المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412314
يتصفح الموقع حاليا : 285

البحث

البحث

عرض المادة

مقارنة حجية الإجماع: بين الجماعة العلمية والجماعة البشرية (1)

هل العلم يتقدم؟ هل العلم يقيني؟ هل اتفاق الجماعة العلمية حجة؟ هذا سيظهر من خلال عرض برامج لطبيعة العلم واليقين فيه، وسأقتصر على ثلاثة نماذج -وهم الأهم-، نموذج كارل بوبر ونموذج توماس كون ونموذج بول فايرابند.

أما نموذج توماس كون ونموذج فايرابند فلا يقرا أصلًا بالتقدم العلمي، على تفصيل في درجة النفي، أما النموذج البوبري فهو وإن كان يقر بالتقدم العلمي من خلال التكذيب المستمر إلا أنه ينفي وجود تكذيب تام كامل، فلا يقين في البحث العلمي عند بوبر أصلًا، لذلك كان هناك تهييجًا ضد الثلاثة داخل بعض الأوساط العلمية، فمثلًا، ناقش بعض الفيزيائيين مدى تأثير آراء الثلاثة في تخفيض تمويل المشاريع العلمية، مع تنامي الشكوك حول قيمة البحث العلمي، وتم نعت الثلاثة بـ"خونة الحقيقة"(1)، وكان الأكثر حظًّا في ذلك هو فايرابند لتشكيكه التام في العلم وقيمته.

نلفت نظر القارئ إلى أن هؤلاء الثلاثة هم الأشهر والأكثر تأثيرًا في فلسفة العلم.

أ- نموذج توماس كون:

أدرك توماس كون خطأ نزعة الوضعية المنطقية أو التجريبيين نحو الاستقراء وقصور نزعة البوبريين أو التكذيبيين، وأدرك أن مختلف نظريات العلم لا تحتمل مواجهة التحليل التاريخي، لذلك بسط كون نظريته من خلال الانسجام مع الوقائع التاريخية، وقدّم توماس كون عمله المهم جدًّا في تاريخ فلسفة العلم وهو "بنية الثورات العلمية" في عام 1962، وأهم ما يميز توماس كون هو اهتمامه الفريد بالخصائص السوسيولوجية المميزة للجماعة العلمية(2)، وما نظرة لاكاتوس إلى النواة الصلبة والفرضيات المتغيرة إلا توظيف لنتائج توماس كون المهمة وفق متطلبات لاكاتوس؛ لذلك لم نفرد للاكاتوس نموذجًا خاصًّا به في بحثنا.

فالمنطلقات الأساسية في نموذج كون هي:
1- يتغير العلم بواسطة الجماعة العلمية، تجمعهم تقاليد وقواعد واحدة مستمدة من نظرة واحدة إلى العالَم.

2- بداية التغيير في العلم هي حدوث نظرة جديدة للعالم.

3- العلم ثوري، فالعلم يتطور على صورة ثورات نوعية متلاحقة، وكل ثورة لها برادايم خاص بها، مستمد من نظرة جديدة إلى العالم، ومتجسد في العقل الجمعي (أي الجماعة العلمية).

4- العلم تاريخي، وينتج من أزمات في النشاط العلمي على غرار ما يحدث في العمل الاجتماعي-السياسي، وتحدث الأزمة حينما يفاجأ العاملون في الحقل المعرفي بظاهرة غير متوقعة، ولا يستطيع العلم المعياري أن يشرحها.(3)

ويعرف توماس كون العلم المعياري على أنه: البحث المؤسس بصورة راسخة على واحد أو أكثر من الإنجازات العلمية السابقة، التي يعتبرها مجمع علمي ما الأساس لممارسته العلمية.(4)

فالعلم المعياري عبارة عن القوانين والنظريات والتطبيقات والتقاليد التي تلتزم بها الجماعة العلمية، وهو بمثابة المدخل والمحدد للأعضاء العلميين الجدد.
وينقسم المؤمنون بهذا العلم المعياري أثناء حدوث الأزمة وظهور براديم جديد إلى فئتين، فئة تحتفظ بالعلم المعياري وأخرى تتحول إلى النظرة الجديدة، وغالبًا تسيطر النظرة الجديدة، لكن تكمن أهمية العلم المعياري في تنظيم العلم، وقفزاته النوعية، وفي ذلك يستشهد كون بقول فرانسيس بيكون: الحقيقة وليدة الخطأ لا الفوضى، فلولا هذا التنظيم ما كان هناك براديم أصلًا، "فلكي تقبل نظرية ما أن تكون باراديغما عليها أن تبدوا أفضل من النظريات الأخرى المنافسة لها. ولكنها ليست بحاجة لأن تشرح كل الوقائع التي تواجهها، وفعليًّا لا تقوم النظرية بذلك".(5)

ومهمة الباحثين في فترة العلم المعياري تنميته، ورؤية التجارب من خلاله كقاعدة محكمة (لاحظ أن الملاحظة أو التجربة أو الحسيات هنا مثقلة بهذه القواعد(6))، وتضعف الثقة في البراديم إذا زادت علامات الاستفهام وزاد الشذوذ فيتم التخلي عن هذا النموذج الإرشادي لصالح براديم آخر.

فظهور المشكلات هو الذي يتسبب في الإبداع والتغيير الجذري، وتكون هذه المشكلات بمثابة مهمة أساسية للباحث أثناء العلم العادي أيضًا، فالباحث يعمل على حل الألغاز طبقًا لطريقة النموذج الإرشادي، ويختتم المؤلف الفصل الرابع في كتابه بتشبيه شهير يبين ذلك، وهو اعتبار العلم المعياري هو ألغاز الشطرنج التي يفكر اللاعب فيها تحت قوانين الشطرنج، أما الثورات فهي تغيير القوانين نفسها.

وفي الفصل السادس يتحدث المؤلف عن المفاجآت العلمية، فكثيرًا ما يواجه البحث العلمي في تاريخه حوادث مفاجئة، وهي بمثابة المساعد أو المحفز لظهور البراديم الجديد.

ويمكننا أن نختصر كتابه في أن العلم يسير على النحو التالي:
ما قبل العلم، ثم العلم، ثم العلم المعياري، ثم أزمة، ثم ثورة، ثم علم معياري جديد، وهكذا.

- المرحلة اﻷولى: هي مرحلة ما قبل البراديم، وفيها يكون العلماء في مجال معين منقسمين بشأن النظريات الصالحة لتفسير ظاهرة معينة، وبالتالي توجد عدة نظريات غير متوافقة فيما بينها، ويقوم العلماء بالبحث وفقًا لها.

مع الزمن يبدأ هؤلاء العلماء شيئًا فشيئًا في التجمع حول واحد من هذه اﻷطر الفكرية التي يرون أنه أصلح من البقية في تفسير الظواهر العلمية، ويزداد الاهتمام به دون غيره حتى الوصول إلى قبول عام لهذا الإطار بما يحتويه من مصطلحات وطرق بحث ومفاهيم، وهنا تتحول هذه النظرية إلى براديم.

وعند ذلك تتحول مجموعة الباحثين هؤلاء إلى أصحاب مهنة أو مذهب علمي مستقل، وتنشأ بالتالي المجلات والجمعيات والمدارس الخاصة بهم، كما تدخل الإنجازات التي يرى هذا المجتمع العلمي في لحظة معينة أنها تشكل أساسًا لممارساته العلمية والبحثية إلى الكتب والمراجع الدراسية، ويعاد تدريسها بشكل مجمل مع التركيز على قدرتها التفسيرية وعلى النقاط التي استطاعت تفسيرها مع غض النظر عن جوانب تقصيرها وظروف نشأتها.

- المرحلة الثانية: مرحلة العلم الاعتيادي؛ حيث يكون معظم العلماء أشخاصًا محافظين يقبلون بالإطار العلمي السائد الموجود في لحظة معينة، ويسعون لتطبيق ما تعلموه في حل المشاكل التي لم يستطع هذا العلم حلها بعد، وهم يثابرون في سعيهم هذا بإصرار ودأب بسبب الثقة الناجمة عن النجاحات التي درسوها وعن الإجماع السائد بين الباحثين في هذا المجال.

وهنا يتحول البحث العلمي ليصبح أشبه بحل اﻷحاجي، فللأحاجي قواعد مرسومة مسبقًا يجب اتباعها للوصول إلى الحل المتوقع، ومع مرور الزمن وتطور العلوم تبدأ حالات شاذة لا يستطيع العلم الاعتيادي والقواعد الموجودة فيه التعامل معها، أي أنها لا تتفق مع اﻷنموذج، وبالتالي يتجاهلها الباحثون بشكل عام أو يلومون أدواتهم العلمية أو يقومون بإجراء تعديلات بسيطة على اﻷنموذج ليمكن تفسيرها.

- المرحلة الثالثة: مرحلة الأزمة وذلك عندما يستمر عدد الحالات الشاذة بالازدياد، فالنتائج العلمية لم تعد متوافقة مع اﻷنموذج، وبالتالي تكون هناك حاجة لـ"ثورة علمية" تستبدل البراديم السائد ببراديم جديد، وفي هذه المرحلة يتم فحص القواعد واﻷساسات المتعارف عليها في هذا المجال العلمي، "فظهور جديد مفاجئ في لعبة ذات مجموعة من القواعد يقتضي تمثله صياغة مجموعة أخرى من القواعد، وبعدما تصير المجموعة الجديدة جزءًا من العلم، لا يعود المشروع العلمي لأولئك الاختصاصيين الذين ظهرت الأشياء الجديدة في حقل عملهم هو المشروع ذاته على الأقل.(7)

ويتم وضع أنموذج جديد، ومع استقرار الأنموذج الجديد يعود العلماء إلى البحث في مرحلة العلم الاعتيادي وحل اﻷحاجي وفقًا لقواعده.(8)

أما المحاور التي تهمنا وتتعلق تتعلقًا مباشرًا ببحثنا عن القواعد فهي:

1- ما هو المسوغ لتحويل مجرد نظريات إلى قواعد وتوجيهات؟

يلح كون على أن القواعد لا يعبر عنها صراحة على أنها قواعد، ويستدعي فكرة "ألعاب اللغة" و"التشابهات العائلية" التي تكلم عنها فتجنشتين، فالقواعد أو الشروط الضرورية والكافية لكي يكون نشاطًا ما لعبًا لا يمكن التصريح بها، وعندما نحاول ذلك نحصل بصورة ثابتة على نشاط يطابق تعريف اللعب، ولكننا لا نريد أن نعده كذلك، أو على نشاط يستبعده تعريف اللعب، ولكننا نريده لعبًا.

"ويرى توماس كون أن نفس الشيء يصدق على النماذج الإرشادية، فعندما نحاول إيجاد خاصية دقيقة صريحة مميزة لنموذج ما في العلم الماضي أو في العلم الحاضر فإننا نجد دائمًا عنصرًا من العناصر الواقعة داخل النموذج يخرق تلك الخاصية المميزة، غير أنه يؤكد أن هذه الحالة لا تجعل مفهوم النموذج أسوأ تمامًا، كما أن وضعية مماثلة فيما يخص "اللعب" لا تقوض الاستعمال المشروع لمفهوم اللعب، وحتى في غياب خاصية مميزة بصورة تامة وصريحة، فإن كل مشتغل بالعلم يكتسب معارفه بواسطة تكوينه العلمي.

وإذا دأب أحد الباحثين على حل مشاكل من نمط واحد وإجراء تجارب من نمط واحد ومارس على يد معلّم داخل نموذج معطى فإنه سيألف مناهج هذا النموذج وأنماطه الموحدة، ولن يستطيع أن يقدم بيانًا صريحًا حول المناهج والخبرات العلمية التي اكتسبها، مثل عجز النجار عن تقديم وصف تام لخبرته أو مهارته العملية... وهذا لا يعني أن رجل العلم لا يستطيع صياغة طبيعة النموذج على وجه الضبط، بل يمكن ذلك في ضرورة، كالتي تتولد عندما يهدد نموذج علمي آخر النموذج الذي يعرفه.(9)

وهذه النقطة هي مركز كتاب توماس كون، لأنه أثبت أن تسويغ الجماعة العلمية لصورة علمية "كالصورة النيوتينية" على صورة أخرى "الأينشتينية" يعتمد بالأساس على قرار اجتماعي، يخص الجماعة العلمية، لكن هذه الجماعة تتأثر كأي جماعة محدودة بالآراء الميتافيزيقية والدينية والفلسفية، ومن أشهر الأمثلة على ذلك "الثابت الكوني الملفق"، الذي وضعه أينشتين للحفاظ على رؤيته للكون، رغم أن نظريته النسبية تنبأت أصلًا بالتمدد الكوني الذي يعارض رؤيته، وقد وصف أينشتين هذا الخطأ فيما بعد بأنه أكبر خطأ ارتكبه في حياته كما نقل عنه كتاب سيرته: "فعلينا أن نلاحظ أن العلماء كائنات بشرية، وهذا يعني أن حكمهم منحاز، وربما يكون اختيارهم للمشكلات غريب الأطوار، وربما يكون تقييمهم للدليل خاطئًا، وتحديدهم للحقائق ذاتيًّا، ودوافعهم محل شك، وربما تكون ملاحظاتهم مشوهة بسبب قيمهم، لكن يمكن التغلب على هذه العوامل لأن العلم مشروع الاجتماعي ذاتي التصحيح"(10)، أما التزوير فهو باب كبير، وأمثلته كثيرة جدًّا، وسنمثل هنا بمثال واحد لأن المقام يقتضي تصورًا عامًّا لطبيعة العلم فقط، والمثال المقصود هو تزوير عالم الحيوان التطوري إرنست هيكل، المعروف جيدًا بتزييفه الأجنة في مرحلة ما أثناء النمو، وسأحيل القارئ إلى مقال مهم جدًّا بيّن الاختلاق بجلاء، وكشف محاولة تغطية الأمر من أنصار هيكل(11)، ويمكن للقارئ الرجوع إلى الكتب المتخصصة في التزوير(12)، فضلًا عن الأمثلة المتناثرة على الإنترنت.

2- لا يوجد معيار لتقديم نموذج على آخر، فكل الصور العلمية للكون تعتبر ألعابًا مختلفة، ولا يمكن تطبيق قواعد لعبة كرة القدم على قواعد السلة مثلًا، أو بتعبير كون "انتقال من دين لآخر"(13)، وهو تعبير دقيق جدًّا، لأنه لا توجد حجة منطقية محضة تثبت تفوق نموذج على أخر، فتجعل رجل العلم "مجبورًا عقلًا" إلى الانتقال إلى الصورة الجديدة للعالم، بل هو إيمان، ويعتمد على عوامل شديدة التداخل، ويزيد وينقص، فالقرار لا يأتي بشكل مباشر وحاسم، بل هو كقرار الجشطالت، فتجارب القرد المتواصلة هي التي تقربه من الوصول إلى "الثمرة"، لكن آخر تجربة فاشلة لا تقترب من النجاح، بل ربما تكون التجربة الأولى أقرب ظاهرًا في الوصول للثمرة منها.

ومن هذه العوامل: بساطة النظرية والحاجة الاجتماعية الملحة والقدرة على حل نوع خاص من المشاكل وغير ذلك، وهذه العوامل تشغل حقل "سوسيولوجيا العلم".

نأتي هنا لسؤال مهم، هل نجح كون في التدليل على أن العلم كنشاط معرفي أرقى من غيره؟ أو هل للجماعة العلمية أي تميز عن الجماعات الأخرى كالشعراء؟

يقول آلان شالمرز واصفًا موقف كون: "إن كون يفترض أن العلم أرقى من ميادين البحث الأخرى، فهو في الواقع يوحي علينا متى تعارضت نظرية عقلية ما مع العلم أن نغير هذه النظرية لا العلم الذي تعارضت معه؛ حيث يقول -أي توماس كون- أن نفترض بالأولى أننا نملك معايير للمعقولية مستقلة عن فهمنا وإدراكنا لما هو جوهري في التقدم العلمي هو أن نفتح باب الفردوس الخيالي الوهمي".(14)

فالأمر مجرد فرض لا دليل عليه، وهذا ما سيعلنه بصراحة النموذج التالي...


المراجع:
(1) مقال في مجلة نيتشر عام 1987 كتبه فيزيائيان بعنوان: "أين أخطأ العلم Where the Science Gone Wrong".

(2) نظريات العلم، ص94.

(3) مقدمة المترجم لكتاب بنية الثورات العلمية، ت المنظمة العربية للترجمة.

(4) بنية الثورات العلمية، ص63.

(5) بنية الثورات العلمية، ص74.

(6) وقد وضع توماس كون في الفصل الثالث من كتابه عدة أمثلة لتأثر الملاحظة بالنموذج.

(7) بنية الثورات العلمية، ص124.

(8) هذا الملخص منشور على النت، كجزء من تخليص كامل للكتاب، لـ مها الجريس.

(9) نظريات العلم، ص98.

(10) الإنسان هو المقياس، ص126.

(11) Casey Luskin, Haeckel’s Fraudulent Embryo Drawings Are Still Present in Biology Textbooks — Here’s a List, Evolution News, April 3, 2015, evolutionnews.org/2015/04/haeckels_fraudu/, Last Accessed Jan 13, 2018.

(12) مثل كتاب (خونة الحقيقة)، حيث قدم المؤلفان ويليام برود ونيكولاس واد، نماذج عديدة من القديم والحديث على التزوير المتعمد في العلم.

(13) نظريات العلم، ص101.

(14) نظريات العلم، ص13-14.

  • الثلاثاء AM 11:59
    2021-11-16
  • 993
Powered by: GateGold