المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408990
يتصفح الموقع حاليا : 420

البحث

البحث

عرض المادة

اشتراك غير المسيح مع المسيح في معجزاته

ولاحظ المحققون - من قراء الكتاب المقدس - أن الكثير مما صنعه المسيح - عليه السلام - من عجائب ومعجزات قد شاركه فيه غيره من الأنبياء، وسواهم، ولم يقل أحد من النصارى بألوهيتهم، فدل ذلك على أن غاية ما تدل عليه المعجزات نبوة أصحابها، وإلا لزم القول ألوهية كل من شارك المسيح في الأعاجيب التي صنعها الله على يديه.

أ. الميلاد العذراوي

لقد كانت ولادة المسيح - عليه السلام - من غير أب بشري إحدى أعظم معجزاته - عليه السلام -، وقد تعلق بها القائلون بألوهيته، يقول البابا أثناسيوس: "من ذا الذي يرى جسداً يأتي من عذراء وحدها بدون رجل، ولا يدرك أن من ظهر في الجسد لابد أن يكون هو صانع ورب باقي الأجساد؟ " (1).

ويقول يسّى منصور: "لو لم يولد المسيح من عذراء لكان مجرد إنسان" (2)، وهو بحق كذلك، بدليل أن بعض المخلوقات شارك المسيح في صورة هذه المعجزة الباهرة، أي ولادته من عذراء، من غير أب، فأصول سائر المخلوقات - ومنهم البشر - لا أب لهم ولا أم، ووجود آدم خلقاً سوياً أكبر وأكمل من خلقة المسيح الذي خلق جنيناً في بطن أمه، ثم كبر بعد ذلك ونما.

والميلاد من غير أب أعجوبة ولا ريب، لكنها لا تقتضي الألوهية بحال، ولو اقتضاها لاقتضى ألوهية أصول جميع الحيوانات، وألوهية أبوينا آدم وحواء، فقد ولد آدم من غير أب ولا أم، وولدت حواء من آدم، ولا أم لها.

وذلك المعنى هو ما أرشدنا إليه الله بقوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59).

ورغم المثلية القائمة بين آدم وعيسى من جهة ميلادهما من غير أب، إلا أن آدم يتميز عن عيسى بأمور، منها أن آدم عليه السلام لم يخرج من بين نجو وطمث، وأيضاً فإن الله أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء من علمه تعالى، كما كانت الجنة منزله، وقد تولى الله مناجاته بنفسه دون أن يرسل إليه رسولاً، إلى غير ذلك مما لم يكن لعيسى ولا غيره. فإذا تميز


(1) تجسد الكلمة، البابا أثناسيوس، ص (52).
(2) انظر: مسيحية بلا مسيح، كامل سعفان، ص (62)، المسيحية الحقة التي جاء بها المسيح، علاء أبو بكر، ص (186).

آدم بكل هذه المميزات، فلم لا تقول النصارى بألوهيته؟!

وممن فاق المسيح في هذه المعجزة - حسب الكتاب المقدس - ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فقد ولد من غير زرع رجل، وينقل بولس أن لا أب له ولا أم، ولا بداية ولا نهاية: "ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي ... بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/ 1 - 3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق (1)، وهو الذي لا أب له ولا أم، لأنه ولد بعد وفاتها؟

وكذلك الملائكة خُلِقوا من غير أب ولا أم، ولا تعتبرهم النصارى آلهة.

وهكذا فالميلاد العذراوي لا يصلح دليلاً على الألوهية، وإن كان حدثاً فريداً - نسبياً - في تاريخ البشرية.

ب. معجزة إحياء الموتى

لا ريب أن معجزة إحياء الموتى معجزة عظيمة من معجزات المسيح - عليه السلام -، وقد أثبتها القرآن له، وأخبر بأنها من عند الله {وأحيي الموتى بإذن الله} (آل عمران: 49).

لكن النصارى يرفضون تعليق قدرات المسيح بمشيئة الله وإذنه، ويرون أنه صنع هذه المعجزات بقدرته ومشيئته الخاصة، لأنه "كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء ... لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته" (يوحنا 5/ 21، 27).

ولو تأملنا النص في سياقه لرأيناه يتحدث عن مواهب المسيح التي أعطاه الله إياها "كذلك أعطى الابن"، فكل مواهب المسيح هي عطية الله التي ما كان له حول ولا طول فيها لولا هبة الله إياها له.

ولو أكملوا النص لوجدوا جواب المسيح على شبهتهم واضحاً، فقد قال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/ 30).

وأكمل حديثه فذكر لهم أن مشيئته التي بها يحيي من يشاء مقيدة بمشيئة الله: " لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/ 30).

لكن النصارى يصرون على أن إحياء الموتى يدل على ربوبية المسيح وألوهيته، ويتجاهلون نصوصاً كتابية أسندت ذات الفعل لغير المسيح. فلِم لا تقول النصارى بألوهيتهم؟!

إن إعراض النصارى عن القول بألوهية هؤلاء إنما هو دليل على بطلان الاستدلال لألوهية المسيح بمعجزة الخلق، فلئن كان المسيح أحيا لعازر (انظر يوحنا 11/ 41 - 44)، فإن النبي إلياس أحيا ابن الأرملة "وقال: أيها الرب إلهي، أيضاً إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأتَ بإماتتك ابنها [وحاشا لله أن يسيء]، فتمدد على الولد ثلاث مرات، وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه. فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش" (الملوك (1) 17/ 19 - 24)، لذا خاطبه يشوع بن سيراخ: "أنت الذي أقمت ميتاً من الموت" (ابن سيراخ 48/ 5).

واليسع أيضاً أحيا - بإذن الله - ميتين، أحدهما أحياه حال حياته، والآخر بعد وفاته، فقد أحيا ابن الإسرائيلية التي جاءته "دخل أليشع البيت، وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره، فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما، وصلّى إلى الرب، ثم صعد واضطجع فوق الصبي، ووضع فمه على فمه، وعينيه على عينيه، ويديه على يديه، وتمدّد عليه، فسخن جسد الولد، ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وصعد وتمدّد عليه، فعطس الصبي سبع مرّات، ثم فتح الصبي عينيه" (الملوك (2) 4/ 32 - 36).

كما أحيا اليسع بقدرة الله بعد موته ميتاً وضعه أهله على قبر اليسع، فعاد حياً " فيما كانوا يدفنون رجلاً إذا بهم قد رأوا الغزاة، فطرحوا الرجل في قبر أليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام أليشع؛ عاش وقام على رجليه" (الملوك (2) 13/ 21).

والعجب من استدلال النصارى بإحياء الموتى لإثبات ألوهية المسيح - عليه السلام - مع أنهم أثبتوا هذه القدرة للحواريين، والمقصود ما جاء قصة إحياء بطرس لطابيثا. فقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس أحيا طابيثا بعد أن ماتت وغسلها أهلها "وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة ... وحدث في تلك الأيام أنها مرضت وماتت، فغسلوها ووضعوها في عليّة ... فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلّى، ثم التفت إلى الجسد وقال: يا طابيثا قومي، ففتحت عينيها، ولما أبصرت بطرس جلست" (أعمال 9/ 36 - 41)، فأي فرق بين ما فعله المسيح وما فعله بطرس، فكل ذلك بإذن الله وقدرته.

وكل التلاميذ - حسب الكتاب المقدس - يقدرون على إحياء الموتى، فقد قال لهم المسيح: "فيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات، اشفوا مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين" (متى 10/ 7 - 8)، فهل كل هؤلاء آلهة؟

كما يغفل النصارى المتحدثون عن ألوهية المسيح الذي أحيا الموتى، يغفلون عن تلك النصوص التي تتحدث عن موت المسيح، وعجزه عن دفع الموت عن نفسه، كما عجز عن ردها إلى الحياة من جديد، حتى أعاده الله وأقامه من الأموات.

وقد تكاثرت النصوص على إيراد هذه الحقيقة حتى بلغت خمسة عشر نصاً، منها

 


(1) ذكرت دائرة المعارف الكتابية أن "ملكي صادق شخصية كتابية غامضة"، ونقلت قول قائلين بأن "ملكي صادق لم يكن سوى أحد ظهورات المسيح قبل التجسد". انظر دائرة المعارف الكتابية (7/ 222 - 223).

"فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/ 32)، ومنها "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/ 15)، وكذا "المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله" (أعمال 4/ 10).

وهكذا بطل الاستدلال بهذه العجيبة على ألوهية المسيح، ولكنها بحق أعجوبة عظيمة دفعها الله للمسيح ليقيم بها الحجة على نبوة هذا النبي العظيم، عليه صلوات الله وسلامه.

ج. معجزة شفاء المرضى

ويستدل النصارى على ألوهية المسيح - عليه السلام - بقدرته على شفاء المرضى، فيقول البابا أثناسيوس: "من ذا الذي يراه وهو يشفي الأمراض التي يخضع لها الجنس البشري ويستمر في ظنه عنه بأنه إنسان وليس إلهاً؟ فقد طهر البرص، وجعل العرج يمشون" (1).

لكن أثناسيوس ومن وافقه من النصارى المؤلهين للمسيح يعرضون عن ذكر الحقيقة التي ذكرها الكتاب، وهي أن المسيح كان يشفي المرضى بتأييد الله؛ لا بقوته الذاتية "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيراً، ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه" (أعمال 10/ 38)، فالله كان مع المسيح، ولم يكن المسيح (الله).

ولئن كان عيسى عليه السلام قد شفى الأبرص (انظر متى 8/ 3) فإن اليسع شفى أبرصاً، وأمرض آخر وذريته من بعده بالبرص "فأرسل إليه أليشع رسولاً يقول: اذهب واغتسل سبع مرّات في الأردن، فيرجع لحمك إليك، وتطهر ... فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد، وخرج من أمامه أبرص كالثلج" (الملوك (2) 5/ 10 - 27).

د. التنبؤ بالغيوب

وقد تنبأ المسيح - عليه السلام - بكثير من الغيوب، فكانت كما قال، فقد أخبر التلميذان اللذان أرسلهما لذبح فصح العيد بما سيكون لهما (انظر مرقس 14/ 12 - 16)، وقد قال له بطرس: "يا رب أنت تعلم كل شيء" (يوحنا 21/ 17)، كما علم بأن الجحش المربوط في قرية بيت فاجي لم يركب عليه أحد، وهو كما يقول القس إبراهيم سعيد: "دليل جديد على أن المسيح يعلم بالغيب علماً دقيقاً مفصلاً، لا يقبل شكاً ولا تأويلاً،


(1) تجسد الكلمة، البابا أثناسيوس، ص (52).

وفي هذا برهان آخر على المجد الوضيع [هكذا] الذي كان يحف بالمسيح" (1).

لكن ليس المسيح وحده من قد تنبأ بالمغيبات، فقد تنبأ قبله يعقوب - عليه السلام - فقال لأبنائه: "اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام ... " (انظر التكوين 49/ 1 - 27).

ومثله تنبأ صموئيل وإيليا (انظر صموئيل (1) 10/ 2 - 9، الملوك (1) 21/ 21 - 24)، وقد تحققت نبوءتهما في (الملوك (2) 10/ 1 - 17، 9/ 30 - 37).

ومثل هذا كثير في الأسفار المقدسة. (انظر صموئيل (1) 19/ 23 - 24، الملوك (2) 4/ 8 - 18، 8/ 12 - 13، يوحنا 11/ 49 - 52).

وقد جاء في وصف بلعام بن بعور المتنبئ الكافر الذي قتله موسى - عليه السلام - بأنه " الذي يسمع أقوال الله، ويعرف معرفة العلي، الذي يرى رؤيا القدير" (العدد 24/ 16)، وذكرت الأسفار التوراتية عدداً من تنبؤاته التي تحققت.

ثم إن المسيح - عليه السلام - كما تنبأ بالغيوب فإنه عجز عن أُخر، وجهلها، إذ لم يعرف بالخبز وعدده (انظر متى 15/ 34)، كما جهل موعد الساعة (انظر مرقس 13/ 32 - 33).

وينبه العلامة ديدات أنه لا يجوز للنصارى أن يذكروا شيئاً عن مغيبات أخبر عنها المسيح وهم ينسبون إليه الكذب - وحاشاه - عندما تنبأ بعودته السريعة قبل انقضاء جيله. (انظر مرقس 13/ 26، 30، متى 10/ 23) وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا.

هـ. التسلط على الشياطين

وكذلك أوتي المسيح - عليه السلام - سلطاناً على الشياطين (انظر متى 12/ 27 - 28)، ولكنها معجزة قام بها غيره، فعندما اتهمه اليهود بأنه يخرج الشياطين بمعونة رئيسهم


(1) شرح بشارة لوقا، ص (475).

قال: "إن كنت أنا أخرج الشياطين ببعلزبول، فأبناؤكم بمن يخرجونهم؟ " (متى 12/ 27)، فأثبت لأبناء اليهود مثل قدرته.

كما وقد حذر عليه السلام من الكذبة الذين سينجحون في إخراج الشياطين فقال: " كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ " (متى 7/ 22 - 23)، فالأنبياء الكذبة يخرجون الشياطين، من غير أن يدل ذلك على نبوتهم أو صلاحهم، فضلاً عن القول بألوهيتهم.

و. عجائب مختلفة

وتذكر الأناجيل عجائب متفرقة للمسيح - عليه السلام -، كتحويله الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/ 7 - 9)، وإطعامه الجمع كبير من خمسة أرغفة (انظر متى 14/ 19 - 21)، ويباس شجرة التين بقوله. (انظر متى 21/ 18 - 19)، يقول البابا أثناسيوس: "من ذا الذي يرى تغيير طبيعة المياه وتحولها إلى خمر ولا يدرك أن من فعل هذا هو سيد طبيعة هذه المياه وخالقها؟ .. وعندما أشبع جمعاً غفيراً من طعام قليل، وقدم لهم الكثير من لا شيء، فأطعم خمسة آلاف من خمسة أرغفة، وشبعوا، وفضل عنهم الكثير، ألم يظهر ذاته أنه لم يكن آخر سوى الرب نفسه المعتني بالجميع؟ " (1).

كما لا يفوت النصارى التنبيه إلى الظلمة العظيمة التي أعتمت الأرض عند موته المزعوم على الصليب (انظر متى 27/ 45)، فدلت هذه العجائب المختلفة على ألوهيته وأنه ابن الله.

وأيضاً يستدل القائلون بألوهيته عليه السلام بإطاعة الرياح والبحر له، فقد أوتي سلطاناً على العناصر الطبيعية، فالرياح والبحر يطيعه "وإذ اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطت الأمواج السفينة، وكان هو نائماً. فتقدم تلاميذه وأيقظوه قائلين: يا سيد نجنا فإننا نهلك. فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ثم قام وانتهر الرياح والبحر، فصار هدوء عظيم. فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعا تطيعه" (متى 8/ 23 - 28)، فمن ذا الذي تطيعه الرياح والبحار، ولا يجد القائلون بألوهية المسيح من إجابة - حسب فهمهم البسيط - إلا أن يقولوا: إنه الله المسيح.

وكذا فإن المسيح صام أربعين يوماً لم يجع خلالها، وهو ما لا يطيقه بشر، فدل ذلك على أنه الله. (انظر متى 4/ 1 - 2).

كما صعد المسيح إلى السماء، وجلس عن يمين الله. (انظر مرقس 16/ 19)، وهو كما يرى النصارى منزل لم يصل إليه أحد من العالمين إلا المسيح بما له من خواص الألوهية.

ولكن أمثال هذه المعجزات بل وأعظم منها جرت على يدي غيره، ولم تقتض ألوهيتهم.

فلئن كان المسيح - عليه السلام - قد حول الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/ 7 - 9)، فإن موسى - عليه السلام - حول الماء إلى دم كما في سفر الخروج "تأخذ من ماء النهر، وتسكب على اليابسة، فيصير الماء الذي تأخذه من النهر دماً على اليابسة" (الخروج 4/ 9).

وأما أليشع فقد صنع أعظم من ذلك، إذ ملأ قدور العجوز الفارغة زيتاً، من غير أن يكون فيها شيء "قال: اذهبي استعيري لنفسك أوعية من خارج من عند جميع جيرانك أوعية فارغة، لا تقللي، ثم ادخلي وأغلقي الباب على نفسك وعلى بنيك، وصبّي في جميع هذه الأوعية، وما امتلأ انقليه، فذهبت من عنده وأغلقت الباب على نفسها وعلى بنيها، فكانوا هم يقدمون لها الأوعية وهي تصب. ولما امتلأت الأوعية قالت لابنها: قدم لي أيضاً وعاء. فقال لها: لا يوجد بعد وعاء، فوقف الزيت، فأتت وأخبرت رجل الله فقال: اذهبي بيعي الزيت، وأوف دينك، وعيشي أنت وبنوك بما بقي" (الملوك (2) 4/ 3 - 7).

وإن طعم ببركة المسيح - عليه السلام - خمسمائة شخص من خمسة أرغفة (انظر متى 14/ 19 - 21)، فقد أطعم الله عز وجل بني إسرائيل - وهم زهاء ستمائة ألف - المن والسلوى أربعين سنة، وكل ذلك ببركة موسى عليه السلام. (انظر الخروج 16/ 35 - 36).

ولئن كان المسيح - عليه السلام - قد حول شجرة التين إلى يابس. (انظر متى 21/ 18 - 19)، فإن موسى - عليه السلام - حول العصا اليابسة إلى حية. (انظر الخروج 7/ 9)، وهو أعظم، إذ قد يدخل يبس الشجرة في قانون الطبيعة، لكن تحويل العصا إلى حية معجز بكل حال.

وأما الظلمة التي يدعي النصارى حصولها عند صلب المسيح، فهي ليست - بأي حال - بأكبر من الظلمة التي استمرت على أرض مصر ثلاثة أيام بسبب كفرهم بموسى، "فمدّ موسى يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام" (الخروج 10/ 22 - 23).

وأيضاً فإن يشوع لما حارب الأموريين وكادت ليلة السبت أن تدخل ناجى ربه فقال: "أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر دوم على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب ... فوقفت الشمس في كبد السماء، ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" (يشوع 10/ 12 - 13)، وهذا الذي حصل ليشوع لا يقتضي ألوهيته، وهو أعظم من غياب الشمس ثلاث ساعات، فإنها قد تغيب بالغيوم، وهو داخل في السنن المعهودة، أما توقف دوران الكرة الأرضية فهو أعظم من ذلك بكثير.

وأعظم منهما ما صنعه النبي إشعيا، فقد أعاد الله بدعائه الشمس إلى الوراء، ليبرهن للملك حزقيا على صدق مواعيد الرب. (انظر: الملوك (2) 20/ 10 - 11)، وقال عنه ابن سيراخ: "في أيامه رجعت الشمس إلى الوراء" (ابن سيراخ 48/ 23)، ورغم هذا كله فإن أحداً لا يقول بألوهية النبي إشعيا.

ثم لئن كانت الطبيعة تطيع المسيح فإن ذلك قد حصل مع الأنبياء أيضاً، فإيليا أطاعته النار حتى قال: " إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء تأكلك أنت والخمسين الذين لك، فنزلت نار الله من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له" (الملوك (2) 1/ 9 - 11).

وكذا أطاع البحر إيليا "وأخذ إيليا رداءه، ولفّه، وضرب الماء، فانفلق إلى هنا وهناك، فعبر كلاهما (أليشع وإيليا) في اليبس" (الملوك (2) 2/ 7 - 8)، وقد رأينا كيف أطاعت الشمس والقمر يشوع.

وأيضاً يحكي لنا سفر الرؤيا عن منارتين عظيمتين يزعم الشراح أنهما ترمزان لموسى وإيليا، "هذان هما الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رب الأرض، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما تخرج نار من فمهما وتأكل أعداءهما، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما فهكذا لا بد أن يقتل، هذان لهما السلطان أن يغلقا السماء حتى لا تمطر مطراً في أيام نبوّتهما، ولهما سلطان على المياه أن يحوّلاها إلى دم، وأن يضربا الأرض بكل ضربة كلما أرادا" (الرؤيا 11/ 4 - 6) ورغم كل هذه القوى على مظاهر الطبيعة فإن أحداً لا يقول بألوهية موسى وإيليا، والنص يتحدث عن نبوتهما فحسب "في أيام نبوّتهما". فما بال المسيح يصبح - عند المسيحيين إلهًا - لمجرد إظلام الشمس في زمنه أو لأنه قدر على تحويل الماء إلى خمر؟

وأما صيام المسيح - عليه السلام - أربعين يوماً فلا يدل على ألوهيته إذ أنه "جاع أخيراً" (متى 4/ 2)، فلئن كان صومه وصبره يدل على ألوهيته، فإن جوعه يكذب هذه الدعوى، ويدل على بشريته.

وقد كان مثله لموسى - عليه السلام -، حيث يقول: "أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء" (التثنية 9/ 9).

ومثله حصل مع النبي إيليا حين أكل أكلة ثم "سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله" (الملوك (1) 19/ 7 - 8).

ولئن قال النصارى برفع المسيح للسماء وجلوسه عن يمين الله، فإن مثل ذلك حصل مع إيليا الذي رفع من غير أن يصلب أو أن يصفع أو أن يصاب بسوء. (انظر الملوك (2) 2/ 11 - 12)، ومثله حصل مع أخنوخ. (انظر التكوين 5/ 24).

وأما الجلوس عن يمين الله فقد ألحقته الكنيسة بإنجيل مرقس (انظر مرقس 16/ 19)، فلا يمكن حمله على الحقيقة، بل غايته أن يقال بأنه جلوس معنوي أي برفع مكانته، كما جاء في كلام ميخا "لقد رأيت الرب جالساً على كرسيه، وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره" (الأيام (2) 18/ 18).

 


(1) تجسد الكلمة، البابا أثناسيوس، ص (53).

  • الثلاثاء PM 12:15
    2022-05-10
  • 807
Powered by: GateGold