المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413516
يتصفح الموقع حاليا : 234

البحث

البحث

عرض المادة

دراسة تطبيقية لبعض المبهمات في القرآن الكريم

مبهمات القرآن كثيرة ، منها :

  • قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) ) (23 : الأحزاب ) .

( عن أنس بن مالك قال : غاب عَمِّي أنس بن النضِّر – وبه سُميتُ أنساً – عن قتال بدر ، فشق عليه لما  قٌدِم ،  وقال : غبت عن أول مشهدشهده رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، والله لئن أشهدني الله سبحانه قتالاُ ليرين ما أصنع ، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء ، يعني المسلمين ، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال : أي سعد ، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة  دون أحد ، فقتلهم حتى قُتِل  .

قال أنس : فوجدناه بين القتلى ، به بضع وثمانون جراحة ، من بين ضربة بالسيف ، وطعنة بالرمح ، ورمية بالسهم ، وقد مثلوا به ، وما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ، ونزلت هذه الآية ، " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " قال : ومنا نقول : أنزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه ..) ( [i] )

والمقصود بالرجال :  مجموعة من  رجال الصحابة ،  نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان ، وأنس بن النضر، وسعيد بن زيد ، وحمزة، وطلحة بن عبيد الله ، ومصعب بن عمير، وغيرهم ، - رضي الله عنهم -.

ومعنى (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)  أنهم حققوا ما عاهدوا عليه ، فإن العهد وعد ، وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل ، فإذا فعله فقد صدق. وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر - بفتح الباء - ، يقال: صدقه الخبر، أي قال له الصدق، ولذلك فإن تعديته هنا إلى (مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إنما هو على نزع الخافض، أي: صدقوا فيما عاهدوا الله عليه .

 (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) ، يعني حمزة ، ومصعباً (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) يعني عثمان ، وطلحة.

والنَّحبُ: النذر ، وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه، أي :  من المؤمنين مَن وَفّى بما عاهد عليه من  الجهاد ، كقول أنس بن النضرْ حين لم يشهد بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-  ، فكبُر ذلك   عليه ،  وقال: أولُ مشهد شَهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مَشهداً مع رسول الله - صلى الله عليه  وسلم -  فيما بعد ،  ليرَيَّن الله ما أصنع ، فشهد أُحُداً ، وقاتل حتى قُتل) ([ii]).

قال في الكشاف : ( فإن قلت: ما قضاء النَّحب.. ؟  قلت: وَقَعَ عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حي لا بدّ له من أن يموت . فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي: نذره.

وقوله: (  فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)  يحتمل موته شهيداً، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله              - صلى الله عليه وسلم- ......ولقد  ثبت  طلحة  - رضي الله عنه - مع رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _  يوم أُحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( أوجب طلحة ) .  وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب)([iii])

  • وقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ) ( 1 : المجادلة )

والتي كانت تجادل رسول الله - صلى الله عليه وسلم _ في زوجها :  أوس بن الصامت،  امرأة من الأنصار.
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها، فقال بعضهم: خولة بنت ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها: خُوَيلة بنت ثعلبة. وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد. وقال آخرون: هي خويلة بنت الصامت. وقال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج . وكانت مجادلتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زوجها، مُراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ومحاورتها إياه في ذلك، وبذلك قال أهل التأويل، وتظاهرت به الرواية ([iv]).

افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها ، تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى ،  بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها. ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة ، أو بنت دُلَيْج (مصغراً) العَوْفية. وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي ، أخي عُبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية ، أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها ، فأبت ،  فغضب ، وكان قد ساء خُلُقُه ،  فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
قال ابن عباس: وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً ، (أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراره الناس عليه، فاستقرّ مشروعاً) فجاءت خولة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت له ذلك، فقال لها: حَرُمتِ عليه، فقالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -  إن لي صِبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال: ( ما عندي في أمركِ شيء) ، فقالت: يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً. وإنما هو أبو وَلَدِي ، وأحب الناس إليّ ، فقال: ( حَرُمتِ عليه) .

فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-  ( حَرُمتِ عليه)  ، هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات.([v]) .
 و( قد ) أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر  ، ولكن الخطاب هنا للنبي                                   - صلى الله عليه وسلم- وهو لا يخامره شك في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.

فتعيّن أن حرف ( قد )  هنا مستعمل في التوقع، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع.

قال في ( الكشاف) : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  والمُجادِلة ، كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها ،  وينزل في ذلك ما يفرج عنها . ([vi]).
وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة ، تنويهاً بمجادلتها وشكواها ، لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها ، وبأبنائها ،  وبزوجها.
والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، والاشتكاء: مبالغة في الشكوى، وهي ذكر ما آذاه،

يقال: شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة. اشتكى، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم ، أو نصر ، أو إشارة بحيلةِ خلاص.
 والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب. فالتحاور حصول الجواب من جانبين، فاقتضت مراجعةً بين شخصين.
والسماع في قوله: (  والله يسمع تحاوركما )  مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله ، إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به ، وبعظيم منزلته ، لاشتماله على ترقّب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينزله عليه من وحي، وترقب المرأة الرحمةَ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما. وجملة (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) في موضع الحال من ضمير           ( تُجادلك ).

وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما ، زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور. وجملة ( إن الله سميع بصير ) تذييل لجملة (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) .  أي: أن الله عالم بكل صوت ،  وبكل مرئيّ. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي - صلى الله عليه وسلم - .  وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات ،  لتربية المهابة ، وإثارة تعظيم مِنَّتِهِ تعالى ، ودواعي شكره.([vii])

  • وقوله تعالى : (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)) ( 112 : المائدة )

اختلف المفسرون في المائدة التي طلبها الحواريون من عيسى – عليه السلام – ، هل نزلت أم لم تنزل ..؟  جاء عن مجاهد ، والحسن ، أنها لم تنزل ، وأنهم أبَوها حين عُرِضَ عليهم العذاب إن كفروا ، وقالوا : لا حاجة لنا بها . ([viii]) ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، لأن الله تعالى أخبر بنزولها بقوله تعالى : (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)) ( 115 : المائدة )

وعلى هذا القول فالمائدة المذكورة مبهمة ، لم تُفصِح الآية عن صفتها ، كما أن ظاهر سؤال الحواريين أنهم لم يشترطوا نوعاً دون آخر .   وروي عن جمع من السلف تعيين لهذه المائدة ، ومبالغة في وصفها . فقيل : نزلت المائدة خبزاً وسمكاً . وقيل : سمكة فيها طُعمُ كل طَعام .  وقيل : عليها ثمر من ثمار الجنة . وقيل : كان عليها من كل طعام إلا اللحم . ([ix]) وقيل غير ذلك .

ومن أحسن ما قيل في الآية ، ما قاله ابن جرير: (  وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون ثمراً من ثمر الجنة ، وغير نافعٍ العلم به ، ولا ضارّ الجهل به ، إذا أقرّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل.) ([x])

4- وقوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) )  ( 77-80،  مريم) . المراد بالذي كفر : العاص بن وائل السهمي ، كما ورد في الصحيحين . ([xi])

قال في التفسير الوسيط : (  ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه البخارى ومسلم عن خباب بن الأرتّ قال: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقاً لى عنده، فقال لى: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: لا، والله لا أكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حياً ولا ميتاً ولا إذا بعثت، فقال العاص: فإذا بعثت جئتنى ولي هناك مال وولد فأعطيك حقك، فأنزل الله                  - تعالى - هذه الآيات.
وفى رواية :  أن رجالا من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - أتوا العاص يتقاضون دَيناً لهم عليه ، فقال: ألستم تزعمون أن فى الجنة ذهباً ، وفضةً ،  وحريراً ، ومن كل الثمرات..؟ قالوا: بلى. قال:                           (  موعدكم الآخرة والله لأوتَيَّن مالا وولدا) .
والاستفهام فى قوله - سبحانه – ( أَفَرَأَيْتَ.. )  للتعجيب من شأن هذا الكافر الجهول ، والفاء للعطف على مُقَدَّر يستدعيه المقام، والتقدير: أنظرت أيها العاقل فرأيت هذا الجاحد الجهول الذى كفر بآياتنا الدالة على وحدانيتنا، وعلى أن البعث حق، وعلى أن ما جاء به رسولنا - صلى الله عليه وسلم - حق وصدق...
ولم يكتف بهذا الكفر، بل قال بكل تبجح، وإصرار على الباطل، واستهزاء بالدين الحق: والله

 ( لأُوتَيَنَّ ) فى الآخرة (مَالاً وَوَلَداً ) ،  كما هو حالي فى الدنيا. فأنت ترى أن هذا الكافر لم يكتف بكفره،          بل أضاف إليه القول الباطل ، المصحوب بالقسم الكاذب، وبالتهكم بالدين الحق.
وقد رد الله - تعالى - على هذا المتبجح المغرور رداً حكيماً مُلزماً ،  فقال: ( أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً كَلاَّ... ). والاستفهام للإنكار والنفي، والأصل: أأطلع  ، فحذفت همزة الوصل للتخفيف.
والمعنى: إن قول هذا الجاهل إما أن يكون مستنداً إلى اطلاعه على الغيب ، وعلمه بأن الله سيؤتيه فى الآخرة مالاً وولداً، وإما أن يكون مستنداً إلى عهد أعطاه الله - تعالى - له بذلك.
ومما لا شك فيه أن كِلا الأمرين لم يتحققا بالنسبة له، فهو لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الله عهداً، فثبت كذبه وافتراؤه، ولذا كذبه الله - تعالى - بقوله (  كَلاَّ ) ،  وهو قول يفيد الزجر ، والردع ، والنفي.
أي: كلاّ لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً. بل قال ذلك افتراءً على الله.
وقوله - سبحانه -: ( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً )  بيان للمصير السيىء الذى سيصير إليه هذا الشقي وأمثاله، و ( وَنَمُدُّ )من المَدّ ،  وأكثر ما يُستعمل فى المكروه ، بخلاف أَمَدَّ . أي: سنسجل على هذا الكافر ما قاله، ونحاسبه عليه حساباً عسيراً، ونزيده عذاباً فوق العذاب المُعَدِّ له،  بأن نضاعفه له؛ ونطيله عليه ، ( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) أى: ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد، بأن نسلبه منه، ونجعله يخرج من هذه الدنيا خاليَ الوِفاض منهما، وليس معه فى قبره سوى كفنه،          ( وَيَأْتِينَا فَرْداً ) أى: ويأتينا يوم القيامة بعد مبعثه منفرداً بدون مال ، أو ولد ، أو خدم ، أو غير ذلك           مما كان يتفاخر به فى الدنيا هو وأشباهه من المغرورين الجاحدين.([xii])
قال صاحب الكشاف :   (  فإن قلت: كيف قيل: سنتكب بسين التسويف ، وهو كما قاله كتبه من غير تأخير قال - تعالى: ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ  ) قلت: فيه وجهان: أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله على طريقة قول الشاعر:

إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة.............. ولم تجدي من أن تُقِرّي بها بُدَّا

أى: تَبَيَّنَ ،  وعُلِمَ بالانتساب أني لم تلدني لئيمة.
والثانى: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى أنه لا يخل بالانتصار ،  وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هَاهُنا لمعنى الوعيد . ) .([xiii])

5-   و قوله تعالى :  (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)(106 :   النحل )

نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر – رضي الله عنه - ، فقد روي " أن قريشاً أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسُمية على الارتداد ، فأباه أبواه ، فربطوا سُمَيةَ بـين  بعيرين ،  وَوُجِِئَت بِحَربَةٍ في قُبُلِها، وقالوا: إنما أسلمتْ من أجل الرجالِ فقتلوها  ،   وقتلوا ياسراً ،  وهما أولُ قتيلين في الإسلام، وأما عمارٌ فأعطاهم بلسانه ما أُكرِهَ عليه ..

 فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلا، إن عماراً مُلىء إيماناً من قَرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمانُ بلحمه ودمه) ([xiv]).

 فأتىٰ عمارٌ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم -  وهو يبكي، فجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-  يمسح عينيه وقال: (  إن عادوا لك فعُدْ لهم بما قلت )([xv]) ،  وهو دليلُ جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراهِ المُلجىء ، وإن كان الأفضلُ أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه. ([xvi])

عن قتادة: ( مَنْ كَفَرَ بـاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ ) قال: ذُكر لنا أنها نزلت فـي عمار بن ياسر، أخذه بنو الـمغيرة فغطوه فـي بئر ميـمون ،  وقالوا: اكفُر بـمـحمد ، فتابعهم علـى ذلك وقلبه كاره، فأنزل لله تعالـى ذكره: ( إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بـالكُفْرِ صَدْراً ): أي من أتـى الكفر علـى اختـيار واستـحبـاب ،  (فَعَلَـيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ ). قال الشعبـي:  لـما عذّب الأعبد ، أعطوهم ما سألوا إلا خبـاب بن الأرتّ، كانوا يضجعونه علـى الرُّضُف _ الحجارة المُحَمَّاة - فلـم يستقلوا منه شيئاً.
فتأويـل الكلام إذن: من كفر بـالله من بعد إيـمانه، إلا من أكره علـى الكفر ، فنطق بكلـمة الكفر  بلسانه ، وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، موقنٌ بحقـيقته ، صحيحٌ علـيه عزمه ، غير مفسوح الصدر بـالكفر  لكن من شرح بـالكفر صدراً ، فـاختاره وآثره علـى الإيـمان ، وبـاح به طائعاً، فعلـيهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيـم([xvii]).

6- وقوله تعالى:  (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(6) ) ( 6 : لقمان ) . والمراد :( النضر بن الحارث ) ، الذي اشترى قَينَة ، وكان لا يسمع أحداً يريد  الدخول في الإسلام ، إلا انطلق به إلى قَينَتِهِ ، فيقول : أَطعميه ، واسقِيه ، وغَنِّيهِ  هذا خير مما يدعوك إليه محمد  من الصلاة ، والصيام ، والقتال بين يديه ، فنزلت هذه الآية . ([xviii])

قال في التفسير الوسيط : (وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات أشهرها، أنهما نزلتا فى النضر بن الحارث. اشترى قينة - أى مغنية -، وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول لها: أطعميه واسقيه وغنيه، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة ،  والصيام، وأن تقاتل بين يديه.. و ( لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ ): باطله، ويُطلق على كل كلام يلهي القلب، ويشغله عن طاعة الله - تعالى - ،  كالغناء، والملاهى، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله - تعالى -وقد فسره كثير من العلماء بالغناء، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيراً. و ( مِنَ ) فى قوله :                (  وَمِنَ ٱلنَّاسِ ) للتبعيض، أى: ومن الناس من يترك القول الذى ينفعه، ويشترى الأحاديث الباطلة، والخرافات الفاسدة.وقوله: ( لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً.. ) تعليل لاشتراء لهو الحديث. والمراد بسبيل الله - تعالى -: دينه ، وطريقه الذى اختاره لعباده).([xix])

وقال في  الكشاف:

(  وقوله: { يَشْتَرِى } إما من الشراء، على ما روي عن النضر: من شراء كتب الأعاجم ، أو من شراء القِيان. وإما من قوله: (  ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإيمَـٰنِ )  [177 : آل عمران  ] أي استبدلوه منه ، واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابُه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرىء: ( لِيُضِلَّ ) بضم الياء وفتحها. و (  سَبِيلِ ٱللَّهِ)  دين الإسلام أو القرآن.

فإن قلت: القراءة بالضم بَيِّنة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام ، واستماع القرآن ، ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح..؟

قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين ، وصدّ الناس عنه.

 والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قِبَلِ أن من أضَلَّ كان ضالاً لا محالة، فدل بالرديف على المردوف  . ) ([xx])
  7- وقوله تعالى : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)) ( 32 : الأنفال )

تتحدث الآية  عن بعض رذائل مشركي قريش ،  فتحكي لوناً عجيباً من ألوان عِنادهم ، وجحودهم للحق ، فتقول : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ) . أخرج البخاري عن أنس بن مالك أن قائل هذا القول هو : أبو جهل بن هشام ([xxi]).                                                     وأخرج ابن جرير عن محمد بن قيس : أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - من بيننا ، اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء . ([xxii])

وفي ظني أن مُؤدّى الأقوال  واحد ، فهم جميعاً راضون بهذا القول الذي صدر عن أبي جهل حسب رواية البخاري ، أي : أسند سبحانه قول   ( أبو جهل )  إلى جميع المشركين : لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية .

والمعنى : إن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمداً قد جاءهم بالحق ، بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي جاءنا به محمد من قرآن وغيره ، هو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا ، أو تنزل علينا عذاباً أليماً يقضي علينا .   وفي إطلاقهم ( الحق ) على ما جاء به الرسول  - صلى الله عليه وسلم  - ، وجعله من عند الله ،  تهكُّمٌ بمن يقول ذلك . و( أل ) فيه : للعهد ، أي : الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله . وقوله : (من السماء ) : متعلق بمحذوف ، صفة لقوله ( حجارة ) ، وفائدة هذا الوصف :   الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيب الظالمين .

قال في  الكشاف : ( وهذا أسلوب من الجحود بليغ ، يعني : إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسِّجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل . ومرادهم : نفي كونه حقاً .            

 فإن قلت : ما فائدة قوله ( من السماء ) : والأمطار لا تكون إلا منها ..؟                               

قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المُسَوَّمة للعذاب ،

فوضع حجارة من السماء موضع السجيل . ) ([xxiii] )

 8-  و قوله تعالى :    (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)) (35 :  البقرة ) .

المبهمات في الآية قوله تعالى :( وزوجك ) وقوله :( الشجرة ) .

أما زوجه فهي ( حواء – عليها السلام - ) ، وأول من سماها بذلك : آدم – عليه السلام - ، حين خلقت من ضلعه ، وقيل له : مَن هذه ..؟ قال : امرأة ، قيل : وما اسمها ..؟ قال :حواء . قيل : ولم ..؟ قال : لأنها خلقت من حي ّ ([xxiv]).

والقرآن لم يحدثنا عن زوج آدم ، وهي التي عرفت بحواء ، وعن كيفية خلقها ، كل الذي أشار إليه القرآن الكريم في هذا المضمار ، وفي سياق غير سياق قصة آدم ، إشارات موجزة من مثل قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1).) ( سورة النساء : 1) .   وأكثر المفسرين يذهبون إلى أن الله خلقها من ضلع آدم ، وهذا ما أشارت إليه التوراة صَراحةً ، وربما يستأنسون لذلك بحديث لرسول الله    – صلى الله عليه وسلم - : ( استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خُلِقنَ من ضلع أعوج ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ) ([xxv]).                                                                                          وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قول الله تعالى :  ( وخلق منها زوجها ) أي : خلقها من جنسه، حتى لا يكون بينهما تنافر . 

وأما الشجرة التي نهي عنها آدم – عليه السلام – وزوجه ، فهي من المبهمات التي لا ينبغي السؤال عن حقيقتها ، لأنه لا تتوقف على معرفة نوعها فائدة تُذكَر .

لقد أبهم الله تعالى الشجرة التي نهي آدم وزوجه عن الأكل منها ، لعدم توقف حكم على بيان جنسها فضلاً عن تحديد نوعها ، ومع هذا تجد الأقوال تعددت ملتمسة تحديد هذه الشجرة .

 ومما قيل في تحديدها : إنها شجرة السنبلة ، روي هذا عن ابن عباس – رضي الله عنهما -،                  وقتادة – رضي الله عنه - ، وغيرهما . وقيل : الكَرمَة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وسعيد بن جبير وغيرهما ([xxvi]). . وقيل هي النخلة .  وقيل : التينة ([xxvii]).      ويضاف إلى هذه الأقوال ، ما زعمته يهود من أنها الحنظلة ، وتقول : إنها كانت حلوة  ومَرَّت (أي أصبحت مرة ) من حينئذ.([xxviii])                                  وعن ابن عباس – رضي الله عنهما -: إنها شجرة العلم فيها ثمرة كل شيء ([xxix]).                                                     والمنهج السليم ما قرره ابن جرير الطبري بقوله :( ولـم يضع الله جل ثناؤه لعبـاده الـمخاطبـين بـالقرآن دلالة علـى أيّ أشجار الـجنة كان نهيه آدم أن يقربها بنصّ علـيها بـاسمها ، ولا بدلالة علـيها. فـالصواب فـي ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجه عن أكل شجرة بعينها من أشجار الـجنة دون سائر أشجارها، فخالفـا إلـى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها ، كما وصفهما الله -جل ثناؤه -. ولا علـم عندنا أيّ شجرة كانت علـى التعيـين، لأن الله لـم يضع لعبـاده دلـيلاً علـى ذلك فـي القرآن ، ولا فـي السنة الصحيحة.... وقد قـيـل: كانت شجرة البرّ. وقـيـل: كانت شجرة العنب. وقـيـل: كانت شجرة التـين. وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ إذا عُلِـم لـم ينفع العالـم به عِلـمُه، وإن جهله جاهل لـم يضرّه جهله به. ) ([xxx])

وقال الفخر الرازي : ( واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، فلا حاجة أيضا إلى بيانه ، لأنه لبس المقصود أن يعرفنا عين تلك الشجرة ، وما لا يكون مقصوداً في الكلام ، لا يجب على الحكيم أن  يبينه ، بل ربما كان بيانه عبثاً ..) ([xxxi]).

وقال القرطبي : ( قال ابن عطية : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب : أن يعتقد أن الله نهى آدم عن شجرة ، فخالف هو إليها ، وعصى في الأكل منها ) ([xxxii])

9-   وقوله تعالى :      (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)) (22 : النور ). نزلت في أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -. قال في جامع البيان : (عُنِـي بذلك أبو بكر الصدّيق - رضي الله عنه - فـي حلفه بـالله لا ينفق علـى مِسْطَح، فقال جلّ ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها الـمؤمنون بـالله ألاَّ يُعْطُوا ذَوِي قَرابتهم ، فـيصِلوا به أرحامهم، كمِسْطح، وهو ابن خالة أبـي بكر.  (وَالْمَسَاكِينَ ): وكان مِسْطح منهم، لأنه كان فقـيراً مـحتاجاً.                  (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم فـي جهاد أعداء الله، وكان مِسْطَح منهم ، لأنه كان مـمن هاجر من مكة إلـى الـمدينة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدراً. ( وَلْـيَعْفُوا ) ولـيعفُوا عما كان منهم إلـيهم من جُرم، وذلك كجرم مِسْطح إلـى أبـي بكر فـي إشاعته علـى ابنته عائشة ما أشاع من الإفك. (  وَلْـيَصْفَحُوا ) : ولـيتركوا عقوبتهم علـى ذلك، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك، ولكن لـيعودوا لهم إلـى مثل الذي كانوا لهم علـيه من الإفضال علـيهم.  (  أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)  ألا تـحبون أن يستر الله علـيكم ذنوبكم بإفضالكم علـيهم، فـيترك عقوبتكم علـيها. ( وَاللّهُ غَفُورٌ ) لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيـم بهم أن يعذّبهم مع اتبـاعهم أمره ، وطاعتهم إيّاه، علـى ما كان لهم من زلة ، وهفوة ، قد استغفروه منها ، وتابوا إلـيه من فعلها.....

 وعن عائشة، قالت: لـما نزل هذا ، يعنـي قوله:  ( إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بـاْلإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) فـي عائشة، وفـيـمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر-  وكان ينفق علـى مِسطَح لقرابته وحاجته- : والله لا أُنفِقُ علـى مسطح شيئاً أبداً ، ولا أنفعه بنفعٍ أبداً ، بعد الذي قال لعائشة ما قال ، وأدخـل علـيها ما أدخـل ،  قالت: فأنزل الله فـي ذلك: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ... الآية ) . فقال أبو بكر: والله إنـي لأحبّ أن يغفر الله لـي ، فرجع إلـى مسطح نفقتَه التـي كان يُنفِق علـيه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. وكان أبو بكر قد حلف أن لا ينفع يتـيـماً فـي حِجْره كان أشاع ذلك. فلـما نزلت هذه الآية قال: بلـى أنا أحبّ أن يغفر الله لـي، فَلأكوننّ لـيتـيـمي خيرَ ما كنت له قطُّ. ([xxxiii]) .

10-     وهناك نوع من المبهمات ضرب الله عن ذِكرِهِ صَفحاً لعدم تعلق التكليف به ، لِخُلُوِّ معرفته من الفائدة ،  مثل تعيين البعض المذكور في قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ( البقرة : 73) .

أمر الله بني إسرائيل لما قُتِلَ فيهم قتيل ، ولم يهتدوا لقاتله أن يذبحوا بقرة ، ويضربوا القتيل ببعض هذه البقرة ، ولم تُبَين الآية ما هذا البعض ..؟

لذلك اختلف المفسرون في تعيين هذا البعض على أقوال  كثيرة :

 قال الطبري : (     ...... عن قتادة، قال: ذكر لنا أنهم ضربوه  بفخذها فأحياه الله، فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلـم، ثم مات.  وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التـي بـين الكتفـين ،  فعاش، فسألوه: من قتلك..؟ فقال لهم: ابن أخي.
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عَظمٌ من عظامها ، عن أبـي العالـية، قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظماً منها فـيضربوا به القتـيـل ففعلوا، فرجع إلـيه روحه، فسمى لهم قاتله ،  ثم عاد ميتاً كما كان . ) ([xxxiv])

وقال ابن الجوزي : (    وفي الذي ضُرِبَ به ستة أقوال:
أحدها: أنه ضُرِبَ بالعظم الذي يلي الغضروف، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثاني: أنه ضرب بالفخذ، روي عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وذكر عكرمة ، ومجاهد أنه الفخذ الأيمن.
والثالث: أنه البَضعة التي بين الكتفين. رواه السدي عن أشياخه.
والرابع: أنه الذنب، رواه ليث عن مجاهد.
والخامس: أنه عَجب الذنب، وهو عظم بني عليه البدن، روي عن سعيد بن جبير.
والسادس: أنه اللسان، قاله الضحاك.
وفي الكلام اختصار تقديره: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي، فقام فأخبر بقاتله.)  ([xxxv]) . 

وبناء على ذلك ، فالمبهمات التي لم يُفصح القرآن عنها ، لا يصح الاشتغال بها .

كما لا يجوز البحث في مبهمات استأثرَ اللهُ بعلمها ، فيجب التوقف عندها ، وعدم الخوض فيها . قال الزركشي : ( لا يُبحَثُ عن مبهم  أخبر الله باستئثاره بعلمه ) ،  كقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا  اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)) ( 60 : الأنفال ) فقد أخبر الله سبحانه اختصاصه بعلم ما تضمنه قوله  : (وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) ونفى ذلك عن الخلق، فمن تَطَلَّبَ معرفة هذه الأمور ، فقد تجرأ على الله تبارك وتعالى ، وتعدَّى الحَدَّ الذي يجب الوقوف عنده ([xxxvi]).

====================================================

[i] - انظر : الواحدي :  أسباب النزول  : ص 228-229.  . والبخاري ، محمد بن إسماعيل ين إبراهيم بن المغيرة ( تـ 256هـ) ، صحيح البخاري ، طبعة مصطفى البابي الحلبي ، عام 1953م : ج3  : ص 15 . 

[ii] - انظر : الآلوسي : روح المعاني :  ج 21 ص 173  .

[iii] -الزمخشري ،  الكشاف :  ج3: ص 256-257.

[iv] - انظر : الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن :  مجلد : 12 ، ج 28 ، ص 2 .

[v] - انظر الواحدي النيسابوري ، أسباب النزول ، ص 260. وَ جامع البيان عن تأويل آي القرآن :  مجلد : 12 ،  ج 28 ، ص 2

[vi] - انظر الزمخشري : الكشاف ، ج4 ، ص70.

[vii] - انظر :  محمد الطاهر بن عاشور( تـ 1973م)  :  تفسير التحرير والتنوير ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1984م. ، مجلد: 11 ، ج 28 ، ص 9  .

[viii] - انظر محمد ابن جرير الطبري : جامع البيان : ج11، ص: 230-231.

[ix] - انظر : محمد ابن جريرالطبري  ، جامع البيان : ج11: ص 227-232. والسيوطي : الدر المنثور : ج3: ص 236.

[x] - ابن جرير : جامع البيان : ج1: ص 232 . وانظر د. عبد الرحمن بن صالح ، الأقوال الشاذة في التفسير ، ، ط1، 2004م.   ص: 317.

[xi] - انظر : البخاري ،  صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، ج3  ص : 112-113.                   

[xii] - انظر : د. محمد السيد طنطاوي ، التفسير الوسيط ، ط2 ، 1985م. ج16، ص: 80- 82.

[xiii] - انظر : الزمخشري : الكشاف ، المجلد الثاني : ص : 523.

[xiv] - الهيثمي ، علي بن أبي بكر ( تـ 807هـ) ، مجمع الزوائد ، دار الكتاب العربي ،ط3، 1402هـ.  ج  9 : ص 157-  158.

[xv] - محمد بن سعد بن منيع الزهري ( تـ230هـ)  ، الطبقات الكبرى ،  دار صادر  ، بيروت . 1957م : ج3: ص 189.

[xvi] - انظر : الواحدي ، أسباب النزول : ص 62. وانظر : الزمخشري ، الكشاف ، مجلد 2 ، ص 430.

[xvii] -   انظر الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي الفرآن: مجلد: 7 ، ج14 ، ص 122.

[xviii] - انظر : السيوطي : لباب النقول ، ص : 135 . والآلوسي : روح المعاني ، ج 21 ص67 . والقينة هي : المُغنية .

[xix] - د. محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط : ج20: ص 139

[xx] - الزمخشري : الكشاف : ج3: ص 230. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو : ( لِيَضِلَّ ) بفتح الياء ، ومعناها : أنهم يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم .  . وقرأ الباقون : ( لِيُضِل ) بضم الياء ، أي : يضلون غيرهم ، وهؤلاء أكثر استحقاقا للذم ، لأنهم لا يضلون غيرهم إلا مهم ضالون . . انظر : الإمام نصر بن علي بن محمد المعروف بابن أبي مريم : الكتاب المُوضَّح  في وجوه القراءات وعللها ، نحقيق الدكتور عمر حمدان الكبيسي ، ط1، عام 1993م ، ج1: ص 498. وَ ج2:ص  1013.

[xxi] - انظر : البخاري ،  صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، ج3:  ص:95. والآلوسي ، روح المعاني : ج9  ص199     .

[xxii] - انظر:  الآلوسي ، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني :  روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ،ط دار إحياء التراث العربي ، بيروت . : ج9/ ص 99 .

[xxiii] - انظر :  الزمخشري ،  جار الله محمود بن عمر الخوارزمي : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه  التأويل ،  ط البابي الحلبي ، القاهرة ، 1966م.: ج2/ ص 216 .

[xxiv] - انظر : السهيلي : الأعلام ،ص 19.

[xxv] - أخرجه البخاري : حديث رقم : 3153. وانظر :أ . د. فضل حسن عباس ، قصص القرآن الكريم : ط1، عام2000م ، ص 137.

[xxvi] - انظر تفسير جامع البيان : ج1: ص 517

[xxvii] - انظر المرجع السابق . نفس الجزء ونفس الصفحة.

[xxviii] - انظر : أبو محمد عبد الحق بن عطية ( تـ 546هـ)  :  المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد ، دار الكتب العلمية ، بيروت : ، ج1:ص128.

[xxix] - ذكره ابن عطية ، المحرر الوجيز ، ج1: ص 127. وقال : وهذا ضعيف لايصح .

[xxx] - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : جامع البيان ، ج1 : ص  520.

[xxxi] - الفخر الرازي : التفسير الكبير ، ج3: ص 6.

[xxxii] - تفسير القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ( تـ 671هـ) :  ( الجامع لأحكام القرآن الكريم ) ،   دار الكتاب العربي ، القاهرة ، 1967م . : ج1: ص 204.

[xxxiii] - انظر : الطبري : جامع البيان :  مجلد : 9 ، ج: 8 ،  ص، 74. وانظر : الواحدي : أسباب النزول : ص 185.

[xxxiv] - انظر : الطبري : جامع البيان ، ج1: ص229.  والسيوطي ، مفحمات الأقران : ص 14. 

[xxxv] - ابن الجوزي : زاد المسير : ج1: ص 102 . والسيوطي ، مفحمات الأقران : ص 14. 

[xxxvi] - الزركشي : البرهان في علوم القرآن ، ج1: ص 155.

  • الاربعاء PM 04:27
    2022-01-12
  • 1685
Powered by: GateGold