المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409082
يتصفح الموقع حاليا : 332

البحث

البحث

عرض المادة

المعضلة الإنسانية: إحدى إشكالات النظرة الإلحادية

تواجه النظرة الإلحادية عدة إشكالاتٍ ومعضلات تضعها في حيز الضعف وعدم القدرة على التفسير والتعليل ومن ضمن هذه المعضلات العظام (المعضلة الإنسانية) بكل تشعباتها وتفريعاتها، وقد عبّر الأستاذ عبد الوهاب المسيري رحمه الله في أغلب كتاباته عن هذه المعضلة مسمياً إياها بلفظ (الإنسان المتجاوز) ويعني به الانسان الذي تجاوز حدود مادته واستحال تعليل سلوكه وفكره تعليلاً مادياً صِرفاً ومن هذا المنطلق كان هذا المقال ليسلط الضوء على المعاني المتجاوزة في الأبعاد الإنسانية.

 

العقل

 

يدرس العلم المادي (التجريبي) الظواهر على أساسٍ تفكيكي بحيث يقسم المادة أساسَ البحث إلى أجزاءٍ صغيرة ليضعها تحت التجربة ويدرس طبيعتها والعلاقات التي تحكمها فالعلم من هذا المنظور قاصرٌ عن إدراكِ الكليات وربطها بغاياتها، ومن هذا المنطلق الاعتماد عليه (في رسم الخطوط العريضة للخبرة والغاية البشرية) يعتبر قدحاً في هذا العلم ذاته، ولهذا كان لا بد من استخدام أدوات ووسائل علمية أخرى ليست من طبيعة العلم المادي استخدامها (فالعلم الطبيعي: هو المعني بدراسة أحوال كل ما يمكن إخضاعه للحس والمشاهدة من الموجودات في العالم، فإذا ما نظرنا إلى سؤال كهذا (لماذا نحتاج إلى دراسة العلم الطبيعي نفسه وما وجه الخير من ذلك؟) فبأدنى نظر من التأمل في مضمون هذا السؤال يتبين لنا أنه ليس مبحثاً من مباحث العلمي الطبيعي).[1]

 

ومن هذا المنطلق فإن دراسة العقل تعتبر من أهم الدراسات التي تبين قدرة الإنسان على تجاوز الواقع المادي وبناء أُطر تحكمه (فهو كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية وغرائزه وهو قادر على الالتزام بها وخرقها، وهو الكائن الوحيد الذي طور نسقاً من المعاني الداخلية والرموز التي تدرك من خلالها الواقع).[2]

 

ولنا هنا الحق في التساؤل: من أين للإنسان أن يطور هذه المنظومات الأخلاقية؟ وما الجِيْن أو الخلية المسؤولة عن هذه الأفعال؟ فمثلا يتساءل بيجوفتش (لو أن شخصاً حاول إنقاذ طفل من بين الركام وعاد هذا الرجل، والطفل ميت والرجل على وشك الهلاك لماذا نثمن هذا الفعل ونجعل صاحبه من الأبطال)[3] مع أن الواقع المادي على المستوى الجسدي كله أضرار لماذا نجعل عمله ذا قيمة ؟ هنا يأتي دور العقل ومنظومته الفطرية الرائعة التي تبين تجاوز الإنسان لواقعه المادي وبناء معاني أعلى من المنظومة المادية بكليتها..

 

ولقد تاه العلماء في فهم كنه العقل واختار المذهب الإلحادي (المادي) حصر معناه في الدماغ وإنكار أي جانب روحي يساعد على هذا النشاط، فجعلوا العقل كله عبارة عن: تفاعلات في خلايا الدماغ فهو تفاعل بيوكميائي يُصدر الإنسان عنه أفعاله وأفكاره وسلوكه.

 

وهنا يقول إنجلز: "إن العالم المادي الملموس حسياً والذي ننتمي نحن إليه هو الحقيقة الوحيدة، إن وعينا وتفكيرنا مهما قد يبدو من الحساسية القصوى هو نتاج للمادة، العضو الجسدي، الدماغ. إن المادة ليست نتاجاً للفكر بل إن الفكرة ذاتها ليست سوى أعلى نتاج للمادة".[4]

 

ولم يختلف معه في هذا المفهوم رهبان الإلحاد الجدد، فهذا (سام هاريس) يقول: "إن الفهم العلمي  للعلاقة بين النيات، والعلاقات البشرية، وأحوال السعادة الإنسانية، سيكون له تأثيره البالغ في معرفة طبيعة الخير والشر، وفي معرفة الجواب المناسب للاعتداءات الأخلاقية التي يقع فيها الآخرون. فقد أمسى لدينا الكثير من الأسباب لنؤمن بأن البحث المستمر في الدائرة الأخلاقية سيفضي إلى امتزاج نظمنا الاعتقادية المختلفة على نحو ما وقع في كل مجال من مجالات العلم - على الأقل فيما بين أولئك المؤهلين لذلك الأمر".[5]

 

ومن كلامه يتضح أنه يحاول ربط الأحكام الأخلاقية العقلية بالفهم العلمي الطبيعي!

 

وبناءً على الفرض السابق أن العقل مجموعة من الخلايا البيوكميائية تتفاعل بشكل محدد لتنتج فكراً وسلوكاً فسوف أضع مجموعة من الإشكالات وإلزاماتها لأتباع المنهجية المادية:

1- على فرض القبول بهذا التعريف الذي يحدد أن فعل الإنسان وسلوكه وفكره عبارة عن مجموعة من الخلايا (ماذا لو استطعنا التحكم بهذه المجموعة من الخلايا)؟

 

• إلزام هذه الإشكالية يكون في أنه: لو استطعنا التحكم بهذه الخلايا سينتفي القصد وحرية الإرادة عند الانسان أو كما يسميها المسيري (نهاية الإنسان) فعليه ستبطل الأحكام ويصبح بإمكاننا بواسطة التلاعب بهذه الخلايا أن نغير مفهوم الاغتصاب من فعل قذر مثلاً إلى فعلٍ سامٍ! وهنا تهدم المنظومة الإنسانية بكليتها!

 

2- على فرض القبول بأن الخلايا هي التي تنتج الفكر وسلوكه، فنطرح سؤالاً (هل الإنسان متحكم أو مدرك لحركة هذه الخلايا)؟

 

• إلزام هذه الإشكالية هو: بما أننا نقر أننا الآن لا نشاهد حركة هذه الخلايا ولا تفاعلاتها فهي خارج الحيز الإدراكي لنا وخارج سيطرتنا، وعليه سيكون أي فعل يصدر من الإنسان منتفي القصد أيضا لأن حركة هذه الخلايا وتفاعلاتها خارجة عن إرادته وعن إدراكه ويترتب على هذا الإلزام نفي أي حكم بالخير أو الشر عن أي فعل إنساني لأن القصد ممتنع مع تحكم هذه الخلايا بشكل غير مُدرك على أفعال الإنسان وسلوكه!

 

ولتفنيد هذه النظرة من ناحية علمية مادية أيضاً، ننقل رأي عالم العصبيات الشهير بانفيلد الذي رسم آليات الحواس في الدماغ و هذه تجربته:

"إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق في الدماغ تؤدي إلى فقدان مؤقت للقدرة على الكلام (حبسه) عند المريض، ونظرا لانعدام الإحساس في الدماغ فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسة إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام فيعجز عن ذلك! ويروي بانفيلد ما حدث ذات مرة فيقول: (في حين أخذ أحد مساعديّ يعرض على المريض صورة فراشة قمت بوضع الإلكترود (القطب الكهربائي) على قشرة المخ الخاصة بالنطق فظل المريض صامتاً للحظات ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضباً ثم سحبت الإلكترود فتكلم في الحال وقال: الآن أقدر على الكلام.. إنها فراشة.. لم أكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكملة (عثة) التي هي شبيها بالفراشة لظن المريض أنه غير قادر النطق باسم الفراشة)! ثم يقول (لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة وطلب عقلة من مركز الكلام في دماغه أن ينطق بالكلمة التي تقابل المفهوم الماثل في ذهنه وهذا يعنى أن آلية الكلام ليست متماثلة مع العقل وإن كانت موجهة منه، فالكلمات هي أدوات تعبير عن الأفكار، ولكنها ليست الأفكار ذاتها وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب وأمر بالبحث عن اسم شيء مشابه هو (العثة) وعندما فشل ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا (إذ إن هذا العمل الحركي لا يخضع لمركز الكلام) وأخيراً عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره وقد استنتج بانفيلد أن المريض حصل على كلمات من آلية الكلام عندما عرض مفاهيم ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب في عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملاً آلياً".

 

وتوصل بانفيلد إلى نتائج مماثلة في مناطق الدماغ التي تضبط الحركات فيقول: عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع الإلكترود على القشرة الحركية في أحد نصفى كرة دماغه كنت أسأله مرارا عن ذلك وكان جوابه على الدوام: "أنا لم أحرك يدي ولكنك أنت الذي حركتها"، وعندما أنطقته قال: "أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته مني".

 

• ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة ينتهي بانفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئًا أخر يختلف كلياً عن فعل الأعصاب اللاّإرادي ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

 

ويستنتج استنتاجاً آخر؛ فيقول: "ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئًا، والإلكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقي، أو يحل مسائل في الجبر بل إنه لا يستطيع أن يحدث في الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقي والإلكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه إنه لا يستطيع أن يُكره الإرادة فواضح إذاً أن العقل البشرى والإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية".

 

وينهي كلامه: "طوال حياتي العلمية سعيت جاهداً كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل".

 

ويعلق الكاتبان اللذان نقلاً تجاربه في كتابيهما (العلم من منظوره الجديد) قائلين:

"فهو قد بدأ مسلحاً بجميع افتراضات النظرة القديمة غير أن الأدلة حملته آخر الأمر على الإفراد بأن العقل البشرى والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين. ويعلن بانفيلد: يا له من أمر مثير إذاً، أن نكشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح وإذا كان العقل والإرادة غير مادتين".[6]

 

وبنهاية هذا المقال يكون قد تم تفنيد النظرة المادية للعقل فلسفياً وعلمياً، ويبقى المعنى المتجاوز هو الأصل الذي من خلاله يستطيع العقل بناء نظامه الأخلاقي وتجاوز واقعه المادي، ومع أننا لا ننكر ضرورة النشاط الدماغي للتفكير لكنه شرط ناقص يحتاج إلى روح كي تمكنه من التحكم وهذا ما عبر عنه المسيري في حواراته عندما قال: حينما تغمض عيناك فإنك تبصر لأن الإنسان له بصر وبصيرة، عين ٌ حسية مادية ترى الأشياء وعينٌ روحية تخترق السطح لتصل إلى البنية الكامنة وإلى طبيعة الوجود.[7]


[1]أبو الفداء، من مخازي كهنة الإلحاد؛ العلم الحديث يبطل حرية الإرادة، مجلة التوحيد، العدد الثالث عشر.

[2]الفلسفة المادية وتفكيك الانسان، د. عبدالوهاب المسيري، دار الفكر 2007. 

[3]الإسلام بين الشرق والغرب ، علي عزت بيجوفتش، دار الشروق.

[4] ماركس وإنجلز، مختارات، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم، روسيا.

[5] Sam Harris, The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason, (2005)

[6] روبرت م أغروس و جورج نستانسيو، العلم من منظوره الجديد، ترجمة د. كمال حلايلي، عالم المعرفة 1989.
[7] عبدالوهاب المسيري، حوارات الثقافة والمنهج، دار الفكر 2009.

  • الثلاثاء AM 11:34
    2021-11-16
  • 944
Powered by: GateGold