم معرفة المسيح ثلاث مرات، لخوفه من بطشهم.

     


(1) انظر: الفارق بين المخلوق والخالق، عبد الرحمن باجي البغدادي، ص (441 - 447)، المسيحية الحقة التي جاء بها المسيح، علاء أبو بكر، ص (264، 300 - 301)، المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (174).

 

  • الاربعاء AM 09:50
    2022-05-11
  • 703
Powered by: GateGold