المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413528
يتصفح الموقع حاليا : 261

البحث

البحث

عرض المادة

تاريخ دعاوى التعارض ، ودوافعها

تاريخ دعاوى التعارض ، ودوافعها :

لا نشك في أن طلب فهم القرآن واستيضاح المراد من آياته  قد بدأ منذ وقت مبكر ، وأن بعض نصوصه وبخاصة تلك التي اصطلح على تسميتها بالمتشابهات  [1] قد أثارت نوعا من الجدل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  .         

ومن أقدم النصوص التي تتضمن  طعنا في القرآن ، واتهام له  بالتعارض مع الحقائق ، هو حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ :لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا :إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ(  وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا . فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ _  صلى الله عليه وسلم_  سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : « إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ » [2]   (53) .وهذا الطعن الذي ذكر في الحديث ، مع أن النبي أجاب عليه ، إلا أنه لا يزال يردد إلى يومنا هذا.
وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين ، وذكر طعوناتهم ،    ثم رد عليها ردا واضحا بينا مفحما ؛ فبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ..)َ [الأنفال :31] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم  تدرج معهم في التحدي إلى أن تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا .
وبعضهم زعم أن هذه القرآن إنما هو من قصص الأولين وأساطير السابقين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ([النحل :24]، فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب ، فكيف ينقلها ؟‍!‍ ثم هذه الأساطير ليست خاصة بمحمد ، بل هي كتب للجميع ، فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها.. ؟
وبعضهم قال : إنه تعلَّمه من غلام نصراني فقال الله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل :103].
وهكذا كلما قالوا شُبْهَةً ، وطعنوا طعنا ، رد الله عليهم بحجة واضحة ...

وحصل طعن في القرآن في عصر الصحابة ؛ ففي زمن عمر كان في أجناد عمرو بن العاص        ( رجل يقال له صبيغ )[3] ، كان يسأل عن متشابه القرآن ،   فكان يقول :[ما المرسلات عرفا ، ما العاصفات عصفا . تشكيكا وتعنتا ، فأرسل به عمرو ( إلى عمر (، فلما علم عمر بقدومه أمر رجلا أن يحضره وقال له : إن فاتك فعلت بك وفعلت . وكان عمر قد جهز له عراجين من نخل ، فلما جاءه سأله عن أشياء ثم قال له :من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله صبيغ . فقال : وأنا عبد الله عمر . فضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم ضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم ضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم أُحضر فقال صبيغ : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني ، فقد والله برئتُ . فأرسله عمر إلى البصرة ، وأمر واليها أبا موسى الأشعري بمنع الناس من مجالسته ، فاشتد ذلك على الرجل ، فأرسل أبو موسى إلى عمر أن الرجل حسنت توبته ، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته ، فلما خرجت الحرورية قيل لصبيغ :إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا ، وقد مات عمر . فقال : هيهات قد نفعني الله بموعظة العبد الصالح  ، يعني عمر] [4]  .

وكان  حبر الأمة :عبد الله بن عباس ( ت68هـ)-رضي الله عنهما - من أوائل من تكلم في الآيات الموهمة للتعارض ، وقد رويت عنه عدة روايات منها :

ما رواه البخاري  عن سعيد بن جبير قال :[  قال رجل لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ... إلى أن يقول : فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله . ] [5] 

و(أَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن زَيْد ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، أَنَّ نَافعَ بْنَ الْأَزْرَق ، وَعَطِيَّةَ أَتَيَا اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا : يَا اِبْنَ عَبَّاس ، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ( [ المرسلات : 35 ] وَقَوْله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ( [ الزمر : 31 ] وَقَوْلهِ :(وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)  [ الانعام : 23 ] وَقَوْلهِ :(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه َحَدِيثًا) [ النساء : 42 ].

قَالَ : وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ ، إِنَّهُ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَوَاقِفُ ، تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةُ لَا يَنْطِقُونَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ وَيَجْحَدُونَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ ، وَتُؤْمَرُ جَوَارِحُهمْ ، فَتَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهْم بِمَا صَنَعُوا ، ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهُمْ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا صَنَعُوا ، وَذَلِكَ قَوْله : (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا([ النساء : 42 ].

وَرَوَى اِبْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قُلْت   لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ( [ المرسلات : 35 ] ؟ فَقَالَ : إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ حَالَاتٌ وَتَارَاتٌ ، فِي حَال لَا يَنْطِقُونَ وَفِي حَال يَنْطِقُونَ) [6] . وغير ذلك من الآثار .

وكانت مسألة القول بالقدر . [7] من  أولى المسائل التي  ظهر فيها الخلاف بين المسلمين على أشده ،  قال ابن سعد في الطبقات الكبرى  :  [ أخبرنا عبد الله بن مسلمة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا : ما جلسنا مجلسا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنا أشد اغتباطا من مجلس جلسناه يوما ، جئنا فإذا ناس عند حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتراجعون  في القرآن ، فلما رأيناهم اعتزلناهم ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف الحجر يسمع كلامهم ، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبا يعرف الغضب في وجهه  حتى وقف عليهم ، فقال : أي قوم ..! بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتاب بعضه ببعض  ، إن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه عليكم فآمنوا به ، ثم التفت إلي وإلى أخي ، فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم ..][8] وهذه الرواية تتضمن تحذيرا ونهيا عن ضرب القرآن بعضه ببعض ، لأن القرآن يصدق بعضه بعضا ، وينفي التوجيه النبوي أن يكون هناك تعارض أو تضارب بين نصوصه ، وينبئ أن ما حصل إنما كان بسبب سوء الفهم وعدم تدقيق النظر .. ولذلك دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يأخذوا بما عرفوه ، ويوكلوا  الأمر فيما لم يعرفوه إلى العلماء .. أما كونه - صلى الله عليه وسلم - قد خرج مغضبا فذلك لوقوع الاختلاف بينهم في وقت كانوا أشد حاجة إلى الوحدة وعدم الفرقة  .. مع كثرة تحذيره - صلى الله عليه وسلم - لهم من ذلك . بل يمكن القول إن الرواية تشير إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد بين لهم الأمر فيما تنازعوا فيه ، ولكن هناك من خالف بدليل تحذيره - صلى الله عليه وسلم - من مخالفة الأنبياء .[9]       

 وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما  - قال : [ أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سلام ابن مشكم في عامة من يهود سماهم ، فقالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حق من عند الله ..؟ فإنا لا نراه متناسقا كما تناسقت التوراة ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم ،  (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . )( 88 : الإسراء )  ] [10] ( تخريج الحديث ..؟)

فهذه الروايات تبين أن  اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الإسلام ،  أثاروا بعض الشبهات حول القرآن الكريم في عصر النبوة ، ودوافعهم في ذلك معروفة ، وهي التشويش على هذا الدين الجديد  بشبهات يثيرونها من غير سند ولا حجة ، فقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببيانها  ، ثم تولى هذه المهمة من بعده علماء الأمة .. من صحابة وتابعين  وتابعيهم بإحسان . ..  وكلما بعد العهد بعصر النبوة ، كلما زادت الإشكالات والطعون في القرآن .

==================================================

[1] - انظر ما قاله ابن خلدون : في مقدمته  ،: ( ص 463) : ( وإنما عرض خلاف في تفاصيل العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة )

[2] - أخرجه مسلم (كتاب الآداب ، باب : النهي عن التكني بأبي القاسم ، وبيان ما يستحب ، رقم : 213).

[3] - قال ابن منظور : (صبِيغٌ : اسم رجل كان يَتَعَنَّتُ الناسَ بسُؤَالات في مُشْكل القرآن ، فأَمر عمر بن الخطاب بضربه ، ونفاه إِلى البَصرة ، ونَهي عن مُجالَسَتِه ) ، لسان العرب (8 /439) .

[4] - أخرجه مالك في الموطأ(2/455) ، والدارمي في سننه (1/66) ، وإسناد القصة صحيح والقصة مشهورة ، وانظر : الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/152)  ، فقد جمع أطراف القصة ورواياتها .

[5] - انظر النص كاملا في صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة حم السجدة : ج3/131. والإتقان في علوم القرآن : 2: 27.

[6] - فتح الباري : 8 : 555 .

[7] - المقصود بالقول بالقدر : أن الإنسان يقدر أعمال نفسه بعلمه ، ويتوجه إليها بإرادته ، ثم يوجدها بقدرته . انظر :  القرآن والفلسفة : ص 102.

[8] - ابن سعد :  4: 192 . وأخرجه الإمام أحمد في المسند : رقم 6808. وابن ماجة في باب القدر ، رقم : 85 . وإسناده حسن .

[9] - انظر بحث : د. طه اليواني : حول دعوى التناقض بين نصوص القرآن الكريم : مجلة رسالة القرآن . إيران . عدد7 : سنة 1412هـ . ص 15 .

[10] -   جامع البيان عن تأويل آي القرآن : ج15/ 158.

  • الاربعاء PM 04:40
    2022-01-12
  • 1369
Powered by: GateGold