المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412364
يتصفح الموقع حاليا : 323

البحث

البحث

عرض المادة

قول المسيح: "الذي رآني فقد رأى الآب"

ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح - عليه السلام - قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14/ 9)، إذ فهموا منه أن الله الآب هو المسيح، وأن رؤية المسيح هي بالحقيقة رؤية لله عز وجل. إن هذه الطريقة السطحية في الفهم سقيمة كلاء، وتعرضنا لعدد من الصعوبات المشينة التي ترقى لاعتبارها تجديفاً صارخاً على الله وإساءة إلى مقام الألوهية المنزه عن النقائص والمعايب البشرية، فلئن كان رؤية اليهود للمسيح تعتبر رؤية للآب؛ فإنه - بالضرورة - يعتبر صفع اليهود للمسيح وبصقهم عليه (انظر متى 27/ 30) صفعاً وبصقاً على الآب خالق السماوات والأرض.

وكذلك فإن جهل المسيح بموعد الساعة (انظر مرقس 13/ 32 - 33) يعتبر جهلاً للآب، وكذلك فإن تناول المسيح الطعام والشراب (انظر لوقا 24/ 42 - 43) يكون - وفق هذا المنطق السطحي - طعاماً وشراباً لله الآب، وأما موت المسيح المزعوم على الصليب، فهو وفق هذه الطريقة في الاستدلال موت للآب، فكما أن من رأى المسيح؛ رأى الآب، فإن من قتل المسيح؛ قتل الآب، فهل الله العظيم خالق السماوات والأرض يموت أو يأكل ويشرب ويخرج فضلات هذا الطعام والشراب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وهذا القول الشنيع يتطابق مع بدعة المودالية أو الشكلية، لذا يقول الدكتور واين جردوم أستاذ علم اللاهوت في تفسير هذا النص: "الآية الأخيرة (يوحنا 14/ 9) تعني ببساطة أن يسوع يكشف طبيعة الله الآب بشكل كامل" (1).

ولفهم النص الفهم الصحيح نعود إلى سياقه، فالسياق من أوله يخبر أن المسيح - عليه السلام - قال لتلاميذه: "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً؛ آتي أيضاً وآخذكم " وقصده بالمكان الملكوت.

فلم يفهم عليه توما قوله، وقال: " يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق"، لقد فهم - خطأً- أن المسيح يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: "أنا هو الطريق والحق والحياة " (يوحنا14/ 1 - 6)، أي أن اتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته.


(1) كيف يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، واين جردوم، ص (202).

ثم طلب فيلبُّس من المسيح أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له: " ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب فيّ، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال فيّ هو يعمل الأعمال ... " (يوحنا 14/ 10) أي كيف تسأل ذلك يا فيلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب، حين رأى أعمال الله (المعجزات) التي أجراها على يد المسيح.

يشبه هذا النص تماماً ما جاء متى " ثم يقول الملَك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني .. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشاناً فسقيناك، ومتى رأيناك غريباً فآويناك .. فيجيب الملَك، ويقول لهم: الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (متى 25/ 34 - 40)، ومن المعلوم أن أحداً في الدنيا لا يقول بأن الجائع المطعم هو الملَك رغم قوله: "فبي فعلتم"، إذ هذا على سبيل تقريب المعاني، لا الحلول والتماهي بين الذوات.

فمثله كمثل قول الشاعر:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرتَه كنتُ أنا

ويشبهه أيضاً ما جاء في إنجيل مرقس "فأخذ ولداً، وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني" (مرقس 9/ 37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح - عليه السلام - هو ذات الله، ولكنه يخبر - عليه الصلاة والسلام - أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.

وكما أن من يرى المسيح فكأنه يرى الله، فإنه من قبِل المسيح وتلاميذه فكأنما قبِل الله عز وجل، ومن كفر بهم ورفض دعوتهم فإنما رفض في الحقيقة دعوة الله، لذا يقول المسيح: "الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني" (لوقا 10/ 16).

ويؤكده مرة أخرى فيقول: "من يَقَْبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني" (متى 10/ 40)، وكذا من رأى المسيح فكأنه رأى الآب الذي أرسله، لأن "الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال ... " (يوحنا 14/ 10).

ولما كان بولس يضطهد التلاميذ قال له المسيح في رؤيته المزعومة: "شاول شاول، لماذا تضطهدني .. أنا يسوع الذي أنت تضطهده" (أعمال 26/ 14 - 15)، وهو لم يضطهد المسيح حقيقة، بل لم يره، لكن من اضطهد تلاميذ المسيح فقد اضطهد المسيح، ومن قبِلهم فقد قبِل معلمهم، وقبِل الرب الذي أرسله.

ومثله قول بطرس لحنانيا الكاهن مبكتاً إياه على إخفاء بعض ثمن الحقل على التلاميذ "أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس، بل على الله" (أعمال 5/ 4 - 5)، فالكذب الذي صنعه حنانيا خداع لله، وإن كان في ظاهره مخادعة للناس (التلاميذ)، ولا يعني هذا النص أبداً أن الناس والله ذات واحدة.

وهذا السياق "الذي رآني فقد رأى الآب" الذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية معهود في العهد القديم أيضاً، إذ لما رفض بنو إسرائيل تولية ابني النبي صموئيل على بني إسرائيل بعد أبيهما "وقالوا له: هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل ... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا " (صموئيل (1) 8/ 4 - 7)، إذ رفضهم طاعة النبي صموئيل هو عصيان لله في الحقيقة.

والرؤية في قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" معنوية مجازية، أي رؤية البصيرة، لا البصر، وهي متحققة لكل المؤمنين الذين هم من الله كما قال المسيح - عليه السلام -: "ليس أن أحداً رأى الآب إلا الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يوحنا 6/ 46)، ومن المعلوم أن كل المؤمنين هم من الله " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/ 1)، فكلهم رأى الله ببصيرته رؤية المعرفة والإيمان.

ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال في تمام النص الذي نحن بصدده: " بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني" (يوحنا 14/ 19)، فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية، إذ يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.

ويشهد له ما جاء في متى: " ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن " (متى 11/ 27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة.

ونحوه قوله: "فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني، والذي يراني يرى الذي أرسلني ... لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 44 - 51)، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة بالبصيرة، لا البصر.

وقوله: " والذي يراني يرى الذي أرسلني" ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الابن المرسَل قد رأى الآب المرسِل، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/ 28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/ 29).

وليس من أحد من النصارى يرضى بالقول بأن الآب هو الابن، فإنهم يقولون بتمايز الأقانيم، وإن زعموا أنها متوحدة في جوهرها، يقول الأب متى المسكين: " الإيمان المسيحي يقول: إن الأقانيم في الله متميزة، فالآب ليس هو الابن، ولا الابن هو الآب، وكل أقنوم له اختصاصه الإلهي" (1)، وعليه فمن رأى الابن لم يرَ الآب.

وأما قول المسيح: "أنا هو الطريق والحق والحياة" فيقصد فيه المسيح الدعوة إلى التزام تعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فهو وإخوانه الأنبياء - بتعاليمهم وهديهم - الطريق الموصل إلى الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر: "ليس كل من يقول لي: يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي" (متى 7/ 21)، فالخلاص يكون بالعمل الصالح والبر " أقول لكم: إنكم إن لم يزد بِرّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات .. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/ 20 - 23).

ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل المزعوم "الذي رآني فقد رأى الآب" إذا آمنا أن رؤية الله الآب ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا: " الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1/ 18)، وكما قال بولس: "لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية " (تيموثاوس (1) 6/ 16)، فيصير النص لزاماً إلى رؤية المعرفة والبصيرة كما تقدم بيانه.

============================

(1) شرح إنجيل القديس يوحنا، الأب متى المسكين (1/ 35).

 

 

 

  • الثلاثاء AM 11:41
    2022-05-10
  • 1604
Powered by: GateGold