المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409155
يتصفح الموقع حاليا : 338

البحث

البحث

عرض المادة

شبهات منكري وجود ابن سبأ وتفنيدها

حاول نفر من الكتّاب المعاصرين نفي وجود ابن سبأ، وذهبوا في أمره مذاهب شتى، فمنهم من أنكر وجوده، ومنهم من قال: لو سلمنا بوجوده جدلا، فإننا ننكر أن يكون لـه كل ذلك التأثير في الفتن التي حصلت في مقتبل عمر الدولة الإسلامية، وسنعرض لـهذه التشكيكات والأوهام لبيان زيفها.

أولاً: شبهات مرتضى العسكري :

حاول مرتضى العسكري، عميد كلية علوم الدين بالنجف الأشرف إثبات أن معظم المؤرخين الذين تطرقوا للحديث عن عبداللـه بن سبأ، أخذوا معلوماتهم عن الطبري، وأن الطبري اعتمد على روايات الإخباري سيف بن عمر([1])، الذي جرحه علماء الجرح والتعديل.

يقول مرتضى العسكري: (فإذا راجعنا كتب الرجال للبحث عن شخصية سيف، وجدناهم يصفونه بأنه يروي عن خلف كثير من المجهولين، ضعيف الحديث، ليس بشيء، متروك، يضع الحديث، وهو في الرواية ساقط، يروي الموضوعات عن الثقات، وعامة حديثه منكر، متهم بالوضع والزندقة) ([2]).

ونقول: لقد جرحه علماء الجرح والتعديل، فقال عنه النسائي: (سيف بن عمر الضبي ضعيف) ([3])، وقال عنه أبو حاتم الرازي: (حدثنا عبدالرحمن قال سئل أبي عن سيف بن عمر الضبي فقال: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي) وقال عنه ابن معين: (سيف ضعيف الحديث) ([4]).

وذكره الذهبي واكتفى بالقول (ضعفه ابن معين وغيره)([5]).

وعند ابن حجر: (سيف ضعيف الحديث) ([6])، ولكن الطعن في مروياته من الأحاديث النبوية الشريفة لا ينسحب بالضرورة على الأخبار التي يرويها، لأن الأحاديث النبوية جزء من التشريع تنبني عليها الأحكام، ويؤخذ منها الحلال والحرام، وتقام بها الحدود، فهي تتصل بأصل من أصول التشريع الإسلامي، وهو السنة النبوية الغراء.

ويختلف الأمر في رواية الأخبار التاريخية، فهي وإن كانت مهمة، إلا أنهـا لا تصل في أهميتها إلـى درجة الأحاديث النبوية، ولا يتمخض عنها أحكام ملزمة، إذ كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، إلا ما صح من قول رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم، ولنعد إلـى كتب الجرح والتعديل التي جرحت سيف محدثاً، لنرى حكمها على سيف مؤرخاً وإخبارياًن قال الذهبي: (كان سيف إخبارياً عارفاً) ([7])، وقال ابن حجر: (ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ) ([8])، فلماذا نأخذ بعض الأقوال ونترك بعضها الآخر؟ وفي الواقع أن سيف بن عمر لم يكن المصدر الوحيد الذي استأثر بأخبار عبداللـه بن سبأ، بل ورد ذكر أخبار ابن سبأ وطائفته منقولة عن علماء متقدمين ورواة غير سيف بن عمر، مثل:

أ- جاء في (طوق الحمامة) ليحيى بن حمزة الزبيدي عن سويد بن غفلة الجعفي الكوفي المتوفى عام (80هـ – 699م) أنه دخل على علي رضي اللـه عنه في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر بسوء، ويروون أنك تضمر لـهما مثل ذلك، منهم عبداللـه بن سبأ، فقال علي: مالي ولـهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ اللـه أن أضمر لـهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلـى ابن سبأ فسيره إلـى المدائن، ونهض إلـى المنبر، حتى إذا اجتمع الناس أثنى عليهما خيراً، ثم قال: إذا بلغني عن أحد أنه يفضلني عليهما جلدته حد المفتري([9]).

ب- أخرج ابن عساكر عن زيد بن وهب الجهني الكوفي المتوفى عام (90هـ – 709م) قال: (قال علي بن أبي طالب: مالي ولـهذا الخبيث الأسود –يعني عبداللـه بن سبأ- وكان يقع في أبي بكر وعمر) ([10]).

ج- روى ابن سعد في طبقاته عن إبراهيم بن يزيد النخعي المتوفى عام (96هـ – 714م) أن رجلاً كان يأتيه فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أن أتعلم من هذا الرجل؟ وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان فسأل ابراهيم النخعي عن ذلك، فقالك ما أنا بسبئي ولا مرجئي([11]).

د- أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن الشعبي عمر بن شراحيل الحميري اليمني المتوفى عام (103هـ – 721م) قال: (أول من كذب عبداللـه بن سبأ).

وأخرج ابن عساكر كذلك عن أبي الطفيل عامر بن وائلة الليثي الصحابي المتوفى عام (110هـ – 728م) قال: (رأيت المسيب بن نجية أتى به ملببه يعني ابن السوداء وعلي على المنبر، فقال علي: ما شأنه؟ فقال: يكذب على اللـه ورسولـه) ([12]).

هـ- نقل الإمام الطبري أن قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى عام (117هـ – 735م) كان إذا قرأ قولـه تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ.. الآية) قال: "إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري"([13]).

وكما هو واضح فإن أصحاب هذه الروايات لم يذكر رواتها أنهـا نقلت عن سيف.. مما يدل على أن هذا الخبر لم ينفرد به سيف بن عمر التميمي، بل ورد عن رواة آخرين وبعضهم متقدم على سيف، ومع أن الأستاذ مرتضى العسكري يرفض الأخذ برواية سيف بحجة أن علماء الجرح والتعديل جرحوه –محدثاً وليس إخبارياً- إلا أننا نجده يأخذ بروايات "أبو مخنف"([14]) الذي جرحه علماء الجرح والتعديل محدثاً وإخبارياً.

قال عنه ابن معين: (ليس بشيء) ([15])، وقال عنه الذهبي: (وهو ليس عمدة في التاريخ كما هو شأن سيف بل هو إخباري تالف لا يوثق به) ([16]).

وبمثل ذلك وصفه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان([17]).

وأبو مخنف هذا لم يشر في أحداث فتنة عثمان إلـى السبئية، وأول إشارة لابن سبأ عنده تعود إلـى أيام علي بن أبي طالب رضي اللـه عنه إذ يذكر أنه بعد موقعة النهروان جاءه (عبداللـه بن وهب الراسبي الـهمداني رأس الخوارج وهو ابن سبأ والصواب هو وابن سبأ ومعه حجر الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي، وحية بن جوين البجلي، ثم العرني، وسألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فغضب منهم وقال: أو قد تفرغتم لـهذا؟)([18])، هذه أول إشارة عند إخباري غير سيف لاعتقاد ابن سبأ بأحقية علي بالخلافة، وفيها أيضاً إشارة إلـى وجود ابن سبأ عند إخباري يثق به مرتضى العسكري نفسه، ويشير أبو مخنف إلـى السبئية بصورة مقتضبة بعد استشهاد علي بن أبي طالب رضي اللـه عنه ويفهم منها أنهـا الفئة التي توالي علياً ووصف زياد بن أبيه حجر بن عدي الكندي([19]) وأصحابه بأنهم (السبئية الجانية) ([20]) وبأنهم (الترابية السبئية) ([21])، وذكر أبو مخنف أن شبت بن ربعي الرياحي تهكم على أصحاب المختار، ووصفهم بأنهم سبئية، ووصفت أشراف الكوفة المختار وأتباعه بأنهم سبئية أثناء احتجاجهم على المختار الثقفي قبل موقعة جبانة السبع التي انتصر فيها المختار سنة 66 للـهجرة([22])، حيث قالوا: (أظهر هو وسبئيته البراءة من اسلافنا الصالحين) ([23])، كما وصف الخوارج أصحاب علي كرم اللـه وجهه بأنهم (سبئية) ([24])، وكل هذه الروايات الواردة عن أبي مخنف، والروايات السابقة عن سيف وغيره، تفيد أن عبداللـه بن سبأ وأتباعه، كانوا من عالم الحقيقة لا عالم الخيال كما ادعى مرتضى العسكري، وتجريحه للخبر على انه مروي عن سيف لا محل لـه، إذ ورد عن غيره فسيف ليس هو المصدر الوحيد لأخبار عبداللـه بن سبأ، كما أن عساكر لم تقتصر طرق روايته على سيف، وإنما أورد في تاريخه روايات لم يكن سيف فيها، وكلـها تثبت وجود ابن سبأ وتشمل هذا المصادر الشيعية كتب الفرق، وفي مقدمتها كتاب الناشئ الأكبر (ت 293هـ): مسائل الإمامة ومقتطفات من الكتاب الأوسط في المقالات([25]) وكتاب المقالات والفرق([26]) للقمي (ت 301هـ) وفرق الشيعة([27]) للنوبختي (ت 310هـ) وكذلك كتب الرجال، ومنها رجال الكشي([28]) (أبو عمرو محمد بن عمر، ت 340هـ)([29]) وقد نقل أكثر من رواية مسندة تؤكد حقيقة ابن سبأ، وكتاب رجال الطوسي([30]) (محمد بن الحسن الطوسي، ت 460هـ)، وكلـها تثبت وجود ابن سبأ وتدين من حاول من متأخري الشيعة إنكار وجود عبداللـه بن سبأ أو التشكيك في أخباره، ومع كل ذلك فقد رفض العسكري أخبار الرواة، ولم يقنع بما نقلـه الحفاظ الثقات، وشنع على كتاب الملل والنحل، ولم يكتف برد أخبار علماء اهل السنة، وإنما رد ما كتبه أئمة الشيعة.

ثانياً: شبهات الدكتور كامل مصطفى الشيبي

حاول الدكتور كامل مصطفى الشيبي أن يثبت في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) أن ابن سبأ هذا ما هو إلا: عمار بن ياسر([31])، وللحقيقة أن أول من قال بذلك هو (هدايت الو حكيم الـهلي)([32]) الأستاذ بإحدى الجامعات البريطانية وردد الدكتور علي الوردي ذلك في كتابه (وعاظ السلاطين)([33])، وأيده الدكتور كامل الشيبي بشدة وقال: (وهذه الأدلة مقنعة ومنطقية ولكنها في حاجة إلـى نصوص تسند تسمية عمار بن ياسر بابن السوداء وابن سبأ)، ثم أخذ يسرد بعض الحجج التي توهم أنهـا تؤيد مدعاه، منها: كان ابن سبأ يعرف بابن السوداء، وقد رأينا كيف كان عمار يكنى بابن السوداء أيضاً، وكان من ابن يُماني، ومنى هذا أنه كان من أبناء سبأ، فكل يماني يصح أن يقال عنه انه ابن سبأ، فأهل اليمن كلـهم ينتسبون إلـى (سبأ بن يشجب بن قحطان)، وفي القرآن الكريم قال الـهدهد لسليمان أنه جاءه من سبأ، وقصد بذلك اليمن، وعمار فوق ذلك كان شديد الحب لعلي ن أبي طالب رضي اللـه عنه، يدعو لـه، ويحرض الناس على بيعته في كل سبيل، وقد ذهب عمار في أيام عثمان إلـى مصر، وأخذ يحرض الناس على عثمان، فضج الوالي منه، وهم بالبطش بهن وهذا الخبر يشابه ما نسب إلـى سبأ من انه استقر في مصر، واتخذ من الفسطاط مركزاً لدعوته، وشرع يراسل أنصاره منها، وينسب إلـى ابن سبأ قولـه: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وأن صاحبها الشرعي هو علي بن أبي طالب، والواقع أن هذا كلام عمار بن ياسر بالذات، فقد سمع ذات يوم يصيح في المسجد أثر بيعة عثمان، يا معشر قريش، أما إذا صرفتم هذا الأمر عن بيت نبيكم ههنا مرة، وههنا مرة، فما أنا بآمن عليكم من أن ينزعه اللـه فيضعه في غيركم، كما نزعتموه عن أهلـه، ووضعتموه في غير أهلـه، ويعزى إلـى ابن سبأ أنه هو الذي عرقل مساعي الصلح بين علي وعائشة إبان معركة البصرة، فلولاه لتم الصلح بينهما حسبما تقولـه الرواة.

ومن يدرس تفاصيل واقعة البصرة، يجد عماراً يقوم بدور فعال فيها، فهو الذي ذهب مع الحسن ومالك الأشتر إلـى الكوفة، يحرض الناس على الانتماء إلـى جيش علي، وكان وقوف عمار بجانب علي أثناء المعركة، سبباً من أسباب ندم الزبير وخروجه منها، وقالوا عن ابن سبأ([34]) أنه هو الذي حرك أبا ذر في دعوته الاشتراكية، ولو درسنا صلة عمار بأبي ذر لوجدناها وثيقة جداً، فكلاهما من مدرسة واحدة، هي مدرسة علي بن أبي طالب كرم اللـه وجهه، وكان هؤلاء الثلاثة يجتمعون ويتشاورون ويتعاونون معاً، نستخلص من هذا أن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فلقد كانت قريش تعتبر عماراً رأس الثورة على عثمان، ولكنها لم تشأ في أول الأمر أن تصرح باسمه، فرمزت عنه بابن سبأ، أو ابن السوداء، وتناقل الرواة هذا الأمر غافلين وهم لا يعرفون ماذا يجري تحت الستار، ثم أخذ الدكتور (الشيبي) يسوق بعض الحجج والنصوص التي زعم أنهـا تسند تسمية عمار بن ياسر رضي اللـه عنه بابن السوداء، وابن سبأ، ونقول: أن من يتفرس النقول السابقة التي أوردناها فيما سبق، يجد أن شخصية عبداللـه بن سبأ شخصية حقيقية عرفها الناس، وعرفوا لـها مرونتها وقدرتها على التأثير، إذ أنهـا تؤكد في غير لبس حقيقة وجوده، بل يكاد يكون في حكم الإجماع بين الرواة الذين ذكروا خبر عبداللـه بن سبأ، أنه كان يهودياً، وقد أيد علماء الشيعة ذلك من أمثال النوبختي وغيره([35])، أما لماذا لقب عبداللـه بن سبأ بابن السوداء؟ فالذي يظهر من كلام الطبري وغيره، أن عبداللـه بن السوداء هو نفسه عبداللـه بن سبأ سمي بذلك تحقيراً لـه لأن أمه سوداء، وربما حبشية هي كما أسلفنا، ويؤكد المقريزي في خططه([36])، وابن كثير في البداية والنهاية([37])، هذا التطابق، قال الطبري: (كان عبداللـه بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، وكانت أمه سوداء) ([38]).

وفي البيان والتبيين للجاحظ، خبر جاء في بعض فقراته: (فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب) ([39])، وقد حاول الدكتور جواد علي أن يلقي ظلالاً من الشك على وجود ابن سبأ من خلال هذه الرواية فقال: المهم في هذه الرواية انه نص على اسم والد ابن السوداء، فدعاه حرباً، ولكن أي حرب هو؟ فهنالك مئات الأشخاص عرفوا بحرب، ثم من كان والد حرب؟ ومن أي قبيلة كان؟([40]) ولا أشك أن رواية البيان والتبيين محرفة، وأظن أن أصل الرواية (فلقيني ابن السوداء هو وابن حرب)، أي بتقديم هو على الواو، فيستقيم بذلك المعنى، علماً بأن ابن حرب هذا، هو مؤسس الفرقة الحربية السبئية([41])، وكان من أتباع ابن سبأ وكان يقول بنفس المقالات التي نادى بها ابن سبأ ثم تجاوزه، المهم أن الدكتور جواد علي، علق على رواية الجاحظ السالفة بقولـه: (ولست في شك من أنه يقصد بابن السوداء، عبداللـه بن سبأ الذي تحدث عنه أصحاب كتب الفرق) ([42]).

وقد انفرد صاحب كتاب (الفرق بين الفرق)([43]) بالقول بأن ابن السوداء، شخص آخر غير ابن سبأ، بيد أن الأفكار والآراء التي نسبها للأول هي نفسها التي نسبها للثاني، مما يؤدي إلـى أن الاسمين لشخص واحد، أثرت عنه تلك الأفكار المستوردة من الشرق والديانات والمذاهب المحرفة، وقد اعتمد على رواية الشعبي التي تتحدث عن شخصين أحدهما: عبداللـه بن سبأ، وكان في الأصل يهودياً من اليمن، والثاني: عبداللـه بن السوداء، وهو يهودي من الحيرة، وقد بينا فيما سلف أن ابن سبأ في الأصل من اليمن، وأنه نزل الحيرة فيما بعد، وفيها صاغ معظم المقالات التي نادى بها، وهذا التفريق بينهما لم يكن إلا من اختلاط الأمر على الرواة، كما حصل لـهم في رواية أخرى للشعبي نقلـها صاحب العقد الفريد، جاء فيها: (وقد حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، ونفاهم إلـى المدائن، ومنهم عبداللـه بن سبأ، نفاه إلـى ساباط، وعبداللـه بن السباب) ([44]).. فذكر الشعبي في روايته هذه اسم شخصين هما: عبداللـه بن سبأ، وعبداللـه بن السباب، والذي يطالع هذا الموضع، يتصور أن الثاني من زعماء الغلاة في حب علي بن أبي طالب، وأنه كان من حزب ابن سبأ، فإن اسم والده السباب.. وبمراجعة لكتب الفرق نجد أنهـا تسمي عبداللـه بن سبأ وأتباعه بالسبئية، كما تسميهم بـ السبابية في ذات الوقت، جاء في كتاب (الفرق بين الفرق): (الفصل الأول من فصول هذا الباب: في ذكر قول السبابية وبيان خروجها عن ملك الإسلام، السبابية: أتباع عبداللـه بن سبأ)([45])، وقد تكر ورود هذه التسمية في كتب أخرى، مثل: عيون الأخبار لابن قتيبة، إذ قال: (أول من قال بخلق القرآن هو المغيرة بن سعيد العجلي وكان من أتباع عبداللـه بن سبأ اليهودي)، وقال في موضع آخر: (أن المغيرة كان سبابياً)([46])، فكل هذه التسميات إذن لمسمى واحد هو عبداللـه بن سبأ، وسموا بهذا الاسم لانتقاصهم من صحابة رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم، وإطلاق ألسنتهم في سبهم وتجريحهم، واشتهار عبداللـه بن سبأ بلقب ابن السوداء لم يكن يسره، كما لم يسر أتباعه، إذ استعملت هذه الكلمة دوماً للتحقير والازدراء، فقد عير بها المقداد ابن الأسود، فقيل لـه: يا ابن السوداء، وقالـها أبو ذر لبلال رضي اللـه عنه، فمن المحتمل أن يكنى عمار بن ياسر رضي اللـه عنه وغيره بابن السوداء، كما كنى ابن سبأ بذلك، وليس معنى هذا أنهما شخصية واحدة، وإنما رفض الشيعة المحدثون وجود ابن سبأ زاعمين أنه عمار بن ياسر، وأن النواصب حملوه كل تلك الأفكار والآراء الشائعة بين الأقليات غير الإسلامية في المجتمع الإسلامي، لينفوا بداية التشيع والغلو بعبدالله بن سبأ، وقد أظهره مؤرخو الفرق وكتابها من سنة وشيعة، كرائد للتشيع الغالي، فكان رد فعل الشيعة المحدثين أن اعتبروا عبدالله بن سبأ، اسماً وضعه الأمويون لعمار بن ياسر المناهض لهم، ومقصدهم من ذلك أظهار عمار بن ياسر بما عرف عنه، بأنه الرائد الأول لمذهبهم، ثم أن هذا الرأي الذي ذهب اليه كل من الدكتور علي الوردي، والدكتور مصطفى الشيبي وغيرهما، ترده كتب الجرح والتعديل، وكتب الرجال المعتمدة عند الشيعة أنفسهم، فهي تذكر عمار بن ياسر ضمن أصحاب علي رضي الله عنه والرواة عنه، ثم تذكر في موضع آخر ترجمة عبدالله بن سبأ في معرض السب واللعنة، فهل يمكن اعتبار الرجلين شخصية واحدة؟

وإذا كان الدكتور علي الوردي ومن تابعه يرون أن من عوامل توافق ذهاب كل منهما إلى مصر زمن عثمان، فإن استقراء النصوص، ومعرفة تاريخها يعطي مفهوماً غير الذي فهمه الدكتور علي الوردي، وبالتالي دليلاً على استقلال كل من الشخصيتين، فعمار إنما بعثه عثمان إلى مصر سنة 35 للهجرة، كما أن الذين استمالوا عمار بن ياسر في مصر قوم منهم: عبدالله بن سبأ، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر، وذلك عندما طلب الخليفة عثمان رضي الله عنه مشورة خاصته، عندما ترامت إلى أسماعه أنباء تذمر الرعية في الأمصار، فقالوا لــه: (نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار يرجعون إليك بأخبارهم، فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبدالله بن عمر إلى الشام وفرق رجالاً سواهم)([47])، إذاً فهما شخصان لا شخص واحد، كما أن الظروف التاريخية والنفسية لا تسمح لنا بالقول بأنهما شخصية واحدة، إذ يلزم من ذلك أن يكون عمار بن ياسر هو الذي أشاع فكرة الوصية والرجعة والمهدية والزندقة، وهذا ما لا يستطيع أحد نسبته إلى الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه، بل يلزم من التوحيد بين الشخصين نسبة اليهودية إلى عمار، والتي أثبتها المؤرخون من أهل السنة والشيعة لعبدالله بن سبأ، أما اتفاق الشخصين في الكنية "ابن السوداء" فلا يقوم دليلاً على انهما شخص واحد، لأننا نجد كثيراً من الأعلام يتشابهون في الكنى والألقاب، مما حمل المؤرخين على التأليف في المتشابه به من الأسماء والكنى والألقاب لبيان الفرق بينهما، ومن كل ما سبق يتبين لنا مجانبة الدكتور علي الوردي للصواب، وكذلك من تابعه فيما ذهب اليه، وما أوردناه كاف للدلالة على ذلك.

ثالثاً: شبهات الدكتور طه حسين :

خاض الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى في أمر الفتنة التي اضطرم سعيرها في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وانتهت باغتيال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اغتيالاً لم يعرف تاريخ الإسلام آنذاك أبشع منه ولا أفظع، على نحو أراد به جرياً على منهجه إثارة الشكوك والشبهات معتمداً على مصادر غامضة، وروايات مبتورة، تاركاً خلفه المصادر الأساسية، ونقل روايات الفتنة كما رواها رواتها دون تمحيص لهذه الروايات، كما كان لــه هوى واضح لم يكشف عنه إلا بعد أن قطع شوطاً طويلاً فيما كتب، وقد كفانا مؤونة الرد عليه أديب العربية الراحل محمود محمد شاكر، فقال: "وبعد أن ذكر الفتنة قال: فالفتنة إذاً إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء"، وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة "فتنة عربية"، و"عامة عربية" لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد من غير العرب في دم عثمان، وما تكاد تمضي صفحات حتى نرى باباً يبدأ هكذا: وهناك قصة أكبر الرواة المتأخرين من شأنها، وأسرفوا فيها، حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدراً لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبدالله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء، قال الرواة: كان عبدالله بن سبأ الذي يعرفبابن السوداء، قال الرواة: كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء حبشي الأم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة، ويغري به، ويحرض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعاً([48]).

ثم يقول: "وإلـى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكاماً، فنظم في الأمصار جماعة خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام"، ونرى من هذا لماذا أصر الدكتور على أن يصف الفتنة بأنها "عربية" وبأن العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا "عامة عربية" أي ليس لعبد الله بن سبأ يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها، ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول عقب ذلك: "ويخيل إلي أن الذي يُكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد، يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافاً شديداً، وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكراً في "المصادر المهمة" التي قصّت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً، وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر"([49])، ثم قال: "ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكن أقطع بأن خطره إن كان لــه خطر ليس ذا شأن، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان"، إلى أن يقول:

"فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين على أن يعبث بدينهم وسياستهم وقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهودياً وكانت أمه سوداء، وكان هو يهودياً، ثم أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثم أتيح لــه من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه".

ثم يقول: "هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد ولا ينبغي أن يقام عليها أمور التاريخ"([50])، هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة، ثم مضى على وجهه ليقول: "وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة أن المصريين قد أخذوا أثناء عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين، فهذه القصة فيما أرى ملفقة من أصلها"، ثم اختصر قصة الكتاب اختصاراً وقال: كل هذا أشبه بأن يكون ملهاة سخيفة، منه بأن يكون شيئاً قد وقع، والأمر أيسر من هذا تلقى أهل الأمصار وعداً من إمامهم فاطمأنوا اليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر وان لا يعودوا اليه حتى يفرغوا، ثم تبين للدكتور طه أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والي مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر ليس يحل الإشكال في عودة الوفد، بعد أن فصل عن المدينة راجعاً إلى مصر، وتبين لــه أيضاً أن أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي انه كذب عليهم باللفظ الصريح، فإن سأل نفسه كيف تبينوا انه كذب عليهم، فلم يعرف كيف يجيب، فألقى الفرض كما هو وزاد عليه أنهم أقبلوا ثائرين، "فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا عائدين حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد ألقوا سلاحهم وأمنوا في دورهم كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال"، ولكن رأى الدكتور طه أن هذا الرأي مدخول كله، إذا لم يعزز بفرض آخر، ففكر وقدر ثم قال: "وأكاد أقطع بأن قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم ثم أعلموهم بما عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا اليهم حين حاصروا عثمان([51])، وهذه كلها كما نرى فروض وتخيل، وإقرار أيضاً بما أنكره في أمر عبدالله بن سبأ من تنظيم الجماعات الخفية، التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذا المبدأ هناك ويقره هنا.

ونكتفي بالوقوف على هذين الموضعين من كلام الدكتور طه خشية الإطالة في تفلية كلامه، فإن تحت كل حرف مما كتب علماً كثيراً لا بد من تفليته وغربلته ورده إلى وجوه الحق، التي زال عنها إلى سواها، وقد اضطررت اضطراراً إلى الإطالة بالنقل، لئلا يفوت علينا شيء من حديث الدكتور طه وعلمه.

وقد بدأ الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبدالله بن سبأ، فذكر أن الرواة المتأخرين أكبروا من شأنها، وأسرفوا فيها، وأنها لم ترد في "المصادر المهمة"، وأن ابن سعد لم يذكرها، وأن البلاذري لم يذكرها في أنساب الأشراف، وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر، وان الذي ذكرها هو الطبري، وأخذها عنه المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر، كما يقول الدكتور، وقول الدكتور الرواة المتأخرين، فيه إيهام شديد متعمد فيما يظهر، فإن الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 هـ ومات سنة 310 هـ، فهو معاصر للبلاذري، وفي طبقة تلاميذ ابن سعد صاحب الطبقات، وأن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذا الخبر، هو من كبار المؤرخين القدماء فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري، وهو في مرتبة شيوخ ابن سعد، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة، فلا يقال عنه ولا عن الطبري أنهما من الرواة المتأخرين، كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.

وكذلك قوله: "المصادر المهمة" فيه إيهام شديد، وإجحاف جارف، فإن لم يكن كتاب الطبري من "المصادر المهمة" فليت شعري ما المصادر المهمة التي بين أيدينا؟

ثم أن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص وأنه ملفق من نسخ مختلفة، بعضها تام، وبعضها ناقص، وبعضها مختصر، والدليل على ذلك مما نحن بسبيله، أنه ترجم "لعمر" رضي الله عنه في 48 صفحة و"لأبي بكر" رضي الله عنه في 33 صفحة، فلما جاء إلى "عثمان" رضي الله عنه والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه، ويعلم الناس لم يكتب سوى 22 صفحة، فلما ذكر علي ابن أبي طالب والأمر في زمنه أفدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة.

وكان من حجة الدكتور في نفي خبر عبدالله بن سبأ أن البلاذري لم يذكره، وهو فيما يرى "أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً"، ثم عاد ونفى أيضاً خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وفد مصر، مع أن البلاذري ذكره وأطال وأتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره، ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل ذكره خبراً ما، حجة في نفيه، ثم ينفي أيضاً خبراً آخر قد ذكره ولج فيه؟، ويعلم الدكتور طه أن الذي وجد من كتاب البلاذري قسم ضئيل جداً، طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883م، ثم تولى طبع جزء آخر في القدس رجل من طغاة اليهود سنة 1938م، وقال الناشر في مقدمته أن هناك حوادث حدثت في عهد يزيد بن معاوية، وهي واقعة كربلاء وموت الحسين "ولم تذكر في ترجمة يزيد، بل ذكرها في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقاً لتسلسل الأنساب"، أفلا يجوز اذن أن يكون البلاذري قد أدمج أمر عبدالله بن سبأ في مكان آخر، كما فعل فيما لاحظه وذكره الناشر اليهودي للكتاب؟ كل هذا جائز، ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئاً لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضي عنه، ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره، غير متلجلج ولا متوقف.

إذن فالدكتور طه أراد أن يقول أن الفتنة الكبرى التي أفضت إلى مقتل عثمان إنما كانت "فتنة عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء"، فمن أجل تحقيق هذه الكلمة الكبيرة، ركب كل مركب في تصوير الحياة الإسلامية الأولى بعد الفتوح بالصورة التي تنتهي إلى هذا الغرض وحده دون سواه، وهو الغنى والمال وتزاحم الأغنياء على المال والغنى والسلطان، وحسد العامة العربية لأصحاب الغنى والمال والسلطان، كما كشف عن هدف آخر حين نفى خبر عبدالله بن سبأ اليهودي، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل رؤوس وقد مصر، وهذا الهدف هو أن ينفي عن اليهود الشركة في دم عثمان والتحريض على قتل الإمام، فركب مركباً وعراً، خالف فيه أسلوب العلماء، في جرح الأخبار وكذب الرواة في شيء بغير برهان، وصدقهم في شيء آخر بغير برهان أيضاً، وهو نفسه ينعى في كتابه على "الذين يكذبون الأخبار التي نقلت اليها ما كان بين الناس من فتنة واختلاف"، فقال: "فنحن إن فعلنا ذلك لم نرد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله، منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الذين رووا اخبار الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح، وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا، وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ، ونكذب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا"، بيد أن الدكتور طه نفسه قائل هذا الكلام، قد فعل ذلك، فكذبهم حين روى الرواة ما لا يعجبه، وحين رووا ما يؤذيه، فعل ذلك أيضاً، فصدقهم حين رووا ما يروقه، وما يرضيه، فإن الذين رووا أخبار الغنى والمال والسلطان، هم الذين رووا أخبار عبدالله بن سبأ اليهودي، وأخبار الكتاب الآمر بقتل وفد مصر، فلم أخذ شيئاً بغير برهان، ونفى أخاه بغير برهان؟ أن الشيء البين هو أن الدكتور الجليل، أراد كما قال أن يكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهودياً، وكانت أمه سوداء، وكان هو يهودياً، ثم أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً.

وهذا قصد حسن، ونية جميلة، ولكن الحق أحسن منهما وأجمل، وليس يجمل بنا ولا بالدكتور طه أن يغالط في الحق لشيء يراه هو، أو نراه نحن حسناً جميلاً، والتاريخ لا يكتب بالتحكم، وإنما يكتب بالرواية ثم بالاستدلال، ثم ببذل الجهد في سد الفجوات، وسأضع بين يدي الدكتور طه حقائق لا يدخلها الريب، ولا أظنه يجهلها أو يغفل عنها، ولنعد إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يسكن هذه البلدة الكريمة بنو ام واحدة، وأب واحد من قبائل الأزد بن الغوث، أمهما: قيلة،وأبوهما: حارثة بن ثعلبة، هؤلاء هم الأوس والخزرج وكان يعيش بينهم هذا الجيل من اليهود الذي سكن جزيرة العرب، أو سكن المدينة، فكان من خبر ذلك شيء لم يكن مثله مثلاً بين بني هاشم وبني أمية، وهو الحرب المتطاولة بين هذين الحيين الذي ولدتهما أم واحدة وأب واحد، ويسكنان معاً بلدة واحدة، وظل هذا القتال بين الحيين متجدد النيران إلى أن كان يوم بعاث، وهو كما قال ابن سعد: آخر وقعة كانت بين الأوس والخزرج في الحروب التي كانت بينهم، وكانت هذه الوقعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قد دعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة، ونشأت هذه العداوة العجيبة بين الأخوين الأوس والخزرج، واقتتالهما هذا الاقتتال المر العنيف حقباً متطاولة، ودخول اليهود في الحلف، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، لا يصيبهم من أذى القتال بين هذين الحيين الأخوين، إلا القليل، وتداعيهم باسم اليهودية إذا حزب الأمر، فيكونون يداً واحدة على هذه الحرب والعداوة بينهما لتؤثل في هذه الأرض أموالاً وآطاماً وحصوناً تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم على الزراعة، وتثمير الأموال، وتبقى يهود هي صاحبة الزراعة، والتجارة، وتثمير الأموال، بالربا ومأكل السحت، وهذا عمل يهود في كل حين، ولا يلبث رسول الله صلى الله أن يهاجر إلى المدينة بعد أن التقى رهطاً من الخزرج عند العقبة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه، فيمر شأس بن قيس من يهود بني قينقاع على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فيغيظه ما رأى من ألفتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فيقول: "قد اجتمع ملأ بني قيلة يعني الأوس والخزرج بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤُهُم بها من قرار"، فيأمر شاباً من يهود أن يجلس اليهم فيذكر لهم يوم بُعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما تقاولوا فيه من الأشعار، فيفعل هذا اليهودي، فإذا الجماعة المؤلفة على الإسلام تتنازه وتتفاخر، فيتواثب رجلان من الأوس والخزرج فيقول أحدهما لصاحبه: "أن شئتم رددناها الآن جذعة"، ويغضب الفريقان جميعاً ويقولون: "فقد فعلنا موعدكم الظاهرة، يعنون مكاناً بعينه، ويتداعون: السلاح، السلاح، ويخرجون إلى موعدهم، فيبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فيخرج اليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه، حتى إذا جاءهم قال: يا معشر المسلمين: "الله الله، أبدعوى الجاهلية تدعون، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية وأستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم؟"([52]) فيعرف الأنصار أوسهم وخزرجهم، أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فيبكون ويتعانقون، ثم ينصرفون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله: شأس بن قيس، اليهودي ثم ينزل الله جلت أسماؤه في أمر الفتنة، يخاطب المسلمين الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم لم يمت بعد: "يا أيها الذين أمنوا أن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسول ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم"([53]).

وإذن فنحن لا نستطيع أن نكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج عن أن يطيعوا فريقاً من اليهود حتى كادوا يردوهم بعد إيمانهم كافرين, ولا أن ننزههم عن ذلك وهم تتلى عليهم آيات الله فيهم ورسوله، كما أراد الدكتور طه أن ينزه أهل الصدر الأول من الإسلام سنة 35 هـ بعد أن قبض الله اليه نبيه بأكثر من عشرين سنة، وبعد أن نشأت ناشئة من الشباب لا يدعي أحد أنهم جميعاً كانوا أحرص على إيمانهم، ثم ينهي الأديب الراحل محمود شاكر بحثه بقوله: "أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله، وللمؤمنين والمؤمنات، عشر سنوات كاملة متتابعة يوماً بعد يوم، فإذا لحق رسوله الله بالرفيق الأعلى في سنة 11 من الهجرة نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حدث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام، برئوا عن الردة عام 11 من الهجرة وبرئوا من مقتل عمر في سنة 35 من الهجرة"([54]).

من كل ما سلف يتبين لنا أن هدف طه حسين من إنكاره لعبدالله بن سبأ هو: أن ينفي عن اليهود الشركة في دم عثمان، كما حاول أن يعيد أمر الفتنة كله إلى العصبية فقط([55])، ونحن لا نفكر أن للعصبية دورها في إيجاد التناقضات داخل حدود الدولة الإسلامية، وقد نتج عنها خلافات جزئية، كان من الممكن تلاشيها، ومن الممكن كذلك استمرار الحياة بها، دون أن تعكر ساحة الدولة بالفتن، لولا الأصابع الخفية التي أخذت تعمل عملها لتجميع هذه التناقضات لتوجد تياراً واحداً هب على ساحة الدولة الإسلامية فغمرها بالفتن، وعلى العموم فقد أشار الأستاذ الكبير محمود شاكر فيما سبق إلى تهافت الكتاب علمياً، وإلـى وضوح الأهواء والرغبات في نفس مؤلفه، وينتهي إلى إثبات شخصية ابن سبأ، وما أثاره من أحداث، وأن طه حسين حينما ينفي خبره إنما يشتط ويركب مركباً لا يليق بمثله.

رابعاً: شبهات الدكتور عبدالعزيز الهلابي :

كتب الدكتور عبدالعزيز الهلابي أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الملك سعود دراسة عن عبدالله بن سبأ، ونشرت في حوليات الآداب الكويتية([56])، قام فيها المؤلف حسب زعمه بتحليل روايات الإخباري سيف بن عمر التميمي عن دور ابن سبأ في أحداث الفتنة الواقعة في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما، حيث انتهى ببحثه إلى أن تلك الروايات مختلقة، ولا أساس لها من الصحة، ونفى في بحثه وجود تلك الشخصية وأن ابن سبأ في رأيه لا يعدو أن يكون مجرد خرافة سطرتها كتب التاريخ والفرق.

يقول الدكتور الهلابي: "ينفرد الإخباري سيف بن عمر التميمي من بين قدامى الإخباريين والمؤرخين بذكر تلك الشخصية في رواياته، ويجعل لــه دوراً رئيساً في التحريض على الفتنة وقتل الخليفة عثمان، وإنشاب القتال في معركة الجمل في البصرة"([57]).

ونقول: إن سيف بن عمر لم يكن المصدر الوحيد الذي استأثر بأخبار عبدالله بن سبأ، بل ورد ذكر أخبار ابن سبأ وطائفته في روايات منقولة عن علماء متقدمين، ورواة غير سيف بن عمر، ذكرنا طائفة منها في الصفحات السابقة.

يقول الدكتور الهلابي: "لا أعلم فيما اطلعت عليه من المصادر المتقدمة أي ذكر لعبدالله بن سبأ غير سيف بن عمر سوى رواية عند البلاذري"([58]).

ونقول: إن المصادر المتقدمة التي اطلع عليها الدكتور الهلابي إذا أغفلت ذكر ابن سبأ والسبئية، فلا يعني ذلك بالضرورة أنه شخصية خرافية، إذ أن عدم ذكرها لــه لا يقوم دليلاً على الإنكار أو التشكيك، فهل استوعبت تلك المصادر كل أحداث التاريخ الإسلامي حتى نقف وقفة المنكر أو المتشكك إذا لم تذكر شيئاً عن ابن سبأ؟ وهل من شروط صحة الرواية التاريخية تضافر كل كتب التاريخ على ذكرها؟ ثم هل نسي الدكتور الهلابي أن المصادر القديمة ضاع كثير منها، فأصبحت مفقودة أو في حكم المفقود، ومن هنا ينبغي الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق، للخروج من الشبهات والتوهمات، إذ أن الموهوم لا يدفع المعلوم، والمجهول لا يعارض المحقق، فشخصية ابن سبأ وجماعته، حقيقة تاريخية تتفق عليها كثير من المصادر المتقدمة غير البلاذري.

  • جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همذان المتوفى عام 83هـ - 702م، وقد هجا المختار الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بقوله:

شهدتُ عليكــم أنكـم سبئية

                        وإني بكــم يا شُرطة الكُفر عارف([59])

  • وفي الطبقات لابن سعد المتوفى عام 230هـ - 844م ورد ذكر معتقدات السبئية وأفكار زعيمها، فعن عمرو بن الأصم قال: "قيل للحسن بن علي: أن أناساً من شيعة أبي الحسن علي يزعمون انه دابة الأرض، وأنه سيبعث قبل يوم القيامة، فقال: كذبوا، ليس أولئك شيعته، أولئك أعداؤه، لو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه، ولا أنكحنا نساءه"([60]).
  • روى أبو عاصم خشيش ابن أصرم المتوفى 253هـ - 859م، خبر إحراق علي رضي الله عنه لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتاب "الاستقامة"([61]).
  • يقول ابن قتيبة المتوفى عام 276هـ - 889م "إن السبئية من الرافضة، ينسبون إلى عبدالله بن سبأ"([62]).
  • أورد الناشئ الأكبر المتوفى عام 293هـ - 905م عن ابن سبأ وطائفته ما يلي: "وفرقة زعموا أن علياً حي لم يمت، وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، وهؤلاء هم السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ، وكان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، وسكن المدائن"([63])، فهذه نصوص تثبت أن شخصية ابن سبأ شخصية حقيقية وان جماعته كذلك حقيقة تاريخية.

وبعد أن ذكر الدكتور الهلابي نصوصاً نثرية وشعرية ورد فيها ذكر السبئية قال: "وبناءً على هذا فلا يمكن الاستنتاج من النصوص السابقة أن السبئية تعني فئة لها هوية سياسية معينة أو مذهباً ذا عقائد محددة، ولكن المؤكد انها عندما تطلق على قوم يقصد بها الذم والتعيير"([64]).

ونقول: سبق أن ناقشنا هذه القضية في تفنيد شبهات الدكتور مصطفى الشيبي، ونضيف أن استنتاج الباحث لا يخلو من المغالطة والتمويه، فهناك نصوص كثيرة تشير إشارة واضحة إلى أن سبأ اليهودي الأصل، اليمني المنشأ، ذكرتها كتب التاريخ، والحديث، والطبقات، والرجال، والأنساب، والأدب، واللغة، وجزم بذلك علماء الفرق والمقالات، منها:

  • نقل القمي المتوفى عام 301هـ - 913م أن عبدالله بن سبأ أول من أظهر الطعن على أبي بكر، وعمر، وعثمان، والصحابة وتبرأ منهم وادعى أن علياً أمره بذلك([65]).
  • وتحدث النوبختي المتوفى عام 310هـ - 922م عن أخبار ابن سبأ فذكر انه لما بلغ نعي علي بالمدائن قال للذي نقله: "كذبت، لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً ما صدقناك، لعلمنا أنه لم يمت، ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض"([66]).
  • يقول ابن حبان المتوفى سنة 354هـ - 965م: "وكان الكلبي محمد بن السائب الإخباري سبئياً من أصحاب عبدالله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: "إن علياً لم يمت، وأنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة"، وأن رأوا سحابة قال: "أمير المؤمنين فيها"([67]).
  • يذكر كبير محدثي الشيعة ابن بابويه القمي المتوفى سنة 381هـ - 991م موقف ابن سبأ وهو يعترض على علي رضي الله عنه، في رفع اليدين إلى السماء أثناء الدعاء([68]).
  • وفي مفتاح العلوم للخوارزمي المتوفى عام 387هـ - 997م، "السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ"([69]).
  • ذكر ابن أبي الحديد المتوفى عام 655هـ - 1257م في شرح نهج البلاغة ما نصه: فلما قتل أمير المؤمنين- عليه السلام- أظهر ابن سبأ مقالته، وصارت لــه طائفة وفرقة يعرفونه ويتبعونه([70]).
  • ذكر السكسكي المتوفى عام 683هـ - 1339م أن ابن سبأ وجماعته أول من قالوا بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت([71])، كما ذكرت كتب الأدب، والمقالات، والفرق، أشخاصاً بأعيانهم، بأنهم من فرقة السبئية مما يعني أن هذه الكلمة ليست للذم والتعيير، وإنما هي اسم لفرقة ضالة مضلة لها أتباعها وعقائدها، فذكر ابن قتيبة "أن المغيرة بن سعيد البجلي- مولى لبجيلة- كان سبئياً"([72]).

وكذلك جابر بن يزيد الجعفي، ذكره ابن حبان في عداد السبئية، حيث قال: "كان جابر سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: أن علياً يرجع إلى الدنيا"([73]). وروي عن سفيان بن عيينة أنه- أي جابر- كان يقول: "علي دابة الأرض"([74]) ومنهم أبو النصر محمد بن السائب الكلبي الكوفي، الذي قال فيه ابن حبان: "وكان الكلبي سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ"([75])، ويقول عنه الحافظ ابن زريع البصري: "رأيت الكلبي يضرب صدره ويقول: أنا سبئي، أنا سبئي([76]). فالسبئية ليست للذم والتعيير، كما زعم الدكتور بل هي طائفة لها عقيدة محددة وأتباع.

ويرى الدكتور الهلابي أن خبر إحراق السبئية مزعم مخترع([77])، لأن هذه العقوبة غير مألوفة لا في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد الخلفاء الراشدين قبله، بينما قال غيره ممن نفى خبر الإحراق أنه لم ثيرد في كتاب موثوق به من كتب التاريخ([78]).

ويمكن رده بما أورده البخاري عن عكرمة، قال: "أتى علي- رضي الله عنه- الزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقتلتهم لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من بدل دينه فاقتلوه"([79]).

وفسر الشراح الزندقة هنا بتفاسري مختلفة منها: أنها تطلق على من أسر الكفر وأظهر الإسلام، ومنها ادعاء وجود إله آخر مع الله، ويرى المسعودي أن الفرس هم أول من استعمل اصطلاح الزنديق([80])، فقد كانوا يطلقون على من انحرف عن ظواهر التنزيل إلى التأويل "زندي"، نسبة إلى كتاب "زند" الذي قام على التأويل، فعرب العرب هذا اللفظ إلى زنديق، وهذه المعاني جميعها قالت بها السبئية، لذلك قال الذهبي: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل"([81]). وقال ابن حجر: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، وله أتباع يقال لهم السبئية، يعتقدون الإلهية فغي علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته"([82])، وقال ابن تيمية: "أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ"([83]). ثم أن خبر إحراق علي- رضي الله عنه- لطائفة من السبئية الزنادقة، تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمعاجم، فقد روى خبر الإحراق أيضاً أبو داود في سننه: في كتاب الحدود- باب الحكم فيمن ارتد-([84])، والنسائي في سننه: في كتاب الحدود([85])، والحاكم في المستدرك- في كتاب معرفة الصحابة-([86])، والطبراني في المعجم الأوسط، من طريق سويد بن غفلة، أن عليا بلغه أن قوماً ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطمعهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم، ثم قال: صدق الله ورسوله([87]). وروي من طريق عبد الله بن زيد العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، إلى أن تقول الرواية: قال علي: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذفهم فيها، حتى إذا احترقوا قال:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً       أججت ناري ودعوت قنبرا

قال الحافظ ابن حجر: وهذا سند حسن([88]). وروى أبو حفص بن شاهين 385هـ - 995م بسنده عن الشعبي 104هـ - 722م- وهو كما يقول ابن تيمية: كوفي ومن أخبر الناس بالشيعة- أن علياً حرق جماعة من غلاة الشيعة، ونفى بعضهم([89]). كما روى أبو عاصم خشيش بن أصرم 254هـ - 868م فيك تابه الاستقامة خبر إحراق علي لجماعة من أصحاب ابن سبأ([90]) وخشيش بن أصرم من شيوخ أبي داود 275هـ - 888م وهو ثقة في الرواية، فحادثة الحرق ثابتة في كثير من المصادر، وخاصة صحيح البخاري.

 


 

([1]) ابن النديم، الفهرست، ص 137.

([2]) العسكري، عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، ص 17.

([3]) ابن حبان، المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، ص 17.

([4]) ابن أبي حاتم الرازي، الجرح والتعديل، ط1، ج2، ص 378.

([5]) الذهبي، الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، ج1، ص 416.

([6]) ابن حجر، تقريب التهذيب، ج1، ص 344.

([7])الذهبي، ميزان الاعتدال، ج2، ص 255.

([8]) ابن حجر، تقريب التهذيب، مرجع سابق، ج1، ص 344.

([9]) إلهي ظهير، السنة والشيعة، ص 8.

([10]) ابن عساكر، مختصر تاريخ دمشق، مرجع سابق، مجلد 12، ص 222.

([11]) ابن سعد،  الطبقات الكبرى، ج6، ص 192.

([12]) ابن عساكر، مرجع سابق، مجلد 12، ص 221-222.

([13]) الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، وبهامشه تفسير النيسابوري، ج3، ص 119.

([14]) أبو مخنف: هو لوط يحيى بن سعيد الأزدي الكوفي الأخباري جرحه العلماء محدثاً وإخبارياً، ابن حجر لسان الميزان، ج4، ص 492.

([15]) لسان الميزان، مرجع سابق، ج4، ص 492.

([16]) ميزان الاعتدال، مرجع سابق، ج3، ص 419.

([17]) لسان الميزان، مرجع سابق، ج4، ص 492.

([18]) أبو الشعر، مرجع سابق, ص 332، نقلاً عن البلاذري، الأنساب، ج5، ص 59 .

([19]) حجر بن عدي: عده البخاري من التابعين، وكان من شيعة علي في الجمل وصفين، روي ابن سيرين إن لزياد بن أبيه، وكان أميراً على الكوفة، خطبة أطال فيها فنادى حجر بن عدي: الصلاة، فمضى زياد في خطبته، فحصبه عدي بحجر، وشاركه آخرون، فكتب زياد إلى معاوية يشكو إليه بغي عدي بن حجر على أميره في بيت الله، فكتب إليه معاوية أن سرح به إلي، فلما جيء به إلى معاوية، أمر بقتله، متعظاً بعاقبة عثمان، ابن العربي، العواصم من القواصم، هامش ص 212.

([20]) البلاذري، أنساب الأشراف، ج4، ق1، ص 213.

([21]) الطبري، تاريخه، مرجع سابق، ج5، ص 272.

([22]) الطبري، تاريخ، مرجع سابق، ج6، ص 25.

([23]) الطبري، تاريخه، مرجع سابق، ج6، ص 44.

([24]) البلاذري، مرجع سابق، ج5، ص 212، والطبري، تاريخه، مرجع سابق، ج5، 272، وج6، ص 25، وص 44. وأبو الشعر، مرجع سابق، ص 333.

([25]) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق مخطوطة في المكتبة الأزهرية برقم (714) ورقة 124، ب.

([26]) الناشئ الأكبر، مرجع سابق، ص 22-23.

([27]) القمي، مرجع سابق، ص 22-23.

([28]) النوبختي، فرق الشيعة، ص 23.

([29]) رجال الكشي، مرجع سابق، ص 98 –99.

([30]) رجال الطوسي، ص 51.

([31]) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك، كان حليفاً لبني مخزوم، وكان والده من السابقين في الإسلام.  ابن حجر، الإصابة، مرجع سابق، ج2، ص 505.

([32]) الوردي، مقال من طلاب الشهرة، مجلة الثقافة الإسلامية، ع11.

([33]) الوردي، وعاظ السلاطين، ص 272-274. والشيبي،  الصلة بين التصوف والتشيع، ص 41 وما بعدها.

([34]) الوردي، وعاظ السلاطين، مرجع سابق، ص 272-274. والشيبي، مرجع سابق، ص 41 وما بعدها.

([35]) النوبختي، مرجع سابق، ص 27.

([36])المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج2، ص 334.

([37]) ابن كثير، البداية والنهاية، ج2، ص 356.

([38]) الطبري، تاريخه، مرجع سابق، ج5، ص 98.

([39]) الجاحظ، البيان والتبين، كتاب العصا، ج3، ص 46.

([40]) علي، جواد، الرسالة عدد 775، ص 523.

([41]) الشهرستاني، الملل وا لنحل، ج1، 290-291، والنوبختي، مرجع سابق، ص 27.

([42]) الرسالة، مرجع سابق، ع 775، ص 523.

([43]) البغدادي، مرجع سابق، ص 227.

([44]) نقلاً عن علي، جواد، الرسالة، مرجع سابق، عدد 775، ص 523.

([45]) البغدادي، مرجع سابق، ص 227.

([46]) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1، ص 148-149. 

([47]) الطبري، تاريخه، مرجع سابق، ج4، ص 348.

([48]) طه حسين، الفتنة الكبرى، ص 109.  

([49]) طه حسين، مرجع سابق، ص 131.

([50]) طه حسين، مرجع سابق، ص 134.

([51]) طه حسين، مرجع سابق، ص 209.

([52]) ابن هشام- السيرة النبوية، ج2، ص 150-151. 

([53]) سورة آل عمران، الآيتان 101-102.

([54]) بتصرف واختصار من بحث الأديب الراحل محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، الأعداد، 761، 763، 765.  

([55]) مجلة الرسالة، السنة 16،  العدد 761، ص 137.

([56]) حولية تصدر عن كلية آداب جامعة الكويت.

([57]) الهلابي، عبد الله بن سبأ، الحولية الثامنة، ص 13. 

([58]) الهلابي، مرجع سابق، ص 16.

([59])  أعشى همذان، ديوانه، ص 148.

([60])  ابن سعد، مرجع سابق، ج4، ص 39.

([61])  ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، ج1، ص 17، وما بعدها.

([62])   ابن قتيبة، مرجع سابق، ص 367.

([63])   الناشئ الأكبر، مرجع سابق، ص 22.

([64])  الهلابي، مرجع سابق، ص 84.

([65]) القمي، مرجع سابق، ص 20.

([66])  النوبختي، مرجع سابق، ص 27.

([67]) ابن حبان، المجروحين، ج2، ص 253.

([68]) القمي، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص 213.

([69]) الخوارزمي، مفاتيح العلوم، ص 22.

([70]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص 99.

([71]) السكسكي، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان، ص 50.

([72]) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج2، ص 149.

([73]) ابن حبان، المجروحين، مرجع سابق، ج1، ص 208.

([74]) الذهبي، ميزان الاعتدال، منرجع سابق، ج1، ص 208.

([75]) ابن حبان، المجروحين، مرجع سابق، ج4، ص 162.

([76]) ابن حجر، تهذيب، ج9، ص 179.

([77]) الهلابي، مرجع سابق، ص 23.

([78]) الشيبي،  الصلة بين التصوف والتشيع، مرجع سابق، ص 91.

([79]) ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح  البخاري، ج12، ص 226-227.

([80]) ابن كمال باشا، رسالة في تحقيق لفظ زنديق. 

([81]) الذهبي، ميزان الاعتدال، مرجع سابق، ج2، ص 462.

([82]) ابن حجر، لسان الميزان، ج3، ص 289-290. وانظر كتاب (الهداية الكبرى) للخصيبي النصيري (ص 277) حيث يقول: (وفي ذلك اليوم كانت فتنة عبد لله بن سبأ وأصحابه العشرة الذين كانوا معه، وقالوا ما قالوا، فأحرقهم أمير المؤمين بالنار...الخ) والكتاب ملحق بكتاب: العلويون بين الحقيقة والأسطورة لهاشم عثمان.

([83]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج28، ص 438.  

([84]) أبو داود، السنن، ج4، ص 126.

([85]) النسائي، السنن، المجتبي، ج7، ص 104.

([86]) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص  583.

([87]) ابن حجر، فتح الباري، مرجع سابق، ج12، ص 8، و170.

([88]) ابن حجر، فتح الباري، مرجع سابق، ج 12، ص 8، و180.

([89]) ابن تيمية، منهاج السنة، مرجع سابق، ج1، ص 17.

([90]) ابن تيمية، مرجع سابق، ج1، ص 17.

  • الاربعاء PM 04:04
    2022-01-12
  • 1806
Powered by: GateGold