المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412557
يتصفح الموقع حاليا : 303

البحث

البحث

عرض المادة

بيان ما في الإنجيل من تحريف وتبديل واختلاف في لاهوتيه المسيح

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:

فقد جرى اطلاعنا على خطابكم المشفوع به خطاب الأخ شمس الدين أحمد المتضمن ذكره: أنه حصل بينه وبين بعض رجال الدين المسيحي مناقشات حول ما في الإنجيل من تحريف وتغيير وتبديل، وأنهم أنكروا ذلك، وتناولوا القرآن بما هو منزه عنه، وتسألون إجابتنا عما ذكره هؤلاء؟

والجواب: الحمد لله. أما ما ذكره مَنْ ناقشوا الأخ شمس الدين أحمد وأنكروا له ما في الإنجيل من تحريف وتغيير – فهو مخالف لما تضافرت فيه الأدلة وقامت عليه البينات. قال الله تعالى: }وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ{ [المائدة: 14، 15].

وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عدي بن حاتم (أنه سمع النبي يقرأ هذه الآية: }اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ [التوبة: 31]، فقلت له: لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟» فقلت: بلى. قال: «فتلك عبادتهم»). وقال ابن كثير: (روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم t، أنه لما بلغته دعوة رسول الله r فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله r، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسًا في قومه طي، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله r، وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: }اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ{ قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم». وقال رسول الله r: «يا عدي، ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلهًا غير الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم فشهد شهادة الحق. قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون»). اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في كتابه [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح] في معرض حديثه عن تفرق النصارى وتلاعبهم بالإنجيل تحريفًا وتغييرًا وإخفاءً، قال – رحمه الله -: وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب، فمنهم من يقول: المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه، كما يقول المسلمون، ومنهم من يقر بعبوديته وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية، ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية.

وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح u، فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق، ولا الصيام الخمسين، ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد، والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته (هيلانة الحرانية) أُم قسطنطين. وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرًا من دين المسيح والعقائد والشرائع، فابتدعوا (الأمانة) التي هي عقيدة إيمانهم، وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد من الأنبياء، ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم، قالوا: كانوا ثلاثمائة وثمانية عشر.

وقال في موضع آخر: وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى فهي أربعة أناجيل: إنجيل متَّى، ويوحنا، ومرقس، ولوقا. وهم متفوقون على أن (لوقا) و (مرقس) لم يريا المسيح، إنما رآه متَّى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منها إنجيلاً، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله ولا أن المسيح بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي. انتهى.

وقد ذكر الشيخ (محمد رشيد رضا) في معرض تفسيره قوله تعالى: }وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى{ [المائدة: 14] الآية – فصلاً طويلاً في ضياع كثير من الإنجيل وتحريف كتب النصارى المقدسة، نرى من كمال الحديث نقله؛ لاشتماله على نصوص منقولة عنهم وعن المهتمين بديانتهم، قال – رحمه الله – في الجزء السادس من [تفسير المنار] ص289:

1- إن الكتب التي يسمونها الأناجيل الأربعة تاريخ مختصر للمسيح u، لم يذكر فيها إلا شيء قليل من أقواله وأفعاله في أيام معدودة، بدليل قول يوحنا في آخر إنجيله: (هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعمل أن شهادته حق. أشياء أُخرى كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة، آمين).

هذه العبارة يراد بها المبالغة في بيان أن الذي كتبت عن المسيح لا يبلغ عُشر معشار تاريخ. ومن البديهي أن تلك الأعمال الكثيرة التي لم تكتب وقعت في أزمنة كثيرة، وأنه تكلم في تلك الأزمنة وعند تلك الأعمال كثيرًا، فهذا كله قد ضاع ونسي. وحسبنا هذا حجة عليه في إثبات قول الله تعالى: }فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ{ [المائدة: 14]، وحجة على بعض علمائنا الذين ظنوا أن كتبهم حفظت وتواترت. قال صاحب [ذخيرة الألباب]: إن الإنجيل لا يستلزم كل أعمال المسيح، ولا يتضمن كل أقواله، كما شهد به القديس يوحنا.

2- الإنجيل في الحقيقة واحد، وهو ما جاء به المسيح u من الهدى والبشارة بخاتم النبيين، وهو ما كان يدور ذكره على ألسنة كُتَّاب تلك التواريخ الأربعة وغيرهم حكاية عن المسيح وعن ألسنتهم أنفسهم. قال متى حكاية عنه 26: 13 (الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها) أي: ما فعلته المرأة التي سكبت قارورة الطيب على رأسه. واجب عليهم أن يخبروا كل من يبلوغنهم الإِنجيل؛ في عالم اليهودية كلها بما فعلته تلك المرأة. فخبر تلك المرأة ليس من الإنجيل الذي جاء في كلام المسيح، وقد ذكر في تلك التواريخ امتثالاً لأمره. وسميت تلك التواريخ أناجيل لأنها تتكلم عن إنجيل المسيح وتجئ بشيء منه. لذلك بدأ مرقس تاريخه بقوله.

بدأ إنجيل يسوع المسيح – ثم قال حكاية عن المسيح – 1: 15: فتوبوا وآمنوا بالإِنجيل. فالإِنجيل الذي أمر الناس أن يؤمنوا به ليس هو أحد هذه التواريخ الأربعة ولا مجموعها، وهو الذي سماه بولس في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي – الإنجيل – المطلق 2: 4 وإنجيل الله 2: 8و9 وإنجيل المسيح 3: 2. والكتاب الإلهي يضاف إلى الله بمعنى: أنه أوحاه، وإلى النبي بمعنى: أنه أوحي إليه أو جاء به، كما يقال: توراة موسى.

3- كانت الأناجيل في القرون الأولى للمسيح كثيرة جدًا، حتى قيل: إنها بلغت زهاء سبعين إنجيلاً. وقال بعض مؤرخي الكنيسة: إن الأناجيل الكاذبة كانت 35 إنجيلاً. وقد رد صاحب كتاب [ذخيرة الألباب] الماروني القول بكثرتها. وقال: إن سبب ذلك تسمية الواحد بعدة أسماء. وقال: إن الخمسة والثلاثين لا تكاد تبلغ العشرين. وعددها كلها، وذكر أن بعضها مكرر الاسم، وذكر منها إنجيل القديس برنابا، وذكر أن جاحدي الوحي طعنوا في الأناجيل ثلاثة مطاعن:

1- أن الآباء الذين سبقوا القديس يوستينوس الشهيد لم يذكروا إلا أناجيل كاذبة ومدخولة.

2- لا سبيل إلى إظهار أسفار العهد الجديد التي خطها مؤلفوها.

3- قد فات الجميع معرفة الموضع والعهد اللذين كتبت فيهما.

4- أن كورنتس وكربو كراتوس قد نبذا ظهريًا منذ أوائل الكنيسة إنجيل القديس لوقا، والألوغيين إنجيل القديس يوحنا، ولم يستطع أن يرد هذه الاعتراضات ردًا مقبولاً عند مستقلي الفكر.

وقال الدكتور بوست البروتستاني في [قاموس الكتاب المقدس]: إن نقص الأناجيل غير القانونية ظاهر؛ لأنها مضادة لروح المُخَلص وحياته، ونحن نقول: إننا قد اطلعنا على واحد منها وهو إنجيل برنابا فوجدناه أكمل من مجموع الأربعة في تقديس الله وتوحيده، وفي الحث على الآداب والفضائل. فإذا كان هذا برهانهم على رد تلك الأناجيل الكثيرة وإثبات هذه الأربعة فهو برهان يثبت صحة إنجيل برنابا قبل غيره أو دون غيره.

5- بدئ تحريف الإِنجيل من القرن الأول. قال بولس في رسالته إلى أهل غلاطية 1: 6: إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعًا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، لا ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح. فالمسيح كان له إنجيل واحد، وبين بولس أنه كان في عصره من القرن الأول أُناس يدعون المسيحين إلى إنجيل غيره بالتحويل، أي: التحريف، كما في الترجمة القديمة، وفي ترجمة الجزويت – يقلبوا – بدل يحولوا، وهي أبلغ في التحريف والتبديل، وبيَّن بولس: أن الناس كانوا ينتقلون سريعًا إلى دعاة هذا الإِنجيل المحرف المحول عن أصله الذي جاء به المسيح. وقد بين بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثيوس (11: 13 – 15) أن هؤلاء القوم الذين يحرفون إنجيل المسيح رسل كذبة ماكرون مغيرون شكلهم إلى رسل المسيح. وتتمة العبارة تدل أنهم كانوا كرسل المسيح ويشتبهون بهم كما يشتبه الشيطان بالملائكة إذ يغير شكله إلى ملاك نور.

وفي الفصل الخامس عشر من (سفر الأعمال) ما يوضح هذه المسألة، وهو أن اليهود كانوا ينبثون بين المسيحيين ويعلمونهم غير ما يعلمهم رسل المسيح، وأن المشايخ والرسل أرسلوا برنابا وبولس إلى أنطاكية ليحذروا أهلها من هؤلاء المعلمين الكاذبين، وأن بولس وبرنابا تشاجرا وافترقا هنالك، وهما ما تشاجرا وافترقا إلا لاختلافهما في حقيقة تعليم المسيح. فبرنابا يذكر في مقدمة إنجيله أن بولس كان من الذين خالفوا المسيح في تعليمه.

ولا شك أن برنابا أجدر بالتقديم والتصديق من بولس؛ لأنه تلقى عن المسيح مباشرة، وكان بولس عدوًا للمسيح والمسيحيين. ولولا أن قدمه برنابا للرسل لما وثقوا بدعوة التوبة والإيمان بالمسيح، ولكن النصارى رفضوا إنجيل برنابا المملوء بتوحيد الله وتنزيهه، وبالحكمة والفضيلة، وآثروا عليه رسائل بولس وأناجيل تلاميذه ومرقس، وكذا يوحنا، كما حققه بعض علماء أُوربة؛ لأن تعاليم بولس كانت أقرب إلى عقائد الرومانيين الوثنية، فكانوا هم الذين رجحوها ورفضوا ما عداها، إذ كانوا هم أصحاب السلطة الأولى النصرانية، وهم الذين كونوها بهذا الشكل.

6- اختلف علماء الكنيسة وعلماء التاريخ في الأناجيل الأربعة التي اعتمدوها في القرن الرابع، من هم الذين كتبوها؟ ومتى كتبوها؟ وبأي لغة كتبت؟ وكيف فقدت نسخها الأصلية؟ كما ترى ذلك مفصلاً في دائرة المعارف الفرنسية الكبرى وفي غيرها من كتب الدين والتاريخ.

وهذه كلمات من كتب المدافعين عنها:

قال صاحب كتاب [مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين]: إن مَتَّى بموجب اعتقاد جمهور المسيحيين كتب إنجيله قبل مرقس ولوقا ويوحنا، ومرقس ولوقا كتبا إنجيلهما قبل خراب أُورشليم، ولكن لا يمكن الجزم في أية سنة كتب كل منهم بعد صعود المخلص؛ لأنه ليس عندنا نص إلهي على ذلك.

(إنجيل متى): قال صاحب [ذخيرة الألباب]: إن القديس متى كتب إنجيله في السنة 41 للمسيح باللغة المتعارفة يومئذ في فلسطين وهي العبرانية أو السير كلدانية. (ثم قال): ثم ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانية، ثم تغلب استعمال الترجمة على الأصل الذي لعبت به أيدي النساخ الأبونيين ومسخته بحيث أضحى ذلك الأصل هاملاً، بل فقيدًا، وذلك منذ القرن الحادي عشر. اهـ.

أقول: يا ليت شعري من هو الذي ترجم إنجيل متَّى باليونانية ومن عارض هذه الترجمة على الأصل قبل أن يعبث به النساخ ويمسخوه. الله أعلم.

ثم قال صاحب [الذخيرة]: يترجح أنه كتبه في نفس أُورشليم. وقال: إنما هو رواية جدلية عن المسيح لا ترجمة حياته.

وقال: إن البروتستانت المتأخرين امتروا وشكوا في كون الفصلين الأولين منه لمَتَّى.

وقال الدكتور (بوست) في [قاموس الكتاب المقدس]: واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل، هل هي العبرانية أو السريانية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام؟ وذهب آخرون إلى أنه كتب باليونانية كما هو الآن. ثم تكلم في شبهة عظيمة على أصل هذا الإنجيل تكلم فيها صاحب [الذخيرة] أيضًا، وهي: أن شواهده في العظات من الترجمة السبعينية للعهد العتيق، وفي بقية القصة من الترجمات العبرانية. وأجاب كل منهما عن ذلك بما تراءى له.

ثم رجح (بوست) أنه أُلِّف باليونانية خلافًا لجمهور رؤساء الكنيسة المتقدمين. فثبت بهذا وذاك أنه لا علم عندهم بتاريخه ولا لغته }وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ{ [البقرة: 78].

ثم قال: ولابد أن يكون هذا الإِنجيل قد كتب قبل خراب أُورشليم... إلى أن قال: ويظن البعض أن إنجيلنا الحالي كتب بين سنة 60 وسنة 65. وقد علمت أن صاحب الذخيرة زعم أنه كتب سنة 41، وإن هي إلا ظنون وأوهام يناطح بعضها بعضًا.

وأما علماء النصارى الأقدمون فالمأثور أن متى لم يكتب هذا الإِنجيل، وإنما كتب بعض أقوال المسيح باللغة العبرانية، والنصارى يحتجون الآن على كون هذه الأناجيل التي لا سند لها لفظيًا، ولا كتابيًا كانت معروفة في العصور الأولى بأقوال لأولئك العلماء المتقدمين، هي حجة عليهم لا لهم، وقد جاء في [المنار] بيان ذلك غير مرة.

وأقدم شهادة يتناقلونها في ذلك شهادة (بابياس) أسقف هيرابولس في منتصف القرن الثاني فقد نقل عنه (أُوسابيوس) المتوفى سنة 340 ما ترجمته:

إن متى كتب مجموعة من الجمل باللغة العبرانية، وقد ترجمها كل بحسب طاقته.

ويمتاز إنجيل متى بأن من نسب إليه من تلاميذ المسيح، وبأنه أقرب إلى التوحيد وأبعد عن الوثنية من سائر الأناجيل. (إنجيل مرقس): ذكر صاحب [الذخيرة]: أن مرقس كان عبرانيًا ملةً (أي: لا نسبًا) وأنه كان تلميذًا لبطرس، وأن بعض المتأخرين زعموا أنه كان يوجد إنجيل سابق لإِنجيلي متى ومرقس أخذا عنه إنجيلهما، وأن بعض البرتستانت شكوا في الأعداد الاثني عشر الأخيرة من الفصل السادس عشر من هذا الإنجيل لأسباب، منها: أنه لا ذكر لها في النسخ الخطية القديمة.

وقال (بوست): مرقس لقب يوحنا، يهودي، يرجح أنه ولد في أُورشليم. (قال): وتوجه مرقس مع بولس وبرنابا خاله في رحلتهم التبشرية الأولى غير أنه فارقهما في (برجه) فصار علة مشاجرة قوية بين بولس وبرنابا، وبعد ذلك تصافح مع بولس، فرافقه إلى (رومية)، كان مع بطرس لما كتب رسالته الأولى (1 بط 5: 136) ثم مع ثيموثاوس في (أفسس)، ولا يعرف شيء حقيقي عن حياته بعد ذلك.

ثم ذكر أنه كتب إنجيله باليونانية وشرح فيه بعض الكلمات اللاتينية، فاستدل بذلك على أنه كتب في رومية. (قال): إنما المشابهة بين إنجيلي متى ومرقس حملت بعض الناس على أن يعتقدوا أن الثاني مختصر من الأول.

ولم يذكر هذا ولا ذاك تاريخ كتابة هذا الإنجيل، وقد روي عن ابرنياوس أنه كتبه بعد موت بطرس وبولس فلم يطلعا عليه. فكيف نثق بأنه وعى ما سمعه من بطرس وأداه كما سمعه؟ هذا إذا صحت نسبته إليه بسند متصل، ولن تصح.

(إنجيل لوقا): قال في [الذخيرة]: إن لوقا كان من أنطاكية. ومن الشراح من ظن أنه إغريقي متهود؛ لأنه لا يذكر الكتاب المقدس إلا نقلاً عن الترجمة السبعينية. ومنهم من قال: إنه وثني هاد إلى الحق وارتد إلى الدين القويم. وقال: لوقا كان تلميذًا ومعاونًا لبولس.

ثم قال ما نصه: وقد أغفل متى ومرقس بعض حوادث وأُمور تتعلق بسيرة المسيح، وقام بعض الكتبة واختلقوا ترجمة مموهة ليسوع المسيح، وكثيرًا ما فاتهم فيها الرواية والتدقيق، فبعث ذلك بلوقا على وضع إنجيله ضنًا بالحق، فكتبه باليونانية وجاء كلامه أصح وأفصح وزاد انسجامًا من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد. وذهب كثير من المحققين إلى أنه كتب إنجيله في السنة 53 للمسيح، وقيل:
بل سنة 51.

ثم ذكر الخلاف في المكان الذي كتبه فيه وبين غرضه منه، فقال في آخره: وأن يكشف النقاب عن الأغلاط المدخولة في تراجم حياة المسيح المموهة – أي: الأناجيل التي ردتها الكنيسة بعد – وينفي كل ركون إليها، ثم يبين أنه كان يحمل إنجيلي متى ومرقس، وأنه اقتبس منها ما وافقهما فيه. ثم عقد فصلاً لما اعترض به على ما حذفوه وأسقطوه من هذا الإِنجيل؛ لأنهم رأوه لا يليق بالمسيح أو لعلة أخرى.

وقال الدكتور (بوست) في [قاموسه]: ظن بعضهم أنه – أي: لوقا – مولود في أنطاكية إلا أن ذلك ناتج من اشتباهه بلوكيوس. قال: ومن تغيير صيغة الغائب إلى صيغة المتكلمين في سياق القصة يستدل على أن لوقا اجتمع مع بولس في ترواس – أع 16: 1 – وذهب معه إلى فيلبي في سفره الثاني ثم اجتمع معه ثانية في فيلبي بعد عدة سنين – أع 20: 5و6 وبقي معه إلى أن أٌسر وأُخذ إلى رومية – أع 28: 30- ولم يعلم شيء من حياته بعد ذلك.

فلينظر القارئ كيف يستنبطون تاريخه من أُسلوب عبارته التي لم تصل إليهم بسند متصل لا صحيح ولا ضعيف، كما استدلوا على كونه إيطاليًا لا فلسطينيًا من كلامه عن القطرين، ذلك بأنه ليس عندهم نقل يعرفون به شيئًا عن مؤسسي دينهم.

ثم قال: وظن البعض أن لفظة إنجيلي الواردة في -2 تي 2: 8 – تدل على أن بولس ألف إنجيل لوقا وأن لوقا لم يكن إلا كاتبًا.

ثم قال: وقد كتب هذا الإِنجيل قبل خراب أورشليم وقبل الأعمال، ويرجح أنه كتب في قيصرية في فلسطين مدة أسر بولس سنة 58-60م غير أن البعض يظنون أنه كتب قبل ذلك. اهـ.

فأنت ترى من التعبير بلفظ الترجيح والظن ومن الخلاف بين سنة 51 و 53 كما في [الخلاصة] و 58 و60، كما أنه لا علم عند القوم بشيء }وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ{ [البقرة: 78]. ولعل الذين قالوا: إن بولس هو الذي كتب هذا الإنجيل هم المصيبون لمشابهة أُسلوبه لأسلوب رسائله باعترافهم. فإن قيل: وما تفعل بتحريفه؟ قلت: هو كتحريفها، وتجد فيه مثل ما تجد فيها من ذكر وضع بعض الناس لأناجيل كاذبة. ومن لنا بدليل يثبت لنا صدقه هو؟ وأنى لنا بتمييز هذه الأناجيل ومعرفة صادقها من كاذبها؟

(إنجيل يوحنا) تقول النصارى: إن يوحنا هذا هو تلميذ المسيح ابن زبدي وسالومه. ويقول أحرار المؤرخين منهم غير ذلك. كما في [دائرة المعارف الفرنسية]. ويرجح بعضهم أنه من تلاميذ بولس أيضًا. وذكر في [الذخيرة] ثلاثة أقوال في تاريخ كتابته: - وهي 64 و 94 و 97 وأنه كتبه باليونانية ليثبت أُولهية المسيح، ويسدد النقص الذي في الأناجيل الثلاثة، إجابة لرغبة أكثر الأساقفة ونواب كنائس آسية وإلحاحهم عليه أن يبقى من بعده ذكرًا مخلدًا.

ومفهوم هذا: أنه لولا هذا الإِلحاح لم يكتب ما كتب، وإذًا لبقيت أناجيلهم ناقصة، وخلوا من شبهة على عقيدتهم المعقدة التي لا تعقل، إذ لا توجد الشبهة عليها إلا في هذا الإِنجيل الذي هو أكثر الأناجيل تناقضًا، وناهيك بجمعه بين الوثنية والتوحيد، وقوله عنه في موضع آخر: إنه وإن كان يشهد لنفسه فشهادته ليست حقًا – إلى أمثال ذلك.

وقال الدكتور بوست: ويظن أنه كتب في أفسس بين سنة 70و95. ثم قال في الرد على علماء أوربا الأحرار ما نصه.

وقد أنكر بعض الكفار قانونية هذا الإِنجيل؛ لكراهتهم تعليمه الروحي، ولا سيما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح. غير أن الشهادة بصحته كافية، فإن بطرس يشير إلى آية منه 2بط 1: 14 قابل يو 21: 18 وأغناطيوس وبوليكريس يقتطفان من روحه وفحواه، وكذلك الرسالة إلى ديو كنيتس وباسيلدس وجوستينس الشهيد وتانيانس. وهذه الشواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثاني.

وبناء على هذه الشهادة وعلى نفس كتابه الذي يوافق ما نعمله من سميرة يوحنا نحكم أنه من قلمه. وإلا فكاتبه من المكر والغش على جانب عظيم. وهذا الأمر يعسر تصديقه؛ لأن الذي يقصد به أن يغش العالم لا يكون روحيًا، ولا يتصل إلى علو وعمق الأفكار والصلوات الموجودة فيه. وإذا قابلناه بمؤلفات الآباء رأينا بينه وبينها بونًا عظيمًا، حتى نضطر للحكم أنه لم يكن منهم من كان قادرًا على تأليف كهذا، بل لم يكن بين التلاميذ من يقدر عليه إلا يوحنا، ويوحنا ذاته لا يستطيع بتأليفه بدون إلهام من ربه. اهـ.

أقول: إن من عجائب البشر أن يقول مثل هذا القول أو ينقله معتمدًا له – عالم طبيب، كالدكتور بوست، فإنه كلام لا يخفى بطلانه وتهافته على الصبيان، ولا أعقل له تعليلاً إلا أن يكون تصنعًا وغشًا لإرضاء عامة النصارى لا لإرضاء اعتقاده ووجدانه، أو يكون التقليد الديني من الصغر قد ران على قلب الكاتب فسلبه عقله واستقلاله وفهمه في كل ما يتعلق بأمر دينه. وإليك البيان بالإيجاز:

إن الدكتور بوست من أعلم الأوروبين الذين خدموا دينهم في سورية وأوسعهم اطلاعًا، وهو يلخص في [قاموسه] هذا أقوى ما بسطه علماء اللاهوت في إثبات دينهم وكتبهم، ورد اعتراضات العلماء عليها. فإذا كان هذا منتهى شوطهم في إثبات إنجيل يوحنا الذي هو عمدتهم في عقيدة تأليه المسيح، فما هو الظن بكلام المؤرخين الأحرار والعلماء المستقلين في إبطال هذا الإِنجيل؟

ابتدأ رده على منكري هذا الإنجيل بأن بطرس أشار إلى آية منه في رسالته الثانية. فهذا أقوى برهان عندهم على كون هذا الإِنجيل كتب في العصر الأول.

فأول ما نقوله في رد هذا الدليل الوهمي: إن رسالة بطرس الثانية كتبت في بابل سنة 64، 68 كما قاله صاحب كتاب [مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين] وإنجيل يوحنا كتب سنة 95 أو 98 على ما اعتمده بوست وصاحب هذا الكتاب وسائر علماء طائفتهم (البروتستانت)، فهو قد ألف بعد كتابة رسالة بطرس بثلاثين سنة أو أكثر على رأيهم، فإذا وافقها في شيء فأول ما يخطر في بال العاقل أنه نقله عنها وإنه أُلف بعدها بعدة قرون، فكيف يكون ذلك دليلاً على صحته؟! ولو لم يكن في رد هذه الشبهة الواهية إلا احتمال نقل المتأَخر – وهو مؤلف إنجيل يوحنا عن – المتقدم –، وهم: بطرس – لكفى، وهو جازمون بتقدمه عليه، وإن لم يكن عندهم تاريخ صحيح لأحد منهما، بل تاريخ ولادة إلاههم وربهم الذي يؤرخون به كل شيءٍ فيه خطأ كما حققته يعقوب باشا أرتين وغيره.

ونقول: (ثانيًا): إننا قابلنا بين – 2بط 1: 14 – وبين – يو 21: 18 – فلم نجد في كلام بطرس في ذلك العدد إشارة واضحة إلى ما ذكره يوحنا. فعبارة بطرس التي سموها شهادة له هي قوله: عالمًا أن خلع سكني قريب كما أعلن لي ربنا يسوع المسيح أيضًا. وعبارة يوحنا المشهود لها هي: - أن المسيح قال لبطرس: الحق الحق، أقول لك لما كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك، وتمشي حيث تشاء، ولكن متى شخت فإنك تمد يدك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء.

فمعنى عبارة بطرس: - أنه يستبدل مسكنه باختياره ويرحل عن القوم الذين يكلمهم. ومعنى عبارة المسيح: - أنه إذا شاخ وهرم يقوده من يخدمه ويشد له منطقته. فإن فرضنا أن بطرس كتب هذا بعد يوحنا لم يكن فيه أدنى شبهة على تصديق يوحنا في عبارته هذه، فضلاً عن تصديقه في كل إنجيله، فما أوهى دينًا هذه أسسه ودعائمه!

ذكرني هذا الاستدلال نادرة لي عن رجل هرم من صيادي السمك – ولا أذكر هذا الوصف تعريضًا بتلاميذ المسيح u وعليهم الرضوان – قال: إن رجلاً غريبًا من الدراويش علمه سورة لا يعرفها أحد من خلق الله سواهما، إلا أن خطيب البلد يحفظ منها كلمتين تدلان على أصلها. وأول هذه السخافة التي سماها سورة: الحمد لله الذين المددا. عند النبي أشهدا، نبينا محمدًا، في الجنان مخلدًا، أجت فاطمة الزهرا، بنت خديجة الكبرى، آلت لو يا بابتي يا بابتي علمني كلمتين... الخ. والكلمتان اللتان يحفظهما الخطيب منها هما:- فاطمة الزهراء، وخديجة الكبرى، رضي الله عنهما؛ لأنه كان يقول في دعاء الخطبة الثانية بعد الترضي عن الحسن والحسين:- وارض اللهم عن أمهما فاطمة الزهرا، وعن جدتهما خديجة الكبرى.

ولا يخفى على القارئ أن الاتفاق بين هذه الأسجاع العامية وخطبة خطيب البلد في تينك الكلمتين أشهر من الاتفاق بين رسالة بطرس وإنجيل يوحنا، بل ليس بين هذا الإِنجيل وهذه الرسالة اتفاق ما فيما زعموه تكليفًا وتحريفًا للعبارة عن معناها.

وأما استدلاله باقتطاف أغناطيوس وبوليكريس من روح هذا الإِنجيل فهو مثل استدلاله بشهادة بطرس له، بل أضعف. إذ معنى هذا الاقتطاف:- أنه روي عن هذين الرجلين شيء يتفق مع بعض معاني هذا الإِنجيل. فإذا سلمنا أن هذا صحيح فهو لا يدل على أن هذا الإِنجيل كان معروفًا في زمنهما في القرن الثاني للمسيح؛ لأنهما لم يذكراه، ولم يعزوا إليه شيئًا. ويجوز أن يكون ما اتفقا فيه من المعنى إن صح ذلك ولم يكن كالاتفاق الذي ذكروه بينه وبين بطرس مقتبسًا من كتابٍ آخر كان متداولاً في ذلك الزمان، كما يجوز أن يكون مأخوذًا من التقاليد الموروثة عند بعض شعوبه. مثال ذلك: أن يوحنا انفرد باستعمال لفظ – الكلمة – والقول بألوهية الكلمة، ولم يؤثر هذا عن غيره من مؤلفي الكتب المقدسة عندهم، ولا عن أحد من تلاميذ المسيح. وقد بينا في تفسير قوله تعالى: }وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ{ [النساء: 171]: أن هذه العقيدة وهذا اللفظ مما أثر عن اليونان والبراهمة والبوذيين وقدماء المصريين. وبحث فيها أيضًا (فيلو) الفيلسوف اليهودي المعاصر للمسيح. فإذا فرضنا أن (أغناطيوس) استعمل هذا اللفظ وذكر هذه العقيدة في القرن الثاني، لا يكون هذا دليلاً على نقلها عن يوحنا، وعلى أن إنجيل يوحنا ورسالته ورؤياه كانت معروفة في القرن الثاني؛ لاحتمال أن يكون نقل ذلك عن الأمم الوثنية التي كانت تدين بهذه العقيدة قبل يوحنا وقبل المسيح u. وإذا كان الاتفاق بينهما في المعنى الذي انفرد به يوحنا عن غيره لا يدل على ذكر، فكيف يدل عليه الاتفاق في المعاني الأخرى التي لم ينفرد بها يوحنا؟!

فتبين من هذا النقد الوجيز:- أن ما ذكره بوست وسماه كغيره: شهادة لإِنجيل يوحنا ليس شهادة، وأن ما سميناه: شهادة مندوحة لنا عن القول بأنها شهادة زور، وأما زعمهم: أن كتابة هذا الإِنجيل توافق سيرة يوحنا ولا يقدر عليه غيره، فهو تمويه نقضوه بقولهم: إنه هو لا يقدر عليه أيضًا إلا بالإِلهام، إذ كل ملهم يقدر بأقدار الله الذي ألهمه، وليس ليوحنا عندهم سيرة تثبت أو تنفي.

بقي استدلاله الأخيرة على صحة هذا الإِنجيل:- بأنه لو لم يكن من قلم يوحنا لكان الكاتب له على جانب عظيم من المكر والغش. قال: هذا الأمر يعسر تصديقه؛ لأن الذي يقصد أن يغش العالم لا يكون روحيًا.. الخ. فنقول: إن هذا الاستدلال ينبئ بسذاجة من اخترعه ونقله وغرارتهم، وإن شئت قلت: بغباوتهم أو قصدهم مخادعة الناس. وبطلانه بديهي، فإن الكاتب للمعاني الروحية لا يجب أن يكون روحيًا، والكاتب في الفضائل لا يقضي العقل أن يكون فاضلاً. وقد كان في مصر كاتب من أبلغ كتاب العربية في الأخلاق والفضائل، ومع هذا وصفه بعض عارفيه بقوله: إن حروف الفضيلة تتألم من لوكها بفمه، ووخزها بسن قلمه. وإن الروحانية التي نجدها في إنجيل برنابا وما فيه من تقديس الله وتنزيهه، ومن الأفكار والصلوات – لهو أعلى وأشد تأثيرًا في النفس من إنجيل يوحنا. ويزعمون مع هذا كله أنه قصد به غش الناس، وتحويلهم عن التثليث والشرك إلى التوحيد والتنزيه!

إن هذا المسلك الأخير الذي سلكه بوست في الاستدلال على صحة نسبة إنجيل يوحنا إليه يقبله المقلدون لعلماء اللاهوت عندهم بغير بحث ولا نظر. والناظر المستقل يراه يؤدي إلى بطلان نسبته إليه؛ لأسباب أهمها ثلاثة:

1- أنه جاء بعقيدة وثنية نقضت عقيدة التوحيد الخالص المقررة في التوراة وجميع كتب أنبياء بني إسرائيل. وقد صرح المسيح بأنه ما جاء لينقض الناموس، بل ليتممه، وأصل الناموس وأساسه الوصايا العشر، وأولها وأولاها بالبقاء ودوام البناء:- وصية التوحيد.

2- مخالفته في عقيدته وأُسلوبه لكل ما هو مأثور عن جماعته وقومه قبل المسيح وبعده.

3- مخالفته للأناجيل التي كتبت قبله في أمور كثيرة أهمها: تحاميه ما ذكر فيها من الأعراض البشرية المنسوبة إلى المسيح مما ينافي الألوهية؛ كتجربة الشيطان له، وخوفه من فتك اليهود به، وتضرعه إلى الله خائفًا متألمًا ليصرف عنه كيدهم وينقذه منهم، وصراخه وقت الصلب من شدة الألم – إلى غير ذلك.

ومن تأمل أساليب الأناجيل وفحواها يرى أن إنجيل يوحنا غريب عنها، ويجزم بأن كاتبه متأخر سرت إليه عقائد الوثنيين، فأحب أن يلقح بها المسيحيين.

ونقول:- (ثانيًا): إذا فرضنا أن موافقة بعض أهل القرن الثاني لهذا الإِنجيل في روح معناه بعد شهادة له بأنه كان موجودًا في منتصف القرن الثاني، فأين الشهادة التي تثبت أنه كان موجودًا في القرن الأول والصدر الأول مما بعده؟

ثم تبين لنا من تلقاه عنه حتى وصل إلى أولئك الذين اقتطفوا من روحه.

بعد كتابة ما تقدم راجعت [إظهار الحق] فرأيته استدل على أن إنجيل يوحنا ليس من تصنيف يوحنا الذي هو أحد تلاميذ المسيح بعدة أمور:-

منها: أسلوبه الذي يدل على أن الكاتب لم يكتب ما شاهده وعاينه بل ينقل عن غيره.

ومنها: آخر فقرة منها وهو ما أوردناه في الاستدلال على أنه لم يكتب عن أحوال المسيح وأقواله إلا القليل، فإنه ذكر فيه يوحنا بضمير الغائب، وأنه كتب وشهد بذلك. فالذي ينقل هذا عنه لابد أن يكون غيره، وقصاراه أنه ظفر بشيء مما كتبه فحكاه عنه ونقله في ضمن إنجيله، ولكن أين الأصل الذي ادعى أن يوحنا كتبه وشهد به؟ وكيف نثق بنقله عنه ونحن لا نعرفه، ورواية المجهول عند محدثي المسلمين وجميع العقلاء لا يعتد بها البتة.

ومنها: أنهم نقلوا أن الناس أنكروا كون هذا الإنجيل ليوحنا في القرن الثاني على عهد (أرينيوس) تلميذ (بوليكارب) الذي هو تلميذ يوحنا، ولم يرد عليهم أرينيوس بأنه سمع من بوليكارب أن أستاذه يوحنا هو الكاتب له.

ومنها: نقله عن بعض كتبهم ما نصه: كتب استادلن في كتابه: إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإِسكندرية بلا ريب.

ومنها: أن المحقق (برطشنيدر) قال: إن هذا الإِنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه، بل صنفها أحد (كذا) في ابتداء القرن الثاني.

ومنها: أن المحقق (كروتيس) قال: إن هذا الإِنجيل عشرين بابًا ألحقت كنيسة أفساس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا.

ومنها: أن جمهور علمائهم ردوا إحدى عشرة آية من أول الفصل الثامن... الخ.

7- علمنا مما تقدم:- أن النصارى ليس عندهم أسانيد متصلة ولا منقطعة لكتبهم المقدسة، وإنما بحثوا ونقبوا في كتب الأولين والآخرين وفلوها فليًا لعلهم يجدون فيها شبهة دليل على أن لها أصلاً كان معروفًا في القرون الثلاثة الأولى للمسيح، ولكنهم لم يجدوا شيئًا صريحًا يثبت شيئًا منها، وإنما وجدوا كلمات مجملة أو مبهمة فسروها كما شاءت أهواؤهم، وسموها: شهادات، ونظموها في سلك الحجج والبينات، وإن كانت هي أيضًا غير منقولة عن الثقات، ثم استنبطوا من فحواها ومضامينها مسائل متشابهة، زعموا أن كلا منها يؤيد الآخر ويشهد له، وقد أشرنا إلى ضعف كل واحدة من هاتين الطريقتين.

فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد: }فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ{ [المائدة: 14]. وثبت به أنه كلام الله ووحيه، إذ ليس هذا مما يعرف بالرأي حتى يقال: إن النبي r قد اهتدى إليه بعقله ونظره.

ونظير هذه العبارة وأمثالها في الدلالة على كون القرآن من عند الله تعالى – قوله تعالى: }فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ{ [المائدة: 14]. فأنت ترى مصداق هذا القول بين فرقهم وبين دولهم لم ينقطع زمنًا ما.

8- إن أحد فلاسفة الهنود درس تاريخ الأديان كلها وبحث فيها بحثًا مستقلاً منصفًا، وأطال البحث في النصرانية، لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان والتبريز في الفنون والصناعات، ثم نظر في الإسلام فعرف أنه الدين الحق فأسلم، وألف كتابًا باللغة الإِنجليزية سماه: [لماذا أسلمت] بيَّن فيه ما ظهر له من مزايا الإسلام على جميع الأديان. وكان أهمها عنده، أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي له تاريخ صحيح محفوظ، فالآخذ به يعلم أنه هو الدين الذي جاء محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي المدفون في المدينة المنورة من بلاد العرب. وقد كان من مثار العجب عنده أن ترضى أُوربا لنفسها دينًا ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلهًا، وهي لا تعرف من تاريخه شيئًا يعتد به، فإن هذه الأناجيل الأربعة على عدم ثبوت أصلها، وعدم الثقة بتاريخها ومؤلفيها – لا تذكر من تاريخ المسيح إلا وقائع قليلة، حدثت كما تقول في أيام معدودة، ولا يذكر فيها شيء يعتد به عن نشأة هذا الرجل وتربيته وتعليمه، وأيام صباه وشبابه، ولله في خلقه شئون. اهـ.

بل إن كثيرًا من مفكريهم وأدبائهم وعلمائهم المعاصرين يعترفون، أن الأناجيل الموجودة ليست سوى مجموعة كتب كتبت في أوقات متباعدة عن بعضها. فقد جاء في [دائرة المعارف البريطانية] في المجلد الخامس صحيفة 636 طبعة 1953 ما نصه: (لم يبق من أعمال السيد المسيح شيء ولا كلمة واحدة مكتوبة). وقال اللورد هدلي في أحد كتبه: ليس الإِنجيل إلا مجموعة كتب كتبت في أوقات متباعدة عن بعضها. وقال الأستاذ ولز: إن السيد المسيح هو واضع نواة المسيحية، وليس بمنشئها. وقال أيضًا: إن بعض الكتاب يرى أن السيد المسيح لا تربطه بالمسيحية الحاضرة أية صلة.

ولعل من أبرز الدلائل على التحريف والتغيير والتبديل ما يزعمه النصارى من أن عيسى ابن الله ورسوله. ففضلاً عما لدينا في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله r من النصوص الواضحة في أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقد جاء في [دائرة المعارف البريطانية] المجلد الخامس منها ما نصه: (إن سيدنا
عيسى u لم تصدر عنه أي دعوى تفيد أنه من عنصر إلهي أو من عنصر أعلى من العنصر الإنساني المشترك). كما أنه جاء فيها أن كثيرًا من المراسيم والطقوس الكنيسية المعمول بها الآن لم يمارسها سيدنا عيسى نفسه، ولم يأمر بها.

وقد يكون من المناسب أن نذكر خلاصة أقوال استشهد بها الأستاذ أحمد علوش في كتابه (The Religion of Islam) لعلماء مسيحيين غيورين على المسيحية.

أحد هذه الأقوال: أن الأناجيل الأربعة الموجودة الآن سبقتها محاولات عديدة، وقد كان قبل هذه الأربعة عدة أناجيل.

القول الثاني: أن نسبة الأناجيل الأربعة الموجودة الآن إلى كاتبيها المعنيين نسبة مشكوك فيها، ولم تثبت صحتها حتى الآن، وما زالت مصدر أخذ ورد.

الثالث: هذه الأناجيل الأربعة أُلفت تأْليفًا، ولم تصدر عن وحي.

الرابع: يختلف إنجيل يوحنا عن الأناجيل الثلاثة الأخرى اختلافًا شديدًا واضحًا.

الخامس: الأناجيل الثلاثة الأخرى تختلف فما بينها اختلافًا واضحًا كبيرًا. وإن كان الاختلاف فيما بينها أقل بالنسبة إلى إنجيل يوحنا.

أما ما ذكره الأخ شمس الدين أحمد من أن من ناقشوه من رجال الدين المسيحي تعرضوا للقرآن، فلم يذكر لنا الطريقة التي تعرضوه بها حتى يكون ردنا عليهم متجهًا نحوها. ولعله وفقه الله يذكر لنا الشبه التي ذكروها له؛ لأن مجرد قولهم:- بأن القرآن لم يسلم من التحريف يكفي في الرد عليهم به أنهم كذابون، وأن الله تعالى تولى حفظه عن التغيير والتبديل والتحريف. قال تعالى وهو أصدق القائلين: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{ [الحجر: 9]، وقال تعالى: }وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{ [فصلت: 41، 42].

فلقد نُقِل القرآن إلينا بالنقل المتواتر بإجماع الأمة عن
رسول الله r بألفاظه ومعانيه. كما أن كثيرًا من المسلمين سلفهم وخلفهم يحفظون القرآن في صدورهم حفظًا يستغنون به عن القراءة في المصاحف؛ مصداقًا لما ثبت في [صحيح مسلم] عن
رسول الله r أنه قال: «إن ربي قال لي: إني منزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظانًا». فلو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب، ولو أخفيت بعض قراطيسه كما هي الحال في التوراة والإنجيل وغيرهما لما خفي الأمر على المسلمين فضلاً عن حفاظهم.

بل إن من كمال الحق ما شهد به الأعداء، فلقد قال (السير وليم موير) وهو أحد خصوم الإسلام حسبما حكاه عنه الدكتور حسنين هيكل في كتابه [حياة محمد]: ومع ما أدى إليه مقتل عثمان نفسه من قيام شيع متعصبة ثائرة زعزعت ولا تزال تزعزع وحدة العالم الإسلامي فإن قرآنًا واحدًا قد ظل دائمًا قرآنها جميعها، وهذا الإسلام منها جميعًا إلى كتاب واحد على اختلاف العصور حجة قاطعة على أن ما أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة السيء الحظ. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنًا كاملاً بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.

وقال في موضع آخر: والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي: أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقًا فحسب، بل كان كما تدل عليه الوقائع كاملاً، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أي شيء من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤيد استنادًا على أقوى الأدلة: أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد.

وقال هيكل بعد ذلك: أطلنا في اقتطاف عبارات (سير وليم مويو)، على أن ما اقتطفناه يغنينا عن ذكر ما كتبه (الأب لامنسي) و (فون هامر) ومن يرون هذا الرأي من المستشرقين، هؤلاء جميعًا يقطعون بدقة القرآن الذي نتلوه اليوم، وبأنه يحتوي على كل ما تلاه محمد على أنه الوحي الذي تلقاه من ربه صادقًا كاملاً. فإذا ذهبت بعد ذلك قلة من المستشرقين غير مذهبهم غير آبهين بالأدلة العلمية التي ساقها (موير) وكثرة المستشرقين، كان ذلك نجنبًا على الإسلام لم يمله غير الحق على الإسلام، وعلى صاحب الرسالة الإسلامية. اهـ.

وقال (اربثنت): ولقد ظل القرآن كما هو حتى اليوم بدون أي تحريف أو تبديل، لا من المتحمسين له، ولا من ناقليه إلى لغات أُخرى، ولا ممن يتربصون به الدوائر، وهو موقف لم يقفه مع الأسف أي كتاب من كتب العهدين القديم والحديث معًا.

وقال: (لوزتنا بوز) كذلك: فلم تكن هناك أي فرصة لتبديل أي جزء في القرآن أو تحويره ولو بوازع الحماس له، وهو الكتاب الوحيد الذي ينفرد بهذه الميزة بين سائر الكتب التي جاءت بها الديانات القديمة العظمى.

هذا ما تيسر لنا إيراده، وبالله التوفيق. والسلام عليكم.

  • الخميس PM 02:10
    2021-08-26
  • 1915
Powered by: GateGold