إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فإن الأمة الإسلامية مُنيت في عهودها الأولى -ولا زالت- إلى اليوم بحركات ومذاهب وفرق كانت معول هدم تجتث الأصول والثوابت، فتخوض في ذات الله وفي أسمائه وصفاته بغير علم، وتشكك الأمة في قرآنها وسنة نبيها، وتهون من قدسية النصوص وتجعل العقل حاكماً عليها دون اعتبار للقواعد الشرعية والأصولية، وتتعرض لمقام الصحابة –الكرام-، بالهمز واللمز تارة، وبالطعن والسب تارة. وهي مع ذلك جادة في تقرير أصولها وطرح أفكارها ونشرها بين الناس.
ومن تلكم المعاول: المعتزلة، والمدرسة العقلية الحديثة، والعصرانيون – العقلانيون الجدد-. فكانت خير معين لأعداء الإسلام على الإسلام، وكانت من أعظم أسباب تردي الأمة الإسلامية وضعفها وخورها بما نشروه من أفكار مضللة هدامة أصابت أمة الإسلام والمسلمين في مقتل.
ولو كان اختلاف أولئك في مسائل الفروع أو في مسائل الأصول التي كان فيها نزاع بين السلف، وكان خلافاً ناتجاً عن بحث واجتهاد وتحقيق واتباع للأثر، لكان لهم منا العذر، ولكن أعرضوا عن هذا كله وخاضوا في الأصول المجمع عليها والمعلوم من الدين بالضرورة، وقدموا المعقول على المنقول، وطعنوا في خير البرية بعد النبيين، وتكلموا في ذات الله وفي أسمائه وصفاته بغير علم. قال ابن قتيبة -في بيان أن اختلاف أهل الكلام في الأصول-: (ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لا تّسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى) [تأويل مختلف الحديث: ص17] . قلت: والمعتزلة لهم نصيب من هذا كله، ومن جاء بعدهم ممن تتلمذ على كتبهم وتبع منهجهم لهم منه نصيب أيضاً؛ بل زادوا على أسلافهم المعتزلة وأتوا بطوام وعجائب.
والحق أن تسميتهم بالفكر العقلاني أو التيار العقلاني فيه نوع تمجيد لهم، فالله امتدح أهل العقول الذين يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ويتعضون بأحوال من سبقهم من الأمم، ويطيعون ربهم ورسولهم وينقادون لشرع خالقهم، و لا يقدمون عقولهم على كلام ربهم وكلام نبيهم .. إلخ. وطبعاً هذا الوصف لا ينطبق على من سموا بأصحاب الفكر العقلاني، والأولى وصفهم بما وصفهم به السلف (أهل الأهواء) فهو