المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413596
يتصفح الموقع حاليا : 203

البحث

البحث

عرض المادة

مبررات تجسد الابن

يعتقد النصارى أن الله تجسد في المسيح، ويحتجون لذلك بقول يوحنا: "والكلمة صار جسداً، وحل بيننا" (يوحنا 1/ 14).

ولفهم هذا النص نقرأ ما يقوله محققو الرهبانية اليسوعية تعليقاً على الحكمة المتجسدة المذكورة في (الأمثال 8/ 22): "إن فكرة الحكمة المجسدة، وهو مجرد فن أدبي في مثل (الأمثال 14/ 1)، قد تطورت في إسرائيل ابتداء من زمن الجلاء، حين لم يبق تعدد الآلهة مهدداً الدين القويم .. ففي جميع هذه النصوص التي تجسد فيها الحكمة أو الكلمة أو الروح؛ يصعب علينا أن نميز بين ما هو فن شعري، وما هو تعبير عن مفاهيم دينية قديمة، وما هو شعور بوحي جديد".

وهكذا، فنص تجسد الكلمة يحتمل أن يكون مجرد استعارة فنية أدبية، لا تختلف عن تجسيد الحكمة، حين خرجت "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها، تدعو في رؤوس الأسواق" (الأمثال 1/ 20 - 21)، ومثله تجسيد الجهل بامرأة صخابة خادعة (الأمثال 9/ 13 - 18) (1).

وقد تساءل المحققون - في هذا الصدد - عن سبب تجسد الابن دون الآب أو روح القدس؟ وتساءلوا لم كان التجسد الإلهي على صورة بشر؟ ما ضرورته؟ لماذا نزل الابن من عليائه ليدخل جوف امرأة ثم يخرج من فرجها؟ لم كان هذا كله؟

اجتهد رجال الكهنوت في الإجابة عن هذه الأسئلة، ولما لم يجدوا لها إجابة في ثنايا كتابهم أعملوا عقولهم، فصدرت عنهم أقوال مختلفة، كلٌ بحسب ما أداه إليه عقله،


(1) وقد تكرر تجسيد المعاني في الكثير من النصوص الكتابية (انظر: ابن سيراخ 4/ 11، الأمثال 9/ 1 - 6، 23/ 23، وغيرها).

إذ كما لم يجدوا في العهد الجديد ما يؤكد قول بولس بأن الإله قد تجسد، أيضاً لم يجدوا في هذه الأسفار تبريراً له.

وقد انحصرت إجاباتهم في أقوال، أهمها:

أولها: أن هذا السر لا نفهمه، وينبغي أن نؤمن به.

ثانيها: أن التجسد كان لردم الهوة بين الله والبشرية وإيناسها برؤية الإله - كما سيمر معنا في كلام البابا أثناسيوس-.

ثالثها: أن التجسد كان طريقة لرد الناس لعبادة الله بعد أن عبدوا المخلوقات والمصنوعات، وتركوا الخالق وهجروا عبادته، فتجسد الله ليعبده الناس، يقول (القديس) أفرام: "إن الله رأى أننا (أي البشر) عبدنا المصنوعات، ولذلك لبس جسداً مصنوعاً، ليقتنصنا به ونتعبد له" (1).

رابعها: أن التجسد كان ضرورة للتوفيق بين عدل الله ورحمته، حيث اقتضى عدل الله موت البشرية وتسلط الموت عليها واقتضت رحمته حياتها، فكان المسيح كبش الفداء.

وفي ذلك يقول البابا أثناسيوس وهو أحد أهم رجال مجمع نيقية: "لهذا كان أمام كلمة الله أن يأتي بالإنسان الفاسد إلى عدم فساد، وفي نفس الوقت أن يؤمن مطالب الأب العادل المطالب به الجميع، وحيث إنه هو كلمة الأب ويفوق الكل، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقه كل شيء وأن يتحمل الآلام عن الجميع لدى الآب .. لأجل ذلك نزل إلى عالمنا كلمة الله الخالي من الجسد، العديم الفساد وغير المادي .. وإذ لم يتحمل أن يرى الموت تصير له السيادة لئلا تفنى به الخليقة، وتذهب


(1) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمص غبريال عبد المسيح، ص (59).

صنعه أبيه في البشر هباء، فقد أخذ لنفسه جسداً لا يختلف عن جسدنا .. لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع ابن الله قد جاء إلينا وحل بيننا ليوفي غاية الموت، لكان الجنس البشري قد هلك".

ثم ماذا بعد موت المسيح هل تغير حال البشر فلم يعد الموت متسلطاً عليهم؟

فيجيب أثناسيوس: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم .. وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وصار عليهم من الفساد في ذلك الوقت فصاعداً، وصار له سلطان على الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال العصيان".

لكنا لم نعرف ما هو السلطان الطبيعي للموت؟ ولا ندري ما الفرق بين موت الناس قبل المسيح وبعده .. كما يحق لنا أن نتساءل هنا عن سر تسلط الموت على غيرنا كأنواع الحيوانات المختلفة.

كما يذكر أثناسيوس سبباً آخر للتجسد - وهو الإيناس الذي ذكرناه قبلُ - فيقول: "عندما خلق الله الضابط للكل الجنس البشري بكلمته، ورأى ضعف طبيعتهم، وأنها لا تستطيع من نفسها أن تعرف خالقها، أو أن تكون فكرة عن الله على الإطلاق .. لهذا تحنن الله على الجنس البشري على قدر صلاحه ولم يتركهم خالين من معرفته، لئلا يروا أن لا منفعة على الإطلاق من وجودهم في الحياة" (1).

لقد كان الهدف من التجسد إذاً أن تأنس البشرية برؤية ومعرفة ربها وأن تنهدم الهوة الواسعة بين الخالق والمخلوق، وهو ما عبر عنه سنوت في كتابه "المسيحية الأصلية" حيث يقول: "توجد فقط هوة واسعة لا حد لها ... ولو لم يكن الله بادر


(1) انظر: المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل، عبد الكريم الخطيب، ص (158 - 160)، وتجسد الكلمة، البابا أثناسيوس، ص (15 - 24).

وتدراك الأمر لبقيت الحالة على ما هي عليه، ولظل الإنسان بلا رجاء يتخبط في دياجير اللا إرداية، ولكن الله تكلم، ولقد بادر وأعلن عن نفسه" (1).

وهنا يتساءل الدكتور عبد الكريم الخطيب: كيف كانت صلة الأنبياء بربهم مع هذه الهوة؟ هل عرفوا ربهم المعرفة التي تدفعهم لعبادته وطاعته؟ أم كان إيمانهم باهتاً؟ وماذا تغير في حياة البشرية بعد تجسد الإله؟ هل آمن الناس وعرفوا ربهم؟ وهل زال الإلحاد من البشرية؟

ثم أين الإيناس للبشرية في رؤيتها للرب وهو يصفع ويضرب ويجلد. إن هذا من شأنه أن يقلل من مقام الألوهية عندهم، فالنفس البشرية طلعة تتوقد أشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لهم المجهول أو ظهر لهم ما وراء الغيب سكنت نزعاتها وبردت أشواقها نحو هذا الشيء الذي كانت تسعى إليه وتجدُّ في البحث عنه.

ثم ماذا عن باقي أجيال البشرية التي لم تأنس بمعرفة هذا المتجسد. هل من العدل أن تحرم منه؟ وكيف لها أن تعرف ربها ولم تراه؟!

ثم لم كان أنسنا بالإله حال طفولته وشبابه فقط، ولم نأنس به أيضاً حال كهولته وهرمه. فلماذا؟!

وهكذا يرفض المسلمون هذه التبريرات المتهافتة التي تسيء إلى عظمة الله، وتجعله عاجزاً عن العفو والغفران، حائراً بين عدله ورحمته، ومثل هذا لا يقع به الحكماء من الناس فضلاً عن رب العالمين، أو تظهره عاجزاً عن هداية خلقه إلى عبادته إلا بموافقتهم على ما ألفوه من صور الشرك.


(1) المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل، عبد الكريم الخطيب، ص (130 - 132، 160 - 170).

ويشاركنا شارل جنيبر الرأي في ضعف هذه التبريرات، ويقرر أن بولس هو الذي قرر تجسد الإله، ويوضح الأسباب التي دعته لذلك، لقد ابتكر عقيدة التجسد بعد أن أدرك " أن الأتباع الجدد من المشركين لم يكونوا ليتقبلوا كل القبول فضيحة الصلب، وأنه يجب تفسير ميتة عيسى المشينة - والتي لم يكف الأعداء بطبيعة الحال عن الرجوع إليها - تفسيراً مرضياً، يجعل منها واقعة ذات مغزى ديني عميق.

وأعمل الحواري (بولس) فكره في هذه المشكلة ... ووضع حلاً كان له صدى بالغ المدى قد تجاهل فكرة عيسى الناصري التي أغرم بها الاثنا عشر، ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود، وتمثل نوعاً من التشخيص ... وقد عثر الحواري على العناصر الجوهرية في الأسرار، عثر عليها في غالب الظن دون أن يبحث عنها ... " (1).

لكن حرجاً آخر واجهه بولس وهو يضع لمساته النهائية على الإله المتجسد المصلوب، وهو كيف يقول بنهاية حياة المسيح على الصليب، والتوراة تنص على لعن كل مصلوب. (انظر التثنية 21/ 23)، فهذا يزري بالمسيح ويجعله ملعوناً حسب شرائع اليهود.

لحل هذه القاصمة، رأى بولس أن يجعل من الملعون مثلاً أعلى في التضحية، وأن يجعل منه إلهاً نزل وتجسد ليفدي البشرية من خطاياها، فصار لعنة ليفتديهم من لعنة الناموس، وكما قال بولس: "ولكن الله من محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه، نخلص به من الغضب، إنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه .. " (رومية 5/ 8 - 10)، لقد صار لعنة


(1) انظر: المسيحية، نشأتها وتطورها، ص (134).

لأنه حررنا من لعنة الناموس! (1).

وأخيراً، فإن هذا الذي تقوله النصارى في الرب جل وعلا من تعدد وتجسد نوع من العبث الإنساني وجرأة صارخة على مقام الرب جل وعلا وتطاول مستغرب، فإن المثّال كما يقول الأستاذ المهتدي محمد مجدي مرجان "حين يصنع تمثالاً فإنه يستطيع أن يهدمه، ولا يتصور أحد أن يدعي التمثال أنه من جِبلة صانعه، أو أنه جزء أو عنصر من هذا الصانع.

ولكن الإنسان الضعيف - أحد مخلوقات الله - تطاول على صانعه، ثم أخذه الغي، ولعبت برأسه نشوة الضلال، فقلب الوضع وعكس الآية، فقام بإعادة تكوين وتشكيل صانعه، ثم راح يعيد تقسيم خالقه إلى أقسام ثلاثة ابتدعها خياله، جاعلاً كل قسم منها إلهاً قائماً بذاته، محولاً الإله الواحد إلى ثلاثة ... ثم قام بتقسيم الأعمال والأعباء والوظائف بين آلهته الثلاثة التي صنعها عطفاً وإشفاقاً من أن يتحمل كل تلك الأعمال والأعباء والوظائف إله واحد. حقاً ما أشقى الإنسان" (2).

والحق أن فكرة التجسد النصرانية كانت أحد أهم أسباب انتشار الإلحاد بين المسيحيين، فإن الإنسان يميل بفطرته وعقله إلى تعظيم الخالق وتنزيهه عن الشبيه والمثيل، فيما تجعله النصرانية إنساناً خرج من فرج امرأة من بني إسرائيل.

يقول كيرانس ايرسولد: "أما من وجهة نظر العلم فإنني لا أستطيع أن أتصور الله تصوراً مادياً، بحيث تستطيع أن تدركه الأبصار أو أن يحل في مكان .. " (3).

وعندئذ يخيَر الناس بين المعتقد الخاطئ والفطرة الصحيحة المؤيدة بسلطان العقل، فلا يجد كثير منهم مفراً من الكفر بإله الكنيسة المصفوع والمصلوب، فيكثر الإلحاد. تعالى الله عما يقول هؤلاء علواً كبيراً.

ومن الآثار السيئة التي تتركها عقيدة التجسد إضعاف المثُل والقيم التي جاء بها المسيح ودعا إليها، ثم كان بسبقهم إليها قدوة صالحة لأتباعه، لكن أثر هذا الخلق يضيع مع القول بالألوهية، إذ لن يتصور البشر إمكانية تطبيق هذه المُثُل التي سبقهم إليها إله.

هذا ما يراه كُتاب دائرة المعارف الأمريكية في قولهم: "لو كان إلهاً فإن المثُل التي ضربها لنا بعيشته الفاضلة يفقد كل ذرة من القيمة، حيث إنه يمتلك قوى لا نملكها. إن الإنسان لا يستطيع تقليد الإله".

ويقول توماس أكمبسفي كتابه "على خطى المسيح": "إذا كان المسيح إلهاً فإن المرء لا يستطيع اقتفاء أثره والسير على منهجه".

=======================================

(1) يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، رؤوف شلبي، ص (265).
(2) الله واحد أم ثالوث، محمد مجدي مرجان، ص (125).
(3) طائفة الموحدين من المسيحين عبر القرون، أحمد عبد الوهاب، ص (38 - 39، 45).

 

 

  • الثلاثاء PM 12:33
    2022-05-10
  • 654
Powered by: GateGold