المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409001
يتصفح الموقع حاليا : 356

البحث

البحث

عرض المادة

أمثلة لوقوع الشرك بين الناس

أولاً: الصور والتماثيل:

من المداخل الخطيرة لباب الشرك والتي تعد من الأمور العظيمة التي نهى عنها الله عز وجل: الصور، وذلك لما يفعله ذلك المصور من تصاوير يضاهي بها خلق الله عز وجل.

نقل النوري الطبرسي عن كتاب لب اللباب: أنه يخرج عنق من النار، فيقول: أين من كذب على الله؟ وأين من ضاد الله؟ وأين من استخف بالله؟ فيقولون: ومن هذه الأصنام الثلاثة؟ فيقول: من سحر فقد كذب على الله، ومن صوَّر التصاوير فقد ضاد الله، ومن تراءى في عمله فقد استخف بالله([1]).

والمقصود من التصاوير التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها: إما أن تكون تصوير ذوات الأرواح، لا سيما تصوير المعظمين من البشر كالأنبياء والأولياء والعلماء وغيرهم، أو ما يكون رسماً في قماش، سواء أكان هذا الرسم عن طريق رسم الصورة على لوحة أو ورقة أو جدار، وكل ذلك يعد من الفعل المحرم؛ لأنه يعد وسيلة من الوسائل المؤدية إلى الشرك وفساد العقيدة بين الناس؛ لأن أول شـرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ونصب الصور.

جاء في الخبر عن أبي جعفر عليه السلام: أن إبليس هو أوّل من صور صورة على مثال آدم عليه السلام ليفتن بها الناس، ويضلهم عن عبادة الله، ثم صوّر صورة (وُدّ)، وهكذا بعده (سواع) (فيغوث) ثم (يعوق)، حتى بعث الله إدريس عليه السلام فحذرهم من عبادة الأصنام ونهاهم عنها([2]).

ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وأخبر أنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأمر بطمس الصور، وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، كل ذلك من أجل مفاسدها وشدة مخاطرها على الأمة في عقيدتها.

وأما اليوم فإننا نرى كثيراً من الناسَ -هداهم الله إلى الحق- يعلقون صور الأنبياء والأولياء والعلماء وغيرهم في المساجد ومجالس الذكر والبيوت، وغيرها من الأماكن، أو يعلقون صورة النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين، وصورة نبي الله نوح وسليمان بن داود عليهم السلام وغيرهم، سالكين بذلك مسلك المخالفين من النصارى والمشركين وغيرهم من غير علم.

وقد نقل النوري الطبرسي من كتاب عوالي اللآلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل هذه الصور يُعذَّبُون يوم القيامة، يُقال: أحيوا ما خلقتم)([3]).

وروى المجلسي في بحاره: أن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: إني أصور هذه الصور، فأفتني فيها! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلُ مصور في النار، يجعل له لكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم)([4]).

وقد بوب ابن بابويه القمي في كتاب (من لا يحضره الفقيه) باباً بعنوان: ذكر جمل من مناهي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ونهى عن التصاوير وقال: (من صور صورة كلفه الله يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ)([5]).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الذين يؤذون الله ورسوله هم المصورون يكلفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح([6]).

وعن أبي عبد الله عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين: إياكم وعمل الصور؛ فإنكم تُسألون عنها يوم القيامة([7]).

وعن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صور صورة من الحيوان يُعذب حتى ينفُخ فيها، وليس بنافخ([8]).

وهذا ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخص علياً عليه السلام بذلك.

فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقال: (لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلا سويته، ولا كلباً إلا قتلته)([9]).

وقد يقول قائل: هذا النهي الصريح من سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما جاء في حق أولئك الذين يصورون الصور على شكل التماثيل المنحوتة، ولم يأت النهيُ عن التصوير الذي يُعرف بالرسم، أو ما يوضع على الجدار والقماش، فلم التشديد على الناس في ذلك؟

والجواب على هذه المقولة يأتي من نهي أحبابنا من آل البيت الأطهار عليهم السلام، فمن ذلك:

عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تبنوا على القبور ولا تصوروا سقوف البيوت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك([10]).

ومن المعلوم بداهة أن السقوف لا يمكن وضع التماثيل بها، فكان النهي عن التصاوير التي على شكل الرسم.

وجاء في الأخبار الصحيحة النهي الصريح عن التصاوير المرسومة، والتي تكون في الستور، فجاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ستراً فيه التصاوير أمر أن تقطع رأس تلك الصور([11]).

وضرر هذا الأمر يبلغ إلى أمر خطير وهو: نزع البركة وذهاب الخير من البيوت، عند نفور الملائكة من التصاوير.

وهذا ما نقله النوري الطبرسي عن درر اللآلي: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب)([12]).

ولعل المحب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ينشرح صدره بتفسير الدميري للحديث السابق حيث يقول: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة)، فقال العلماء: سبب امتناعهم من البيت الذي فيه الصور كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة خلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبدون من دون الله عز وجل ([13]).

ولحرص الأئمة عليهم السلام على التوحيد وإخلاص العمل لله، فقد حذروا من الصلاة في مكان يكون فيه تماثيل أو تصاوير مرسومة، ونهوا عنه في فتاواهم عليهم السلام.

فعن عبد الله بن الحسن، عن جده علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام قال: وسألته عن البيت قد صوّر فيه طير أو سمكة أو شبهه، يعبث به أهل البيت، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: لا، حتى يُقطع رأسه أو يفسده، وإن كان قد صلى فليس عليه إعادة. وسألته عن الدار والحجرة فيها تماثيــل: أيُصلى فيها؟ قال: لا يُصلى فيها وشيء منها مستقبلك، إلا أن لا تجد بُداً فتقطع رؤوسها، وإلا فلا تصل فيها([14]).

وعن الحسن، عن جده علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل: يُصلى فيه؟ فقال: تُكسر رؤوس التماثيل وتلطخ رؤوس التصاوير -أي: المرسومة- ويصلى فيه ولا بأس([15]).

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل -أي: المرسومة- ونفترشها، فقال: لا بأس بما يُبسط منها ويفترش ويوطأ، إنما يكره منها ما نصب على الحائط والسرير([16]).

ولله در الإمام جعفر عليه السلام، من هذه الإجابة التي تخرج من مشكاة النبوة، حين أوضح بالتفصيل أن ما يكون مهاناً من هذه الرسوم فلا بأس باقتنائه، أما ما يكون فيه دلالة على التعظيم، مثل أن يوضع على الجدران؛ فهذا قد بين حرمته وعظيم جرمه.

وعن سعد بن إسماعيل، عن أبيه، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المصلى والبسائط يكون عليها التماثيل: أيقوم عليه فيصلي أم لا؟ فقال: والله إني لأكره. وعن رجل دخل على رجل عنده بساط عليه تمثال فقال: أتجد ههنا مثالاً؟ فقال: لا تجد عليه ولا تصل عليه([17]).

وكل ما سبق ذكره من الأقوال والتحذيرات عن النبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين في هذا الجانب العظيم لم يكن إلا لسد باب عظيم يدخل منه الشرك إلى المسلمين من جانب التعظيم والغلو، وهم لا يشعرون، مثلما حدث لمن سبق من الأمم الغابرة.

 

 

ثـانياً: الغلو فـي الصالـحين:

مما يقود إليه أمر التفريط والتهاون في التوحيد، الإفراط والغلو في الصالحين، وهذا الأمر من أشنع وأخطر ما يهدم جناب التوحيد، ولربما هو الباب إلى كل شرك وشر.

والغلو: مجاوزة الحد، كأن يجعل للصالحين حقاً من حقوق الله الخاصة به؛ فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارك هو الكمال المطلق، والغنى المطلق، والتصرف المطلق من جميع الوجوه، وأنه لا يستحق العبادة والتأليه أحد سواه سبحانه.

فمن غلا في أحد من المخلوقين حتى جعل له نصيباً من هذه الأشياء فقد ساوى به رب العالمين، وذلك أعظم الشرك.

ومن رفع أحداً من الصالحين فوق منزلته التي أنزله الله بها فقد غلا فيه، وذلك وسيلة إلى الشرك وهدم للدين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً)([18]).

 

والناس في تعاملهم مع الصالحين على ثلاثة أقسام:

أهل الجفاء: الذين يهضمونهم حقوقهم، ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل.

أهل الغلو: الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله.

أهل الحق: الذين يحبونهم ويوالونهم، ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرؤون من الغلو فيهم، وادعاء عصمتهم.

وأهل الصلاح يتبرؤون من أن يدّعوا لأنفسهم حقاً من حقوق ربهم الخاصة، كما قال تعالى عن عيسى ابن مريم: ((سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)) [المائدة:116] وهذا ما سار عليه وانتهجه واعتقده الآل الكرام عليهم السلام.

ولنأخذ مثالاً على ذلك:

هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد انقسم فيه المسلمون على ثلاثة أصناف، منهم من غلا في حبه، وجعل له المنزلة المساوية لمنزلة الرب جل جلاله([19]).

ومن أمثلة غلوهم فيه عليه السلام: زعمهم أن الله قد عرض ولايته عليه السلام على الأنبياء والمرسلين، فقبلها بعضهم وأنكرها آخرون، ولما وقع الإنكار حدثت البلايا، ذلك أن المصائب نزلت على الرسل والأنبياء، مثل ما لقي آدم من المعصية، وما لقي نوح من الغرق، وما لقي إبراهيم من النار، وما لقي يوسف من الجب، وما لقي أيوب من البلاء، وما لقي داود من الخطيئة، وما لقي يونس من الغرق([20]).

والأدهى من ذلك دعواهم أن الذي أنجاهم هو أمير المؤمنين بنفسه بأمر الله([21]).

ومن يقرأ مثل هذه الروايات يجد أن إدراج لفظ الجلالة في سياق الكلام ما هو إلا لذرّ الرماد على العيون، ولتلطيف العبارة الشنيعة، وإلا فأمير المؤمنين -كما زعموا- قد أعطي التصرف المطلق، المنبثق من القدرة الذاتية.

ومنهم من غلا في بغضه كالخوارج والنواصب ومن ماثلهم.

ومنهم من أعطاه حقه ومنزلته في المحبة والموالاة التي تليق به، ولم يغلُ في منزلته وهم أهل الحق.

وقد حذَّر أمير المؤمنين عليه السلام من خطورة الغلو خاصة فيه، فقال: يهلك فيّ اثنان: محب غالٍ، ومبغض غالٍ([22]).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: وسيهلك فيَّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط فالزموه([23]).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن فيك مثلاً من عيسى، أبغضته يهود خيبر حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزلة التي ليسَ له، ألا فإنه يهلك فيَّ اثنان: محب مفرط يفرط بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله بغضي على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم أو كرهتم)([24]).

بل اشتد وعيده عليه السلام وقوله على من غلا فيه ورفع من مكانته فيما ليس له، فقال: اللهم إني بريء من الغلاة كبراءة عيسى ابن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبداً، ولا تنصر منهم أحداً ([25]).

وهذا ما فطن إليه سائر الأئمة عليهم السلام فنبهوا عليه، وتكاثرت عباراتهم حوله.

فقال الصادق عليه السلام: الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله، ويدّعون الربوبية لعباد الله، والله إن الغلاة لشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا([26]).

وهذا التحذير الخطيرمن الأئمة عليهم السلام يقودنا إلى التفتيش عن أساس الغلو ومنشأه فيهم، وهو ما كفانا مؤنته أبا عبد الله عليه السلام.

فعن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين، وكان والله أمير المؤمنين عبداً طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم([27]).

والأمر لم يكن خافياً عن انتباه الأئمة؛ إلى حال بعض محبيهم من شيعتهم وما سيؤدي إليه فرط حبهم فيهم، فتكلموا فيه وحذروا منه، فجاء عن ابن أبي نجران عن عبد الله قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: إنا أهل بيت صدّيقون، لا نخلو من كذاب يكذب علينا، ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس([28]).

ولنتذكر دائماً أن الأئمة؛ يرجون رحمة الله ويخافون عقابه، وهم يدعون الله سبحانه دائماً وليس لهم من ميزة عن غيرهم، وهذا لسان قولهم ينطق بهذا: فيقول الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضر ولا نفع، إن رحمنا فبرحمته، وإن عذبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم! ما لهم لعنهم الله؟! فقد آذوا الله وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم... أشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني، وإن عصيته عذبني عذاباً شديداً([29]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثالثاً: الغلو فـي القبور:

ومن الغلو في حب الصالحين أيضاً ما نشاهده في كثير من بلدان المسلمين من بناء الأضرحة وتجصيصها وجعلها مزارات تعبد بالنذر والذبح والتوسل مع الله، ويُطاف بها ويستغاث ويطلب المدد والعون من أصحابها، وتقدم لها القرابين وأكاليل الزهور والبخور وتهدر فيها الأموال، ظناً منهم أن لها الزلفى عند الله سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك من البدع المشابهة لعقائد اليهود والنصارى.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً؛ فإن الله عز وجل لعن اليهود حين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)([30]).

وعن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: الصلاة بين القبور! قال: صلِّ بين خِلالها، ولا تتخذ شيئاً منها قبلة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإن الله عز وجل لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)([31]).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تتخذوا قبوركم مساجدكم، ولا بيوتكم قبورا)([32]) أي: مثل المقابر لا تُصلى فيها النوافل والمستحبات.

وتجاوز النهي والتحذير عن الصلاة في المقابر إلى النهي عن البناء أو تزيين القبور.

فعن علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن البناء على القبر والجلوس عليها: هل يصلح؟ قال: لا يصلح البناء عليه، ولا الجلوس، ولا تجصيصه، ولا تطيينه([33]).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تبنوا على القبور ولا تصوروا سقوف البيوت؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك([34]).

 

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام في حديث المناهي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص المقابر ويصلى فيها، ونهى أن يصلي الرجل في المقابر والطرق والأرحية والأودية ومرابط الإبل وعلى ظهر الكعبة([35]).

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام في حديث المناهي أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الإنسان بشماله، وأن يأكل وهو متكىء، ونهى أن تجصص المقابر ويصلى فيها([36]).

وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور وكسر الصور([37]).

وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: مِن أكلِ السحت سبعة: الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وأجر الكاهن، وثمن الكلب، والذين يبنون البنيان على القبور... الخبر([38]).

وجاء في بعض الروايات الأسباب المانعة من هذا الفعل.

فروى النوري الطبرسي عن العلامة الحلي في كتابه (النهاية) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه وأن يقعد عليه أو يكتب عليه؛ لأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه([39]).

وقال الصادق عليه السلام: كل ما جُعل على القبر من غير تراب القبر فهو ثقلٌ على الميت([40]).

هذا هو حال وحرص آل البيت الكرام عليهم السلام على التوحيد من خلال فتاواهم، لا ما ينسب إليهم من الكذب المخالف للقرآن، وهديهم عليهم السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبر وعن تجصيصه، وأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى مباشرة دون واسطة، وكذا الأئمة عليهم السلام نهوا عن ذلك وحذروا منه.

 

 ومن العجيب! أن تجد من الناس من يستدل على مشروعية الطواف على القبور والحج إليها بروايات مكذوبة، وبقصص عجيبة، هي في الحقيقة من الوهم وتلبيس الشيطان؛ فإن كل من يعظم قبراً لإمام أو عالم، كالحسين عليه السلام أو غيره كالبدوي والعيدروس مثلاً، تجده يتعلق بتلك القصص المكذوبة أو التي قد تقع من أوهام العوام حول بركة أحد الأشخاص، ويترك كتاب الله الذي فيه: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)) [الجن:18]، وأيـضاً فيه قوله: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) [النمل:62] وقولـه: ((وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً)) [الإسراء:67].

أفنتعلق بتلك القصص التي تخالف كتاب الله وسار على منهجه الآل الكرام عليهم السلام أم أننا نسير على هدى وصراط واضح سار عليه صفوة الخلق عليه الصلاة والسلام وحث عليه آل بيته عليهم السلام، فإن لم يكن مع هؤلاء الحق... إذاً فمن سيكون معه الحق؟!!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رابـعاً: الدعاء وأنواعه:

الدعاء من أهم العبادات التي تقرب الإنسان إلى ربه، سواءً أكان مستغيثاً أم مستعيناً أم متعوذاً بالله عز وجل، وذلك لتضمنه طلب الثواب، والخوف من العقاب، والافتقار واللجوء إليه، وهو سلاح المظلومين ومفزع الضعفاء المكسورين، وسبب السعادة في الدارين، فمن صرف شيئاً من الدعاء لغير الله فقد أشرك بالله شركاً أكبر.

والدعاء أنواع، فمنه المشروع ومنه المحرم غير المشروع، وبيان ذلك على النحو التالي:

الدعاء المشروع ينقسم إلى نوعين:

النوع الأول: دعاء الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه:

أرسل الله عز وجل الرسل ليعلّموا البشرية توحيده في الدعاء والتضرع إليه وحده، وقد كان العرب قبل البعثة يدعون ربهم ويجعلون الوسائط بينهم وبين ربهم في الدعاء، من الأنبياء والأولياء والصالحين، معتقدين بأنها تشفع لهم وتقربهم عند ربهم.

فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم معلماً وآمراً بإفراد الله عز وجل في الدعاء، سواءً أكان دعاء استغاثة أو استعانة أو استعاذة أو غيرها من دون وسيط ولا شفيع، امتثالاً لأمره تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)) [الجن:18].

ولقوله تعالى: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)) [المؤمنون:117].

وقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)) [الجن:20].

وقوله تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) [النمل:62].

وقوله تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].

وقوله تعالى عن الاستغاثة: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)) [الأنفال:9].

وقاله تعالى: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) [الفلق:1].

وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو غلام أصولَ التوحيد، وقال له: (يا غلام، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهنّ؟ فقلت: بلى، فقال:احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)([41]).

النوع الثاني: طلب الدعاء من المخلوق الحي فيما يقدر عليه:

ومن الأدعية المباحة: أن يطلب الإنسان من أخيه الحي الحاضر أمراً يقدر على فعله في الدين أو الدنيا، كأن يطلب منه أن يدعو له في صلاته أو عند ذهابه للحج، أو أن يستغيثه على النجاة من حيوان مفترس أو من الغرق، أو يستعين به على ركوب دابته، أو يستعيذ به من شر أذى أعداء له ليدافع عنه... إلخ.

وقد أجاز الشارع هذه الأدعية بقيود، منها:

1- أن يكون الداعي على قيد الحياة.

2- أن يكون حاضراً غير غائب.

3- أن يكون مستطيعاً وقادراً على الفعل غير عاجز عنه وفي حدود قدرة البشر.

قال تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2].

وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)) [القصص:15].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أما الدعاء الممنوع:

فمثاله: دعاء المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يدعو الإنسان مستغيثاً مستعيناً بالأموات من الأولياء والصالحين أو بالأحياء الغائبين، وينزل بهم حوائجه من طلب الشفاء من المرض وتفريج الكرب ودفع الضرر عنه، فهذا النوع شرك أكبر.

وهذه الأمور ليست بمهجورة، أو أنها من نسج الخيال أو من وقع المحال، لإننا نرى كثيراً من الناس -هداهم الله إلى توحيده- يشدون الرحال إلى أضرحة الأولياء والصالحين يدعونهم مستغيثين مستعينين بحجة أنها تقربهم إلى الله لقضاء حوائجهم ودفع الهموم والأحزان عنهم، سالكين بهذه الأعمال مسلك العرب في الجاهلية، ولا يخفى عليك -كما مر ذكره- أن هؤلاء يستدلون بقصص كثيرة معرضين عن كتاب الله سبحانه، فلنتأمل في الآيات الآتية:

قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الأعراف:194].

وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)) [النحل:20].

وقال تعالى: ((فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [هود:101].

قال أبو جعفر محمد الطوسي:

لأنهم كانوا يسمونها آلهة، ويطلبون الحوائج منها كما يطلب الموحدون من الله، ومعنى (من دون الله): مَنْ مَنزلته أدنى مِنْ منزلة عبادة الله؛ لأنه من (الأدون) وهو الأقرب إلى جهة السفل([42]).

وقال تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)) [الجن:22].

قال محمد جواد مغنية:

... وهذه آية من عشرات الآيات التي تدل بصراحة ووضوح على أن الإسلام يرفض فكرة الواسطة بين الله وعباده، ويضع الإنسان أمام خالقه مباشرة يخاطبه ويناجيه بما شاء، ويتقرب إليه بفعل الخيرات من غير شفيع ولا وسيط([43]).

ولما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا وجمع عشيرته، وقال: (يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا بني قصي، اشتروا أنفسكم من الله؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس عم محمد، يا صفية عمته، يا فاطمة ابنته، ثم نادى كل رجل باسمه وكل امرأة باسمها)([44]).

وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته وأمته أن يتخذوه بعد مماته إلهاً يدعونه ويتشفعون به كما يفعل كفار قريش بالصالحين، وكما يفعل النصارى بعيسى ابن مريم.

ولهذا حرص الأئمة عليهم السلام على نصح وتعليم الأمة بأن يتوجهوا بدعائهم إلى الله وحده.

فعن الحسن بن المغيرة أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن فضل الدعاء بعد الفريضة على الدعاء بعد النافلة كفضل الفريضة على النافلة، قال: ثم قال: ادعه، ولا تقل: قد فُرِغ من الأمر؛ فإن الدعاء هو العبادة، إن الله يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60] وقال: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]. وقال: إذا أردت أن تدعو الله فمجده وحمده وسبحه وهلله وأثن عليه، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل تُعط([45]).

والسبب في حث الأئمة أحبابهم بأن يحرصوا على دعاء الله وحده لأهمية تعلق المسلم بالدعاء لعظمه عند الله.

فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، إما أن يعجل له في الدنيا، أو يؤجل له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمآثم)([46]).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افزعوا إلى الله في حوائجكم، والجؤوا إليه في ملماتكم، وتضرعوا إليه وادعوه؛ فإن الدعاء مخ العبادة)([47]).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد)([48]).

فيا له من عمل يسير وطريق موجز قصير في قضاء الحاجات وتفريج الكربات بين العبد وسيده ومالك أمره، من دون صرف أموال ولا قطع مسافات ولا اختيار وساطات، فلله الحمد والمنة والشكر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خامساً: التـوســل:

ومن أنواع الأدعية التي جاء النص على تأكيدها التوسل إلى الله عز وجل، وقد أفردناه منفصلاً لأهميته، وكثرة الخلاف فيه.

والتوسل: مصدر توسل يتوسل، أي: اتخذ وسيلة إلى مقصوده، فأصله طلب الوصول إلى الغاية المقصودة.

وينقسم التوسل إلى قسمين: مشروع وممنوع:

القسم الأول: التوسل المشروع:

من الأمور التي يحبها الله عز وجل من عباده التقرب له والتودد إليه والتوسل بما شرع الله عز وجل من الفرائض، كالصلاة والزكاة والصوم والنوافل، وترك المحرمات واجتناب المنهيات، والتوسل إليه بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى، والتقرب إليه بالعمل الصالح.

فعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال الله عز وجل: من أهان لي ولياً فقد أرصدته لمحاربتي، وما تقرب إليَّ عبد بمثل ما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته... الخبر([49]).

فهذه دعوة مستجابة، وسؤال مجاب للولي الحبيب القائم بأمر الله.

وهذا التوسل المشروع هو الذي جاء الحث عليه والترغيب فيه من الله سبحانه بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35].

قال السيد محمد الحسيني الشيرازي:

السبب الذي يقربكم إليه سبحانه من فعل الخيرات والأعمال الصالحة([50]).

وقال بعضهم: ما تتوسلون به إلى ثوابه من الطاعات([51]).

والتوسل له أنواع مشروعة يتوسل بها العبد إلى ربه، منها:

1- التوسل بالإيمان:

 وهو أن يتوسل المؤمنون بإيمانهم، كقوله تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ)) [آل عمران:193].

2- التوسل بتوحيد الله عز وجل:

وهذا التوسل حرص عليه الأنبياء في دعائهم، كدعاء نبي الله يونس حين ابتلعه الحوت، قال تعالى: ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)) [الأنبياء:87-88].

3- التوسل بأسماء الله الحسنى وبصفاته العلى:

قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180].

وكما يقال في الدعاء: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)([52]).

وكما يقال: (اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى)([53]) ثم تذكر مرادك.

4- التوسل بالأعمال الصالحة:

ومن المشروع أن يتوسل الإنسان إلى ربه بالأعمال الصالحة، كالصلاة وبر الوالدين وحفظ الحقوق والأمانة وقراءة القرآن وغيرها.

كقولك: اللهم إني فعلت ذلك -أي: من مساعدة الفقراء والمحتاجين ونصرة المسلمين وما أشبه ذلك- من أجلك سبحانك، ثم تذكر مرادك.

5- التوسل بطلب الدعاء من الأنبياء والصالحين الأحياء:

فعن أبي جعفر عليه السلام قال: مرّ أعمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشتهي أن يرد الله عليك بصرك؟ قال: نعم، فقال له: توضأ وأسبغ الوضوء، ثم صل ركعتين، وقل: اللهم إني أسألك وأرغب إليك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله ربي وربك أن يرد عليّ بصري، قال: فما قام حتى رجع الأعمى وقد رد الله عليه بصره([54]).

ويفيد هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للأعمى وهو حي، فاستجاب الله دعاءه وأمره أن يدعو لنفسه، ويتوجه إلى الله بدعاء نبيه، فقبل الله منه.

وهذا الدعاء خاص في حياته صلى الله عليه وسلم ولا يمكن الدعاء بعد الوفاة؛ لأن آل بيته عليهم السلام والصحابة لم يفعلوه، ولم يستفد منه العميان بعد هذه الحادثة، فتنبه رعاك الله، وكذا الأعمى لم يقل مباشرة هذا الكلام، وإنما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال ما قال.

القسم الثاني: التوسل الممنوع:

التوسل الممنوع هو الذي لا أصل له في الدين، مثل ما يفعله بعض جهلة المسلمين اليوم من اجتناب العمل الصالح والتوسل به، ولجوئهم إلى التوسل بواسطة الأنبياء والأولياء والصالحين.

فمنهم من يتوسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ كقوله: (يا رب بجاه محمد وآل محمد اغفر لي) فهذه بدعة([55])؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك ولم يفعله آل البيت عليهم السلام.

فــإن المسلمين توسلوا بالعبــاس عــم النبي صلى الله عليه وسلم حياً بدعـائــه، ولـم يتوسلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته عندما طلبوا نزول المطر([56]).

وأيضاً: التوسل بالجاه أمر حادث، والصحابة والأئمة عليهم السلام ليس بخافٍ عنهم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله، فلم يتوسلوا بهذه المقولة.

وكيف يتوسل إلى الله بأمر مخلوق، مثل الجاه والمكانة؟

وهذا مثل الحلف بالمخلوق، ولا يفعل مثل تلك الأعمال أو يقول تلك الأقوال إلا من جهل جادة الصواب، وغفل عن صحيح الجواب، واتبع ميراثاً خاطئاً بعيداً عن سبيل الرشاد؛ لذلك يجب على العبد المحب لآل البيت والمتبع لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما جاء به الأثر الصحيح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سادساً: الشفاعـة:

ومن أنواع الأدعية التي جاء الخبر بذكرها: الشفاعة، وهي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

والشفاعة حق، وهي ما يعتقد به المسلم من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف للفصل بينهم، وشفاعته في دخول الجنة، وتشفعه لمن يستحق أن يدخل النار أن لا يدخلها، كما يعتقد المسلم أيضاً أن هناك شفاعة للملائكة وللشهداء في أهلهم، وشفاعة للصيام والقرآن وغيرها.

واعلم -رحمك الله- بأن للشفاعة شرطين لابد من تحقيقهما جميعاً حتى يتحقق المقصود يوم القيامة، وهما:

الشرط الأول: الإذن من الله عز وجل:

قال تعالى: ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)) [طه:109].

قال الشيخ محمد باقر الناصري:

وصف سبحانه القيامة يتبعون صوت داعي الله الذي ينفخ في الصور وهو إسرافيل، لا عوج لدعاء الداعي ولا يعدل عنه أحد، وهناك خضعت الأصوات بالسكون لعظمة الرحمن، فلا تسمع منهم إلا همساً، ولا تنفع في ذلك اليوم شفاعة أحد، إلا من أذن الله له أن يشفع ورضي قوله من الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء([57]).

بل إن الله سبحانه نفى أن يكون لأي مخلوق أدنى شفاعة يوم القيامة إلا بعد إذنه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255].

قال أبو جعفر الطوسي:

إن أحداً ممن له شفاعة لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله في ذلك ويأمره به، فأما أن يبتدئ أحد بالشفاعة من غير إذن، كما يكون فيما بيننا، فليس ذلك لأحد([58]).

ويا حسرة من يظن أن هناك مخلوقاً بإمكانه الشفاعة أو النصرة لمن يدعوه من غير إذن الله له.

قال تعالى: ((لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:51].

قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:

فقد حصر الولاية به سبحانه، ثم الشفاعة التي أوردها بصيغة المبالغة ليهتم الناس بها، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته يشفعون من بعد إذنه سبحانه([59]).

وقال السيد محمد الحسيني الشيرازي:

وليس المراد أن الله يشفع، إذ لا معنى لشفاعته، بل المراد أن الشفاعة بيده، فلا يشفع أحد إلا بإذنه([60]).

الشرط الثاني: الرضا عن الشافع والمشفوع له:

قال تعالى: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)) [النجم:26].

قال السيد محمد الطبطبائي:

الفرق بين الإذن والرضا أن الإذن إعلام ارتفاع المانع من قبل الآذن، والرضا ملاءمة نفس الراضي للشيء وعدم امتناعها، فربما تحقق الإذن بشيء مع عدم الرضا، ولا يتحقق رضا إلا مع الإذن بالفعل أو بالقوة، والآية مسوقة لنفي أن يملك الملائكة من أنفسهم الشفاعة مستغنين في ذلك عن الله سبحانه، كما يروم إليه عبدة الأصنام؛ فإن الأمر مطلقاً إلى الله تعالى، فإنما يشفع من يشفع منهم بعد إذنه تعالى له في الشفاعة ورضاه بها، وعلى هذا فالمراد بقوله: ((لِمَنْ يَشَاءُ)) الملائكة، ومعنى الآية: كثير من الملائكة في السموات لا تؤثر شفاعتهم أثراً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم -أي: من الملائكة- ويرضى بشفاعته([61]).

وهذه الشفاعة المباركة لا تتحقق لكل مخلوق، بل هي مقتصرة على فئة معينة دون غيرهم.

قال تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)) [المدثر:48].

قال مير سيد علي الحائري الطهراني:

لو اجتمع الأنبياء والملائكة على شفاعتهم لا تنفعهم تلك الشفاعة، وليس المراد أنهم لا يشفعون لهم، إذ الشفاعة موقوفة بالإذن وقابلية المحل، فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت، والكافر ليس بقابل لها، فلا إذن في الشفاعة له ولا شفاعة، فلا نفع في الحقيقة([62]).

وقال الشيخ محمد باقر الناصري:

شفاعة الأنبياء والملائكة لا تنفع الكفار المنكرين، وإنما الشفاعة للمؤمنين الموحدين([63]).

وما من شفاعة إلا بيده سبحانه، ولا تقع إلا بعد إذنه لمن يشفع.

قال تعالى: ((قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)) [الزمر:44].

قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:

لا يشفع أحد إلا بإذنه، ولا يملك أحد الشفاعة إلا بتمليكه، والذي على هذه الصفة لا يقدر أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه؛ فإن أزمة الأمور كلها بيده([64]).

وقال السيد محمد تقي المدرسي:

يزعم البشر أن باستطاعته التهرب من المسؤولية بسببهم، وذلك بإلقاء مسؤولية ضلاله وانحرافه عليهم، كأن يلقي بمسؤولية انحرافه وضلاله على والديه، أو السلطات الحاكمة، أو المجتمع، ولكن الله ينسف فكرة الشفاعة عموماً، فيقول: ((أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)) [الزمر:43] كالنفع والضر والموت والحياة، أو أقل من ذلك؛ لأن الملك كله لله عز وجل، ((وَلا يَعْقِلُونَ)) [الزمر:43] لأنهم لو كانوا يعقلون لم يكونوا ليأمروا بما يخالف رضا الله تعالى، فهم إذن لا قوة لهم ولا علم، ومن يكون هكذا لا يكون شفيعاً.

إن الشفيع الحقيقي هو الله الذي بيده ناصية كل شيء، وإذا كان ثمة آخرون فإنما يشفعون بإذنه، فإذا أراد البشر أن يفر من عذاب الله فليهرب إليه تعالى، فليس من ملجأ منه إلا إليه، وكلنا يخشى من ذنوبه ولن نجد غافراً للسيئات التي احتطبناها سوى الله , ومن عادة البشر أنه إذا أذنب ذنباً حاول تبريره، أو اخترع لنفسه شفيعاً يزعم أنه سوف يخلصه من ذنبه، والله يقول له: لماذا تذهب هنا وهناك؟ تعال إليّ، حتى ولو كنت مذنباً تعال، فأنا الذي أخلصك من الذنب، لا أولئك الشفعاء، ولا تلك التبريرات فالله هو الشفيع حقاً؛ لأنه هو السلطان في السموات والأرض، فهو الذي يدبر الأمور اليوم، وإليه المصير، حيث الحساب الدقيق والجزاء الأوفى([65]).انتهى.

مع ذلك فإننا نرى كثيراً من الناس -هداهم الله للحق- يسافرون إلى أضرحة الأولياء والصالحين طالبين منهم الحاجات، ويتقربون إلى الله بشفاعة هؤلاء الصالحين وبمحبتهم لهم بأن يقضوا حوائجهم؛ وينسون أن الله ليس بينه وبين خلقه واسطة، بل يدعى سبحانه مباشرة، فيكشف الضر ويجيب المضطر، أو قد يؤخر الإجابة لحكمة منه، أو يؤخرها له يوم القيامة، أو يدفع عنه من الشر مثلها، والداعي في كل هذه الأحوال في عبادة لله، كما قال جلَّ ذكره: ((وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60] فسمى الدعاء عبادة, وما حال أولئك الذين يسافرون إلى الأضرحة والقبور ويطلبون حاجاتهم من الأولياء والصالحين إلا كحال عبادة النصارى وتشفعهم بعيسى ابن مريم، وكحال العرب في الجاهلية بتشفعهم وتقربهم إلى الله بأضرحة الصالحين وتماثيلهم.

وهؤلاء وصفهم الله بقوله: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18].

وقد أنكر عليهم سبحانه وتعالى، فقال: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس:18] أي: أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى وسيط أو شفيع ليرفع إليه حاجات الخلق؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من حال عباده، بل أنكر عليهم التوسط بالأولياء والصالحين، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل هم يتقربون إليه بالأعمال الصالحة خوفاً من عذابه ورجاء رحمته، فقال تعالى: ((قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)) [الإسراء:56-57].

 

وقال الحاج سلطان الجنابذي أيضاً:

ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام والكواكب عبادة العبيد، ومن الأهوية والآراء والشياطين عبادة اتباعية، ومن غير من نصبه الله من رؤسائهم الدنيوية أو رؤسائهم الدينية بزعمهم عبادة طاعة، والمقصود من نفي الضر والنفع نفي ما يتوهمونه ضراً ونفعاً مما يؤول إلى دنياهم من غير نظر إلى عبادتهم، وإلا فهي عبادتهم إياها، تضر غاية الضرر، ويقولون: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18] كما يقول الوثني: إن أصنامنا شفعاؤنا عند الله، وكما يقول أكثر الصابئين: إن الكواكب شفعاؤنا، والبعض يقول: هي قديمة مستقلة في الآلهة، كما يقول الزرداشتيون: النار تشفع لنا عند الله، وكما يقول المطيعون لمن يزعمونهم رؤساء الدين: هؤلاء وسائط بيننا وبين الله وأسباب قربنا إلى الله، والحال أنها وسائل الشيطان وأسباب القرب إلى الجحيم والنيران([66]).

وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي أيضاً:

يدعون أنهم بعبادتهم لها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، وأنه هو أذِن لهم بعبادتها وسيشفعها بهم يوم القيامة، وتوهموا -بعقيدتهم القبيحة- أن عبادة الله من خلالها تكون أشد تعظيماً لله، فاجتمع عندهم قبح القول وقبح العمل([67]).

فإذا كان هذا هو تمام القول في المعتقد الصحيح في قضية الشفاعة، التي نسأل الله أن نكون من أهلها ليجيرنا من نار جهنم، فهل تسألها أيها العبد -المحب للنبي وأهل بيته عليهم السلام - من الله الذي بيده كل شيء أو تسألها ممن لا يملك لنفسه شيئاً؟

 

 

 

 

سابعاً: مسبة الدهر والرياح ونحوها:

ومن الأشياء التي يقع فيها بعض الناس بحكم العادة، وهي مما ينقص التوحيد ويسيء إلى العقيدة مسبة الدهر والرياح وما أشبه ذلك، من توجيه الذم إلى مخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة موجهاً إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف الآمر لها , فمنهم من ينسب الهلاك إلى الدهر، لتعاقب الأيام والليالي عليهم.

قال تعالى: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)) [الجاثية:24].

قال أمين الدين الطبرسي:

أي نموت نحن ويحيا أولادنا، أو يموت بعض منا ويحيا بعض، أو يصيبنا الأمرّان: الموت والحياة، يريدون الحياة في الدنيا والموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة: ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)) وما يحيينا إلا الأيام والليالي، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر ويجعلونه المؤثر في هلاك النفس([68]).

ومنهم من يسب الدهر والوقت، وربما يلعنه، وهذا ناشئ من ضعف الدين والجهــل العظيم، فــإن الـدهر لـيس عنـده من الأمـر شـيء، فـإنـه مُدبَّر مُصرَّف، والتصاريف الواقعة فيه من تدبير العزيز الحكيم، فالسب واللعن في الحقيقة سيقع على المدبِّر لها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله، ولا تسبوا السلطان؛ فإنه فيء الله في أرضه، ولا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء، ولا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)([69]).

قال أمين الدين الطبرسي:

إن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المجحفة والبلايا النازلة إلى الدهر، فيقولون: فعل الدهر كذا وكانوا يسبون الدهر، فقال صلى الله عليه وسلم: إن فاعل هذه الأمور هو الله، فلا تسبوا فاعلها، وقيل معناه: فإن الله مصرف الدهر ومدبره، والوجه الأول أحسن، فإن كلامهم مملوء من ذلك، ينسبون أفعال الله إلى الدهر([70]).

ومنهم من يسب الرياح إذا رأى منها ضرراً، من قلع الأشجار، وهدم البيوت مثلاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الرياح وغيرها من مخلوقاته، وقال: (لا تسبوا الرياح؛ فإنها مأمورة، ولا تسبوا الجبال ولا الساعات، ولا الأيام ولا الليالي فتأثموا وترجع عليكم)([71]).

قال المجلسي معلقاً: بيان الغرض النهي عن سب الرياح والبقاع والجبال والأيام والساعات؛ فإنها مقهورة تحت قدرة الله سبحانه، مسخرة له تعالى، لا يملكون تأخراً عما قدمهم إليه، ولا تقدماً إلى ما أخرهم عنه، فسبهم سب لمن لا يستحقه، ولعن من لا يستحق اللعن يوجب رجوع اللعنة على اللاعن، بل هو مظنة الكفر والشرك لولا غفلتهم عما يؤول إليه، كما ورد في الخبر: (لا تسبوا الدهر؛ فإنه هو الله) أي: فاعل الأفعال التي تنسبونها إلى الدهر، وتسبونه بسببها هو الله تعالى([72]).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الليل والنهار ولا الشمس ولا القمر ولا الريح؛ فإنها تُبعث عذاباً على قوم ورحمة على آخرين)([73]).

وجاءنا الهدي المبارك فيما نقوله تجاه هذه الأمور، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح؛ فإنها بُشُر وإنها نُذُر وإنها لواقح، فاسألوا الله من خيرها، وتعوذوا به من شرها)([74]).

فلذلك يجب على المؤمن أن يعلم أن التصاريف واقعة بقضاء الله وقدره وحكمته، فلا يتعرض لانتقاص أمر قد خلقه وأوجده الله سبحانه، بل يرضى بتدبير الله، ويسلم لأمره، وبذلك يتم توحيده وطمأنينته.

 

 

 

ثامناً: الحلف بغير الله:

الحلف واليمين من الأقوال العظيمة والدالة على إيمان العبد وتعلقه بالله، ذلك أن الحلف: هو تأكيد لشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة، إما بحرف الباء أو التاء أو الواو، مثـل: بالله أو تالله أو والله.

ويشرع أن يحلف المسلم أيضاً بأسماء الله وصفاته ونحوها: كـرب الكعبة، أو بالعزيز، أو والذي خلقــك؛ وذلك لأن الصفة تابعة للموصوف.

ومن حلف بغير الله أو جعل له مساوياً أو نداً في حلفه مع ربه فقد أشرك في تعظيم الله عز وجل، وذلك هو الشرك الأكبر، لكن لو حلف معتقداً بأن المحلوف به أقل من ذلك فقد أشرك بالله شركاً أصغر.

وقد كثر بين الناس اليوم الحلف بالله كذباً أو بغيره شركاً، كمن يحلف بالأمانة أو بالوالدين أو بالشرف أو بالأولاد أو بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم السلام، ومنهم من يحلف بالأحياء والموتى من الأولياء والصالحين تعظيماً لهم وخوفاً من عقابهم.

فإذا اُستُحلِف ذلك الشخص بالله عز وجل حلف بالله دون تردد، وإن كان كاذباً، وإذا اسْتُحلِف بالنبي أو بأهل بيته أو بالولي الفلاني نراه يتكعكع ويتلعثم في قوله، ولن يحلف به إلا وهو صادقاً.

وقد روى النوري الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك)([75]). وروى أيضاً: (من حلف بغير الله فقد أشرك)([76]).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)([77]).

وعن الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المناهي أنه نهى أن يحلف الرجل بغير الله، وقال: (من حلف بغير الله فليس من الله في شيء) ونهى أن يقول الرجل للرجل: (لا وحياتك وحياة فلان)([78]).

وقال الشيخ المفيد:

ولا يمين عند آل محمد عليهم السلام إلا بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى، ومن حلف بغير اسم من أسماء الله تعالى فقد خالف السنة، ويمينه باطلة لا توجب حنثاً ولا كفارة، ولا يمين بالله تعالى في معصية لله، فمن حلف بالله أن يعصيه فقد أثم وكفارة يمينه ترك الفعل لما حلف عليه والاستغفار من يمينه في الباطل([79]).

ومن الأمور المنافية لكمال التوحيد ما يفعله الناس اليوم من كثرة حلفهم بالله عز وجل، وإن لم تكن الحاجة تدعوهم إليه، وهذا يدل على استخفافهم بربهم وعدم تعظيمهم له، قال تعالى: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ)) [القلم:10]، وقال عز وجل: ((وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)) [المائدة:89].

قال السيد محمد حسين فضل الله:

من هؤلاء الذين يكثرون الحلف على كل شيء مما يثيرونه أمام الآخرين، أو مما يختلفون فيه معهم، من القضايا المتعلقة بالدين وبالحياة وبالأوضاع المحيطة بهم، سواءً أكانت حقاً أم باطلاً؛ لأنهم لا يشعرون بالثقة في أنفسهم، أو بثقة الناس بهم، ولذلك فإنهم يلجئون لتأكيد الثقة إلى أسلوب الحلف، ولو على حساب المقدسات التي يحلفون بها، كما في الحلف بالله، حيث يسيئون إلى موقع عظمته بالقسم به في قصة كاذبة باطلة... وإذا حدقت بهؤلاء فيما يتصفون به من صفات أخلاقية على صعيد الواقع فسترى المهانة النفسية، والحقارة العلمية التي توحي بكل سقوط وانحطاط([80]).

وإذا قال قائل: يحدث أحياناً بيننا كثير من الحلف من غير قصد، كالحلف على الامتناع من ترك لباس أو أكل، أو مثل ما نقول: لا والله، وبلى والله، أيكون ذلك من الحلف الكاذب؟

فنقول له: لا حرج في ذلك الحلف؛ لأنه من باب اللغو، قال تعالى: ((لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)) [المائدة:89].

وشرح الشيخ محمد السبزواري النجفي هذه الآية بقوله:

اللغو: هو الكلام خالي القصد والهدف، والذي لا يعتد به؛ لأنه يصدر دون عقد القلب عليه، واللغو في الأيمان هو ما يقوله الناس كثيراً في محادثاتهم: بلا والله، ولا والله، وبظن وقوع الأمر كذلك، فالله تعالى -رحمة منه- لا يُؤاخذ عباده على تلك الأيمان اللاغية التي يستعملونها في كلامهم ومحادثاتهم، ويقول لهم: ((وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ)) [المائدة:89] أي أنه يحاسبكم على الأيمان المقصود الصادر عن عقد القلب والنـية بجرم تام([81]).

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: ((لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)) [البقرة:225] قال: هو لا والله وبلى والله([82]).

وعن مَسْعَدَة بنِ صَدَقةَ، عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: سمعته يقول في قول الله عز وجل: ((لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)) [البقرة:225]، قال: اللغو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، ولا يعقد على شيء([83]).

لذا فالواجب على كل مسلم حفظ يمينه وكلامه وتعظيمه لله، وإن استلزم أن يقسم فليقسم بالله سبحانه ولا شيء غيره.

 

 

 

 

 

 

 

 

تاسعاً: التبرك:

مما يلحق بالغلو وتعظيم الأئمة والصالحين قضية التبرك، التي تناولها العلماء بالشرح والبيان.

والتبرك معناه: طلب البركة، وهي نعمة أنعم الله بها على خلقه إذا جاءوا ملتمسين بها للخير على ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

والتبرك له أنواع كثيرة منها:

التبرك بالأقوال: وهذا كقراءة القرآن الكريم وقراءة الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

التبرك بالأمكنة: فهناك أمكنة قد اختصها الله تبارك وتعالى بفضل منه، وجعل فيها مزية وزيادة في البركة، مثل: مكة والمسجد الحرام فيها، والمدينة النبوية، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى ومسجد قباء، وسائربيوت الله (المساجد).

التبرك بالأزمنة: ومن الأزمنة التي جعل الله تبارك وتعالى فيها البركة والفضل العظيم شهر رمضان، وليلة القدر، ويوم الجمعة، ومثل الثلث الأخير من الليل وغيرها.

ولنكن على بينة أن أعظم البركة والخير والأجر هو في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وترك ما نهى عنه، وعدم الزيادة على ما شرعه وما أقر به، لذلك فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من البدع من سنته وذكر بها عند الاستفتاح لكل حديث وخطبة يخطبها النبي صلى الله عليه وسلم على منبره، وجعلها سنة يتداولها أهل الصلاح والاستقامة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في أكثر خطبه: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبالبدع هدم السنن)([84]).

وقال الإمام علي عليه السلام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي، فعمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة)([85]).

 

وعن منصور بن أبي يحيى، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فتغيرت وجنتاه والتمع لونه، ثم أقبل بوجهه، فقال: (يا معشر المسلمين، إنما بعثت أنا والساعة كهاتين، قال: ثم ضم السباحتين، ثم قال: يا معشر المسلمين، إن أفضل الهدى هدى محمد، وخير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، ألا وكل بدعة ضلالة، ألا وكل ضلالة ففي النار)([86]).

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام قبل موته: أيها الناس، كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره، والأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته، كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله إلا إخفاءه، هيهات! علم مخزون، أما وصيتي: فالله لا تشركوا به شيئاً، ومحمد صلى الله عليه وسلم فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين([87]).

ولو نظرنا في حالنا الآن لوجدنا كثيراً منا على خلاف ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، منحرفين عن هديه تاركين سننه، مبتدعين سنناً أخرى، فإننا نرى كثيراً من الناس -هداهم الله تعالى إلى الصواب- يتعلقون بغير الله في طلبهم البركة.

فمن البركات الباطلة التي يتعبد بها الناس في هذا الزمان أنهم يتبركون في تعظيمهم للاحتفالات والابتهالات الإسلامية (كما يدّعون) كيوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، والأولياء والصالحين وغيرهم كثير، وتعظيمهم لذكرى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واستشهاد بعض الأولياء والصالحين، وكذا الاحتفال بليلة القدر أو الإسراء والمعراج، والاحتفال بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم فتح مكة، وغيرها من البدع.

فكل هذه المناسبات المحدثة هل ثبت لدينا بدليل واحد أن نبينا صلى الله عليه وسلم جعل لها يوماً للاحتفال بها؟ دلالة منه على أهمية هذه المناسبة وتذكيراً لنا بها؟!

بل هل ثبت عند من بعده كأمير المؤمنين علي عليه السلام لما تولى الخلافة أنه خصص يوماً لتذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو لمناسبة مولده أو إسرائه ومعراجه؟!

فإذا لم يثبت عندنا لتلك المناسبات بأي دليل مقبول، فلم نفعل أمراً نظن فيه الحب والتقرب إلى آل البيت وهم أعلم الناس بالله سبحانه، فهل بلغنا علم لم يبلغهم؟!

 أو هل نحن أعلم بالله أو أكثر حباً للنبي صلى الله عليه وسلم منهم؟! وهل سبقناهم إلى علم فاتهم وقصر علمه عنهم؟!

والخطب ليس بيسير، فقد تجاوز الأمر في الاعتقاد إلى التبرك ببعض الأماكن، كتقبيلهم جدران الكعبة والتمسح بها، والتمسح كذلك بمقام نبي الله إبراهيم عليه السلام، والسفر إلى أضرحة الصالحين للدعاء وطلب الحوائج والتبرك والمسح عليها، والأخذ من ترابها وقماشها الملون، وغيرها من الأفعال الشركية([88])، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم فئة من الصحابة في غزوة حنين عندما طلبوا منه أمراً ليتبركوا به، وذلك لقرب عهدهم بالإسلام وتأثرهم بالجاهلية، وظنهم أن هذه الأفعال لا حرج في فعلها.

وذكر الشيخ زين الدين النباطي في كتابه الصراط المستقيم:

أنه كان للمشركين شجرة يسمونها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم([89])، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط! فقال: (هذا مثل قول قوم موسى: ((اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) [الأعراف:138] لتركبن سنن من كان قبلكم)([90]).

وقال شارح نهج البلاغة: قد جاء في المسانيد الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النّعل بالنّعل، والقذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، فقيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن ذلك؟!([91]))([92]).

فعليك أيها المسلم بخير الهدي وبالصراط القويم ولا يغرنك فعل الكثرة من العوام.

 

عاشراً: شرك الخوف:

المسلم متعلق بالله ظاهراً وباطناً؛ لأنه يريد تحقيق العبادة في كل شيء حتى في أحاسيسه وفكره، رغبة ورهبة، حباً وطمعاً، حتى في الخوف.

والخوف: هو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى.

وقد نهى الله عز وجل المؤمنين أن يخافوا غيره، وأمرهم أن يقصروا خوفهم عليه، فلا يخافون إلا إياه، وهذا هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده الموحدين، فإذا أخلصوا له في الخوف وفي جميع العبادات أعطاهم ما يرجون، وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة.

عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: من خاف الله عز وجل أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله عز وجل أخافه الله من كل شيء([93]).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عرف الله خافه، ومن خاف الله حثه الخوف من الله على العمل بطاعته والأخذ بتأديبه، فَبَشَّر المطيعين المتأدبين بأدب الله والآخذين عن الله أنه الحق على الله أن ينجيهم من مضلات الفتن([94]).

واعلم رحمك الله أن الخوف من الله تعالى درجات بين الناس، فمنهم من يغلو في خوفه، ومنهم من يفرط، ومنهم من يعتدل في خوفه.. وهذا هو الصواب.

فيجب على المؤمن أن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، بحيث لا يذهب مع الخوف وحده فيقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء وحده حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله ينافيان التوحيد.

لذلك فإن الله عز وجل يقول: ((وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً)) [الأعراف:56].

واعلم رحمك الله بأن الخوف الحاصل عند الناس على أنواع ثلاثة:

النوع الأول: خوف طبيعي:

وهو كخوف الإنسان من السباع والنار، وهذا لا يلام عليه العبد؛ لأنه أمر طبعي مفطور عليه خلقة. قال تعالى عن موسى عليه السلام: ((فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ)) [القصص:18].

النوع الثاني: خوف الطاعة:

وهو أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لغير عذر خوفاً من الناس مثلاً، فهذا محرم، وهو نوع من أنواع الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد، قال تعالى: ((وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)) [العنكبوت:10].

قال محمد الكرمي:

ومن الناس من يستسهل أمر العقيدة، ويراها لزاماً إذا واتته الصدف بها ولم يجد مزاجاً له عليها، فمتى افتتن في حقها انقلب عنهـا، وجعل تعذيب الناس على الحق كتعذيب الله له على الباطل، فكيف أن الإنسان يترك فعل الحرام لأجل خوفه من عذاب الآخرة، كذلك يترك العقيدة المخالفة لأجــل خوفه من الناس في حال أنه لا سواء بين العذابين، فعذاب الناس منقطع وعذاب الله دائم([95]).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: من طلب رضا الله بسخط الناس رد الله ذامَّه من الناس حامداً، ومن طلب رضا الناس بسخط الله رد الله حامده من الناس ذاماً([96]).

النوع الثالث: خوف السر:

وهو خوف فئة من الناس من أضرحة الأنبياء والأولياء، فتراهم يتقربون إليهم بشتى أنواع العبادات من نذر وذبح وحلف خوفاً على أنفسهم وأولادهم وأموالهم من سخط وغضب صاحب ذلك القبر، أو يخاف من ولي مخافة ربما تزيد على مخافة الله عز وجل من انقطاع رزقه وفقره بسبب ذاك الولي، وهذا من الشرك الأكبر.

قال تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ)) [التوبة:18].

قال السيد محمد حسين الطبطبائي:

الخشية الدينية وهي العبادة، من دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا المقربون من أولياء الله كالأنبياء، قال تعالى: ((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ)) [الأحزاب:39]، والوجه في التكنية عن العبادة بالخشية أن الأعرف عند الإنسان من علل اتخاذ الإله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته، ورجاء الرحمة أيضاً يعود بوجه إلى الخـوف من انقطاعه وهو السخط، فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئاً من الأصنام فقد دعاه إلى ذلك، إما الخوف من شمول سخطه، أو الخوف من انقطاع نعمته ورحمته، فالعبادة ممثلة للخوف والخشية مصداق لها لتمثيلها إياها، وبينها حالة الاستلزام([97]).

وقال تعالى: ((إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:175].

قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:

((فَلا تَخَافُوهُمْ)) أي: لا تفزعوا منهم أيها المؤمنون؛ لأني ناصركم ومعينكم ((وَخَافُونِي)) واحذروا مني؛ لأن السعادة الأبدية الطيبة هي أن يخاف العبد مولاه وربه الذي بيده أزمّة أموره في الدنيا والآخرة، فينبغي أن تتقوني ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: بمقتضى إيمانكم، ولا يجوز أن ينحصر خوفكم بغير الله تعالى؛ لأن المخلوقين أمورهم بيده سبحانه وهم ضعفاء مفتقرون إليه([98]).

وكيف يخاف العبد المتعلق بالله الطائع له من أحد من الخلق؟ أليس الله بكاف عباده مما يضرهم؟

قال تعالى: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) [الزمر:36].

قال محمد الكرمي:

أليس الله المقتدر على كل شيء بكاف عبده الملتجئ إليه؟ بلى هو كاف له، ولا يجوز أن يتخوف بالشركاء المتخذين للجهلاء؛ فإنهم ومهما كانوا لا وزن لهم، وضلال الضال إنما جاءه لانصرافه عن ربه، وهداية المهتدي إنما حصل له لإقباله عليه، ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين المعاصرين لكم من هو خالق هذه السموات العظيمة والأرض الجسيمة ليقولن لكم: الله خلق ذلك، فقل لهم حينذاك: أفرأيتم أن ما تدعون من دون الله هذا الخالق، هل بهن أن يكشفن الضر عني إن أراده الله لي؟ أو أنهن هل يستطعن أن يقفن أمام وصول رحمته إلي إن أراد لي رحمة؟ فحتماً سيجيبون: لا، ليست بالأصنام أن تدفع عذاب الله أو أن تجلب رحمته، فقل: إذاً حسبي الله عن كل ما سواه، وعليه فليتوكل المتوكلون([99]).

لهذا ليكن دائماً قولك يا عبد الله: (حسبي الله ونعم الوكيل) ولن يضرك شيء في الدنيا إلا ما قدره الله عليك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحادي عشر: شرك المحبة:

إن أصل التوحيد وروحه يكمن في إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصل التألّه والتعبد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه وتسبق جميع المحاب وتغلبها، بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه.

ولما كان الإنسان يدور في حياته إقبالاً وإدباراً للأشياء حوله حباً أو كرهاً، كانت المحبة على أنواع كثيرة متنوعة هي كالآتي:

النوع الأول: محبة الله عز وجل:

وهي إفراد المحبة المستلزمة للذل والخضوع، وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره، فهذه المحبة خالصة لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيها أحد.

وهذا كحب نبي الله إبراهيم عليه السلام لربه عند استجابته في ذبح ابنه إسماعيل لرؤيا رآها في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فقال تعالى: ((فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ)) [الصافات:102].

النوع الثاني: المحبة لله:

وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم، وأن يحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما يبغضه الله من الأعمال والأشخاص، وأن يوالي أولياء الله عز وجل ويعادي أعداءه، وهذا هو كمال إيمان العبد وتوحيده.

فعن البراء بن عازب قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتدرون أي عرى الإيمان أوثق؟ قلنا: الصلاة، قال: إن الصلاة لحسنة وما هي بها، قلنا: الزكاة، فقال: لحسنة وما هي بها، فذكرنا شرائع الإسلام، فقال: أوثق عرى الإيمان أن يحب الرجل في الله ويبغض في الله)([100]).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب شمعون بن لاوي بن يهودا من حواريي عيسى: (...وأما علامة البار فعشرة: يحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه، ويخشع لله خائفاً مخوفاً طاهراً مخلصاً مستحيياً مراقباً، ويحسن في الله)([101]).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله)([102]).

وهذا ما فعله الصحابة رضي الله عنهم في تحقيق المحبة الصحيحة المباركة، وكان فيهم أمير المؤمنين علي عليه السلام، فيتذكر بحسرة وأسى ما آل إليه أمره في الكوفة بين نفر من الناس لم يعرفوا حق الصحابة رضي الله عنهم، وكيف أنهم حققوا المحبة الخالصة لله وحده.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقتُل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً، ومضينا على اللقم، وصبرنا على مضض الألم وجِدّاً في جهاد العدو([103]).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب([104]).

النوع الثالث: المحبة الطبيعية:

وهي المحبة الفطرية التي فطر عليها الإنسان، كمحبة الوالدين والزوجة والأولاد، ومحبة الطعام واللباس وغيرها، ما لم تكن على محبة الله وطاعته.

والحذر من أن تقودك المحبة الطبيعية إلى تغليبها أكثر وأعظم من حب الله وطاعته.

قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) [التوبة:24].

قال محمد جواد مغنية:

والإنسان بفطرته يحب نفسه وأهله وأمواله، والدين لا يأبى ذلك، ولا يحجز على أحد أن يستمتع بما يشاء، ويحب من يريد، شريطة أن يتقي الله في هذا الاستمتاع والحب، وأن يكون على حساب جهوده، لا على حساب الآخرين([105]).

لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حب الله ورسوله شرطاً من شروط الإيمان:

فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)([106]).

النوع الرابع: محبة مع الله:

وهي أن تكون محبه غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدّم محبة غير الله، والخشية من جعل هذه المحبة نداً لله يقدمها على محبة الله أو مساوية بها.

وهذا ما نلاحظه في عصرنا، فإننا نجد كثيراً من الناس يأتون إلى أضرحة الأولياء والصالحين بتلهف وشوق وبكاء لا يمكن أن يفعل عند الدعاء لله في الخلوة، وكذلك يرون أن زيارتهم لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو آل بيته عليهم السلام أحب إليهم وأعظم مكانة وقصداً من زيارة بيت الله الحرام.

ولهذا فقد نُسِب إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام كذباً وزوراً ما يخالف الأصول الشرعية، والنهج النبوي المبارك، مثل أنه قال: من زار الحسين يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكياً لقي الله عز وجل يوم القيامة بثواب ألفي ألف حجة، وألفي ألف عمرة، وألفي ألف غزوة، وثواب كل حجة وعمرة وغزوة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الأئمة الراشدين صلوات الله عليهم([107]).

وهذا كذب مفضوح على الإمام الباقر عليه السلام، فلو كانت زيارة الحسين يوم عاشوراء والبكاء عند قبره أعظم ثواباً من الحج والعمرة لجاء حتماً ذكرها في كتاب ربنا العزيز، وهذا مما يبين لنا أنهم قد كذبوا على الأئمة في شتى الأمور كهذا القول وغيره، وهم بريئون منه.

وقال تعالى حكاية عمن عبد غير الله: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:97-98].

قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:

حيث جعلناكم مساوين في العبادة والخضوع لرب العالمين، هذا بناء على كون الخطاب للأصنام، وقيل: يقولون لمن تبعوهم: أطعناكم كما أطعنا الله فصرتم أرباباً([108]).

وهذه المساواة التي أرادها الشيخ بشرحه للآية المباركة لا تتعرض للمساواة القلبية أو الباطنية فقط، لكنها ابتداء تتكلم عن المساواة الظاهرية في جوارح العباد، والدالة فيما بعد على ما في القلب من توقير وتعظيم للمتوجه إليه بالمساواة.

ومنهم من يكون جل اهتمامه متعلقاً بالدنيا وزينتها، حتى أصبحوا عباداً لها، ولو فتشت عن قلوبهم لوجدتها ممتلئة من محبة متاع الدنيا.

وقد سمعنا من القصص الشيء الكثير عن أولئك العباد وما جرى لهم عند احتضارهم، فكانوا يقولون لهم: قولوا: (لا إله إلا الله) فتجد أحدهم قلبه الذي تعلق بتجارة العقارات يأبى أن يقول كلمة التوحيد، فيهذي بما يدل على تعلق فؤاده بالبيع والشراء، ومنهم من كان يُغَنِّي عند احتضاره، ومنهم من طلب الخمر.

ولهذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (تعِس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس ولا انتعش بين أن محبها عبد لها، من عبد حجراً فهو عابد صنم)([109]).

وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: ((وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165].

قال السيد محمد تقي المدرسي:

لنظرتهم الجامدة، فهم يقدسون الشمس -مثلاً- بدلاً من أن يعبدوا الذي خلق الشمس ونظّم سيرها، وهو الله، لماذا؟ لأنهم ينظرون إلى ظاهر الشمس دون أن يستدلوا بها على ربها، كذلك فهم يرتبطون بأصحاب المال والجاه والعلم دون أن يفكروا أن هؤلاء جميعاً عباد الله، وأن الله هو الذي أعطاهم هذه النعم، فأولى بهم وأجدر أن يتصلوا بالله مباشرة، ولا يسمحوا لأنفسهم بأن يستعبدها هؤلاء الوسطاء: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165] فبالرغم من إنشاء علاقة بينهم وبين أصحاب المال والجاه والعلم، فهم لا يسمحون لأنفسهم بالعبودية لهؤلاء، بل يبقون أبداً مرتبطين بالله ارتباطاً أشد([110]).

وبعد هذه النصوص والأخبار لنفرق بين الحب الذي يجر إلى التقديس والتعظيم لأمور عدة من غير بيان للحق والأثر الصحيح، حتى يبعد صاحبه عن محبة الله، وبين الحب المتوجه للأولياء والعلماء والأماكن والأزمان الذي يكون في مرضاة الله تعالى ووفق ما يحبه الله تعالى، وتبعاً لأمره الكريم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثاني عشر: شرك الطاعة:

يؤمن المسلم بوجوب محبة علماء الإسلام واحترامهم وتوقيرهم والتأدب معهم؛ لأنهم هم العارفون بشرع الله والمتفقهون في دينه، والعاملون بعلمهم على هدى وبصيرة.

ولأن العلماء من خير البرية؛ لأنهم أشد الناس خشية لله سبحانه، قال تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر:28]، وقال تعالى: ((أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)) [البينة:7-8].

واعلم رحمك الله أن طاعة العلماء فرض على الناس بقيدها، وهي أن تكون تابعة لطاعة الله ورسوله وإلا فلا طاعة لهم، ودليل ذلك قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59].

فمن تمعن في الآية الكريمة يلاحظ أن الله جعل طاعته مستقلة، وطاعة رسوله مستقلة أيضاً، بينما جعل طاعة أولي الأمر تابعة، ولهذا لم تسبق طاعة ولي الأمر بالفعل (وأطيعوا)، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وأولو الأمر هم أهل الشأن من العلماء والأمراء؛ لأن العلماء يسند إليهم أمر الشرع والعلم به، والأمراء يُسند إليهم تنفيذ الشرع وإمضاؤه.

وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت أمور الناس، وبفسادهم تفسد الأمور؛ لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة، والأمراء أهل الإلزام والولاية.

ويجب على المسلم أن يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الصحيحة والفهم الصحيح الذي سار عليه وانتهجه آل البيت عليهم السلام، ولا يقلد عالماً معيناً في كل ما يقول ويلتزم بمذهبه التزاماً أعمى؛ لأن العلماء بشر يصيبون ويخطئون، فقد يخطئ أحدهم الحق في مسألة من المسائل، لا عن قصد وعمد ولكن عن غفلة وسهو، أو عدم إحاطة بالمسألة الشرعية.

فلهذا ينبغي للمسلم العاقل أن لا يتعصب لرأي عالم دون الآخر، بل يجعل نصب عينيه قوله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [الأنبياء:7].

ولو نظرنا في أحوال المسلمين اليوم -إلا من رحمه الله- لوجدناهم قد أشركوا في طاعة الله عز وجل، تاركين شرعه وسنة نبيه وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعرضين عن ما نقله إلينا آل بيته عليهم السلام، متبعين طريقة الأولياء من الأمراء والعلماء الضلال.

فجعلوا حرياتهم وأفعالهم وتفكيرهم في أسر وقيد متين لا ينفك غله، ولا يستبين أمره في سبيل معرفة الحق من الضلال، وليس في مقدورهم النقاش أو السؤال لمعرفة السبب في الفعل أو الترك، أو للتفريق بين الهدي النبوي الصحيح، أو ما أحدثوه في دين الله من الشرك والبدع والخرافات من الاستغاثة بالأموات والدعاء من دون الله والاحتفال بأعياد الميلاد وغيرها من البدع الصادرة عن عقائد أحبار اليهود([111]) ورهبان النصارى([112])، لكنه إن بدر منه التفاتة للسؤال بين يدي مقلده لكان هذا وسماً عليه بالعار والتأنيب، وحكماً بالخروج من الطاعة والانقياد وحب آل البيت عليهم السلام، إلى الضلال والبغض والشك بأقوالهم على لسان المبلغين عنهم.

 وهذا ما جرّ كثيراً من المسلمين إلى الوقوع في معتقد خطير، وهو أن أحدهم إذا قيل له: نهى الله عز وجل في كتابه أو نهى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن كذا أو كذا، لرد وقال مباشرة: لكن العالم الفلاني قال كذا وكذا.

وهذا من الشرك المنافي لتوحيد الله عز وجل في طاعته، وذلك أنهم أطاعوا العلماء في تحريم ما أحل الله، وفي تحليل ما حرم الله عز وجل.

وهو ما قال الله تعالى فيه: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [التوبة:31].

قال أبو جعفر عليه السلام: أما المسيح فعصوه وعظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله، وأنه ابن الله... وأما أحبارهم ورهبانهم فإنهم أطاعوهم، وأخذوا بقولهم واتبعوا ما أمروهم به ودانوا بما دعوهم إليه، فاتخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم وتركهم ما أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتبعوه وأطاعوهم وعصوا الله، وإنما ذكر هذا في كتابنا لكي نتعظ بهم([113]).

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون.

وقال عليه السلام: (من أطاع رجلاً في معصية الله فقد عبده)([114]).

وقال عليه السلام أيضاً: (أما والله ما صاموا لهم ولا صلوا ولكنهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فاتبعوهم)([115]).

وقال عليه السلام أيضاً: (أما إنهم لم يتخذوهم آلهة، إلا أنهم أحلوا حراماً فأخذوا به وحرموا حلالاً فأخذوا به، فكانوا أربابهم من دون الله)([116]).

واتباع الأحبار والرهبان والعلماء من غير دليل بقصد مخالفة شرع الله يوقع في أمر خطير، قال تعالى: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121].

قال السيد محمد حسين فضل الله:

إشراك العبادة الذي يعني الطاعة والخضوع، فإذا كان هناك وحي الله ووحي الشيطان، واختار الإنسان غير وحي الله فإن ذلك يعني التمرد على الله والخضوع لغيره، وذلك هو الشرك الغير مباشر؛ لأن قضية التوحيد ليست مجرد فكرة تعيش في العقل، كما تعيش المعادلات الرياضية المجردة، بل هي فعل إيمان يتحرك في الفكر ليحرك المشاعر والأفعال والأقوال والمواقف لتكون -كلها- صورة حية له، لتتحول الحياة من حوله إلى فعل إيمانه بالله وفي طريق الله([117]).

وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي:

تسمعوا منهم وتذعنوا لقولهم في استحلال الحرام ((إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121] بترك دين الله والميل إلى دينهم، فإن ذلك شرك به تعالى وإدخال لغير حكمه في أحكامه([118]).

وقال أمين الدين الطبرسي: لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به([119]).

ولقد علمنا ربنا سبحانه وتعالى ماذا نفعل إن اختلفنا في حكم شرعي، وماذا نتبع.

فقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) [الشورى:10].

قال الفيض الكاشاني:

وما اختلفتم فيه من شيء من المذاهب واخترتم لأنفسكم من الأديان فحكم ذلك كله إلى الله يوم القيامة، وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل متشابه فارجعوا إلى المحكم من كتاب الله، ذلكم الله ربي عليه توكلت في مجامع الأمور، وإليه أنيب وأرجع([120]).

وهذا الباب والمعتقد من أخطر المعتقدات التي تهوي بفاعله إلى الشرك، ولو أن المسلم فكّر في كل ما ينقل أو يقدم إليه من قبل المشايخ والأئمة، وسأل عن صحة الخبر وبحث في مصادر الفتاوى لوجد أن أغلب الفتاوى لا سند لها، والله يعصمنا من الزلل في ديننا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثالث عشر: الـذبح:

الذبح: هو إزهاق الروح بإراقة الدم لحيوان مأكول شرعاً، على وجه مخصوص، يقصد به تعظيم المذبوح له و التذلل له والتقرب إليه، وهذا لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.

والذبح من العبادات والطاعات الدالة على ذل العبد لله سبحانه، فمن صرف وقصد في ذبحه ونيته لغير الله عز وجل فقد أشرك بالله شركاً أكبر مخرجاً عن ملة الإسلام.

قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) [الأنعام:162-163].

قال الشيخ محمد باقر الناصري:

فالنسك كل ما تقرب به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه أمر الذبح([121]).

وقرن الله بين الصلاة والنحر لأهميتهما ودلالتهما على تعظيم أمر الله.

قال تعالى: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)) [الكوثر:2].

قال ناصر مكارم الشيرازي:

 نِعم واهب النَّعم هو سبحانه، لذلك ليس ثمة معنى للعبادات إن كانت لغيره، خاصة وأن كلمه (رب) تعني استمرارية النعمة والتدبير والربوبية، وبعبارة أخرى العبادات سواء كانت صلاة أم نحراً، تختص بالرب وولي النعمة وهو سبحانه وتعالى، والأمر بالصلاة والنحر للرب مقابل ما كان يفعله المشركون في سجودهم للأصنام ونحرهم لها، بينما كانوا يرون نعمهم من الله، وتعبير ((لِرَبِّكَ)) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات([122]).

وينبغي أن نعلم أن الذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون الذبح لغير الله فرحاً أو إكراماً للضيف، فهذا لا حرج فيه بل هو من الأمور المعتادة التي قد تكون مطلوبة تارة وغير مطلوبة تارة أخرى، فالأصل أنها مباحة.

فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: مما علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ‘ أن قال لها: (يا فاطمة، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)([123]).

ومن الذبح الجائز أيضاً ما يكون اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: الذي يذبح للمولود وهو ما يسمى بالعقيقة. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: عقيقة الغلام والجارية كبش([124]).

القسم الثاني: أن يكون الذبح تعظيماً وتقرباً لغير الله، وإن ذُكر اسم الله ابتداء قبل الذبح، وهذا من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، وهو ما يفعله بعض الناس هداهم الله في تقربهم للأنبياء والرسل والأولياء عن طريق الذبح، زاعمين بأن صدقة تلك الذبائح وثوابها لهم، وحقيقة الأمر أنهم يذبحون وينحرون للأولياء حفاظاً على أموالهم وأولادهم، لجلب الخير لهم ودفع المصائب عنهم.

ومنهم من يذبح تقرباً وتعظيماً لقدوم سلطان للبلد مثلاً، أو لبعض العادات مثل ما يذبح تحت أقدام العروس عند دخولها لبيت زوجها، وهذا من الشرك؛ لأنها لم تذبح إكراماً ولا ضيافة ولا إخلاصاً لله عز وجل، بل رأينا بأعيننا أناساً يقومون بإسالة دماء الدجاج والخراف وغيرها على سياراتهم بقصد أن تحفظ وألا يحدث لها شيء من الحوادث، وكل هذا بسبب الجهل بالتوحيد وما كان عليه نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين من اعتقاد أن النفع والضر بيد الله وحده لا شريك له.

فعن عباس بن يزيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن هؤلاء العوام يزعمون أن الشرك أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء على المسح الأسود! فقال: لا يكون العبد مشركاً حتى يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يدعو لغير الله عز وجل ([125]).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكر أن سلمان قال: إن رجلاً دخل الجنة في ذباب، وآخر دخل النار في ذباب، فقيل له: وكيف ذا يا أبا عبد الله؟

قال: مرّا على قوم في عيد لهم وقد وضعوا أصناماً لهم، لا يجوز بهم أحد حتى يقرّب إلى أصنامهم قرباناً، قلَّ أم كَثُر، فقالوا لهما: لا تجوزا حتى تقرّبا كما يقرب كل من مر، فقال أحدهما: ما معي شيء أقربه، فأخذ أحدهما ذباباً فقربه، ولم يقرب الآخر قال: لا أقرب إلى غير الله عز وجل شيئاً، فقتلوه فدخل الجنة، ودخل الآخر النار([126]).

فإذا كان هذا قد دخل النار من أجل أنه قرّب ذباباً لهذه الأصنام من دون الله عز وجل، فكيف بمن يذبح ما غلا ثمنه من بهيمة الأنعام تقرباً لأي مخلوق من دون الله عز وجل؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرابع عشر: النـذر:

بعد بيان ما يصنعه بعض الناس في عبادة النحر، كان لزاماً أن أتحدث عن عبادة مقاربة لها ولها صلة بالنحر، وضل في مفهومها وسبيلها أيضاً طائفة من المسلمين، وتعد باباً إما إلى أبواب الخير أو إلى الشرك -والعياذ بالله- تلك هي عبادة النذر.

والنذر: هو إلزام المكلف نفسه لله شيئاً غير واجب عليه عند حصوله على ما يتمناه ويطلبه من ربه، مثل أن يقول: عليّ نذر لله إن حصل كذا وكذا، أو سأفعل كذا وكذا بما يرضي الله عز وجل.

والنذر من العبادات التي امتدح الله عز وجل الموفين بها، وكذلك أمر نبيُّه محمد صلى الله عليه وسلم بالوفاء من ألزم بها نفسه.

قال تعالى: ((يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)) [الإنسان:7].

قال السيد محمد الحسيني الشيرازي:

أي كانوا في الدنيا بحيث إذا نذروا وفّوا به ولم يخشوا، والنذر هو أن يلزم الإنسان على نفسه خيراً لأجله سبحانه، كأن ينذر الصيام والصدقة أو ما أشبهه([127]).

واعلم رحمك الله أن النذر عبادة([128])، كالصلاة والتوسل وغيرها من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله وحده، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك وكفر.

واعلم وفقني الله وإياك أن الأصل في عقد النذر ابتداء أنه مكروه؛ لأنه إلزام لنفس الإنسان مما جعله الله في حلٍّ منه، وفى ذلك زيادة تكليف على نفسه.

ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم بعد عقد النذر أو عند الوفاء، وتجده يسأل في كيفية الخلاص مما نذر به لثقله ومشقته عليه، ولا سيما مع ما يفعله بعض الناس إذا مرض، أو تأخرت عنه حاجة يريدها، نسمعه ينذر، وكأن لسان حاله وباطنه يقول: إن الله لن ينعم عليه بجلب الخير أو دفع الضرر عنه إلا إذا أعطاه مقابله كذا وكذا، وهذا سوء ظن بالله عز وجل.

ومن الناس من ينذر ويصرف نذره لغير الله عز وجل، مثل من يقول للرسول أو الولي الفلاني: عليَّ نذر، أو لهذا القبر عليَّ نذر، أو للملك الفلاني عليَّ نذر وما أشبه ذلك.

فهذا النذر المبذول لغير الله لا ينعقد إطلاقاً، ولا تجب فيه كفارة إن لم يتيسر فعله، بل هو شرك تجب التوبة منه كالحلف بغير الله، فلا ينعقد وليس فيه كفارة.

ومنهم من ينذر في معصية الله عز وجل كأن يقول: عليَّ نذر إن حصل كذا وكذا أن أسرق أو أشرب الخمر.

وهذا النذر منعقد في الذمة، ولكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين، كالحلف بالله على المحرَّم ينعقد وفيه كفارة.

وكل ما سبق بيانه من أحكام تتعلق بالنذر وانعقاده بالنية، ومن مشروعيته أو عدمها ليست بخافية على الله سبحانه.

قال تعالى: ((وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)) [البقرة:270].

قال مير سيد علي الحائري الطهراني:

أي نذر كان في طاعة أو معصية (والنذر) عقد الضمير على شيء والتزامه وهو في الشرع التزام بر وخير، ولا يقع في أمر غير مشروع ((فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)) [البقرة:270] الضمير راجع إلى (ما)، فإن الله يجازيكم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد([129]).

وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم موافقاً للآية السابقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)([130]).

وعن إسماعيل بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن رجل حلف في قطيعة رحم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة رحم... الحديث)([131]).

وفي الحديث أن رجلاً من الصحابة اسمه أبو إسرائيل نذر أن يصوم فلا يفطر، وأن يقوم فلا يقعد، وألا يستظل ولا يتكلم، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم عنه كل ما لا طاعة فيه، وألزمه بما فيه طاعة، فقال: (مروه فليتكلم وليقعد وليستظل وليتم صومه)([132]).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: النذر نذران، فما كان لله وفَّى به، وما كان لغير الله فكفارته كفارة يمين([133]).

وقال أيضاً: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم([134]).

وقد يتساءل القارئ ويقول: كيف تكرهون ما أثنى الله على من وفَّى به؟

فالجواب: إننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال: إننا هدمنا النص، إنما نقول: المحرم أو المكروه كراهية شديدة هو عقد النذر والدخول فيه ابتداء، وفرق بين عقده والوفاء به، فالعقد ابتدائي، والوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما فعلت.

والعبد المحب لربه متعلق بربه وسيده في السراء والضراء، ولسانه وفعله متبع لما يريده خالقه، فهو إما عبد شاكر أو صابر.. حتى يلقى الله على ذلك.

 

 

 

 

 

الخامس عشر: الرياء:

الإخلاص لله هو أساس الدين، وروح التوحيد والعبادة، وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله، فيقوم بأصول الإيمان وشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان التي هي الإحسان، وبحقوق الله وحقوق عباده، مكملاً لها، قاصداً بها وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة، ولا رئاسة، ولا دنيا، وبذلك يتم إيمانه وتوحيده.

ومن أعظم ما ينافي هذا صرف شيء من العبادة لأجل المخلوقين، والعمل لأجل مدحهم وتعظيمهم، أو العمل لأجل الدنيا، فهذا يقدح في الإخلاص والتوحيد.

قال المفسرون: والرياء من الشهوة الخفية؛ لأنه شهوة الصيت والجاه بين الناس بأنه متين الدين مواظب على نوافل العبادات، وهذه هي الشهوة الخفية، أي: ليست كشهوة الطعام والنكاح وغيرها من الملاذ الحسية([135]).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع الأمور([136]).

وقد ذكر المجلسي في بحاره أوصافاً للمرائين منها:

- الرياء بالقول: كرياء([137]) أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة، إظهاراً لغزارة العلم ولدلالته على شدة العناية بأقوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس بالمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام.

- الرياء في العمل: كمراءات المصلي بطول القيام ومدته، وتطويل الركوع والسجود، وإطراق الرأس وترك الالتفات، وإظهار الهدوء والسكون، وتسوية القدمين واليدين , وكذلك بالصوم وبالحج وبالصدقة وبإطعام الطعام، وبالإخبات بالشيء عند اللقاء؛ كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام، حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا اطلع عليه واحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته، فإذا رآه عاد إلى خشوعه , ومنهم من يستحي أن يخالف مشيته في الخلوة لمشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة، حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه تخلص به من الرياء، وقد تضاعف به رياؤه؛ فإنه صار في خلواته أيضاً مرائياً.

- المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين: كالذي يتكلف أن يزور عالماً من العلماء ليُقال: إن فلاناً قد زار فلاناً أو عابداً من العباد لذلك، أو ملكاً من الملوك وأشباهه ليقال: إنهم يتبركون به، وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليُري أنه لقي شيوخاً كثيراً واستفاد منهم، فيباهي بشيوخه، ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حُطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك([138]).انتهى

ولخطر الرياء وفداحة إثمه جاء التنبيه عليه في كتاب الله عز وجل.

قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) [الكهف:110].

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قول الله: ((فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)) [الكهف:110] فقال: (من صلى مراءاة الناس فهو مشرك، ومن زكى مراءاة الناس فهو مشرك، ومن حج مراءاة الناس فهو مشرك، ومن عمل عملاً مما أمر الله به مراءاة الناس فهو مشرك، ولا يقبل الله عمل مراء)([139]).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يارسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم)([140]).

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله سبحانه: أنا خير شريك، من أشرك معي شريكاً في عمله فهو لشريكي دوني؛ لأني لا أقبل إلا ما أخلص لي)([141]).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: واعملوا في غير رياء ولا سمعة؛ فإنه من يعمل لغير الله يَكِلَهُ الله إلى من عمله له([142]).

وقال الصادق عليه السلام: لا تُراءِ بعملك من لا يحيي ويميت، ولا يغني عنك شيئاً، والرياء شجرة لا تثمر إلا الشرك الخفي، وأصلها النفاق، يُقال للمرائي عند الميزان: خذ ثوابك ممن عملت له ممن أشركته معي، فانظر من تدعو، ومن ترجو، ومن تخاف، واعلم أنك لا تقدر على إخفاء شيء من باطنك عليه وتصير مخدوعاً، قال الله عز وجل: ((يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) [البقرة:9] وأكثر ما يقع الرياء في النظر والكلام والأكل والمشي والمجالسة واللباس والضحك والصلاة والحج والجهـاد وقراءة القرآن وسائر العبادات الظاهرة، ومن أخلص باطنه لله وخشع له بقلبه ورأى نفسه مقصراً بعد بذل كل مجهود، وجد الشكر عليه حاصلاً، فيكون ممن يرجى له الخلاص من الرياء والنفاق إذا استقام على ذلك على كل حال([143]).

وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله والدار الآخرة، ثم أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركاً([144]).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: ما بين الحق والباطل إلا قلة العقل، قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال: إن العبد يعمل العمل الذي هو لله رضا، فيريد به غير الله، فلو أنه أخلص لله لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك([145]).

والخزي على المرائي يوم القيامة حين يكشف عن عمله ونيته ويُفضح على رؤوس الخلائق.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟).

وقال صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا من جُبّ الخزي! قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: وادٍ في جهنم أعد للمرائين).

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المرائي ينادى يوم القيامة: يا فاجر، يا غادر، يا مرائي، ضلّ عملك وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له)([146]).

وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن أول من يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ما عملت فيما علمت؟ فيقول: يا رب، قمت به آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: إنما أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك.

ويُؤتى بصاحب المال، فيقول الله تعالى: ألم أوسع عليك المال حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: فما عملت بما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله سبحانه: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك.

ويُؤتى بالذي قُتل في سبيل الله، فيقول الله: ما فعلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله سبحانه: بل أردت أن يقال: فلان شجاع جريء فقد قيل ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك أول خلق الله تسعر بهم نار جهنم)([147]). انتهى.

ولخطورة هذا الأمر أسهبنا القول في بيانه؛ لأنه من الأمور الجسيمة التي تحبط عمل المسلم من غير أن يشعر أو يعلم، ولربما يعلم أن هذا خطر لكنه لا يراعي فيه عظمة الله سبحانه من أن تصرف له العبادة وحده سبحانه وتعالى.

 

 

السادس عشر: السحر:

الإنسان فيه طبع الفضول واللهفة على معرفة الغيب أو لتحقيق أمر عجزت عنه الماديات المعلومة بأي وسيلة كانت، والحذر إن كان هذا السبيل بوساطة طريق شقي فيه الخطر والوبال على الإنسان وغيره، ومن تلك الأمور الخفية قضية السحر.

والسحر: أمر خفي يحصل بين الساحر والشياطين من أعمال خفية لا تدركها الأبصار، وذلك من خلال رقى غير شرعية، وعزائم وطلاسم واستعمال للدخان وأدوية وإراقة دماء من البهائم وغيرها، حيث يقوم الساحر بتسخير أرواح خبيثة لتنفيذ ما يطلبه منها: إما بعقد الرجل عن زوجته أو إلقاء البغضاء بينهما أو بين أحد من الخلق، وغيرها من الأمور، وهذا لا يمكن وقوعه إلا بعد أن يأذن الله فيه إذناً كونياً قدرياً.

وللسحرة علامات يتصفون بها ويعرفون من خلالها، ومنها:

1- أنه يدّعي التدين، واضعاً أحياناً في يده خواتم ومسابيح لجذب الناس إليه، مع استخدام نسب شريف لأجل الإيهام بالصلاح.

2- لا يكون حافظاً لكتاب الله، ولا لعلومه الشرعية الدالة على تبصره بالفقه.

3- يسأل عن اسم أم المريض غالباً.

4- يجهر بقراءة القرآن على المريض ابتداء فقط عند الرقى.

5- يخبر عن أمور من الغيبيات كنوع المرض ومكان السحر، أو يدل المريض على أناس يتآمرون عليه.

6- يطلب أحياناً من المريض خصلات من شعر أو ملابس، أو إراقة دماء من البهائم.

7- يعطي للمريض التمائم والحُجُب والطلاسم أو شيئاً من الخَرَز والخيوط، ويحذر من فتح المغلق منها.

ولفداحة وضرر هذا الفعل والمعتقد فقد ذكر الله سبحانه أمر السحر في كتابه، وبيَّن منشأه وأساسه وسوء عاقبة من يعلمه للناس.

فقال تعالى: ((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) [البقرة:102].

قال المولى نور الدين الكاشاني:

((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)) ما تقرأه من السحر لينقاد لهم الناس ((عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)) على عهده زعماً منهم أنه بالسحر ما نال ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)) ولا استعمل السحر كما زعم هؤلاء ((وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) كفروا بتعليمهم الناس السحر([148]).

ولانعدام الخير في هذا الأمر فليس لمن تعلم السحر من حظ أو خير في الآخرة.

قال تعالى: ((وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) [البقرة:102].

قال الكاشاني: ((وَلَقَدْ عَلِمُوا)) هؤلاء المتعلمون ((لَمَنْ اشْتَرَاهُ)) بدينه الذي ينسلخ عنه بتعلمه، ((مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) من نصيب في ثواب الجنة. وقال: وفي العيون عن الصادق صلى الله عليه وسلم قال: لأنهم يعتقدون أن لا آخرة، فهم يعتقدون أنها إذا لم تكن فلا خلاق لهم في دار الآخرة بعد الدنيا، وإن كانت بعد الدنيا آخرة، فهم مع كفرهم بها لا خلاق لهم فيها. انتهى([149]).

ولأجل ذلك فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من السحر وتعلمه والإتيان إليه، وجعله من المهلكات، قال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات! قالوا: وما هي؟ قال صلى الله عليه وسلم: الإشراك والسحر...)([150]).

وعلى هذا التحذير سار وفعل وأمر الأئمة عليهم السلام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن علياً عليه السلام قال: من تعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربه، وحَدُّه أن يقتل إلا أن يتوب([151]).

وعن أبي عبد الله عليه السلام: أنه سُئل عن المعوّذتين أنهما من القرآن؟ فقال الصادق: هما من القرآن... إلى أن قال: وهل تدري ما معنى المعوّذتين؟ وفي أي شيء نزلت؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن أعصم اليهودي، فقال أبو بصير لأبي عبد الله: وما كان ذا؟ وما عسى يبلغه من سحره؟ فقال أبو عبد الله: بلى كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه يجامع ولا يجامع، وكان يريد الباب ولا يبصره حتى يلمسه بيده، والسحر حق، وما سلط السحر إلا على الفرج والعين([152]).

فالسحر له خطر ملموس وشر معلوم شاع خطبه بين جهلة العوام ودعاة السوء من بعض من يدعي العلم، وليس أساسه إلا الكفر ونشر الفساد والبعد عن الدين وفتنة الناس والكذب عليهم.

فعن أبي عبد الله، عن آبائه، عن علي عليه السلام في حديث: نحن أهل بيت عصمنا الله أن نكون فتانين أو كذابين أو زنّائين، فمن كان فيه شيء من هذه الخصال فليس منا ولا نحن منه([153]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السابع عشر: الكهانة والروحانية والعرافة:

مما يلحق بقضية السحر وخطورتها، عمل الكهانة والتنجيم وادعاء ما ليس للإنسان علم به.

فالكهانة: معرفة أمور غيبية، يُحدِّث بها ذلك المدّعي الذي يكون ظاهره التدين والصلاح، ويطلق عليه بالروحاني المعالج للناس الناصح لهم، سواء بالاستخارة أو بالكشف على فعل أمر ما أو بتركه أو بالإخبار عن مرض أو عما سيحدث في المستقبل أو عن أمر مفقود، فيصدّقه العوام على ما يقوله.

وقد جاء في القرآن كيفية تلقي الساحر الخبر من قرينه الجنّي.

فقال تعالى: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)) [الشعراء:221-223].

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، إذ رُمي بنجم فاستنار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم: ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رأيتم مثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: مات عظيم ووُلد عظيم. فقال صلى الله عليه وسلم: فإنه لا يُرمى لموت أحد ولا لحياة أحد، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبح حملة العرش: قضى ربنا بكذا، فتسمع ذلك أهل السماء التي تليهم، فيقولون ذلك حتى بلغ ذلك إلى السماء الدنيا، فيسرق الشياطين السمع، فربما اعتقلوا شيئاً فأتوا به إلى الكهنة فيزيدون وينقصون، فتخطئ الكهنة وتصيب , ثم إن الله عز وجل منع السماء بهذه النجوم، فانقطعت الكهانة فلا كهانة). وتلا جعفر بن محمد عليه السلام: ((إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ)) [الحجر:18]، وقوله عز وجل: ((وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً)) [الجن:9]([154]) انتهي.

وللكهنة أساليب وطرق متنوعة يمارسون بها عملهم وكذبهم على الناس، وذلك من خلال مخادعتهم لأصحاب العقول والعقائد الضعيفة، ومن تلك الطرق:

1- قراءة الفنجان.

2- قراءة الكف.

3- (الخيرة)، وذلك من خلال فتح القرآن الكريم، وقراءة الآيات وتفسيرها بلا علم أو دليل.

4- النظر في وجه المخدوع، وإخباره بما سيقع له بعد ذلك.

5- ذكر رؤيا للمخدوع بأنه رآه في المنام وسيحصل له كذا وكذا.

وقد حكم الله تعالى على أمثال هؤلاء ومن تبعهم بالشرك؛ لأسباب منها:

الأول: تقربهم إلى الشياطين واستعانتهم بها من دون الله.

الثاني: ادعاء مشاركة الله عز وجل في علم الغيب الذي يختص به سبحانه.

ذلك أن الساحر وأمثاله يلبّس على العوام بفعله من باب ادعاء معرفة الغيب، مع أن الله تعالى قال: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ)) [النمل:65] فعلم الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله سبحانه، ولهذا قال سبحانه: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ)) [الأنعام:59] وقد يُطلع بعض رسله على شيء من علم الغيب وليس علم الغيب كله، كما قال سبحانه: ((فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) [الجن:27] وبهذا يتضح معنى هذه الآيات.

ولعظم وخطورة هذا العمل جاء الوعيد الشديد على من عمل أو أعان أو ذهب إلى السحرة لمجرد السؤال.

فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن الله أوحى إلى نبي في نُبُوَّته: أخبر قومك أنهم استخفوا بطاعتي وانتهكوا معصيتي... إلى أن قال: وأخبر قومك أنه ليس مني من تَكَهّن و تُكَهّن له، أو سَحَر أو سُحِر له([155]).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: من جاء عرافاً فسأله وصدّقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد، وكان يقول: إن كثيراً من الرقى وتعليق التمائم شعبة من الإشراك([156]).

وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق ولا منّان ولا ديّوث ولا كاهن، ومن مشى إلى كاهن فصدّقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم)([157]).

وعن الهيثم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيء يُسرق أو شبه ذلك، أفنسأله؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذاب فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب)([158]).

فتأمل أيها المسلم كيف أن الأئمة عليهم السلام كانوا يستعيذون بالله العظيم من شرور الكهنة والمشعوذين في أدعيتهم.

فعن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أن يعلمني دعاء أدعو به في المهمات، فأخرج إليّ أوراقاً من صحيفة عتيقة، فقال: أتنسخ ما فيها، فهو دعاء جدّي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام للمهمات؟ فكتب ذلك:...وأعوذ بك من شر كل كاهن وساحر([159]).

وكان الإمام أبو جعفر عليه السلام يقول في دعائه: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، له الخلق والأمر، منزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم من شر كل طاغ وباغ ونافث وشيطان وسلطان وساحر وكاهن([160]).

فهذا هو التعليم المبارك الذي سار عليه الآل في مدرستهم المباركة عليهم السلام، وكانوا يعلمونه شيعتهم وأحبابهم، ليكونوا جميعاً على نهج خير الخلق جميعاً محمد صلى الله عليه وسلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

الثامن عشر: لبس الحلقة والخيط والتمائم والخواتم ونحوها لرفع البلاء أو دفعه:

من المعتقدات التي انجرف الناس بها إلى الشرك بالله عز وجل لبس الخيط والحلقة والتمائم والخواتم، ونحوها من الأشياء التي يعتقد الإنسان بأنها تدفع أو ترفع البلاء عنه أو تجلب الخير له، كما يفعل بعض الناس هداهم الله تعالى بوضع الخيوط والحلقات والتمائم والخواتم بأيديهم أو في أعناقهم أو في أي مكان لجلب الخير والبركة لهم أو لدفع الضرر والمصائب والأمراض عنهم.

والحكم في هذه الأمور يتردد بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر بحسب ما يعتقد به الإنسان.

فإن اعتقد الإنسان بهذه الأشياء أنها تنفع وتضر لبركتها أو أنها تؤثر من دون الله فقد أشرك شركاً أكبر.

ومن اعتقد بأنها سبب، وليس لها تأثير بنفسها فقد أشرك شركاً أصغر، وذلك لأنه التجأ إلى سبب غير شرعي ولا قدري، ولم يأمر به الله تبارك وتعالى، ولم يدلنا عليه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ولجهل بعض الناس بمعرفة الأسباب التي يشرع الأخذ بها، أو غيرها من الأسباب الباطلة، ينبغي أن نعرف جميعاً أن الأسباب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: سبب شرعي:

وهو ما ثبت في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مثل: قراءة القرآن على المريض والأدعية الثابتة وغيرها.

الثاني: سبب قدري:

وهو ما عرف مثلاً أنه علاج نافع مجرب لألم أو مرض على أن يكون أثره ظاهراً كالأدوية والإبر وغيرها.

الثالث: سبب وهمي:

وهو ما يتوهم الإنسان بأنه نافع ويخفف عنه الآلام والأمراض بمجرد شعور نفسي فقط وليس له طريق شرعي ولا قدري، كوضع الحلق والخيوط والتمائم على الأيدي والأعناق، سواء كانت هذه الحلق والخيوط والتمائم وغيرها من ولي صالح أو من مُشَعوذ أو من شخص يدعي بأنه يعالج الناس بالقرآن.

قال الله تعالى: ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)) [الزمر:38].

قال السيد محمد حسين فضل الله:

فهل يملك هؤلاء في تغيير إرادة الله في عباده فيما قد قدّره لهم من مرض أو فقر أو خوف أو غير ذلك مما يتمثل في النقص بالنفس والمال ونحوهما، فيرفعون عنه ذلك فيما لا يريد الله أن يرفعه، فلو أراد الله أن ينزل المطر على الناس هل يستطيعون أن يحبسوه، أو أراد أن يعطي الصحة لإنسان هل يملكون نزعها عنه وهكذا... ويبقى السؤال دون الجواب الإيجابي... لأنهم يعرفون أن هؤلاء الذين يتخذون شركاء لا يملكون شيئاً من ذلك من قريب أو من بعيد([161]).

وقال الله تعالى: ((وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [يونس:107].

قال السيد عبد الله شبر:

((وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ)) يصيبك ببلاء أو شدة أو مرض، وقوله تعالى: ((فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ)) لا يقدر على دفعه غيره، قوله تعالى: ((وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ)) من نعمة وخصب وصحة، قوله تعالى: ((فَلا رَادَّ)) مانع. قوله تعالى: ((لِفَضْلِهِ)) الذي أراد به. قوله تعالى: ((يُصِيبُ بِهِ)) بالخير. قوله تعالى: ((مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ)) لذنوبهم. قوله تعالى: ((الرَّحِيمُ)) بهم ليتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا ييأسوا من غفرانه بالمعصية([162]).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى الصحابة رضي الله عنهم عن هذه الخرافات محذراً من لبسها أو الاعتقاد بها، وذلك لقرب عهدهم بالإسلام وتأثرهم بالجاهلية.

فأورد المجلسي في بحاره من حديث عمران بن حصين أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ([163]) وفي عضده حلقة من صفر([164]) -وفي رواية: وفي يده خاتم من صفر-، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة... قال: (أما إنها لا تزيدك إلا وهناً)([165]).

وقال المجلسي أيضاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التمائم والتِّوَلة([166])، فالتمائم ما يعلق من الكتب والخرز وغير ذلك، والتِّوَلة ما تتحبب به النساء إلى أزواجهن كالكهانة وأشباهها، ونهى عن السحر([167]).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول: كثير من الرقى وتعليق التمائم شعبة من الإشراك([168]).

فإذا كان الأمر وفق ما جاء في كتاب الله وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وما نقله إلينا أحبابنا آل البيت عليهم السلام، فهل نتبعهم ونسير على الهدي المبارك، أو نحيد عن جادتهم؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التاسع عشر: التطير (التشاؤم):

مما يلتحق بباب ادعاء معرفة الغيب، والسعي لكشف الغائب عن الإنسان، اعتقاد التطير والتفاؤل والتفرس بالعلامات المشاهدة.

والتطير هو التشاؤم، وهو رجوع ذلك الشخص العازم وتأثره على فعل أمرٍ من أمور الدنيا أو الدين بسبب تشاؤمه من أمرٍ مرئي أو مسموع أو معلوم.

والتطير أنواع، منها:

التطير المرئي: وهو تطير ذلك الشخص عند رؤيته شيئاً يتشاءم منه، كالبومة والثعبان والهر الأسود وغيرها من الأشياء.

التطير السمعي: وهو تطير ذلك الشخص المتشائم من أقوال الناس عنه، كقولهم له: يا خسران، يا فقير، وغيرها من الألفاظ.

التطير المعلوم: وهو ما يتطير به الناس من الأيام والأشهر، كيوم الأربعاء مثلاً، ويزعمون أنه يوم شؤم، أو من شهر شوال، فتجدهم لا يعقدون النكاح فيه.

ولما كان للطيرة آثار خطيرة على عقيدة المسلم، وذلك لاستجابة ذلك المتطير خائفاً تاركاً حاجته وعمله خشية المصائب والهموم؛ لأجل ذلك حَكَم الشارع على المتطير بالشرك لتعلقه بغير الله عز وجل، واعتقاده بحصول الضرر عليه من مخلوق لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولكونه متأثراً من وسوسة الشيطان له داخلاً بقلبه من الخوف والخشية من دون الله وهو منافٍ للتوكل على الله سبحانه وتعالى.

قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:

قد يروج بين أبناء البشر والأقوام والشعوب المختلفة التفاؤل والتشاؤم، فيتفاءلون بأمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل، في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأمور، وبخاصة في مجال التشاؤم، حيث كان له دائماً جانب خرافي غير معقول، وإن هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلا أنه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر، وأن التفاؤل غالباً يوجب الأمل والتحرك، ولكن التشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع([169]).

ولأجل هذا نهى الشارع الحكيم في القرآن الكريم والسنة الصحيحة عن التشاؤم بشدة؛ لأن التطير داء قديم ذكره الله تبارك وتعالى عن الأمم الكافرة، حيث كانوا يتطيرون بأفضل الخلق وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

مثل ما جاء في قصة فرعون وقومه، ومعاداتهم لنبي الله موسى عليه السلام، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) [الأعراف:131].

قال السيد محمد الحسيني الشيرازي:

((فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ)) أصابهم الخير كالخصب والسعة والصحة وما أشبهه ((قَالُوا لَنَا هَذِهِ)) أي: إنا نستحق ذلك، وهذا من حسن حظنا، وعلو طالعنا، فلم يكونوا يشكرون الله سبحانه على ما أنعم عليهم ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)) كالجوع والقحط والمرض ونحوها ((يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)) من المؤمنين، فكانوا يقولون: هذا من شؤم موسى وسوء طالعه... فكان آل فرعون يرون البلايا من موسى عليه السلام ولم يكونوا يعلمون أنها من سوء أعمالهم ((أَلا)) أي: تنبيه أيها المخاطب ((إِنَّمَا طَائِرُهُمْ)) والشؤم الذي كان يلحقهم لم يكن من عند موسى ولأجله، بل من ((عِنْدَ اللَّهِ)) فإنه كان يضر بهم بالبلاء عقوبة لأعمالهم ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) ذلك بل كانوا يزعمون الشؤم من موسى([170]).

وهذا ما وقع -أيضاً- مع قوم نبي الله صالح أنهم قالوا: ((قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)) [النمل:47].

قال السيد محمد الحسيني الشيرازي:

((قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)) تشاءمنا بك وبمن على دينك من المؤمنين فأنتم شؤم علينا توجبون لنا الفقر والقحط والمشاكل ((قَالَ)) لهم صالح ((طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ)) أي: أن الشؤم أتاكم من عند الله حيث كفرتم، وللكفر نكبة ومشاكل، كما قال سبحانه: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)) [طه:124] وقد كانت الأمم تتشاءم بالطائر الخاص كالبوم والغراب لما كان عندهم مشهوراً أن الإنسان إذا وقع عينه على الطائر الفلاني عند حاجة له فإنها لا تقضى تأثراً من ذلك الطائر، ثم سمي كل تشاؤم بالشر طائر، وإن كان من شخص أو حيوان برّي، واشتق منه التطير ((بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)) أي: تختبرون بالخير والشر، فإن الفتنة بمعنى الاختيار، كما قـال تعـالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) [التغابن:15] يعني: ليس هذا الذي يصيبكم من المشاكل بسببي وإنما هي فتنة وامتحان لكم([171]). انتهى.

فمن توكل على الله وعظَّم قدره وعلم أن كل شيء بقضائه وقدره، مضى في أمره ولم يتردد في قصده ولم يثنه عن عزمه ما يعترضه من أوهام البشر وتخيلاتهم الفاسدة التي توهن من إقدام العبد المريض فقط.

 

 


 

 

 

([1]) مستدرك الوسائل: (3/454)، (13/110).

([2]) انظر: قصص الأنبياء: (67).

([3]) مستدرك الوسائل: (13/210).

([4]) بحار الأنوار: (80/245).

([5]) من لا يحضره الفقيه:(4/5) وانظر:وسائل الشيعة:(17/297) بحار الأنوار:(80/244)، مجموعة ورام:(2/256).

([6]) وسائل الشيعة: (5/307)، بحار الأنوار: (76/287)، المحاسن: (2/616).

([7]) مستدرك الوسائل: (13/210).

([8]) الخصال: (1/108)، ثواب الأعمال: (223)، وسائل الشيعة: (17/297)، بحار الأنوار: (73/350).

([9]) وسائل الشيعة: (3/562).

([10]) وسائل الشيعة: (3/562).

([11]) شرح نهج البلاغة: (9/234).

([12]) مستدرك الوسائل: (3/453).

([13]) انظر: بحار الأنوار: (62/54).

([14]) بحار الأنوار: (80/288).

([15]) وسائل الشيعة: (5/172).

([16]) وسائل الشيعة: (12/220).

([17]) وسائل الشيعة: (3/462).

([18]) نوادر الراوندي: (16).

([19]) انظر: (ص:14) من هذا الكتاب.

([20]) انظر: تفسير نور الثقلين: (3/435)، بحار الأنوار: (61/52)، قصص الأنبياء للجزائري: (438)، المناقب: (4/138).

([21]) انظر: الأنوار النعمانية: (1/31)، بحار الأنوار: (26/5).

([22]) بحار الأنوار: (25/285).

([23]) شرح نهج البلاغة: (8/112)، بحار الأنوار: (23/372).

([24]) بحار الأنوار: (35/317)، العمدة: (211).

([25]) بحار الأنوار: (25/284), أمالي الطوسي: (650), المناقب: (1/263).

([26]) المصدر السابق

([27]) بحار الأنوار: (25/286).

([28]) بحار الأنوار: (25/287).

([29]) رجال الكشي: (225، 226).

([30]) من لا يحضره الفقيه: (1/178)، وسائل الشيعة: (3/235)، (5/161)، بحار الأنوار: (79/20).

([31]) بحار الأنوار: (80/313)، علل الشرائع: (2/358).

([32]) مستدرك الوسائل: (2/379).

([33]) الاستبصار: (1/217).

([34]) وسائل الشيعة: (3/210)، تهذيب الأحكام: (1/461)، بحار الأنوار: (73/159)، المحاسن:(2/612).

([35]) وسائل الشيعة: (5/158)، (3/211).

([36]) من لا يحضره الفقيه: (4/3)، بحار الأنوار: (73/328)، الأمالي للصدوق: (422)، مجموعة ورام: (2/256).

([37]) الكافي: (6/528)، وسائل الشيعة: (3/211)، بحار الأنوار: (76/286)، المحاسن: (2/614).

([38]) مستدرك الوسائل: (2/347).

([39]) مستدرك الوسائل: (2/347).

([40]) وسائل الشيعة: (3/202).

([41]) بحار الأنوار: (79/138)، مستدرك الوسائل: (2/426).

([42]) تفسير التبيان: (6/62)، وانظر: تفسير الميزان: (11/3).

([43]) تفسير الكاشف: (7/441).

([44]) إرشاد القلوب: (32).

([45]) الكافي: (3/341).

([46]) وسائل الشيعة: (7/27).

([47]) مستدرك الوسائل: (5/174).

([48]) بحار الأنوار: (90/300).

([49]) مستدرك الوسائل: (3/58)، المؤمن: (32)، عوالي اللآلي: (4/103)، بحار الأنوار: (84/31)، الكافي: (2/352).

([50]) انظر: تفسير تقريب القرآن: (6/83).

([51]) انظر: تفسير شبر: (1/112)، تفسير الوجيز: (1/378).

([52]) الكافي: (2/524 , 562).

([53]) مستدرك الوسائل: (5/78).

([54]) مستدرك الوسائل: (6/390)، بحار الأنوار: (88/373).

([55]) وهذا التوسل البدعي قد يؤدي إلى الشرك، وذلك إن اعتقد بأن الله يحتاج إلى واسطة.

([56]) انظر: من لا يحضره الفقيه (1/449).

([57]) مختصر مجمع البيان: (2/320).

([58]) التبيان في تفسير القرآن: (2/308).

([59]) الجديد في تفسير القرآن: (3/34).

([60]) تقريب القرآن: (7/92).

([61]) الميزان في تفسير القرآن: (19/41)، وانظر: تفسير جامع الجوامع: (4/620)، كنـز الدقائــق: (21/497)، مقتنيات الدرر: (10/272)، الجديد: (7/49).

([62]) تفسير مقتنيات الدرر: (11/299).

([63]) مختصر مجمع البيان: (3/496).

([64]) تفسير الجديد: (6/171)، وانظر: تفسير التبيان: (9/33).

([65]) تفسير من هدي القرآن: (11/498).

([66]) تفسير بيان السعادة: (2/296).

([67]) تفسير الجديد: (3/411).

([68]) جامع الجوامع: (4/537).

([69]) جامع الأخبار: (160)، وانظر: شرح نهج البلاغة: (7/198)، عوالي اللآلي (1/56)، كنـز الفوائد: (1/49).

([70]) مجمع البيان: (5/78).

([71]) من لا يحضره الفقيه: (1/544)، وسائل الشيعة: (7/508)، بحار الأنوار: (56/2)، (57/9)، علل الشرائع: (2/577).

([72]) بحار الأنوار: (57/9).

([73]) بحار الأنوار: (57/19).

([74]) تفسير العياشى: (2/239)، مستدرك الوسائل: (6/176)، بحار الأنوار: (57/12-19).

([75]) مستدرك الوسائل: (16/65).

([76]) مستدرك الوسائل: (16/50).

([77]) عوالي اللآلي: (3/443).

([78]) انظر: من لا يحضره الفقيه: (4/10)، وسائل الشيعة: (23/259)، بحار الأنوار: (89/175)، أمالي الصدوق: (347).

([79]) المقنعة: (54) باب الأيمان والأقسام.

([80]) من وحي القرآن: (23/50).

([81]) تفسير الجديد: (2/512).

([82]) من لا يحضره الفقيه: (3/361).

([83]) الكافي: (7/443).

([84]) مستدرك الوسائل: (12/325).

([85]) إرشاد القلوب: (1/165)، أمالي الطوسي: (522).

([86]) أمالي المفيد: (187)، بحار الأنوار: (2/263)، مستدرك الوسائل، (12/324).

([87]) نهج البلاغة: (207)، الكافي: (1/299)، بحار الأنوار: (42/207).

([88]) أما ما يفعله الصحابة رضوان الله عليهم عند تبركهم بوضوء النبي ص وجسمه وملابسه وريقه وعرقه، فإنما هذه من خصوصيات النبي ص لا يشاركه فيها أحد.

([89]) أنواط: هي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها أي للبركة. انظر: بحار الأنوار (9/67).

([90]) الصراط المستقيم (فصل:106).

([91]) إن خطاب النبي ص للصحابة كان تعليمياً ومحذراً للأمم القادمة من ارتكابهم للشرك والبدع، وهذا الخطاب شامل كامل لما أعطي للنبي ص من ربه جوامع الكلم، وهذا مشابه لقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد ص: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين). وقوله تعالى: (ياأيها النبي اتق الله ولاتطع الكافرين). وقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم).

([92]) شرح نهج البلاغة: (9/286)، وانظر: بحار الأنوار (51/128).

([93]) بحار الأنوار: (67/381)، وانظر: الكافي: (2/68)، وسائل الشيعة: (15/219).

([94]) مستدرك الوسائل: (11/228).

([95]) تفسير المنير: (6/220)، وانظر: تفسير الميزان: (16/108).

([96]) مستدرك الوسائل: (12/210).

([97]) تفسير الميزان: (9/209).

([98]) تفسير الجديد: (2/192).

([99]) تفسير المنير: (7/11).

([100]) مستدرك الوسائل: (12/224)، الاختصاص: (365).

([101]) انظر: بحار الأنوار: (1/117).

([102]) مستدرك الوسائل: (12/234).

([103]) شرح نهج البلاغة: (4/33)، بحار الأنوار: (30/328)، إرشاد القلوب: (1/267).

([104]) الكافي: (2/126)، وسائل الشيعة: (16/183)، بحار الأنوار: (66/247)، علل الشرائع: (1/117).

([105]) تفسير الكاشف: (4/23).

([106]) انظر: مسكن الفؤاد: (17).

([107]) بحار الأنوار: (98/290)، وانظر: وسائل الشيعة: (14/477)، مستدرك الوسائل: (10/293).

([108]) الجديد: (5/193).

([109]) مجموعة ورام: (1/159)، وانظر: بحار الأنوار: (7/319).

([110]) من هدي القرآن: (1/300).

([111]) الأحبار: جمع حِبر وحَبر، وهو العالم الواسع العلم.

([112]) الرهبان: جمع راهب وهو العابد الزاهد.

([113]) تفسير الميزان: (9/265)، تفسير القمي: (1/288).

([114]) انظر: تفسير نور الثقلين: (2/209).

([115]) المصدر السابق.

([116]) المصدر السابق.

([117]) تفسير من وحي القرآن: (9/227).

([118]) تفسير الجديد: (3/85).

([119]) تفسير جامع الجوامع: (1/406).

([120]) تفسير الصافي: (4/367).

([121]) مختصر مجمع البيان: (1/509).

([122]) تفسير الأمثل: (20/452).

([123]) الكافي: (6/285)، وانظر: مكارم الأخلاق: (135)، وسائل الشيعة: (24/318)، بحار الأنوار: (43/61).

([124]) الكافي: (6/26)، وسائل الشيعة: (21/417).

([125]) وسائل الشيعة: (28/341)، وانظر: بحار الأنوار: (69/96)، الخصال: (1/136).

([126]) وسائل الشيعة: (24/213)، بحار الأنوار: (3/252)، ثواب الأعمال: (224).

([127]) تفسير تقريب القرآن: (29/167).

([128]) لأن الله عز وجل مدح الموفين بالنذر وأمر بوفائه، وكل أمر يمدحه الله ويحبه ويثني على فاعله فهو عبادة، لذلك فإن تعريف العبادة كما أسلفنا هو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، والنذر من ذلك. انظر: (ص:35) من هذا الكتاب.

([129]) تفسير مقتنيات الدرر: (2/134).

([130]) مستدرك الوسائل: (16/92).

([131]) وسائل الشيعة: (23/219)، وانظر: الكافي: (7/440).

([132]) عوالي اللآلي: (3/448)، مستدرك الوسائل: (16/92).

([133]) تهذيب الأحكام: (8/310)، الاستبصار: (4/55)، وسائل الشيعة: (22/393).

([134]) عوالي اللآلي: (3/448).

([135]) انظر: شرح نهج البلاغة: (19/167).

([136]) الكافي: (2/295)، وسائل الشيعة: (1/73)، مستدرك الوسائل: (1/164)، بحار الأنوار: (69/288).

([137]) وفي الأصل (ورياء).

([138]) انظر: بحار الأنوار: (69/166).

([139]) بحار الأنوار: (69/297، 281)، وانظر: وسائل الشيعة: (1/68)، تفسير القمي: (2/47).

([140]) شرح نهج البلاغة: (2/179).

([141]) بحار الأنوار: (69/304).

([142]) مستدرك الوسائل: (1/105)، شرح نهج البلاغة: (1/312).

([143]) بحار الأنوار: (69/300)، مستدرك الوسائل: (1/107).

([144]) بحار الأنوار: (69/301)، وانظر: وسائل الشيعة: (1/67)، مستدرك الوسائل: (1/105).

([145]) بحار الأنوار: (69/299)، وانظر: الكافي: (1/8)، وسائل الشيعة: (1/61)، المحاسن: (1/254).

([146]) مستدرك الوسائل: (1/106، 107)، بحار الأنوار: (69/303)، مجموعة ورام: (1/187).

([147]) بحار الأنوار: (69/305)، وانظر: مستدرك الوسائل: (1/111)، عدة الداعي: (228)، مجموعة ورام: (1/186).

([148]) تفسير المعين: (1/61).

([149]) انظر: تفسير الصافي: (1/154)، نور الثقلين: (1/108).

([150]) وسائل الشيعة: (15/330)، بحار الأنوار: (76/113)، الخصال: (2/364).

([151]) قرب الإسناد: (71)، وسائل الشيعة: (17/148)، بحار الأنوار: (76/210).

([152]) مستدرك الوسائل: (13/109)، بحار الأنوار: (60/24) (89/365) (92/126).

([153]) وسائل الشيعة: (17/148).

([154]) مستدرك الوسائل: (13/110), بحار الأنوار: (60/280), دعائم الإسلام: (2/142).

([155]) مستدرك الوسائل: (18/193).

([156]) مستدرك الوسائل: (13/110)، دعائم الإسلام: (2/483).

([157]) مستدرك الوسائل: (13/111) (14/235).

([158]) مستطرفات السرائر: (593)، بحار الأنوار: (2/308)، وسائل الشيعة: (17/150).

([159]) الأمالي للمفيد: (239)، بحار الأنوار: (92/180)، الأمالي للطوسي: (15).

([160]) انظر: البلد الأمين: (103)، مصباح الكفعمي: (103)، مصباح المتهجد: (438)، بحار الأنوار: (87/155).

([161]) انظر: تفسير من وحي القرآن: (19/380).

([162]) تفسير الجوهر الثمين: (3/192).

([163]) وفي الأصل: أن فلاناً دخل عليه.

([164]) الصفر: أي النحاس.

([165]) بحار الأنوار: (95/121).

([166]) وقال المجلسي موضحاً: التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطله الإسلام، وإنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه... التولة بكسر التاء وفتح الواو: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره مما جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى. انظر: بحارالأنوار: (65/18).

([167]) بحارالأنوار: (60/18)، مستدرك الوسائل: (4/317)، (13/106)، دعائم الإسلام: (2/142).

([168]) مستدرك الوسائل: (4/318) (13/110)، دعائم الإسلام: (2/483).

([169]) تفسير الأمثل: (5/159).

([170]) تفسير تقريب القرآن: (9/32)، تفسير من وحي القرآن: (10/148).

([171]) تقريب القرآن: (19/147)، وانظر: مقتنيات الدرر: (8/100)، من وحي القرآن: (17/242).

  • الاحد PM 04:27
    2022-04-10
  • 1643
Powered by: GateGold