المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413266
يتصفح الموقع حاليا : 302

البحث

البحث

عرض المادة

السوق الشرق أوسطية

السوق الشرق أوسطية
Middle East Market
ظهر اتجاه داخل النظام السياسي للدولة الصهيونية يتبنى مقولة أن اعتماد التفوق العسكري وحده لا يُلبِّي مطامع إسرائيل في التحوُّل إلى قوة إقليمية لها دورها وحضورها الشرعي في المنطقة، وأن على إسرائيل أن تهيئ نفسها لترتيب اتفاقات "سلام" مع الدول العربية المجاورة، تقوم على تجاوز القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، لأن المصالح الاقتصادية الهائلة المستجدة ستؤدي إلى تذويب هذه المشكلات. وهذه هي المقولة الأساسية التي يستند إليها النظام العالمي الجديد: إن الإنسان كائن اقتصادي دوافعه اقتصادية ومطامحه اقتصادية، وإن الاختلافات الاقتصادية يمكن حلها، وإن خَلْق مصالح اقتصادية مشتركة بين الدول يجعل شعوبها تنسى أفكاراً بالية مثل السيادة والكرامة القومية. وبهذه الطريقة يحاول النظام العالمي الجديد أن يحوِّل العالم إلى سوق واحدة كبيرة لا تعرف الحدود، تمر فيها الشركات عابرة القارات والقوميات دون أن يعوقها عائق وتستطيع أن تبيع سلعها لمستهلكين يتسمون بالعمومية ولا يكترثون بالحدود القومية أو فكرة السيادة أو الحدود أو الأحلام الإنسانية المتجاوزة للمادة، أي أن يظهر الإنسان الطبيعي في كل أنحاء العالم (وهذه هي قمة الترشيد المادي وهذه هي العولمة الحقة). وبهذه الطريقة يقضي النظام العالمي الجديد على كل أشكال المقاومة داخل العالم الثالث ويمكن أن يقوم بتفكيك الشعوب دون أن يضطر إلى اللجوء للمواجهة، التي أصبحت مكلفة بل مستحيلة.


وهذا التحوُّل نحو الاقتصاد لا يعكس تراجعاً عن الأهداف الإسرائيلية الإستراتيجية والهيمنة السياسية والعسكرية وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية، وإنما هو تحوُّل في التكتيك والإجراءات لتحقيق هذه الأهداف في ظل التغيرات والتحولات الجديدة على المستويين العالمي والإقليمي، فيتم إدماج إسرائيل في المنطقة وفق شروط تحفز نموها الاقتصادي، القائم على تفوُّقها التكنولوجي والعلمي، فتصبح إسرائيل الكبرى مفهوماً اقتصادياً لا جغرافياً، وفي هذه الحالة لا يعتبر قيام كيان فلسطيني محدود الصلاحيات خطراً على وجودها لأن اندماجه مع إسرائيل يُيسِّر عملية الهيمنة عليه وتوجيهه. وقد تم استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» ليكون بالإمكان إدراج الكيان الصهيوني ضمن المنطقة العربية.

ويقوم المشروع الشرق أوسطي على عدة مبادئ أساسية أهمها: أن تحقيق السلام على أرض الواقع مرتبط بالتفاعل الاقتصادي، وأن خَلْق مصالح اقتصادية مُتبادَلة بين الأطراف الداخلة فيه يؤدي إلى تسهيل التوصل إلى حل سياسي، ويصبح هذا المشروع مفتاح حل جميع مشكلات العالم العربي من خلال ترويج مقولة السلام الذي يجلب الرخاء والتنمية، بحيث يحل محل الإنسان العربي والمسلم الخاص، إنسان اقتصادي عام لا يمارس أية رغبة في تجاوز واقعه المادي الاستهلاكي المباشر، حدوده حدود السوق، وأفقه أفق السلعة، وفضاؤه متعته، وسماؤه لذته. ويقوم هذا المشروع على إعطاء دور كبير للقطاع الخاص ورجال الأعمال، أو ما يُسمَّى «خصخصة صنع السلام» لأن صُنْع السلام في الشرق الأوسط أهم وأكثر تعقيداً من أن يُترَك للسياسيين والدبلوماسيين وحدهم، بل يجب أن تساعدها وتدعمها علاقات تجارية واقتصادية يقوم بها القطاع الخاص.

وأهم آليات تحقيق الشرق أوسطية المؤتمرات الاقتصادية، التي تتم قيادتها عبر مؤسسات من خارج المنطقة لا من داخلها، مُمثَّـلة في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (سويسرا) ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في نيويورك، كما أنها لم تَعُد مقصورة على ممثلي الدول بل تضم مستويات مختلفة من الحكومات ورجال الأعمال والمنظمات الدولية. وقد تم عقد ثلاثة مؤتمرات للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الدار البيضاء (1994) وعمان (1995) والقاهرة (1996).

وتهدف هذه المؤتمرات الاقتصادية إلى زيادة نفوذ القطاع الخاص وقطاع رجال الأعمال بحيث يصبحون لوبي (جماعة ضغط) قوية داخل أي نظام سياسي. وفي الوقت نفسه يزيد تفاعُل أعضاء هذه الفئة بعضهم مع بعض ومع المستثمرين الأجانب والشركات ذات النشاط الدولي من جهة أوربا. وهو تفاعُل سيتم في إطار المصالح الاقتصادية المجردة من القيم الأخلاقية أو القومية. وستتصاعد عملية التعامل تدريجياً إلى أن يتحول الشرق الأوسط بأسره إلى سوق مشتركة (على غرار الجماعة الأوربية) تسوده مجموعة من المشاريع الضخمة تموِّلها مؤسسات التمويل الدولية ويتم ربط كل هذا بالسوق العالمية ) أي السوق الغربية).

أما آليات إقامة المشروع الشرق أوسطي فتتمثل في:

1 ـ عقد اتفاقات ثنائية بين إسرائيل وكل دولة من الدول العربية المجاورة من جانب، وعقد اتفاقات متعددة الأطراف من جانب آخر. وتحدِّد الاتفاقات الثنائية علاقات إسرائيل بكل دولة من دول المحيط العربي في المجالات الاقتصادية والتجارية والأمنية والعسكرية، إضافة إلى المجالين الدبلوماسي والسياسي، وما يترتب على هذه من ترتيبات تنظيمية وإدارية وفنية وعسكرية مشتركة.

2 ـ التركيز في المرحلة الأولى على تأسيس محور ثلاثي يأخذ، بصورة متدرجة، صيغة تشكيلة سياسية اقتصادية أمنية (شكل من أشكال الكونفدرالية) تضم إسـرائيل والأردن والكيـان الفلسـطيني، وترتبط لاحقاً، وعلى نحو متدرج، بتشكيلة أوسع تضم سوريا ولبنان. ويتم في الوقت نفسه توسيع العلاقات الاقتصادية مع مصر، وبالتحديد في مجالي الطاقة والسياحة وبعض الصناعات المحددة، كصناعة النسيج.

3 ـ تطبيع العلاقات الاقتصادية (إضافة إلى العلاقات السياسية والدبلوماسية) مع سائر دول العالم العربي وفق آليات السوق الرأسمالية، أي من دون اشتراط علاقات اقتصادية متميِّزة كما هي الحال مع الكيان الفلسطيني والأردن، أو مع سوريا ولبنان، لكن مع عدم إغفال الاعتبارات الأمنية أو تجاهلها. ويبدو أن اشتراط إقامة علاقات اقتصادية متميِّزة مع الدول العربية المحيطة يرتبط بمفهوم إسرائيل لأمنها القومي وحاجتها إلى توليد "مصالح مشتركة" تنفي، أو تقلِّص إلى الحـدود الدنيا، إمكان نشـوب حروب أو نزاعات أو عمليات عسكرية جديدة: ترتيبات مائية مشتركة ـ بنية تحتية مشتركة ـ مشاريع اقتصادية مشتركة ـ تبادُل تجاري غير مقيَّد ـ إضافة إلى إقامة هيئات مشتركة مقررة في مجالات اختصاصها.

وهكذا، فالمسألة ليست مسألة سوق فقط، بل تهدف إسرائيل إلى خَلْق واقع اقتصادي جديد، في مناطق ومواقع مفصلية، يتسع نطاقه بشكل مستمر بحيث يتم خَلْق أحزمة اقتصادية جديدة تخترق البلدان العربية ويصعب الفكاك منها وتصبح معها تكلفة الانفصال في حالة توتر الأجواء باهظة الثمن، الأمر الذي يعني زيادة أمن الكيان الإسرائيلي. وأحد أهداف السوق الشرق أوسطية هو طرح تقسيم عمل جديد بالمنطقة تتخصص بموجبه الدول العربية في إنتاج المواد الأولية (البترول) والصناعات التقليدية مثل النسيج والملابس، في حين تتخصص إسرائيل في الصناعات التكنولوجية ذات التقنية العالية. وقد تعاقدت شركة موتورولا العالمية وشركة إنتل على إنتاج بعض منتجاتهما في إسرائيل باستثمارات بلغت 2.6 مليار دولار. ومما يعزز مسألة التقسيم السابق نجاح إسرائيل في إبرام أول اتفاق تعاون علمي وتكنولوجي مع الاتحاد الأوربي، الذي ستصبح إسرائيل بموجبه أول دولة غير أوربية وغير عضو في الاتحاد تشترك في الأبحاث العلمية والتكنولوجية الأوربية المتطورة وتنتفع بها، وسيفتح ذلك الباب على مصراعيه للعلماء الإسرائيليين للانتفاع بمزايا الأبحاث العلمية في جميع بلدان الاتحاد الأوربي، ما عدا تلك المتعلقة بالطاقة النووية.

كما يهدف المشروع إلى رفع المقاطعة الاقتصادية العربية عن إسرائيل، التي كلفت الاقتصاد الإسرائيلي طبقاً لتقديرات إسرائيلية أكثر من 40 مليار دولار، وإلى زيادة وتيرة التطبيع الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية (رغم أن تجربة التطبيع المصرية الإسرائيلية كشفت عن محاولات اختراق تمثلت في: تجسُّس وتهريب اقتصادي وتزييف عملات، بل يقال أيضاً نشر الإيدز).

إن المشروع الشرق أوسطي لا يقتصر على كونه سوقاً شرق أوسطية بمضمونها الاقتصادي بل إنه مشروع لنظام إقليمي جديد، أي أنه مشروع إستراتيجي له مقوماته السياسية والاقتصادية والأمنية والأيديولوجية، ويمر عبر إقامة نظام إقليمي جديد يؤسَّس على إعادة تركيـب النظام الإقليمي العربي، بحيث لا يعـود فاعلاً كواقـع أو كمشروع، ويُستبدَل به نظام تحتل فيه إسرائيل موقعاً محورياً، وإن كان بصورة متدرجة ومرحلية. ورغم أن هذا المشروع يعاني ثغرات كبيرة، ورغم أنه ما زال في طور التجريب إلا أنه كتوجهات عامة يلقى دعماً دولياً وإقليمياً بما يملكه من مؤهلات مثل استناده إلى برنامج يحمل الأيديولوجيا الاقتصادية الليبرالية التي تحتفل بها مراكز الاقتصاد العالمي ومؤسساته، وطبيعته الإستراتيجية طويلة الأجل، في ظل غياب مشروع عربي بديل.

ولكن هناك توترات وثغرات أساسية تتعلق بطبيعة الدولة الصهيونية وتحديداً: بين العناصر التي تركز على اعتبارات الأمن، والعناصر التي تركز على اعتبارات اندماج إسرائيلي في المنطقة اقتصادياً؛ بين الحرص على الهوية الصهيونية بمضمونها الاستبعادي السلبي للآخر العربي، وطموحاتها السلمية التي ترغب في تفاعُل إيجابي مع ذلك الآخر؛ وبين الرغبة في الحفاظ على سمة وثقافة إسرائيل الأوربية وعلاقاتـها المتميِّزة بأوربا والولايات المتحـدة (اقتصادياً وسـياسياً وثقافياً)، وموضعها الجغرافي الشرق أوسطي وادعائها الانتماء الحضاري إلى المنطقة. كما نجد تباينات في الآراء بشأن بعض التوجهات الأساسية للمشروع داخل حزب العمل بصورة خاصة، وداخل اليسار الصهيوني بصورة عامة. ومن الطبيعي أن تتسع حدة تلك التباينات أو أن تتقلص بالتوازي مع تطورات مسار المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية (بشقيها)، وصيغ الاتفاقات التي يتم التوصل إليها، وأشكال ومشكلات وتناقضات تطبيقاتها على أرض الواقع.

  • الثلاثاء AM 10:51
    2021-05-18
  • 1715
Powered by: GateGold