أدلة المعتزلة في نفي الشفاعة - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 441853
يتصفح الموقع حاليا : 320

البحث

البحث

عرض المادة

أدلة المعتزلة في نفي الشفاعة

أولاَ: أدلتهم من القرآن الكريم:

     إنَّ للمعتزلة شبهات اعتقدوها أدلة في نفي الشفاعة للمسلم العاصي نتيجة فهمهم الخاطئ لنصوص القرآن الكريم،ومنها:-

الدليل الأول:

       قال تعالى:(وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) سورة البقرة:48.

يقول القاضي عبد الجبار:"الآية تدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا ينصره؛ لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها، فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون أهل الثواب، وهي واردة فيمن يستحق العذاب في ذلك اليوم، لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم، فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأن يمنع الشفاعة للمؤمنين أيضاً، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى، فكان لا يصح أن يقول تعالى:(لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) سورة البقرة:آية 48، ولما صح أن يقول:(ولا يقبل منها شفاعة) سورة البقرة:آية 48. وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه وسلم فيهم. ولما صح أن يقول:"ولا يؤخذ منها عدل" سورة البقرة:آية 48؛ لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب...أعظم من كل فداء يسقط به ما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد استحقوه..ولما صح أن يقول:(ولا هم ينصرون) سورة البقرة:آية 48، وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة. بالآية دالة على نقول من جميع هذه الوجوه.([1])

 ويقول الزمخشري المفسر المعتزلي:"فإن قلت:هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ قلت:نعم، لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. فإن قلت:الضمير في(وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا) إلى أي النفسين يرجع؟ قلت:إلى الثانية العاصية غير المجزى عنها، وهي التي لا يؤخذ منها عدل. ومعنى لا يقبل منها شفاعة".([2])

المناقشة: 

إن استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باطل؛ وذلك لأن الشفاعة المنفية في الآية هي الشفاعة للكافرين، ويدل على ذلك ما يلي:-

أولاً: إجماع المفسرين على أن المراد بالنفس في الآية الكريمة:هي:النفس الكافرة، أي النفس التي مات صاحبها على الكفر.

        يقول الطبري:"وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل..إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل".([3])

يقول القرطبي:"وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى:(وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)النفس الكافرة لا كل نفس".([4]) ويقول الطبري:قوله تعالى:(وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) سورة البقرة:آية 48. إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل).([5]) ويقول ابن الجوزي:"قوله تعالى:(لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) سورة البقرة:آية 48. وقال ابن الجوزي:المراد بالنفس هنا:النفس الكافرة لا كل نفس؛ فعلى هذا يكون العام الذي أريد به الخاص".([6])

 ويقول ابن كثير:"قوله تعالى:(وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) سورة البقرة:48. يعني من الكافرين، كما قال تعالى:(ما تنفعهم شفاعة الشافعين) سورة المدثر:آية 48. ثم قال:فقد أخبر الله تعالى أنهم لما لم يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ويتابعوه على ما بعثه الله به ووافوا الله يوم القيامة فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة شافع، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض".([7]) فإذا كان المراد بالنفس في الآية النفس الكافرة، فالشفاعة المنفية في الآية الشفاعة للكفار لا للعصاة؛ و؟إذا فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر.

ويقول السيوطي:"قوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون قال الزجاج كانت اليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك قوله تعالى:(واتقوا يوما) فيه إضمار تقديره اتقوا عذاب يوم أو ما في يوم والمراد باليوم يوم القيامة وتجزي بمعنى تقضي قال ابن قتيبة يقال جزا الأمر عني يجزي بغير همز أي قضى عني أجزأني يجزئني مهموز أي كفاني قوله تعالى نفس عن نفس قالوا المراد بالنفس هاهنا النفس الكافرة فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص".([8])

        ويقول البيضاوي في تفسيره -الذي اختصر تفسيره من تفسير الكشاف المعتزلي-:"وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ويؤيده أن الخطاب معهم، والآية نزلت رداً لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم".([9])

        ويقول ابن جزي الغرناطي:"فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقاً يحمل على هذا؛ لأنّ المطلق يحمل على المقيد، فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة".([10])

        ويقول أبو السعود:"وقد تمسكت المعتزلةُ بهذه الآية على نفي الشفاعةِ لأهل الكبائرِ، والجوابُ أنها خاصة بالكفار للآيات الواردة في الشفاعة والأحاديثِ المرويةِ فيها ويؤيده أن الخطابَ معهم ولردهم عما كانوا عليه من اعتقاد أن آباءَهم الأنبـياءَ يشفعون لهم".([11])

         يقول ابن تيمية:"وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:أَحَدُهُمَا:أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِهِمْ:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) فَهَؤُلَاءِ نُفِيَ عَنْهُمْ نَفْعُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا. وَالثَّانِي:أَنَّهُ يُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ:مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ لِلْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقَدْرِ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا يَشْفَعُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ".([12]

      قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:مَذْهَبُ أَهْلِ السَّنَةِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عَقْلًا وَوُجُوبُهَا سَمْعًا..وَمُنِعَتْ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهَا وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيدِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْكُفَّارِ".([13])

      ويقول ابن الوزير اليماني في تفسيره لقوله تعالى:(ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل)."لكنها في الكافرين كما قال سبحانه في سورة الحديد في خطاب المنافقين (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)الحديد:أية 15، وفي تخصيصهم بالذكر إشارة إلى القبول من المسلمين بمقتضي مفهوم الصفة والمسلمون أيضا باقون على الأصل في حسن ذلك".([14])

ثانياً: لقد ثبتت عدة أحاديث في هذا الباب، فعن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:(شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).([15]) وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة وإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لم يشرك بالله شيئاً".([16])

وإذا ثبتت الشفاعة لأهل الكبائر؛ فلا بد من أن تكون الشفاعة المنفية في الآية إنما هي الشفاعة للكفار جمعاً بين الآية والأحاديث.([17])

ثالثاً: ومما يثبت أن الآية في الكافرين أن الخطاب فيها مع قوم كافرين، وهم اليهود الذين كانوا يعتقدون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، فنزلت هذه الآية لرد هذا الاعتقاد وبيان أنه لا ينفعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سن فيهم من ذلك إماماً لكل من كان مثل منهاجهم؛ لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمته.([18])

        وأما قول المعتزلة بأن قوله تعالى(واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) بأنه عام في نفي شفاعة النبي وغيره. يقول الإيجي في بيان بطلانه:"إنه لا عموم له في الأعيان، لأن الضمير لقوم معينين فلا يلزم أن لا تنفع الشفاعة غيرهم ولا في الزمان لأنه لوقت مخصوص فلا يلزم عدم نفعها في غير ذلك الوقت".([19])

الدليل الثاني:

    قول الله تعالى:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) سورة غافر:18.

يقول شيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار الهمذاني:"إن الله تعالى بين في هذه الآية أن الظالم لا يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين لتحصل لهم مزية في التفضل وزيادة في الدرجات مع ما يحصل له صلى الله عليه وسلم من التعظيم والإكرام".([20])

المناقشة:

 أولاً:إنَّ المراد بالظالمين في الآية هم الكافرون،لأن الظلم إذا أطلق انصرف إلى الكفر، إذ أنَّ الكفر أعظم الظلم، بدليل قول الله تعالى:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان13.([21]) ويقال أية سورة غافر مثلها تماما في المعنى أية الشعراء، فقال تعالى فيها حاكيًا عن أهل النار قولهم:(فما لنـا من شافعين ولا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين) الشعراء الآيات:100-102.

      فعلى ذلك فالشفاعة المنفية عن الكفار، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فيبطل الاستدلال بالآية.وقد ذهب إلى تأويل الظالمين بالكافرين أو المشركين مفسرو أهل السنة وغيرهم،وبيان ذلك: يقول الحافظ البيهقي:الظالمـون هاهنا هم الكافرون، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين.([22])

          ويقول ابن جرير الطبري في تفسير الآية:"وقوله:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ) يقول جلّ ثناؤه:ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم لهم، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع، ويُجاب فيما سأل".([23])

        وقال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية:"وقوله:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي:ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير".([24])

يقول القرطبي:"وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين، بدليل الأخبار الواردة في ذلك، وأيضا فإنَّ الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام، فقال في صفة الكافرين:(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وقال:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وقال:(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)، فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين".([25])

ويقول المفسر الألوسي:إن الكاملين في الظلم؛ هم الكافرين، لقوله تعالى:(إن الشرك لظلم عظيم) سورة لقمان:آية 13.([26]) ويقول ابن الجوزي: ([27])،وابن جزي الكلبي.([28])في تفسير(ما للظالمين) يعني الكافرين.

وذهب الإمام الباقلاني إلى أن الظلم الوارد في قول الله تعالى:(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع). معناه:الكفر،([29]) واستدل الباقلاني بقوله تعالى:(إن الشرك لظلم عظيم) سورة لقمان آية 13. ثم قال:(ولهذا لما نزل قوله تعالى:(الذين امنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) سورة الأنعام: آية 82.. حزن الصحابة رضي الله عنهم حتى قالوا:وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"ليس هو كما تظنون، وإنما هو من قول لقمان لأبنه:(يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) سورة لقمان: آية 13.([30]) فدلَّ أن لا شفاعة تنفع الكافر، والمؤمن بخلاف ذلك، وإن كانت له سيئات.([31])

ومما يدل على صحة ما ذهب إليه الباقلاني قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة البقرة:254.

ثانياً:إنَّ لفظ الظالمين؛إما أن يدل على الاستغراق، وإما ألا يدل عليه. فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم، ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار، ونحن نقول بعدم  استحقاق هذا المجموع للشفاعة، لأن بعضا منه هم الكفار، وليس لهم شفيع، فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع. وإن لم يفد الاستغراق؛ كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفاً بهذه الصفة، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع، وهم الكافرون؛ وإذا فعلى كلا الاحتمالين فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأصحاب الكبائر.([32])

يقول القرطبي:"هذه الآيات عامة في كل ظالم، والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين، بدليل الأخبار الواردة في ذلك، وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين:(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وقال:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وقال:(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين....ونحن إن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها، بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله:(ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقوله:(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) فإن قالوا فقد قال تعالى:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) والفاسق غير مرتضى، قلنا:لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال:(لمن ارتضى) ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله:(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)".([33])

ثالثاً:إنَّ الله تعالى نفى في الآية شفيعاً يطاع، وهذا لا يدل على نفي الشفيع، ألا ترى أنك إذا قلت: ما عندي كتاب يباع، لا يلزم منه نفي الكتاب. ثم إن الآية تدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله تعالى؛ لأنه ليبس في الوجود أحد أعلى حالا ًمن الله تعالى حتى يقال: إن الله يطيعه.([34]) وإذا فنفي الشفيع المطاع لا يقتضي نفي الشفاعة وعليه فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأصحاب الكبائر؛ وبذلك يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية.

الدليل الثالث:

   قال تعالى:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) سورة الأنبياء:28.

     يقول القاضي عبد الجبار:الآية تدل على أن الشفاعة لا تكون إلا لمن كانت طرائقه مرضية، وأن الكافر والفاسق ليسا من أهلها.([35])  يقول فخر الدين الرازي:"احتجت المعتزلة بقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم".([36])

المناقشة:

إن معنى الآية:ولا يشفعون إلا لمن رضي الله تعالى أن شفعوا له وأذن فيه. ومن ارتضاه الله تعالى للشفاعة هم الموحدون. يقول ابن عباس والضحاك:(إلا لمن ارتضى) أي:لمن قال لا إله إلا الله([37]). ومما يدل على أن الآية في الموحدين قوله تعالى:(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً) سورة مريم:آية 87. يقول المفسرين:إلا من قال لا إله إلا الله. فإن قالوا: المرتضي هو التائب الذي اتخذ عند الله عهداً بالإنابة إليه، بدليل أن الملائكة استغفروا لهم. قال تعالى:(فأغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) سورة غافر:آية7. وكذا  شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما عي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب، فلا يحتاج إلى الشفاعة، ولا إلى الاستغفار. وأيضاً: فقد أجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله تعالى:(فاغفر للذين تابوا) من الشرك (واتبعوا سبيلك) سبيل المؤمنين سألوا الله أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم، كما قال تعالى:(ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ) سورة النساء:آية 48.([38]) وعلى ذلك، فالآية ليس فيها نفي للشفاعة، وإنما حصر لها للموحدين، وصاحب الكبيرة مما سوى الشرك الموحد، وعليه فيبطل استدلالكم بالآية.

  إن هذه الآية وغيرها من الآيات التي تنفي الشفاعة بإطلاق فهي من المطلق المقيَّد، وتقييدها يكون بالآيات التي تثبتها بشروط، وتبقى الآيات التي تنفي عدم استحقاق الكافرين للشفاعة موافقة لعموم نفي الشفاعة، وهذا لا إشكال فيه، وبهذا يكون الجمع  بين الآيات الشفاعة الواردة بشأن الشفاعة، وهذا الجمع بين الآيات هو ما قرره العلماء.

          يقول ابن الوزير اليماني:إنه لابد من حمل الآيات المطلقة على المقيدة والعامة على الخاصة، فالله تعالى نفى الشفاعة في آية مطلقا وقد استثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله في آية:(من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). ([39]) ويقول:"قوله تعالى:(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة)البقرة:254, فأطلق نفي الخلّة والشّفاعة في هذه الآية عن كلّ أحد, ثمّ قيّده في قوله تعالى:(الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتّقين) الزخرف:67, وقال تعالى:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)الأنبياء:28, فأثبت الخلّة والشّفاعة لمن اتّقى, ولمن ارتضى بعد أن نفاهما مطلقاً, وكذلك ما ورد في خروج أهل الإسلام من النّار من صحيح الأخبار".([40])

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية جوابا على من أنكر الشفاعة لأهل الكبائر بناء على الآيات السالفة:"وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:أَحَدُهُمَا:أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِهِمْ :(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)،(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)، (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) فَهَؤُلَاءِ نُفِيَ عَنْهُمْ نَفْعُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا. وَالثَّانِي:أَنَّهُ يُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ".([41])

        ويقول الآمدى في الرد على استدلاهم بالقرآن الكريم:"وأما إنكار الشفاعة للمذنبين والعصاة من المسلمين، فذلك إنما هو فرع مذهب أهل الضلال...وما ذكروه من الآيات والظواهر السمعيات، فمحمول على الكافرين المستحلين لما يأتونه، المستوجبين لما يقترفونه، دون العصاة من المؤمنين، ومن أذنب ذنبا من المسلمين، ودليل التخصيص في ذلك قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) النساء:آية116، ومع قيام الدليل المخصص لها يمتنع القول بتعميمها".([42])

       ويقول العلامة الشنقيطي في تفسيره قوله تعالى:(واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) سورة البقرة:48. قال:"قوله تعالى:(وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة. ولكنه بين في مواضع آخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم، بدون إذن رب السموات والأرض. أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع. فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله:(وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى) سورة الأنبياء:28، وقد قال:(وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر)الزمر:7، وقال تعالى عنهم مقرراً له:(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ) سورة الشعراء:100، وقال:(فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين) سورة المدثر:48، إلى غير ذلك من الآيات".([43])

     ويقال للمعتزلة بأن قولكم بأن الشفاعة المذكورة هي أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في زيادة فضله لأهل الجنة برفع درجاتهم هول قول فاسد، وبيان ذلك أن الله تعالى وعدهم ذلك الفضل فقال تعالى:(يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) والله تعالى لا يخلف وعده، فإنما يشفع إلى الله تعالى عندكم من أن يخلف وعده، وهذا جهل منكم، وإنما الشفاعة المعقولة فيمن استحقه عقابا أن يوضع عنه عقابه، أو في من لم يعده شيئا أن يتفضل عليه به، فأما إذا كان الوعد بالتفضل سابقا فلا وجه لهذا.([44])

الدليل الرابع:

قال تعالى:(أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار).سورة الزمر:19.

      يقول القاضي عبد الجبار:"الآية تدل على أن من أخبر اله تعالى أنه يعذبه لا يخرج من النار، فإذا صح أنه أخبر بذلك في الفجار والفساق، فيجب ذلك فيهم...ويدل أيضاً:على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لهم؛ لأنه لو شفع لهم لوجب أن يكون منقذاً من النار وقد نفى الله تعالى عنه ذلك".([45])

المناقشة:

يقال للمعتزلة إن الآية في أهل الكفر والضلال، وليست في أهل التوحيد والإيمان. يقول الطبري:(أفمن حق عليه كلمة العذاب) سورة الزمر:19. أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره.([46]) وبكلمة العذاب:هي قوله تعالى لإبليس:(لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) سورة ص:58.([47])

       وإذا كانت الآية في الكافر، فلا دلالة فيها على نفي الشفاعة عن صاحب الكبيرة، لأنه ليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، كيف يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب مع قوله تعالى:(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء) سورة النساء:48. وقوله تعالى:(إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) سورة الزمر:53. وقوله صلى الله عليه وسلم:(من شهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله حرم الله عليه النار)([48]).([49]) وغيرها من النصوص الدالة على الوعيد بالمغفرة لما مات لا يشرك بالله شيئاً. وصاحب الكبيرة  ليس بمشرك. فإذا فالآية ليست في صاحب الكبيرة، وعليه فيبطل الاستدلال بها على نفي الشفاعة لصاحب الكبيرة. وعلى التسليم بأن هذه الآية في أهل الكبائر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقذ أحداً بنفسه، وبدون مشيئة الله وإذنه؛ بل لا يشفع إلا لمن ارتضى الله وأذن بالشفاعة له، وصاحب الكبيرة ممن ارتضى الله أن يشفع له؛ لأنه مؤمن موحد.

     يقال للمعتزلة:إن قول الله تعالى:(فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل(. وقوله عز وجل:(فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم(وقوله عز وجل وقد أخبر أن الملائكة قالت لأهل الكفر:)ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين( هذه كلها أخلاق الكفار فقال الله عز وجل:(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) فدل على أن لا بد من شفاعة لغيرهم وهم أهل التوحيد خاصة. ([50])

 

ثانياً: الأدلة العقلية:

        تتمسك المعتزلة بما يرونه دلالة عقلية في إنكار الشفاعة لأهل الكبائر ومن ذلك:-

الدليل الأول:

       قول القاضي عبد الجبار:"لقد دلت الدلائل على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحال ما تقدم؟!".([51])

هذا الدليل باطل لما يلي:-

أولاً: أن الأدلة الدالة على دوام العقوبة عامة، وأدلة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر خاصة، والخاص مقدم على العام، فوجب القطع بأن النصوص الدالة على الشفاعة مقدمة على العمومات الدالة على دوام العقوبة([52])، وبهذا يزول الإشكال وتبطل هذه الشبهة.

ثانياً: هذه الشبهة تبني على القول بتخليد الفاسق في النار، وقد سبق عرض شيء من الشبهات الواردة حول هذا عند الكلام على رأي المعتزلة في الوعيد، وإبطالها، فإذا بطل الأصل بطل الفرع.

الدليل الثاني:

يقول القاضي عبد الجبار:"أليس أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق، وذلك خلف".([53])

         ويقول فخر الدين الرازي:"واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه...إلى أن قال: وسابعها:أن الأمة مجمعة على أنه ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام، ويقولون في جملة أدعيتهم:(واجعلنا من أهل شفاعته) فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر؛ لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر".([54])

المناقشة:

         يقول القرطبي في معرض الرد على هذه الشبهة:"إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب، ولا قائم بكل ما افترض الله عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة. قال صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟ قال:ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة".([55]).([56])

        ويقول الرازي:"إما قول المسلمين:اللهم اجعلنا من أهلل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. فالجواب عنه: إن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب، وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق، ودفع المضار المستحقة على المعاصي؛ وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً، فاندفع السؤال".([57])

الدليل الثالث:

      يقول القاضي عبد الجبار:"إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إذا شفع لصاحب الكبيرة، فإما أن يشفع أو لا. إن لم يشفع لم يجز؛ لأنهن يقدح بإكرامه. وأن شفع فيه لم يجز أيضاً؛ لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلاً".([58])

المناقشة:

        إنَّ قول القاضي عبد الجبار المعتزلي:(وإن شفع فيه لم يجز) ينبني على أن المكلف لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وإنما يدخلها بعمله، وأنه متى عمل عملاً صالحاً وجب على الله إدخاله الجنة، وإذا لم يعمل لم يجز أن يدخله الله إياها، وهذا القول باطل لما يلي:-

أولاً:إما كون الإنسان لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته،فيبطله قوله تعالى:(الذي أحلنا دار المقام من فضله) سورة فاطر:آية 35. وقوله صلى الله عليه وسلم:(لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).([59]) فإذاً فإن دخول الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته،([60]) وإنما العمل سبب في تفضيل الله على عبده بإدخاله الجن. وأما بطلان الوجوب على الله، فلاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً.

     وإذا ثبت أن الإنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، فلا يوجب عليه أحد شيئاً، فلا مانع أن يشفع الله نبيه في من شاء من عباده من أهل التوحيد المرتكبين للكبائر لتظاهر الأحاديث بثبوت الشفاعة لهم، وإذا ثبت أن الله يشفع نبيه فيهم؛ بطل قولكم، (وإن لم يشفع فيه لم يجز). لأن الشفاعة قد ثبتت، فلا مكان لهذا الاحتمال. وعليه فتبطل شبهتكم هذا.

 

 

 

الدليل الرابع:

         يقول القاضي عبد الجبار:"ما قولكم فيمن حلف ليفعل ما يستحق به الشفاعة؟ أليس يلزمه أن يرتكب الكبيرة، ويصير من أهل الفسوق والعصيان".([61])     

 المناقشة:

     يقول الباقلاني: والجواب على هذه الشبهة من وجهين:-

أحدهما:أن نأمره بالتمسك بالإيمان دون فعل الذنوب؛ لأنَّ الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب، وهذا مثل أن يشفعوا زيداً في ذنب صديقه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، لا يقال: أنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة لا نفس الذنب. ونأمره أيضاً بالطاعة حتى ينال بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الزيادة له من البر والنعيم، ونحو ذلك.

الثاني:أنا نعارضكم بمثل قولكم، فنقول لكم ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى:(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) سورة البقرة:أية 222. فحلف ليفعلن فعلاً يجب عليه فيه التوبة والاستغفار..فإن قالوا: نأمره بالطاعة وفعل الخير، قلنا لهم:هذا لا يصح، لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة والاستغفار من فعل الخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم: نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار، فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه، فقد استحللتم ما حرم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به.

       وإن قلتم: لا نأمره بفعل المعصية، ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له:قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم: نحن أيضاً نقول:لمن حلف ليفعلن فعلاً يجوز أن يشفع له فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول له: تمسك بالطاعة والإيمان، فإن ابتليت بشيء من المعاصي، فقد خرجت من اليمين، ويجوز أن يشفع لك الرسول صلى الله عليه وسلم، لا أن نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه.([62])

         ويقول ابو منصور البغدادي في الرد على شبهة المعتزلة:"وجوابنا عن هذا السؤال:إن الحالف إن حلف على أن يعمل عملا بستحق به الشفاعة حانث في يمينه لأن من نال الشفاعة في الآخرة فإنما ينالها بفضل من الله تعالى بلا استحقاق، وإن حلف أن يعمل عملا يصير به من أهل الشفاعة أمرنا بأن يعتقد أصولنا في التوحيد والنبوات وأن يجتنب البدع الضالة..". ([63])

ويقول يحيى بن أبى الخير اليمانى في الجواب على شبهتهم:"إنا لا نأمره بعمل المعصية وإنما نأمره بالإرزاء بهذا السائل، لأنه أورد سؤاله هذا على سبيل الشناعة لجهله بالأخبار الواردة في الشفاعة، ونأمره بأن يتعلم الرد على القدرية والإستقامة على الإيمان، لأن ذلك طاعة لله والشفاعة إنما هي للمؤمنين على ما ابتلوا به من المعاصي، ولا يخلوا أحد من المعاصي".([64])

 

دلالة العقل على الشفاعة:

        يقول أبو سعيد النيسابوري في تجويز العقل لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين:"إن قبول الشفاعة للعصاة ليس مما يحيله العقل، فإن من عصى مالكه وخالقه لا يستقبح في العقل أن تتشفع إليه بعض المختصين به، حتى يعفوا عنه،وإذا كان جائزا في العقل، فالسنة المستفيضة قد وردت به موجب الإيمان به فإن حملوه على الشفاعة -يقصد المعتزلة- لرفع الدرجات لم يصح، لأن في الخبر عن رسول الله أنه قال:شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وفي خبر آخر أنه يجيء إليهم فيخرجهم من النار والمطيعين لا يكونوا في النار".([65])

ومن الأدلة العقلية على جواز الشفاعة في أصحاب المعاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجنازة على المذنب العاصي وغير المذنب من أمته، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون إلى يومنا هذا، ولو كان الميت المذنب لا يشفع فيه ولا ينفعه الدعاء لما كان للصلاة عليه معنى. فإن قيل: فقد لقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه دين، فلو قبلت شفاعته في الكبائر لكان في الدين أولى. والجواب أن هذا كان في أول الإسلام، ثم بعد ذلك لم يمتنع من الصلاة على أحد، فما داوم عليه من الفعل أولى. ويحتمل أن يكون امتناعه من الصلاة عليه ليعلمهم أن حقوق بني آدم لا بد من قضائها، وأن السيئات التي بين العبد وبين ربه عز وجل إذا غفرها له فإنه يبدل السيئات حسنات، ومن مات وعليه دين فإنه يؤخذ من حسناته وتجعل لمن له الدين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصلوا على ذلك الميت. وقال:"صلوا على صاحبكم"، فلو لم تنفعه صلاتهم عليه لكان أمره لهم بالصلاة عبثا.([66])

 

[1]- متشابه القرآن 1/90،91.

1- تفسير الكشاف:الزمخشري 1/88.

[3]- تفسير الطبري 1/31.

[4]- تفسير القرطبي 1/347.

[5] - تفسير الطبري 2/33.

[6]- زاد المسير 1/77.

[7]- تفسير القرآن العظيم:ابن كثير 1/256.

[8]- الدر المنثور:السيوطي1/79.

[9]- تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: البيضاوي

[10]- تفسير التسهيل لعلوم التنزيل:ابن جزي الغرناطي

[11]- تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: أبو السعود

[12]- شرح العقيدة الواسطية 1/149.

[13]- شرح مسلم:النووي 3/35.

[14]- إيثار الحق على الخلق:ابن الوزير اليماني1/264.

[15]- سبق تخريجه.

[16]-  انظر الترغيب والترهيب 1/378.

[17]- انظر تفسير الطبري 2/33، القرطبي1/347.

[18]- تفسير الطبري 2/33، وزاد الميسر 1/77، بتصرف.

[19]- المواقف:الإيجي ص 380.

[20]- متشابه القرآن 2/600.

[21]- الهداية الربانية في شرح العقيدة الطحاوية عقيدة أَهْل السنة والجماعة:عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

[22]- شعب الإيمان 1/205.

[23]- تفسير الطبري 21/369.

[24]- التفسير العظيم: ابن كثير 7/137.

[25]- تفسير القرطبي 1/347.

[26]- روح المعاني 24/59  

[27]- زاد المسير 10/77.  

[28]- التسهيل لعلوم التنزيل 4/7.

[29]- انظر التمهيد ص 371، والإنصاف:الباقلاني ص 154.

[30]- أخرجه البخاري رقم 4776، كتاب التفسير، باب ولا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، أخرجه مسلم رقم 124، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه.

[31]- الإنصاف:الباقلاني ص 154، بتصرف.

[32]- التفسير الكبير:الرازي 2/69،27/32.

[33]- تفسير القرطبي 1/374.

[34]-  التفسير الكبير:الرازي 27/51 .

[35] -متشابه القرآن 2/499.  

[36]-  التفسير الكبير:الرازي 3/64، 22/160.

[37]- التفسير الكبير:الرازي 22/160.

[38] - تفسير القرطبي 1/379، التفسير الكبير:الرازي  3/64.

[39] - إيثار الحق على الخلق:ابن الوزير 1/151-152.

[40] - الروض الباسم:ابن الوزير اليماني

[41] - مجموع الفتاوى 1/149.

[42] - غاية المرام فى علم الكلام: الآمدى 2/309.

[43] - تفسير أضواء البيان:الشنقيطي 1/40.

[44] - الإبانة:أبو الحسن الأشعري:1/244 بتصرف.

[45] - متشابه القرآن 2/592.

[46] - تفسير الطبري 23/133.

[47] -انظر تفسير أبي السعود 24/606.

[48]- الحديث أخرجه مسلم رقم 29، كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.

[49] - انظر التفسير الكبير 26/263.

[50]- الشريعة:أبو بكر محمد بن الحسين الآجري 1/340.

[51]- شرح الأصول الخمسة.

[52]- الأربعين في أصول الدين- بتصرف- ص400، 423،.

[53] -  شرح الأصول الخمسة ص 692.

[54] - التفسير الكبير 2/61.

[55]-  رواه البخاري رقم 6467، كتاب الرقاق،باب القصد والمداومة على العمل.

[56] - تفسير القرطبي 1/ 380،381.

[57] - التفسير الكبير 2/69.

[58] - شرح الأصول الخمسة ص 689.

[59] -سبق تخريجه.

[60] - انظر المواقف 376.

[61]-  شرح الأصول الخمسة  ص693أوانظر أصول الدين ابو منصور البغدادي ص 244-245.

  -[62]الإنصاف ص 175،176 بتصرف.    

  -[63]أصول الدين ص 245.    

  -[64] الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار: يحيى بن أبى الخير اليمانى 3/705.

-[65] الغنية في أصول الدين:أبو سعيد النيسابوري 1/172.

-[66] الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار: يحيى بن أبى الخير اليمانى3/696.

  • الاحد PM 03:23
    2021-07-25
  • 4354
Powered by: GateGold