موقف المستشرقين من المعتزلة - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 441848
يتصفح الموقع حاليا : 308

البحث

البحث

عرض المادة

موقف المستشرقين من المعتزلة

إن الصراع بين الحق والباطل، قائم منذ الأزل، وما ذاك إلا أنه سنة من سنن الله عز وجل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. 

ولقد تكالب أعداء الإسلام على الدين الحق من كل حدب وصوب، بقيادة اليهود والنصارى حيث لم يعلموا وسيلة إلا استخدموها، ولا طريقة إلا سلكوها، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } (1) 

وكانت من وسائلهم للنيل من هذا الدين؛ الحروب الصليبية، والتنصير، ثم الاستشراق. 

وهو - أي الاستشراق- من أخطر الوسائل، وذلك لزعمهم أنه فكر نير ملتزم بالموضوعية، والأمانة العلمية في البحث، والدراسات الإسلامية. 

وقد اهتم المستشرقون بالمعتزلة اهتماماً بالغاً، ظهر في تمجيدهم لرجال هذه الفرقة، ونشر مؤلفاتهم، والمبالغة في الثناء عليهم وعلى أفكارهم، وبيان أنهم أكثر المنتسبين إلى الإسلام فهماً للإسلام. 

كما وصفهم المستشرق (شتيز) بأنهم المفكّرون الأحرار في الإسلام، وألّف كتاباً بهذا الاسم. 

وكتب المستشرق (هاملتون جب) عدداً من الكتب منها؛ وجهة الإسلام (إلى أين يتجه الإسلام) و (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) مجَّد فيه مسلك المعتزلة ومن تأثر بهم في هذا العصر، ودعا إلى إسقاط مذهب أهل السنة، وقبول مفهوم التطور. 

وقامت المستشرقة (سوسنه ديفلد) بتحقيق كتاب (طبقات المعتزلة) لأحمد بن يحيى المرتضى، صدَّرته بمقدمة أشادت فيها بالمعتزلة وأنها خدمت دين الإسلام خدمة عظيمة من خلال مجادلتها للثنوية وردها لمقالاتهم. وذكرت بأنها - أي المعتزلة - وطَّأت لأهل السنة الطريق لإثبات عقيدتهم. 

كما أثاروا في نفوس الباحثين أن تاريخ المعتزلة وعقائدهم وثروتهم العلمية قد ذهبت، فأصبح الاعتماد على نقول خصومهم عنهم؛ مما يحتم ضرورة إنشاء بعثة علمية لأخذ الصورة الحقيقية من مخلفاتهم الخطية المبعثرة في بلاد اليمن وغيرها والقيام بنشرها. وقد كانت هذه دعوة المستشرق (الفرد جيوم) أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن، حيث قال: "إن ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جداً إلى حد أننا مضطرون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسفية لذلك، فإن أملنا لكبير، إذا كنت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا وإن أولئك الذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذهبية، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي" (2) 

 

 

 

 

وكان من منهج المستشرقين في دراستهم للمعتزلة أنهم عندما تعرضوا لدراسة الإسلام بشكل عام، لم يدرسوه بموضوعية ونزاهة، بل درسوه وقد ترسخ في أذهانهم فكرة أساسية وهي لابد من هدم الإسلام والقضاء عليه (1) 

ونقل الدكتور (موريس بوكاي) عن المستشرق (هانونو) قوله: وأفضل الطرق لتثبيت ولاية المستعمر الأوربي على البلاد الإسلامية، هو تشويه الدين الإسلام وتصوره في نفوس معتقديه، بإبراز الخلافات المذهبية .. مع شرح مبادئ الإسلام شرحاً يشوّهها وينحرف بها عن قيمها الأصلية (2) 

فكان تركيزهم في البحث عن المسائل الخلافية الشائكة التي أثارتها تلك الفرق، وأثرت على تفكير المسلمين وأشغلتهم، فيبرزون تلك المسائل ويظهرونها على أنها هي الحق والصواب، من غير أن يتبعوا منهجاً علمياً يقوم على البحث والتمحيص، واتباع الدليل والبرهان في الوصول للنتيجة. 

فقد تبنوا فكرة أن العقل هو مصدر المعارف الدينية، والمعيار الذي توزن به الحقيقة الدينية (3) ، ونسبوا ذلك للدين الإسلامي، موافقة للمعتزلة دون نظر للردود عليهم، أو حتى مناقشة تلك الردود أو على الأقل عرضها بنفس الطريقة التي أبرزوا بها الطريقة العقلانية التي سار عليها المعتزلة. 

ومن منهجهم تبني الأفكار الخطيرة وكأنها من المسلمات، ويناقشونها من باب إثبات أصلها وأن المسلمين قد استفادوها من ذلك الأصل ونسبوها لأنفسهم. 

ومن منهجهم التلميع والثناء المبالغ فيه لأعلام المعتزلة، ووصفهم بأنهم حماة الدين، ومفكروه، والذَّابون عنه، فمن ذلك قولهم عن أبي الهذيل العلاف: إنه المدافع عن الإسلام ضد الأديان الأخرى، وضد التيارات الفكرية للعصر السابق، وأنه قد اشتهر بحسن الجدل والمناظرة (4) ، ووصف الجاحظ بأنه خبير بالنفوس. 

ومن منهجهم أنهم يعتمدون الكذب أو التدليس والتشكيك، في أمور يُقطع بثبوتها؛ حيث نجد أنهم عند وقوفهم على معضلة وكبيرة من كبائر الفرق - لا يستطيعون عنها محيداً- فليس أمامهم إلا إثباتها وبالتالي ظهور عوار هذه الفرقة الضالة، أو إنكارها وهو ما لا يستطيعونه أمام البحث العلمي نجد أنهم يبادرون القول بأن هذه الأقوال مكذوبة عليهم، أو أن المذهب قد اعتراه بعض الدس والحشو، والتقوُّل عليه، أو الزعم بأنه لم تصل كل مصنفات ذلك العالم حتى يمكن فهم مقصده تماماً، وبيان حجته التي قال على ضوئها ذلك القول. 

ومن منهجهم تعمد الإساءة للإسلام، وعدم قدرتهم على إثبات دعواهم، بل تهربهم من ذلك، وكأن قولهم حجة لا تحتاج إلى دليل، فهذا المستشرق (جولد زيهر) عندما زعم بأن القرآن الكريم إنما استمد موضوعاته من العهد القديم (5) ، لم يستطع أن يقدم دليلاً واحداً على ذلك، بل اكتفى برمي الشبهة أو الفرية فقط. 

 

 

 

 

الفصل الأول: التعريف بالمعتزلة 

وفيه ثلاثة مباحث: 

المبحث الأول: تسمية المعتزلة وألقابهم، وفيه مطلبان: 

المطلب الأول: أصل تسمية المعتزلة. 

المطلب الثاني: أسماء المعتزلة. 

المبحث الثاني: العوامل التي يرى المستشرقون أنها ساعدت وهيأت لظهور المعتزلة. 

المبحث الثالث: أعلام المعتزلة. 

 

المبحث الأول: تسمية المعتزلة وألقابهم 

المطلب الأول: أصل تسمية المعتزلة: 

عدَّ المستشرق (كارلو الفونوس نيلنو) معرفة سبب إطلاق لفظ (المعتزلة) وبأي معنى أطلق من المسائل الخطيرة، وأن الوقوف على حل هذه المسألة يساعد في حل مسألة تعتبر من أهم المسائل التاريخية وهي مسألة أصول حركة المعتزلة وطابعها الأصلي (1) 

فقالوا في أصل اطلاق لفظ المعتزلة عدة أقوال، منها: 

أولاً: أنها من الزهد والورع: 

وهذا هو رأي المستشرق (جولد زيهر) حيث يفسر اسم (المعتزلة) بأنه مشتق من الاعتزال، الذي هو بمعنى الزهد والتعبد، ويرى أن نقطة ابتداء المعتزلة وبواعث مصدرهم كانت من التقوى والتعبد (2) 

وأيد رأيه بما يلي: 

1 - ما ورد من تفسير لكلمة (المعتزلة) بمعنى الزهد والتعبد. 

2 - ما روي عن عدد من رجال المعتزلة من زهد وتقشف، حتى روي عن واصل بن عطاء الغزالي أنه لم يقبض في حياته ديناراً أو درهماً. 

ثانياً: أنها من الانفصال والانشقاق: 

وهذا رأي كثير من المستشرقين منهم: (اشتيتر السويسري، وفون هامر الألماني، وفون كريمر النمساوي) وغيرهم كثير، وقد قدم المستشرق (نيللو) في بحثه عن أصل تسمية المعتزلة ثبتاً يحوي عدداً من أسماء المستشرقين الذين قبلوا الرأي الذي يقول بأن كلمة (المعتزلة) تعني (المنشقين والمنفصلين) (3) 

والقائلون بهذا القول من المستشرقين (4) يعودون بالمعتزلة إلى ما قبل واصل بن عطاء، ويعتمدون على بعض النصوص التي تسمي المعتزلة أحياناً بالقدرية (5) ، ويجعلون السبب الرئيس في نشأة المعتزلة، هو اختيار من نوع سياسي (6) ، وأن (المعتزلة) اسم عام لفئة انفصلت عن الجمهور وانشقت عليه، ولكن بمضي الزمن أصبح هذا الاسم في أوائل القرن الثاني للهجرة، علماً على مذهب خاص (7) وأن السبب في اعتزال واصل بن عطاء هو ثورته على المذهب المنكر لحرية الإرادة (8) ، وأن كلمة (المعتزلة) تحمل بين ثناياها طابع الاستنكار، والمعتزل هو المخالف والمنفصل (9) 

 

 

 

 

وهذا الرأي الذي قال به المستشرقون قد أورده عدد من كتاب الفرق في كتبهم كالبغدادي والشهرستاني، وأن كلمة (المعتزلة) لفظ أطلقه أعداؤهم من أهل السنة عليهم للتدليل على أنهم انفصلوا عنهم، وتركوا مشايخهم القدامى، واعتزلوا قول الأمة بأسرها في مرتكب الكبيرة، فهم بهذا الاعتبار اسم يتضمن نوعاً من الذم، واتهاماً واضحاً بالخروج على السنة والجماعة، فالمعتزلي هو المخالف والمنفصل (1) 

ثالثاً: أنها من الوقوف على الحياد: 

وهذا هو رأي المستشرق (نيللو) والمستشرق (دومينيك سورديل الفرنسي) من أن الاعتزال مأخوذ من الحياد، والسبب في ذلك؛ أن المعتزلة قد وقفوا على الحياد بين أهل السنة والجماعة وبين الخوارج. 

لذا فإن مفهوم الاعتزال عندهم هو الوقوف على الحياد في مواجهة الفرق المتنازعة (2) ، بل قال المستشرق (د: جمرت) : أنه قد يطلق على بعض الصحابة الذين وقفوا على الحياد بين علي ومعاوية، كعبدالله بن عمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، إلا أنه ليس هناك أي صلة بينهم وبين حركة الاعتزال التي أسسها واصل بن عطاء (3) 

رابعاً: أن المعتزلة تطور من القدرية: 

وهذا القول متداخل مع القول بأنها مأخوذة من الانفصال والانشقاق، إلا أنه يختلف عنه من خلال كون القائلين به جعلوا القدرية هي أصل المعتزلة ومبدأها، وأن أصول المعتزلة التاريخية تعود إلى معبد الجهني وغيلان الدمشقي، مع قولهم بأنها من الانفصال والانشقاق، وقد قال بهذا من المستشرقين (اشتيتر، فون كريمر، دي بوار الهولندي) (4) 

وهذا فيه موافقه للحقيقة من حيث أصل نشأة المذهب، إلا أنه ليست له علاقة بالتسمية، ذلك أن المعتزلة والقدرية، قد اتفقتا على إنكار القدر والقول بنسبة خلق الأفعال للعباد (5) ، كما أن غيلان الدمشقي ذكره كتاب طبقات المعتزلة ضمن رجال الطبقة الرابعة (6) ، مما يرجح أن أصول مذهب القدر كانت ممهدة لأصول الاعتزال من حيث توافق الأفكار في مسألة القدر. 

 

 

 

 

المطلب الثاني: أسماء المعتزلة 

أولاً: المعتزلة. 

لقد غلب إطلاق اسم (المعتزلة) على هذه المدرسة العقدية، حتى غدا أشهر أسمائها وأعمّها (1) ، ولكن المستشرقين فيه على طرفي نقيض، فغالبية المستشرقين يطلقون عليهم اسم (المعتزلة) (2) ولا خلاف بينهم إلا في أصل التسمية، ويرى المستشرق (هنري كوريان الفرنسي) أن المعتزلة -أنفسهم- كانوا يفخرون بهذا الاسم في كل مراحل تاريخهم، وليس في ذلك ما يدل على أن الاسم يدينهم بشيء (3) ، ولم يطلقه عليهم أهل السنة مضمناً معنى الذم أو السخرية (4) 

بينما المستشرق (نيبرج السويدي) يعترض على هذه التسمية، ويرى أنها غير معقولة ولا وجه لها، وحجته في ذلك أنه قد ورد تسمية هذه المدرسة (بأهل الاعتزال) و (من قال بالاعتزال) فلو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جازت هذه التسمية، كما أن لها عدة نظائر في عرف ذلك الزمان، كالمرجئة يرادفها أهل الإرجاء وهم الذين قالوا بالإرجاء، والرافضة التي يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض. 

ويؤيد اعتراضه ما أورده المسعودي من أن كلمة (اعتزال) في اصطلاح مذهب المعتزلة، هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، أي باعتزال صاحب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين (5) 

ثانياً: القدرية: 

يرى المستشرق (أشتيتر) أن المعتزلة في بدء أمرهم كانوا يسمون (القدرية) ثم لما أظهروا آراء مخالفة في مسائل عديدة، مثل صفات الله، وطبيعة القرآن، والوعد والوعيد بدت هذه التسمية (القدرية) غير كافية للدلالة عليهم، فاستبدلت بتسمية (المعتزلة) (6) 

ويقول المستشرق (فوكوك الإنجليزي) : فإذا سمي المعتزلة باسم القدرية، فذلك للقدرة التي يقولون بوجودها في العباد، فيظهر أن اشتقاق هذا الاسم أتى من إسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم (7) ، واستند في قوله هذا إلى نص ذكره الإيجي في المواقف حيث يقول: "ويلقبون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم" (8) 

 

 

 

 

ولا يوافق المستشرق (نيلو) على تسمية المعتزلة بالقدرية، ويقول: "كيف ولماذا سمي القائلون بحرية الإرادة والاختيار من المسلمين (قدرية) مع أن هذا الاسم يبدو أن معناه العكس تماماً، أي (القائلون بمذهب القدر والجبر) ؟" . 

ثم يقول: "اعتاد المؤلفون العرب أن يجيبوا عن هذا السؤال باشتقاق من قبيل الاشتقاق عن الضد، فيقولون إنهم سموا القدرية، لأنهم أنكروا القدر أو على إنكارهم القدر، ولقد شعر الناس بما بين الاسم والمسمى من تناقض في العصور المتأخرة، حتى قال أحد القدرية: إن من يقول بالقدر خيره وشره من الله، أولى باسم القدرية منها" (1) 

ويذكر المستشرق (لويس غاردية) بأن المعتزلة قد حاولوا التخلص من اسم القدرية، ذلك المصطلح الذي قد أطلق عليهم من غير تحفظ، فتنصلوا منه، حتى قام البعض منهم بتفسير الأصل الاشتقاقي للكلمة تفسيراً مختلفاً واستخدموها للتعبير عن أولئك الذين نادوا بفكرة القدر المطلق (2) 

وبهذا نلاحظ أن المستشرقين لا يرون تسمية المعتزلة بالقدرية ومن يثبت ذلك منهم فإنما يجعله منشأ وتمهيداً للمعتزلة، وليس اسماً لهم، باستثناء المستشرق (فوكوك) الذي يسمي المعتزلة باسم القدرية، ويعلل ذلك للقدرة التي يقولون بوجودها في العباد، وأن اشتقاق هذا الاسم أتى من إسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم (3) 

ثالثاً: أهل العدل والتوحيد. 

يرى المستشرق (دي بوار) أن أخص لقب أطلق على المعتزلة حتى آخر أمرهم، حينما توجه تفكيرهم إلى مباحث تختلط فيها الفلسفة بالكلام، هو أنهم (أهل العدل) القائلون بأن الله لا يصدر عنه شر، وأنه يثيب الإنسان ويعاقبه على حسب عمله، وهم يسمون بعد ذلك (أهل التوحيد) الذين ينكرون أن صفات الله زائدة على ذاته (4) 

أما المستشرق (جولد زيهر) فيرى أنه بسبب اتجاه ميلوهم ونزعاتهم الدينية والفلسفية إلى مسألتي (العدل والتوحيد) فقد سموا أنفسهم (أصحاب العدل والتوحيد) (5) 

وذكر محرروا مادة (المعتزلة) في دائرة المعارف بأنه قد عرف عن المعتزلة بأنهم أهل العدل والتوحيد (6) 

 

 

 

 

رابعاً: الجهمية: 

لا يرى المستشرقون أن اسم الجهمية من أسماء المعتزلة ويقولون إن علماء الحنابلة هم الذين أطلقوا هذا الاسم على المعتزلة. 

يقول المستشرق (مونتغمري وات الأمريكي) : "إن علماء الحنابلة هم الذين أطلقوا اسم (الجهمية) على (المعتزلة) لأنه لم يكن هناك فرقة أو مجموعة تعرف باسم (الجهمية) ، وأنه نتيجة لصراع الأسماء الموجود في ذلك الوقت برزت مادة مثيرة، وجدها مؤلفو الفرق مفيدة في تصنيف آرائهم عن الفرق، مما يجعل الاعتقاد بأن جهماً التاريخي قد اعتنق كل هذه الآراء المنسوبة إلى الجهم، منطوياً على مفارقة تاريخية" (1) 

ويرى المستشرق (بينس الألماني) أن المعتزلة في علاقتهم مع الجهمية، لم يكونوا يعطونهم فقط؛ بل كانوا يأخذون منهم أيضاً (2) 

 

 

 

 

المبحث الثاني: العوامل التي يرى المستشرقون أنها ساعدت وهيأت لظهور المعتزلة 

من العوامل التي يرى المستشرقون أنها ساعدت وهيأت لظهور المعتزلة ما يلي: 

1 - الجدل واللجاج بسبب الخلافات الكلامية بين الفرق الإسلامية: 

حيث سيطرت قضية مرتكب الكبيرة على النقاشات، واشتد النزاع بين أهل السنة والخوارج، فرفض الخوارج حكم أهل السنة، واعترض المرجئة على حكم الخوارج، وتعاظم الخلاف بين الفرق الإسلامية، واحتدم الجدال، وصارت تعقد في مساجد البصرة وغيرها حلقات المناظرة، التي كان من أشهرها حلقة الحسن البصري الذي حاول أن يحل المشكلة بقوله: إن مرتكب الكبيرة المسلم (منافق) (1) 

وفي هذا الجو الوقت ظهرت المعتزلة لتضع حلولاً تحسب أنها سترضي الجميع، وتحوز قبولهم، وتصلح ذات بينهم (2) مستخدمة في ذلك الجدل والمناظرات الكلامية. 

وهذا العامل من عوامل الظهور لفرقة المعتزلة، قد أورده عدد من المستشرقين منهم (نيللو (3) ، مونتجمري وات (4) ، غردية وقنواتي (5) ، هاملتون الإنجليزي (6) حيث يرون أن المعتزلة قد وقفوا على الحياد بين أهل السنة والجماعة وبين الخوارج، على يد واصل بن عطاء وشكلوا حزباً ثالثاً، فقالوا بالمنزلة بين المنزلتين (7) 

2 - التيارات الدينية غير الإسلامية: 

يرى المستشرق (هنري كوربان) أن التيارات الدينية غير الإسلامية قد ساهمت في تبلور الفكر المعتزلي، من خلال تفاعلهم وموقفهم العام من الجماعات غير المسلمة التي تكونت داخل المجتمع الإسلامي، كالإثنينية (8) ، والمزدكية (9) ، واليهودية، ويستدلون على ذلك بما ذكره صاحب الأغاني من أن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، كانا يحضران في بيت أحد الأزديين مجالس يدافع فيها الحاضرون عن العقيدة الثنوية، وأن بعض آراء المعتزلة كالقول بالتوحيد وخلق القرآن إنما كانت ردة فعل لتثليث النصارى وتجسيد الإله (10) 

 

 

 

 

3 - دراسة الفلسفة اليونانية بزعم الدفاع عن الدين الإسلامي. 

لقد ساهمت الفلسفة اليونانية في نمو الفكر الاعتزالي وتطوره، حيث استخدمت المعتزلة الفلسفة لتكوين عقيدة الألوهية (1) ومن ثم تدرجت في الأخذ بمنهاج فلاسفة اليونان، والبحث في الصفات الإلهية (2) فدرس رجال المعتزلة الفلسفة، وتأثروا بها كثيراً نظراً لاعتمادها على العقل، وقد أشار لذلك المستشرقون كما جاء في دائرة المعارف، حيث نصت على أن المعتزلة كانوا أكثر الفرق اتصالاً بالفلسفة اليونانية، وأكثرهم إفادة منها؛ اضطرهم لذلك ما انتدبوا أنفسهم له من الحجاج عن الدين وعقائده، والرد على المخالفين من أصحاب الملل الأخرى (3) 

يقول فون كريمر: إن المعتزلة في نشأتهم تأثروا باللاهوت اليوناني، وعلى الأخص تأثروا بيحيى الدمشقي وتلميذه تيو دور أبي قرة (4) 

ويرى شتيتر أن الاعتزال في آخر تطوراته قد تأثر كثيراً بالفلسفة اليونانية (5) 

بل يرى هاملتون أن المعتزلة كانوا يصبون عقائدهم في قوالب الأفكار اليونانية، ويستوحون تأملاتهم الدينية من الميتافيزيقيا - ما وراء الطبيعة- اليونانية بدلاً من القرآن (6) ، وهذا غير مقبول، فالمعتزلة مسلمون تأثروا باليونان وليسوا يونانيين تأثروا بالإسلام. 

 

 

 

 

المبحث الثالث: أعلام المعتزلة 

 

تمهيد

 

يقرر المستشرقان (لويس غاردية وجورج قنواتي) بأن المعتزلة فرق كثيرة تحتلف في بعض التفاصيل والجزئيات، وأنه لم يقع إجماع على مذهب واحد في حقائق العقيدة كلها بين أئمة المعتزلة (1) إلا أنه تجمعها خمسة أصول، هي (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول الخمسة (2) 

ويرى المستشرق (فنسنك الهولندي) بأن المذهب الاعتزالي قد انقسم إلى طائفتين، معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، دون أن يعني ذلك انتماءً جغرافياً حقاً، بل اصطلاحياً، والمعتزلة ينقسمون إلى معتزلة متقدمون ومعتزلة متأخرون، وبهذا تنقسم المعتزلة إلى أربع فرق كلامية (3) 

ويذكر المستشرقان (لويس غاردية وجورج قنواتي) بعض أعلام المعتزلة، فيذكر أن من معتزلة البصرة (العلاف، النظام، الجاحظ) ومن معتزلة بغداد (بشر بن المعتمر، أبو موسى المردار، ثمامة بن الأشرس، أحمد بن أبي داؤد) وأنهم جميعاً كانوا مندفعين بروح واحدة، ويؤكدان بأن المؤرخين والمصنفين في الفرق لم يخطئوا إذ ردوا إلى الأصول الخمسة كل ما كان يميز هؤلاء العلماء (4) 

ومن النقاط التي يذكرها المستشرقون عن أعلام المعتزلة: 

 

أ- مؤسس مذهب المعتزلة

 

يقرر المستشرق (فنسنك) بأن مؤسس المعتزلة هو واصل بن عطا - أبو حذيفة - الغزال (5) ، وأنه رأس فرقة المعتزلة وأنه ولد سنة ثمانين للهجرة وتوفي سنة مائة وإحدى وثلاثين للهجرة، وهو شيخ المعتزلة وقديمها (6) 

ويعده المستشرق (جولد زيهر) بأنه هو وعمرو بن عبيد مؤسسي مذهب المعتزلة (7) والذين ارتبط بهما اسم (المعتزلة السياسية) (8) 

 

 

 

 

 

ب- ادعاء أن هناك تجنياً على مذهب أبي الهذيل العلاف

 

يرى المستشرق (نيبرج) بأن مذهب أبي الهذيل العلاف قد تعرض لتجنٍ من قبل مؤرخي الفرق، حيث إن مذهبه في الكلام قد تعرض لحقد مرتدٍ عن الاعتزال - حسب قولهم - وهو (ابن الرواندي) المشهور، الذي شوه هذا المذهب في كتابه (فضيحة المعتزلة) وذلك بنقده في كثير من الأحيان نقداً رخيصاً غاية في الرخص (1) ، وأن عبدالقاهر البغدادي قد نقل هذا التشويه على علاته في كتابه (الفَرْق بين الفِرَق) وهو يتردد كثيراً في المختصرات التي كتبت عن المعتزلة (2) 

ولا يمكن كشف القناع عن فعلة ابن الراوندي، والخروج بفكرة دقيقة عن مقاصد أبي الهذيل الحقيقية إلا من خلال كتاب (الانتصار) للخياط، الذي سل فيه سيف النقد الصارم على ابن الراوندي (3) 

وينثي على الأشعري فيقول: إنه قد نقل في كتابه (مقالات الإسلاميين) أقوال أبي الهذيل العلاف في حيدة جديرة بالإعجاب، وفقاً للمأثور من مذهب المعتزلة (4) 

 

ج- نظرتهم لبعض رجال المعتزلة

 

يشكك المستشرق (لويس غاردية) في أن يكون (ضرار بن عمرو، والحسين بن محمد النجار، ومحمد بن برغوث) من المعتزلة، ويقولون: إنهم يعتبرون من (المثبتة أو أهل الإثبات) الذين من غير الميسور البتة تعريفهم بدقة، ويضيف بأنهم قد لقوا معارضة شديدة من جانب العديد من أشياع مذهب البصرة (5) ويصرح المستشرق (بينس) بأن: ضرار بن عمرو، ليس من رجال المعتزلة (6) 

كما يتردد المستشرق (جولد زيهر) في جعل النظام من رجال المعتزلة فيقول إنه أبعد المعتزلة تطرفاً واستقلالاً في الرأي وأقربهم إلى الفلسفة (7) ، وأنه يُعد من أكثر رؤوس المعتزلة انطلاقاً دون زمام (8) . ويصفه المستشرق (بينس) بأنه يكسوا ما يأخذه بلباس الاعتزال (9) 

ولعل المستشرقين في إطلاقهم هذا القول يريدون إيهام الناس بأن مذاهب هؤلاء القوم هي مذاهب أهل الإثبات. 

 

 

 

 

د- دعوى فقدان معظم كتبهم. 

تقول المستشرقة (سوسنة ديفلد) : إن مصنفات المعتزلة قد ضاع أكثرها، لذا يضطر الباحث إلى استنباط مقالاتهم من كتب المجادلة والرد عليهم، ومن الكتب التي ألفها علماء السنة في مقالات الفرق الإسلامية (1) ، ويذكر المستشرق (شارل بلا الفرنسي) بأنه لا يمكن معرفة المذهب بدقة بسبب هذا الفقدان وانعدام الكتب - الذي كان عن قصد حين انتصر مذهب السنة آخر الأمر على مذهب المعتزلة- (2) 

ويذهب المستشرق (بينس) إلى القول بأنه قد كان لدى المعتزلة مجموعة أفكار فلسفية لا تتصل بالدين، وقد غيروها لتلائم ما قصدوا إليه من الدفاع عن أنفسهم والانتصار لمذهبهم، ثم جاء خصومهم فاستغلوا طريقة الإلزام في الرد على هذه المذاهب حين استخرجوا منها صوراً متطرفة باطلة (3) 

والسؤال الذي ينبغي أن يطرح: ما الكتب التي فقدت؟ وهل ما كان فيها يختلف عما ذكره أهل العلم الثقات عن مذهب المعتزلة؟ فمؤرخوا الفرق الإسلاميين أقرب عهداً لأصحاب الفرق من المستشرقين، فليس من المنهجية العلمية ولا من الناحية العقلية أن أُخطّئ الذي عاصر بعض أصحاب تلك المقالات، وأصوب المستشرق الذي نظر في الكتب بعد قرون مرت على وفاة أصحاب تلك المقالات. 

هـ- الثناء على أعلام المعتزلة. 

يبالغ المستشرقون في الثناء على أعلام المعتزلة بشكل مفرط فيه، فيقول المستشرق (جولد زيهر) : إن واصل بن عطاء مؤسس المذهب الاعتزالي، جعلته السير زاهداً من الزهاد أمكن أن يقال في رثائه (إنه لم يقبض في حياته ديناراً أو درهماً) (4) ، وأن عمرو بن عبيد من الزهاد، وقد كان يمضي ليالي في الصلاة، وحج مكة أربعين حجة ماشياً، وكان يظهر دائماً كاسف البال، حزيناً مهموماً، كمن عاد من دفن نفر من أقربائه (5) . وأن ما وصل من آثار تدل على ورعه وزهده لا يدل على نزعة للمذاهب العقلية (6) 

ويقول (نيبرج) عن أبي الهذيل العلاف بأنه: هو فيلسوف الاعتزال والمنظر له، وهو أول من خاض المناظرات التي قامت في عصره، وكان مستعداً لذلك استعداداً فائقاً بفضل عقله الفلسفي ورجاحة تفكيره وفصاحته، حتى أصبح المدافع عن الإسلام ضد الأديان الأخرى، وضد التيارات الفكرية الكبيرة للعصر السابق (7) ويصفه (د. جمرت) بأنه قد اشتهر بحسن الجدل والمناظرة (8) 

وهذا الثناء المبالغ فيه على رجال المعتزلة ملاحظ بشكل بارز لدى المستشرقين، حيث إنهم يركزون على إبراز الجوانب التي يمكن حملها على النواحي الإيجابية والثناء بشكل مستمر على رجال المعتزلة، وتلمس الأعذار لهم، وكل هذا للتلبيس على الناس، وإظهارهم بصورة حسنة أمام الناس، وأن من اتصفوا بهذه الصفات لا يمكن أن تصدر منهم أقوال بحسب ما يذكره عنهم أهل السنة، مما يؤدي إلى الشك في مصداقية أهل السنة عند نقدهم للآخرين وبيان أفكارهم. 

 

 

 

 

الفصل الثاني: موقف المستشرقين من مصادر التلقي عند المعتزلة 

وفيه ثلاثة مباحث: 

المبحث الأول: القرآن الكريم 

المبحث الثاني: السنة النبوية. 

المبحث الثالث: العقل. 

 

المبحث الأول: القرآن الكريم 

 

موقف المعتزلة من القرآن الكريم

 

من منهج المعتزلة في الاستدلال تقديم العقل على النقل، ويقولون بوجوب تأويل ظاهر النص بما يتفق مع معطيات العقل وحججه، حيث اعتبروا أن هناك ثلاث حجج احتج بها المعبود على العباد، وهي: العقل، والكتاب، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العباد، والعقل أصل الحجتين الأخيرتين لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما (1) ، فجعلوا بذلك العقل حاكما على الكتاب والسنة، فما وافق العقل عندهم قُبِل، وما خالفه رد. وسيأتي الكلام على العقل في المبحث الثالث من هذا الفصل. 

موقف المستشرقين من القرآن الكريم 

يؤمن المسلمون جميعًا إيماناً مطلقاً ويقرون إقراراً تاماً بأن مصدر القرآن الكريم هو الله سبحانه وتعالى، وأنه نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أثناء مدة بعثته، وأنه خاتم الأنبياء. 

إلا أن المستشرقين يتهمون الإسلام بأن شرائعه قد تأسست من شرائع الأديان السابقة له (2) ، فهذا المستشرق (ج. د. بيروسون) لا يؤمن بالمصدر الإلهي للقرآن الكريم ويجتهد في بيان أن هناك عدداً من المصادر، أثرت على النبي صلى الله عليه وسلم وكونت لديه مادة القرآن الكريم، والحجة في ذلك عنده: أن تحليل النص القرآني يُظهر تعقيداً شديداً لمسألة ارتباط القرآن الكريم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لا توجد أي إشارة إلى مصدر الوحي أو صيغة المتكلم وبالذات في السور المكية (3) مما يجعلهم يقدحون في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ إثبات المصدر الإلهي للقرآن الكريم يرتبط ارتباطاً جذرياً بإقرار النبوة، وإنكار النبوة يفضي إلى القول ببشرية القرآن الكريم، وهو ما يسعى إليه المستشرقون (4) 

ويتهم المستشرق (جولد زيهر) الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خلال النصف الأول من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتصال بأوساط استقى منها أفكاراً أخذ يجترّها في قرارة نفسه وهو منطوٍ في تأملاته 

 

 

 

 

أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأملات المجردة والتي يلمح فيها أثر حالته المرضية، نراه ينساق ضد العقلية الدينية والأخلاقية لقومه الأقربين والأبعدين، فأخذ يشكوا من اضطهاد الفقراء، وطمع الأغنياء، وسوء المعاملة، وعدم المبالاة بالصالح العام وواجبات الحياة الإنسانية والأشياء الفاضلة الباقية التي تقابل هذه الحياة الدنيا الزائلة ومتاعها فتملكه شعور يدعوه بقوة تزداد شيئاً فشيئاً ليذهب إلى قومه منذراً إياهم بما يؤدي بهم إلى الخسران المبين، وبكلمة واحدة أحس بقوة لا يستطيع لها مقاومة، تدفعه لأن يكون مربياً لشعبه (1) ، ثم يؤكد هذا المستشرق بأن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور اليوم الآخر ليس إلا مجموعة موارد استقاها من الخارج يقيناً، وأنه قد استفاد من العهد القديم على وجه التحديد في مسائل قصص النبيين، ليُذكّر على سبيل الإنذار والتمثيل، بمصير الأمم السالفة الذين سخروا من رسلهم (2) 

ويرى المستشرق (مونتغمري وات) أن السور القرآنية الأولى التي تتحدث عن الوحدانية تضع القرآن في مرتبة الوحدانية اليهودية النصرانية نظراً لمفاهيمه عن الله الخالق، ويوم البعث والحساب، أما السور القرآنية الأخيرة فإنها تقترب كثيراً من التعاليم الإنجيلية القديم منها والحديث، وفي نفس الوقت ينفي معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة والقراءة، خلافاً لغيره من المستشرقين، كما ينفي الاطلاع المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم على الكتب المقدسة لليهود ووالنصارى، إلا أنه لا يستبعد وصول تعاليمها إليه شفاهاً. 

وزعم المستشرق (كليمان هوار الفرنسي) أنه قد اكتشف مصدراً جديداً للقرآن الكريم، وهو شعر أمية بن أبي الصلت الجاهلي، وحجته هي التشابه الكبير بينهما في الوحدانية ووصف الآخرة وقصص أنبياء العرب القدماء، ثم زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعان بذلك الشعر في نظم القرآن، وأن هذه الاستعانة حملت المسلمين على مقاومة شعر أمية ومحوه ليستأثر القرآن بالجدة وليصبح النبي صلى الله عليه وسلم هو المنفرد بتلقي الوحي من السماء (3) ، وقد أورد بعض المستشرقين أبياتاً لامرئ القيس فيها ذكر (دنت الساعة وانشق القمر) كدليل على أن شعر أمية وامرئ القيس يشكلان مصدراً من مصادر القرآن (4) 

 

 

 

 

المبحث الثاني: السنة النبوية 

السنة الصحيحة هي المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم، ومنزلتها منه أنها مبينة وشارحة له: تفصل مجمله، وتوضح مشكله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتبسط ما فيه من إيجاز (1) ، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (2) ، وهي بهذه الصفة لها حجيتها ويجب العمل بمقتضاها. 

ولتأكُّد المستشرقين من أن هذا المصدر، هو المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، فإنهم ما فتئوا يثيرون الشكوك والشبهات حوله، ليقينهم بأنهم لن يصلوا إلى مقصودهم إلا إذا هُدم هذا المصدر، لأن أي طعن في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، سيكون طعناً في الإسلام، وهدماً للكيان الإسلامي عقيدة وعملاً. 

ولقد نال رضاهم المنهج المعظم للعقل - على حساب الكتاب والسنة - الذي انتهجه المعتزلة (3) فأشادوا بالمعتزلة، وبمواقفهم من القرآن والسنة وأطلقوا عليهم اسم المفكرين الأحرار في الإسلام، ودعاة الحرية الفكرية والاستنارة، ووصفهم المستشرق (جولد زيهر) بأنهم وسعوا معين المعرفة الدينية، بأن أدخلوا فيها عنصراً مهماً آخر، وهو العقل الذي كان حتى ذلك الحين مبعداً بشدة عن هذه الناحية (4) 

 

السنة عند المعتزلة

 

لقد ذهب المعتزلة في تقدير العقل بعيداً، فقالوا: إذا تعارض النقل والعقل وجب تقديم العقل لأنه أساس النقل، وكان موقفهم من الأحاديث موقف المتشكك في صحة الحديث، وأحياناً موقف المنكر له أو المؤول له، لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل (5) 

وقالوا: إن خبر الواحد لا يؤخذ به في أصول العلم (6) ، وذموا تعلم الحديث وحذروا من تعلمه، وقللوا من فائدته والاستدلال به، ونصوا على أنه لا حاجة إليه، إذ العقول تغني عنه والأذهان تكتفي بغيره (7) 

 

 

 

 

 

مفهوم السنة عند المستشرقين

 

يرى المستشرق (جولد زيهر) أن كلمة (السنة) مصطلح وثني في أصله، وأن الإسلام تبناه واقتبسبه (1) 

ويرى المستشرق (شاخت الألماني) بأن السنة هي المثل في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول بأن الشافعي كان يستعملها بهذا المعنى (2) 

وتعرفها دائرة المعارف بأنها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، ويطلقون عليها (التقليد المحمدي) (3) 

ويرى المستشرق (مارغليوث) أن مفهوم السنة كمصدر للتشريع كان في بداية الأمر بمعنى الأمر المثالي في المجتمع، وانحصر مفهومه في الفترة المتأخرة فقط في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم (4) ، وله مفهوم خاص في معنى كلمة (السنة) ، حيث يرى أن كلمة (السنة) قد استعملت في معان عديدة منها، واستدل على المعاني التي ذكرها باستخدمات الناس لهذه الكلمة في فترات مختلفة من خلال نصوص أوردها لاستخدامات كلمة (السنة) من خلال تاريخ الطبري. 

وكل هذه النصوص التي جاء بها المستشرق (مارغليوث) أراد بها التأكيد على أن معنى كلمة (السنة) التي هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي لم يكن محدداً وواضح المعنى وأن كل ما يمكن الوصول له هو أن السنة هي ما كان عرفاً معمولاً به في البيئة. 

 

 

 

 

 

موقف المستشرقين من السنة

 

أولاً: موقفهم من الإسناد: 

أورد المستشرقون عدداً من الشبه حول السنة، بغية الطعن فيها وإسقاطها، وإقناع المسلمين بعدم جدواها. وأول محاولة لها أهميتها: هي ما قام به المستشرق (جولد زيهر) الذي نشر نتيجة بحثه سنة 1890 م بعنوان (دراسات إسلامية) باللغة الألمانية، وأصبح كتابه في دائرة الاستشراق، منذ ذلك الوقت حتى الآن (إنجيلاً مقدساً) يهتدي به الباحثون (1) 

فمن المستشرقين من شكك في بدايات الإسناد فقد زعم المستشرق (كايتاني الإيطالي) في حولياته "أن الأسانيد أضيفت إلى المتون فيما بعد بتأثير خارجي؛ لأن العرب لا يعرفون الإسناد، وأن أقدم من قام بجمع الأحاديث - وهو عروة بن الزبير المتوفى سنة (94 هـ) لم يكن يستعمل الأسانيد، ولم يكن يذكر المصدر لكلامه غير القرآن الكريم 

لذا هو يعتقد أن الأسانيد لم تكن معروفة إلى عهد عبدالملك بن مروان - أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ستين سنة- وأن عروة لم يستعمل الإسناد مطلقاً، وابن إسحاق استعملها بصورة ليست كاملة، ممايدل على أن الجزء الأعظم من الأسانيد الموجودة في كتب السنة لابد أنه قد اختلقها المحدثون في القرن الثاني والثالث الهجريين (2) 

وقد درس مسألة الإسناد المستشرق (هوروفنس) ورد على (كايتاني وشبر نجر) رداً قوياً مفحماً، وأشار في بحثه إلى أن الذين نفوا استنعمال عروة للإسناد لم يدرسوا كتاباته وأسانيده كاملة. 

ثم أشار إلى أن هناك فرقاً بين أسلوب الكتابة، عندما يكتب الباحث رداً على استفسار وبيّنة وعندما يكتب لزمرة من المثقفين. ثم توصل أخيراً إلى نتيجة مفادها: أن بداية الإسناد في الأحاديث تذهب إلى الثلث الثالث من القرن الأول الهجري (3) ، إلا أنه ظل متحفظاً بالنسبة فيما يتعلق بمعرفة عروة للإسناد، ويقول: إنها لا تزال موضع نزاع وجدل (4) 

 

 

 

 

وكلا النتيجتين اللتين توصل لهما سواء قوله بأن بداية الإسناد في الأحاديث تذهب إلى الثلث الثالث من القرن الأول الهجري، أم قوله بأن معرفة عروة بالأسانيد لا تزال موضع نزاع وجدل، فكلاهما خاطئتان، إذ أن السند كان موجوداً مع بداية الرواية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والعهود التي تلته (1) 

أما المستشرق (شاخت) فقد اجرى دراسة على الأحاديث الفقهية وتطورها - على حد زعمه- على كتابي "الموطأ" لمالك، و "الأم" للشافعي، وعمم نتائج دراسته على كتب الحديث الأخرى، ثم خلص إلى أن السند جزء اعتباطي في الأحاديث، وأن الأسانيد بدأت بشكل بدائي، حتى وصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وأنها كانت لا تجد عناية واهتماماً، ولذا فإن أي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين كان يختار تلك الشخصيات فيضعها في الإسناد (2) 

ثانياً: موقفهم من المتن. 

على الرغم من وضوح المنهج الذي سلكه المحدثون لحفظ السنة وضمان صيانتها عن العبث والتحريف، والافتراء والدس؛ إلا أن المستشرقين ما فتئوا من إثارة بعض الشبهات حول منهج النقد عند المحدثين، وادعوا بأن المحدثين عولوا في نقدهم للأحاديث على الأسانيد فقط، مغفلين تماماً النظر إلى المتون والألفاظ، وبالتالي انصبت جهودهم في هذا المجال على الجانب الشكلي السطحي أو ما أطلقوا عليه النقد الخارجي، ويعنون به نقد السند على حين غفلوا أو تغافلوا عن المضمون والمقصود أصالة من الحديث، وهو ما أطلقوا عليه النقد الداخلي، ويعنون به نقد المتون والألفاظ، الأمر الذي نتج عنه تصحيح كثير من المتون التي حقها النقد والرد بسبب هذا المنهج الذي اعتمده المحدثون (3) 

وفي هذا يقول المستشرق (جولد زيهر) : "في النقد الإسلامي للسنة تهيمن النزعة الشكلية في القاعدة التي انطلق منها هذا العلم، والعوامل الشكلية هي بصورة خاصة العوامل الحاسمة للحكم على استقامة وأصالة الحديث، أو كما يقول المسلمون: على صحة الحديث وتختبر الأحاديث بحسب شكلها الخارجي فقط" (4) 

 

 

 

 

المبحث الثالث: العقل 

 

موقف المعتزلة من العقل

 

العقل عند المعتزلة هو تلك الحاسة اللطيفة الجوهر التي تميز الإنسان من الحيوان، وهو: عبارة عن جملة من العلوم المخصوصة - يقصد بها العلوم الضرورية - متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بما كلف به، ولابد من اجتماع هذه العلوم حتى يسمى عقلاً أما إذا تفرقت عن بعضها فهي ليست كذلك (1) 

لذا فقد أقبل المعتزلة على فلسفة اليونان يستلهمونها، وأعلام اليونان يترسمون خطاهم وينسجون على منوالهم، وعلى كتب اليونان يتفهمونها ويعضمونها (2) ، فسلكوا المنهج العقلي، بل عولوا على العقل أكثر مما عولوا على القرآن والسنة (3) 

بل جعلوا الأدلة العقلية مقدمة على الأدلة الشرعية فكذبوا ما لا يوافق العقل من الحديث وإن صح (4) ، وأولوا ما لا يوافقه من الآيات وإن صحت (5) 

وقالوا بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح ولو لم يرد بهما شرع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح (6) 

 

موقف المستشرق من العقل

 

ينظر المستشرق (هاملتون جب) للعقل على أنه أساس التطور لعلم الكلام السني - حسب زعمه-، وسبب اعتدال ميزان الخيال الحدسي وانضباطه بالفهم العقلي للكون بالشكل الذي أدى إلى تصالح الإسلام مع المنهج العلمي والأساليب العلمية في التفكير، مما صبغ الفكر في شؤون الدين بصبغة عقلية (7) ، ويرى المستشرقان (لويس غاردية) و (جورج قنواتي) بأن العقل ما زال مقياس العلم الديني ومحكه (8) ، ويؤكد (جولد زيهر) بأنه مبدأ أساس من مبادئ مذهب الاعتزال الديني، من حيث كونه مصدر المعارف الدينية والمعيار الذي توزن به الحقيقة الدينية، وقد أدخلته المعتزلة أول الأمر للنظر الديني الإسلامي، ومن ثم اضطر لمراعاته أهل التوفيق من الأشاعرة (9) 

 

 

 

 

ويرى أيضا، بأن المعتزلة قد انقادوا في أنظارهم إلى مجرد العقل، حتى أنهم جعلوا الأنبياء أنفسهم يقيمون الحجة على صدق رسالتهم الإلهية، بأنهم أرسلوا من الله للنظر في أدلة العقل والاستدلال (1) 

وأثنى عليهم فقال: إن للمعتزلة فضلاً غير منقوص، حيث كانوا من الأوائل الذين وسعوا معين المعرفة الدينية، بأن أدخلوا فيها عنصراً آخر وهو العقل (2) 

وقال: إن أشرف انتفاع يستفيده المعتزلة من اشتراطهم فيما يتصل بتفسير الكتاب مطابقة العقل في الحقائق الدينية: هو محاربتهم للتصورات الخرافية المناقضة للطبيعة التي رسخت قدمها في الدين (3) 

ويذهب المستشرق (لويس غاردية) إلى أنه مع الاختلافات العقائدية الطفيفة - والتي لها وجاهتها في بعض الأحيان، حسب نظرتهم - فقد فُرقت المعتزلة، إلا أنهم قد كانوا جميعاً ينهلون من ذات معين الإلهام الواحد وهو (احترام العقل) في مجال الدفاع عن العقائد الدينية، والاهتمام بتنزيه الذات الإلهية عن كل صور التعددية والتجسيد والرغبة في التأكيد على الكمال المطلق للذات الإلهية (4) ، حيث يذهبون مذهباً ديناً أراد أن ينفي عن الصورة التي حملها المؤمن في قرارة نفسه للألوهية، وحقيقتها وتدبيرها كل ما يتجافى عن العقل ويتنزل على نحو لا يليق إلى دائرة الماديات وكذلك كل اختيار يتنافى مع مقتضيات الحكمة والعدل (5) ، مما جعلهم يعتمدون على العقل مرجعاً وحيداً، ويتأولون آيات القرآن الكريم بما يتفق مع منهجهم العقلي الذي قام على الأسس التالية: 

1 - القرآن مخلوق. 

2 - الإنسان حر الإرادة والفعل، والشر من صنعه وحده (6) 

وفيما يتعلق بأمور الآخرة فإن بعضها تُفلت من التعليلات العقلية، ولكن المعتزلة حاولوا جهد المستطاع أن يجعلوها عقلية (7) 

 

 

 

الفصل الثالث: موقف المستشرقين من أصول المعتزلة 

وفيه خمسة مباحث: 

المبحث الأول: التوحيد. 

المبحث الثاني: العدل. 

المبحث الثالث: الوعد والوعيد. 

المبحث الرابع: المنزلة بين المنزلتين. 

المبحث الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

 

المبحث الأول: التوحيد 

يرتكز الاعتزال على أصول خمسة هي - بحسب أهميتها في الترتيب-: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبـ "التوحيد" : يتحدد موقف المعتزلة من الله والعالم، وبـ "العدل" : يتحدد موقفهم من الإنسان وحريته، ويمثل التوحيد والعدل الركنين الأساسين اللذين تتفرع عنهما بقية الأصول، إذ ينطوي "الوعد والوعيد" ، على موقف المعتزلة من مصير الإنسان في الأخرة، ويتحدد في "المنزلة بين المنزلتين" ، موقف المعتزلة من الإنسان العاصي في الدنيا، في حين يحدد "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" موقفهم من القضية السياسية والتعامل مع الأئمة وولاة الأمور (1) 

وقد أجمعت فرق المعتزلة على أن هذه الأصول الخمسة، وعدَّت من خالفهم فيها ليس منهم، ومن وافقهم فهو منهم، وأكدت بأنه لا يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول الخمسة (2) التي تدو حول عقائدهم وقضاياهم. 

 

التوحيد عند المعتزلة

 

يعتبر التوحيد الأصل الأول من أصول المعتزلة الخمسة، ويقصدون به نفي صفات الله تعالى وأفعاله من خلال استدلالهم العقلي على وجود الله سبحانه وتعالى، وأداهم ذلك إلى إثبات خلق القرآن، وإلى عدم رؤية المؤمنين لله سبحانه يوم القيامة، وإلى نفي استواء الله على عرشه من فوق سماواته كما أخبر في كتابه الكريم (3) 

 

موقف المستشرقين من التوحيد عند المعتزلة

 

يرى المستشرق (مكدونالد) بأن علم التوحيد والصفات مرادف لعلم الكلام وأنه أساس عقائد الإسلام، وقد أخرج منه المعتزلة الصفات، وجعلوا الأساس هو التوحيد فقط (4) فصدَّروا مذهبهم بالقول بالتوحيد (5) 

 

 

 

 

وجاء في دائرة المعارف أن رأي المعتزلة في مسألة التوحيد يقوم على الاستمساك بآيات التنزيه وتأويل الآيات المتشابهة تأويلاً يتفق والتنزيه والتوحيد الذين جاء بهما الإسلام (1) ، وخير ما يمثل شرح المعتزلة للتوحيد هو ما حكاه عنهم الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين (2) وأن سبب مغالات المعتزلة في فهم تنزيه الله عن سمات المخلوقين حذراً من تعدد القديم (3) 

وهم في تقريرهم للتوحيد عند المعتزلة يعتمدون على ما ذكره الأشعري في مقالاته عن المعتزلة حيث قال: "أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسّة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق .. إلى آخر ما ذكره عنهم (4) . وجميع ذلك صفات سلبية يرون أنه بها يسلم للمعتزلة أصلهم الأول الذي هو التوحيد (5) ، وهذا خلاف منهج السلف الصالح في إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به سبحانه. 

وفي هذا يوافق المستشرقون المعتزلة تماماً على منهجهم في طريقة إثبات الصفات، ويرون أن من خلاله يسلم لهم التوحيد. 

وقد أغفل المستشرقون قول الأشعري في نهاية كلامه عن المعتزلة، حيث قال: وإن كانوا للجملة التي يظهرونها ناقضين ولها تاركين (6) ، وفي هذا خلل منهجي، فقد أشعروا القارئ بأن أبا الحسن الأشعري يوافق المعتزلة رأيهم في التوحيد، وأنه خير من شرح التوحيد عند المعتزلة، بينما ختم قوله بأن المعتزلة لم يقيدوا بما أظهروه من جمل عن حقيقة التوحيد عندهم. 

ويرى المستشرق (هنري كوريان) أن التوحيد عند المعتزلة: هو المبدأ الأساسي في الإسلام، وأنه ليس من عنديات المعتزلة ولا من استنباطاتهم، ولكنهم تميزوا به دون غيرهم بالتفسيرات التي أعطوها بشأنه وبما طبقوه من هذه التفسيرات على ميادين أخرى من ميادين الإلهيات (7) 

وبهذا يكون موقف المستشرقين من التوحيد عند المعتزلة هو نفس موقف المعتزلة تماماً. 

 

 

 

 

المبحث الثاني: العدل 

والمراد بالعدل عند المعتزلة هو أن أفعال الله تعالى كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه، وأنه لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يظهر المعجزة على الكذابين، ولا يكلف العباد ما لا يطيقونه ولا يعلمون، بل يقدرهم على ما كلفهم ويعلمهم صفة ما كلفهم، ويدلهم على ذلك، ويبين لهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة (1) 

ويتعلق العدل عند المعتزلة بأفعال الباري - عز وجل من حيث صلتها بالإنسان، وأن تلك الصلة يجب أن يسودها من جانب الله - عز وجل - حسب رأيهم - العدل المطلق (2) 

 

مظاهر العدل عند المعتزلة

 

منها: 

1 - أن الله لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه، وأفعاله كلها محكمة (3) 

2 - أن الله لطيف بعباده: واللطف الإلهي عرفه القاضي عبدالجبار بقوله: هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب: إما إلى اختيار الواجب أو إلى ترك القبيح (4) . ومعنى هذا أن العبد المكلف أمامه واجبات عليه أن يؤديها، وقبائح يجب عليه اجتنابها، فيجب على الله أن يفعل ما به يكون العبد أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية، من غير أن يضطره هذا الفعل إلى عمل الطاعة، أو اجتناب المعصية (5) ، ويرى أكثر المعتزلة أن اللطف واجب على الله (6) 

3 - الإنسان حر فيما يفعل. 

 

 

 

 

 

موقف المستشرقين من مفهوم العدل عند المعتزلة

 

الحرية الإنسانية وخلق الأفعال: 

يذهب المستشرقان (جولد زيهر) و (نيبرج) إلى القول بأن المعتزلة قد قاموا بعمل تنقية للدين الإسلامي، موجهة إلى مسألتين هما العدل والتوحيد. وقد كانت المسائل الخاصة بالعدل هي الأولى، وهي تتصل مباشرة بنظريات القدر، وأن الإنسان له حرية غير محدودة في اختيار جميع أفعاله، وأنه وحده خالق هذه الأفعال، وإلا كان الله غير عادل يجعل العبد مسؤولاً عما يفعل وهو مجبر غير حر فيما يفعل (1) 

ويعرف المستشرق (لويس غاردية) العدل بأنه: هو أن الله يؤتي أفعاله عن قصد، والأشياء بطبيعتها تتضمن الخير والشر، لكن الله لا يشاء إلا الخير، وهو قد تكفل بإيتاء الأصلح، من ثم فهو لا يشاء الشر ولا يأمر به، أما الإنسان فهو مالك تصرفاته بما أودعه فيه الله من قدرة ومسؤولية عما يفعل، والله تكفل بمثوبته أو عقابه بناء على ذلك (2) 

وذهب المستشرق (هنري كوربان) إلى القول بأن العدل عند المعتزلة يتعرض للمسؤولية وحرية الاختيار عند الإنسان، وأن مبدأ العدل الإلهي يوجب القول بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، أوبعبارة أخرى أن حرية الإنسان ومسؤوليته تنجمان عن مبدأ العدل الإلهي نفسه، وإلا فإن فكرة العقاب والثواب في الآخرة تصبح مجردة من كل معنى، إضافة إلى انعدام الثقة بالعدل الإلهي (3) 

ويقول (هنري كوربان) إن المعتزلة على الرغم من تأكيدهم على حرية الإنسان فإنهم ينادون بأن ذلك لا ينجم عما لديهم من فكرة عن العدل الإلهي فحسب بل هو يتفق تمام الاتفاق مع ما جاء في القرآن الكريم نفسه، حيث أكد القرآن الكريم حرفياً بأن كل نفس مسؤولة عما تأتيه من أفعال { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } (4) 

 

 

 

 

ويتضح في موقف المستشرقين من مبدأ العدل عند المعتزلة أنهم يذهبون إلى القول بالحرية الإنسانية، وأن الإنسان له حرية مطلقة في اختيار جميع أفعاله، وأنه هو وحده خالق أفعاله، والمسؤول عنها، لأن مبدأ العدل الإلهي يوجب القول بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله وإلا تجردت فكرة الثواب والعقاب من كل معنى، وأصبح الخالق سبحانه وتعالى غير عادل، لأنه قدرته محدودة ومقيدة بالتنزه عن الشر، إضافة لارتباطه تعالى بنفس القواعد التي يرتبط بها الناس، فما دل عليه العقل بأنه شرك كان كذلك بالنسبة للخالق. 

والخلاصة من أقوالهم هي القول بأن الله لا يخلق الشر، ولا يعاقب إلا الفاعل، والفعل لا يصدر إلا من فاعله، وعليه فإن العدل على الله واجب، ولتحقيق ذلك لابد من القول بأن الإنسان يخلق فعل نفسه، لأن الله لا يصدر عنه الشر، وأن معنى الثواب والعقاب لا يتحقق إلا بالقول بأن الإنسان يخلق فعل نفسه، وأنه ليس هناك تنافي بين علم الله سبحانه وتعالى وبين الحرية الإنسانية لأن متعلق علم الله هو الكائن وليس بالفعل، كما هو الحال بالنسبة للإرادة والأمر. 

 

المبحث الثالث: الوعد والوعيد 

أولاً: الوعد: 

الوعد في مفهوم المعتزلة هو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسناً مستحقاً وبين ألا يكون كذلك. 

هذا هو مذهب المعتزلة في الوعد، فهم يوجبون على الله - عز وجل - أن ينفذ وعده وأن يعطي العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقاً منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده. 

ثانياً: الوعيد: 

والوعيد في مفهوم المعتزلة هو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسناً مستحقاً، وبين أن لا يكون ذلك. 

والمقصود بالوعيد هنا هو ما يتعلق بأحكام المذنبين من عصاة المؤمنين إذا ماتوا من غير توبة. 

 

موقف المستشرقين من الوعد والوعيد عند المعتزلة

 

يرى المستشرق (لويس غاردية) أن الوعد والوعيد عند المعتزلة، معناه الالتزام بالأفعال التي حض عليها القرآن الكريم، ومن يرتكب كبيرة ولا يكفر بها فمآله إلى جهنم (1) . ويذهب (جولد زيهر) إلى القول بأن الله العادل يجب عليه أن يُثيب الأخيار ويعاقب الأشرار (2) ، لأن اختيار الله المطلق - الذي لا يُسأل عنه - على حسب الأفكار السنية الحرفية، يجعله يعمر الجنة والنار كما يشاء وبمن شاء حسب ما يرى (3) 

ويؤكد المستشرق (هنري كوربان) بأن الله قد وعد المؤمنين من خلقه بالثواب، وتوعد الكافرين منهم بالعقاب، وهذا أمر تقر به الفرق والمذاهب الإسلامية على اختلافها (4) 

ويقول بأن المعتزلة يربطون بين هذه العقيدة وبين مفهومهم للعدل الإلهي. فالعدل الإلهي يفترض أن لا يعامل المؤمن والكافر على حد سواء كما أن الحرية الإنسانية تتضمن أن يكون الإنسان مسؤولاً عن أفعاله سواء في الخير أم في الشر (5) 

 

 

 

 

فموقف المستشرقين من مبدأ الوعد والوعيد عند المعتزلة يتمثل في: أن وعد الله المؤمنين من خلقه بالثواب، وتوعده الكافرين منهم بالعقاب أمر تُقرُّ به الفرق والمذاهب الإسلامية على اختلافها، وأن مرتكب الكبيرة إذا لم يتب منها فمآله إلى النار، وأنه يجب على الله أن يثيب الأخيار وأن يعاقب الأشرار، وأنه بسبب الأفكار السنية حول الاختيار المطلق لله، الذي يجعله يعمر الجنة والنار كما يشاء وبمن يشاء حسب ما يرى، أصبح الخضوع لله والفضيلة لا يؤكدان أي ضمان للعادل الصالح في أن يثاب فيما بعد هذه الحياة، لذلك فلا يمكن تحقيق العدل الإلهي إلا من خلال أن يلزم الله نفسه بأعمال تتفق مع العدل. 

 

مسألة تخليد أصحاب الكبائر والذنوب

 

وافق فيها المستشرق (لويس غاردية) المعتزلة وقال: "إن من مات من غير توبة فمآله إلى النار" (1) 

وما ذهب إليه المعتزلة - ومن وافقهم من المستشرقين- من القول بإنفاذ الوعيد لا محالة، وأن أصحاب الكبائر والذنوب من المؤمنين مخلدون في النار حتماً (2) قول غير مسلم، وهو خطأ في فهم النصوص وحمل لها على غير معانيها الصحيحة. 

وأهل السنة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إن لم يتب منها فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له (3) ، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (4) 

 

 

 

 

 

مسألة الشفاعة

 

ومما يلحق بمسألة الوعد والوعيد عند المعتزلة، قضية الشفاعة، حيث إن المعتزلة لا ترى الشفاعة لأحد في الآخرة إلا للمؤمنين التائبين فقط دون الفساق من أهل الصلاة (1) ، فلا شفاعة لأهل الكبائر، لأن إثبات ذلك يؤدي إلى خلف وعيد الله - حسب زعمهم-، وخلف الوعيد عندهم يعتبر كذباً والله يتنزه عن الكذب (2) 

ويقول المستشرق (فنسنك) : إن المعتزلة لا يرون الشفاعة، وينكرونها إنكاراً مطلقاً، لأنه لا يمكن عندهم أن يخرج من النار من دخلها (3) 

وبهذا يتبين لنا أن موقف المستشرقين من أصل الوعد والوعيد عند المعتزلة، هو موقف الموافق وليس موقف الناقد، حيث لم ينقدوا هذا الأصل الذي خالف فيه المعتزلة الفرق الإسلامية في مسألة إيجاب الله على نفسه الثواب للمحسنين، والعقاب للمسيئين، ومسألة الخلود في النار لمن مات وهو لم يتب من الذنب، ومسألة نفي الشفاعة. 

 

 

 

 

المبحث الرابع: المنزلة بين المنزلتين 

 

المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة

 

قد أجمعت المعتزلة على قضية المنزلة بين المنزلتين واعتبروها أصلاً من الأصول الثابتة، وتلقب هذه المسألة حسب ما ذكره القاضي عبدالجبار (بمسألة الأسماء والأحكام) . 

ومرادهم بذلك: العلم بأن لصاحب الكبيرة اسماً بين الاسمين وحكماً بين الحكمين في الدنيا، وأما في الأخرة فهو كافر مخلد في النار (1) 

 

موقف المستشرقين من أصل المنزلة بين المنزلتين

 

يرى المستشرق (فان إس) أن المنزلة بين المنزلتين، مصطلح ديني استعمله واصل بن عطاء وغيره من المعتزلة للدلالة على درجة الخلاص للآثم القاتل (الفاسق) المسلم (2) 

وأن كلمة (منزلة) قد اعتمدت وحدها في المعنى الاصطلاحي (درجة الخلاص) (3) ، وأن فكرة المنزلة بين المنزلتين إنما وردت في قول للزاهد البصري (يزيد الرقاشي) الذي توفي بين سنة 110 - 120 للهجرة، حيث قال: ليس بين الجنة والنار منزلة، إلا أن واصل بن عطاء تبنى القول بالمنزلة بين المنزلتين، وقال به (4) 

ويرى المستشرق (هنري كوربان) بأن مبدأ المنزلة بين المنزلتين هو الذي سبب الشقاق بين مؤسس مدرسة المعتزلة واصل بن عطاء وبين أستاذه الحسن البصري، والسبب فيه هو الخلاف حول مفهوم (مرتكب الكبيرة) ، فالمعتزلة تقول؛ إنه في منزلة ما بين الكفر والإيمان. 

وهم يُعينون منزلته لاهوتياً وشرعياً بصفتها متميزة في آن واحد عن منزلة المسلم ومنزلة غير المسلم. ويميز المعتزلة ومعهم سائر الفقهاء ورجال الدين في الإسلام بين نوعين من المعاصي: الصغائر والكبائر، فالصغائر لا تستوجب إقصاء صاحبها عن حلقة المؤمنين على أن لا يعود العاصي إلى معاودة ارتكابها، أما الكبائر فهي - أيضاً- على نوعين: كبيرة الشرك والكبائر الأخرى، وهذه الكبائر الأخرى برأي المعتزلة توجب إقصاء مرتكبها عن الجماعة دون أن يعتبر مع ذلك كافراً بالمعنى المطلق للكفر. فمرتكب الكبائر هو إذن في منزلة وسط لا هي بمنزلة المؤمن ولا بمنزلة غير المؤمن. وهذا المبدأ القائل بمنزلة بين المنزلتين اقتضى هو الآخر بعض الصعوبات (5) 

ففسر المستشرقون هذا المصطلح بنفس تفسير المعتزلة (6) 

 

 

 

 

المبحث الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 

هذا هو الأصل الأخير من أصول المعتزلة الخمسة، وقد بين القاضي عبدالجبار حقيقة الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر، فقال: "أما الأمر: هو قول القائل لمن دونه في الرتبة: أفعل، والنهي هو قول القائل لمن دونه: لا تفعل. 

وأما المعروف: فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى: معروف لما لم يعرف حسنها ولا دل عليها. 

وأما المنكر: فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه، ولو وقع من الله تعالى القبيح لا يقال: أنه منكر، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه"  (1) .

وقد توافق أهل السنة والمعتزلة في حكم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كونه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) 

إلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة في طريقة تغيير المنكر، وفي الخروج على السلطان، وفي حمل السلاح في وجوه المخالفين. 

ففي طريقة تغيير المنكر: سار فيها المعتزلة على عكس الحديث الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسلم إزاء تغيير المنكرات. 

فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (3) 

فتغيير المنكر عند المعتزلة يبدأ بالحسنى ثم باللسان ثم باليد ثم بالسيف بينما الحديث يرشد إلى العكس، وهو ما يذهب إليه أهل الحق، من أن تغيير المنكر يبدأ بالفعل باليد إذا لم يترتب عليه مفاسد، والتغيير باليد هنا لا يكون بالسيف، وإنما هو إزالة المنكر بدون قتال ولا فتح باب فتنة أكبر من المنكر المراد إزالته (4) 

 

 

 

 

فإن لم يتمكن الشخص من التغيير باليد انتقل إلى التغيير باللسان، فإن وصل الحال إلى عدم الاستطاعة من التغيير باللسان بأن كان الشر هو الغالب على الخير، فليكتف بالتغيير بالقلب من كراهة المنكر وتمني زواله وبغضه وبغض أهله (1) 

وقد أوجبت المعتزلة الخروج على السلطان الجائر (2) ، وحمل السلاح في وجوه المخالفين لهم من أهل القبلة (3) 

موقف المستشرقين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة: 

يرى المستشرق (لويس غاردية) بأن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مبدأ كانت له وجاهته أول الأمر ثم فقد موضوعيته بعد ذلك (4) . ويسلم بأن الأمر بالمعروف فريضة على كل مسلم، وأن المعتزلة قد دعت إلى التدخل المباشر بالسيف، إذا اقتضى الأمر هذا التدخل، مخالفين وجهة النظر الأكثر كياسة وتبصراً التي قدر لها أن تنتصر آخر المطاف (5) - ويقصد بذلك أهل السنة-. 

فالمرء في نظر المعتزلة عنده يمكن له بل ويجب عليه خلع أولي الأمر الفاسدين، والمرء يمكن له بل ويجب عليه إكراه خصومه - تحت طائلة العقاب بالموت - على الاعتراف بالعقيدة الحقة (6) 

ويذهب المستشرق (دي بوار) إلى أنه بعد أن كان المعتزلة من قَبْل عرضة للقمع والاضطهاد من جانب السلطة الزمنية، أصبحوا ممتَحِنِين لعقائد الناس، يحلون السيف محل الحجة والدليل (7) 

ويصرح (هنري كوربان) بأن المبدأ الأخير من مبادئ المعتزلة الرئيسة وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو مبدأ يتعلق بحياة الجماعة، حيث إنه يهدف إلى التطبيق العملي لمبادئ العدالة والحرية في السلوك الإجتماعي (8) 

 

 

 

 

 

الخاتمة

 

وبعد فقد تبين من خلال هذا البحث موقف المستشرقين من المعتزلة ودفاعهم عنهم، ومحاولة إتهام غيرهم - وخصوصا أهل السنة والجماعة- بأنهم شوهوا المعتزلة وحرفوا أقوالهم. 

كما نجد كذلك أن المستشرقين لا يفتأون يبحثون عن الأعذار ويتلمسونها ليسدوا المخالفات التي ثبتت عن المعتزلة بدون أدنى شك أو ريبة، فيقول المستشرق (لويس غاردية) : إنه مع ذلك تظل الحقيقة أن كتابات أقطاب المعتزلة -بغض النظر عن رسالة (الانتصار) الجدلية التي وضعها الخياط دفاعاً عن عقائد المعتزلة في مواجهة ابن الراوندي- غير متاحة لنا إلا من خلال كتابات الآخرين عنها (1) ، وهم بهذا يصلون إلى حجة العاجز، فلما لم يستطيعوا أن يجدوا عذراً مقبولاً للفرقة التي راهنوا عليها لهدم الإسلام، طعنوا في كتب السلف الذين نقلوا أقوالهم، وكانوا أقرب إلى رجالهم وأحداثهم من هؤلاء المستشرقين، ناهيك عن كونهم أصدق وأورع من رجال المعتزلة والمعجبين بهم من المستشرقين، فليس هناك أدنى شك في صدق ونزاهة ما ينقله علماء السلف وأئمة الإسلام كاللالكائي والآجري والبربهاري وابن بطة وابن تيمية وغيرهم من علماء السلف من أقوال للمعتزلة، وليس هذا من باب التحيز، بل هو من باب اليقين، ففرق بين من يجعل نص الكتاب نصب عينيه، ومن يجعل عقله القاصر حاكماً على النص الإلهي، ناهيك عن سير بعض رجال المعتزلة التي غلب على بعضهم الفسق والمجون ورقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به، وإرسال على لسانه ما لا يكون كثمامة بن الأشرس (2) أو الإلحاد كالنظّام الذي قال بإبطال النبوات وأنكر إعجاز القرآن الكريم (3) ، حتى إن بعضهم قد كفر البعض الآخر كما كفَّر أبو موسى المردار أبا الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر، وكفره شيوخه، وقال عنهم البغدادي: وكلا الفريقين محقٌ بتكفير صاحبه (4) 

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 

 

 

 

 

 

فهرس المراجع

 

1 - احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام، سعد الدين السيد صالح, دار الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. 

2 - أدب المعتزلة إلى نهاية القرن الرابع الهجري، عبدالحكيم بلبع، دار نهضة مصر للطباعة والتوزيع، الطبعة الثالثة. 

3 - الإسلام كبديل، مراد هوفمان، تعريب: عادل المعلم، دار الشروق القاهرة, الطبعة الثانية. 

4 - الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثامنة. 

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ابن تيمية, دار الكتاب الجديد، بيروت. 

6 - الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان البغدادي ابن الخياط، تقديم ومراجعة: محمد حجازي, مكتب الثقافة الدينية, القاهرة. 

7 - بحوث في تاريخ السنة المشرفة, د. أكرم ضياء العمري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الرابعة. 

8 - التاريخ السياسي للمعتزلة، د. عبدالرحمن سالم، دار الثقافة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية. 

9 - تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ القرن الثامن حتى يومنا هذا، د. ماجد فخري، نقلة للعربية د. كمال اليازجي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية. 

10 - تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ اليانبيع حتى وفاة ابن رشد، المستشرق: هنري كوريان، ترجمة: نصير مروة وآخر، راجعة وقدم له: موسى الصدر وعارف تامر، عويدات للنشر والطباعة، بيروت 2004. 

11 - تاريخ الفلسفة في الإسلام دي بوار، نقله للعربية: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الخامسة. 

12 - تاريخ المعتزلة وفكرهم وعقائدهم، د. فالح الربيعي, دار الثقافية للنشر، الطبعة الأولى. 

13 - التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، ألف بينها وترجمها عن الألمانية والإيطالية: د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، لبنان، الطبعة الرابعة. 

14 - التفسير والمفسرون, محمد حسين الذهبي ودار الكتب الحديثة، الطبعة الأولى. 

15 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى: محمد بن زيد المدخلي، دار لينة. 

 

16 - دائرة المعارف الإسلامية. 

17 - دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية: د. عرفات عبد الحميد، مؤسسة الرسالة. 

18 - دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، وبيان الشبة الواردة على السنة قديما وحديثا، د. محمد بن محمد أبو شهبة، دار الجليل، بيروت، الطبعة الأولى. 

19 - السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، الطبعة الثانية. 

20 - شبهات مثارة حول الإسلام وعقيدته وحضارته، مقال للأستاذ أنور الجندي، مجلة حضارة الإسلام، العدد 3، جمادى الأولى 1396 هـ .. 

21 - شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبدالجبار، تحقيق د. عبدالكريم عثمان، مكتب وهبة، القاهرة، الطبعة الثالثة. 

22 - طبقات المعتزلة لابن المرتضى. 

23 - العقيدة والشريعة في الإسلام، تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، إجناس جولد زيهر، نقلة للعربية: د. محمد يوسف موسى وآخرون، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى، الطبعة الثانية. 

24 - الفرق بين الفرق، تأليف: عبدالقادر بن طاهر البغدادي، تحقيق: محمد بن محيي الدين عبدالحميد، دار المعرفة، بيروت. 

25 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: محمد إبراهيم نصير وغيره، مكتبة عكاظ للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. 

26 - فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، للقاضي عبدالجبار وأبي القاسم البخلي والحاكم الجشيمي، تحقيق: فؤاد سيد، دار التونسية للنشر. 

27 - الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم، محجوب بن ميلاد، الشركة القومية للنشر والتوزيع، تونس. 

28 - الفكر السياسي عند المعتزلة، الدكتورة: نجاح محسن، دار المعارف، القاهرة. 

29 - فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، لويس غاردية وج قنواتي، ترجمة: د. صبحي الصالح وآخر، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الاولى. 

30 - القرآن والمستشرقون، د. التهامي نقرة، ضمن موجز مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية. 

 

31 - كتاب أصول العدل والتوحيد، للقاسم الرسي، ضمن موجز رسائل العدل والتوحيد، دراسة وتحقيق: محمد عمارة، دار الهلال 1971. 

32 - كتاب المعتزلة، تأليف زهدي حسن جار الله، قدّم له آلفرد جيوم. 

33 - لسان الميزان للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية. 

34 - الله أو الدمار، لطفي جمعة، القاهرة. 

35 - مذاهب التفسير الإسلامي، جولد زيهر، ترجمة: د. عبدالحليم النجار، دار إقرأ، الطبعة الخامسة. 

36 - مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود ومعه فلسفة محمد بن زكريا الرازي، د. س بينس، نقلة عن الألمانية: محمد عبدالهادي أبو ريدة، مكتب النهضة المصرية، القاهرة. 

37 - مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسين علي بن الحسين بن علي المسعودي، المطبعة البهية، القاهرة 1346. 

38 - المستشرق شاخت والسنة النبوية ضمن موجز مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية. 

39 - المستشرقون والحديث النبوي، د. محمد بهاء الدين، دار الفجر، الطبعة الأولى. 

40 - المعتزلة بين القديم والحديث، محمد العبدة وطارق عبدالحليم، دار ابن الحزم، بيروت، الطبعة الأولى. 

41 - المعتزلة في بغداد وأثرهم في الحياة الفكرية والسياسية، أحمد شوقي وإبراهيم العمرجي، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى. 

42 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن الاشعري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الكتبة المصرية، بيروت. 

43 - مقالة عن الجماعة والفرق لمونتغمري وات، ترجمة: ناهد جعفر. 

44 - مكانة السنة في التشريع الإسلامي ودحض مزاعم المنكرين والملحدين، د. محمد لقمان السلفي، دار الداعي للنشر، الطبعة الثانية. 

45 - الملل والنحل، الشهرستاني، تحقيق: عبد الأمير علي مهنا وغيره، دار المعرفة، الطبعة الأولى. 

46 - من تاريخ الإلحاد في الإسلام، د. عبدالرحمن بدوي، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الثانية. 

 

47 - منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير تأليف د. فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة. 

48 - المواقف في علم الكلام، تأليف: القاضي عبدالرحمن بن أحمد الإيجي، عالم الكتب، بيروت. 

49 - موجز دائرة المعارف الإسلامية. 

50 - موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، عرضا ونقدا، د. سليمان الغصن، دار العاصمة، الطبعة الأولى. 

51 - موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، أبو لبابة حسين، دار اللواء، الطبعة الأولى. 

52 - النزعة العقلية في تفكير المعتزلة، د. علي خشيم. 

53 - نظرية التكليف، د. عبدالكريم عثمان، مؤسسة الرسالة، بيروت 1971. 

54 - نقد الخطاب الاستشراقي، الظاهرة الاستشراقية وأثارها في الدراسات الإسلامية، د. ساسي سالم الحاج، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى. 

  • الاحد AM 10:49
    2021-07-25
  • 3084
Powered by: GateGold