ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
ابحث الأن .. بم تُفكر
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
يتصفح الموقع حالياً 30
تفاصيل المتواجدون
من هنا الطريق
مجتمع المبدعين
المواد

إن دين الإسلام العظيم يحمل في ذاته خصائص القوة والبقاء، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وذلك لأنه من عند الله الواحد القهار، الذي بيده الخلق والأمر، وهو سبحانه قد جعل هذا الدين رسالته الخاتمة إلى البشرية، وتكفل بحفظه إلى يوم الدين فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}( ).

لم يكن الصحابة والتابعون يفرقون في الاحتجاج بالسنة بين ما رواه جماعة كثيرة، وبين ما رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة ما دام الضبط والعدالة متوافرين، وما دامت ثقة الرواة معلومة، إذ الجميع دين نحن ملزمون به، والعبرة بثقة الناقل لا بكثرة عدد النقلة

هذه المقدمات مستفادة من المباحث السابقة، وهي: 1- إن السنة وحي من الله تعالى، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغها للناس كما أمره بتبليغ القرآن، وألزم بها عباده كما ألزمهم بالقرآن. 2- إن السنة شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار.

إن حجية السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما عُلم من الدين بالضرورة، لتظاهر الأدلة على ذلك، وهي مرتبطة ارتباطا مباشرا بأصول العقيدة، فإنها الترجمة الحقيقية للإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإنه لم يقع نزاع حولها بين المسلمين قاطبة ممن يعتد به في الخلاف والوفاق

إن السنة المطهرة حجة شرعية تعبدنا الله تعالى باعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها، وهي شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار، وهما جميعا من عند الله تعالى.

إن استقلال السنة بالتشريع يعني أنها قد جاءت بمعتقدات وأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم وأنها حجة في ذلك، أي إن الله تعبدنا بذلك وأوجب علينا اعتقاده والعمل به، وأن وظيفة السنة لا تقتصر على تأكيد أحكام القرآن وبيانها، بل من وظيفتها أيضا أن تضيف تشريعات أخرى بوحي من الله تعالى

تطلق الحجة في لغة العرب على الدليل والبرهان القاطع، يقال حاجه فحجه أي احتج عليه فغلبه بالحجة، واحتج بالشيء استدل به واتخذه حجة.

السّنّة المطهرة شقيقة القرآن، ومثيلته في الحجية والاعتبار، فهما مصدر الدين وأساسه المتين، وكلاهما وحي من عند الله تعالى، كما تقدم تقريره في مبحث أقسام السنة، حيث تظاهرت به الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر سلف الأمة.

لقد تعرضت السنة المطهرة قديماً وحديثاً إلى محاولات خبيثة تهدف إلى الدس عليها وتحريفها . فقد سعى كثير من المغرضين والجهلة لاستغلال الدس على السنة والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة آرائهم السياسية أو اتجاهاتهم المذهبية أو مصالحهم الشخصية.

لقد تتابعت جهود المحدثين في جمع السنة وتكاملت لتمثل صرحاً هائلاً يعجب الناظر فيه من ثرائه وتنوعه، فبعد عصر التدوين جاء عصر التصنيف بعد انقضاء عصر التابعين. وقد اكتملت هذه الجهود ونضجت في القرن الثالث الذي يسمى العصر الذهبي للسنة، حيث تفنن المحدثون في طرق التصنيف

لقد استقر أمر كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الإذن والإباحة، كما تقدم في المبحث السابق، وأن من استمر من الصحابة والتابعين في كراهة ذلك مع قلة عددهم، لم تكن الكراهة عندهم بسبب اعتقاد المنع، وإنما لأسباب أخرى، مثل خشية الاتكال على الكتب وترك الحفظ، أو خوف صيران العلم إلى غير أهله.

يقصد في هذا المبحث مناقشة مبدأ كتابة السنة، وإيراد الأحاديث الواردة في ذلك نهياً وأمراً، والجمع بينها، وبيان استقرار الأمر على الكتابة والإجماع على ذلك، وإيراد نماذج مما كُتِبَ في العهد النبوي.

تفرق الصحابة رضوان الله عليهم في الأمصار بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لبث العلم ونشر السنة وتفقيه المسلمين، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وكان السبيل الوحيد لجمع علم الصحابة وسماع الأحاديث المنتشرة في مختلف البلاد هو الرحلة في طلبها.

لقد أحب الصحابة هذا الدين الحق الذي ملأ عليهم حياتهم، وأقبلوا عليه بإخلاص وصدق ويقين ورغبة وجدية، وفدوه بأرواحهم وما يملكون، وجاهدوا من أجله وفارقوا الأوطان والأهل والأموال، وصبروا على تبعاته رغبة في جزيل المثوبة وحملاً للأمانة على وجهها.

لم يكن للدين عقيدة وشريعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصدر سوى القرآن والسنة، ففي كتاب الله تعالى الأصول العامة والأحكام الأساسية، وفي السنة ما يؤكد تلك الأصول ويبينها بالإضافة إلى ما استقلت السنة به من التشريع مضافا إلى الكتاب العزيز

السنة في لغة العرب اسم مشتق من فعل (سَنّ) يَسِنُّ ويَسُنُّ، والمصدر: السَّنُّ، والجمع: السُنَنُ، بضم السين، ويجوز فتحها وكسرها. وهي تطلق على معان أشهرها ما يلي:

- تعريفها: الجوامع: جمع جامع، ويراد به في اصطلاح المحدثين: ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث: أي أنه يضم أحاديث العقائد، وأحاديث الأحكام وأحاديث الرقائق، وأحاديث الآداب والأحاديث المتعلقة بالتفسير، والأحاديث المتعلقة بالتاريخ والسير، وأحاديث الفتن والملاحم، وأحاديث المناقب والفضائل...

هي الكتب أو المصنفات التي تُعني بجمع زوائد كتب معينة كالمسانيد والمعاجم على كتب مخصوصة من أمهات كتب الحديث كالكتب الستة ومسند أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما.

سأقتصر على التعريف الموجز بكتابي: نصب الراية والتخليص الحبير لأهميتهما ولأنهما مطبوعان متداولان بين طلبة العلم. الأول: نصب الراية لأحاديث الهداية: - المؤلف: أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الحنفي الزيلعي – رحمه الله – ت 762هـ.

- التخريج: هو إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه ونحو ذلك، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين.

- تعريفها: هي الكتب التي يقتصر فيها على ذكر طرف الحديث الدال على بقيته مع الجمع لأسانيده، إما على سبيل الاستيعاب أو على جهة التقيد بكتب مخصوصة كأطراف الصحيحين لأبي مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي المتوفي سنة 401هـ.

- اعتنى السلف فيما اعتنوا به بيان الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنهي عن روايتها وكشف أحوال الكذابين والتحذير من الاستماع إليهم أو الرواية عنهم لكن هذا كله كان فيما قبل القرن الخامس منثوراً ومفرقاً في كتب الرجال والعلل وغيرها

في هذا الوقت الممتد عبر أربعة قرون تقريباً، مرت على المسلمين فيه محن وبلايا يشيب لهولها الولدان، ومن هذه المحن: 1- استمرار الانحطاط العلمي والجمود الفكري الذي بدأ – كما أشرت سابقاً – من أوائل القرن الخامس الهجري تقريباً.

أ- شرح السنة للحافظ البغوي: - المؤلف: الإمام المحدث المفسر الفقيه، محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي المولود سنة 436هـ والمتوفي سنة 516هـ رحمه الله تعالى.

سبقت الإشارة إلى أن علماء هذا القرن ابتكروا طريقة جديدة للمساهمة في خدمة السنة المطهرة في مجال تدوينها وحفظها، فكانت تلك الطريقة هي النواة الأولى للموسوعات الحديثية، وهذا الإبتكار الجديد هو الجمع بين الكتب الحديث المؤلفة سابقاً مثل الصحاح والسنن وغيرهما، ومن أهم المصنفات في هذا الموضوع ما يلي:

المستخرجات جمع مستخرج، والمستخرج هو: أن يأتي المصنف إلى كتاب كالبخاري أو مسلم مثلاً، فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق المؤلف فيجتمع إسناد المستخرج – بكسر الراء – مع المؤلف في شيخه

سبق القول بأن القرن الثالث الهجري يعد العصر الذهبي لتدوين العلوم الإسلامية عامة، وعلوم السنة النبوية خاصة وقد فُصِّل الكلام في ذلك في الباب الثالث.

المؤلف: هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة الحافظ الكبير الحجة المفسر، مصنف السنن والتاريخ والتفسير وغيرها، حافظ قزوين في عصره، ولد سنة 209هـ وتوفي سنة 272هـ.

3- المؤلف: الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي، ولد سنة 215هـ، وتوفي سنة 303هـ.

1- المؤلف: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمى الترمذي الحافظ العلم البارع صاحب التصانيف الكثيرة، قال أبو عبد الله الذهبي: الصواب أنه أضر في كبره بعد رحلته وكتابه العلم المولود في سنة 209 والمتوفي 279هـ.

- المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير ابن شداد الأزدي السجستاني الإمام شيخ السنة مقدم الحفاظ ومحدث البصرة المولود 202هـ والمتوفي سنة 275هـ.

ا- المؤلف: هو الإمام الحافظ الناقد أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، ولد في سنة أربع ومائتين ومات سنة إحدى وستين ومائتين للهجرة.

قال الحافظ أبو الحجاج المزي – ت 742هـ: وأما السنة فإن الله وفق لها حفاظاً عارفين وجهابذة عالمين وصيارفة ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فتنوعوا في تصنيفها وتفننوا في تدوينها على أنحاء كثيرة وضروب عديدة حرصاً على حفظها وخوفاً من إضاعتها

المسند لغة: ما ارتقع عن الأرض وعلا عن السطح. في الأصطلاح: أطلقه المحدثون على معنيين: الأول: الحديث المسند: قال الخطيب البغدادي: وصفهم الحديث بأنه مسند يريدون أن إسناده متصل بين راويه وبين من أسند عنه

يعتبر هذا القرن عصر ازدهار العلوم الإسلامية عامة وعلوم السنة النبوية خاصة بل يعد هذا القرن من أزهى عصور السنة النبوية، إذ نشطت فيه الرحلة لطلب العلم ونشط فيه التأليف في علم الرجال، وتوسع في تدوين الحديث، فظهرت كتب المسانيد والكتب الستة – الصحاح والسنن – التي اعتمدتها الأمة واعتبرتها دواوين الإسلام.

يشمل هذا القرن عصر جيلين: الأول: صغار التابعين إذ تأخرت وفاة بعضهم إلى ما بعد سنة 140هـ وقد سبق الكلام عن أثرهم وجهودهم في التدوين ضمن الكلام عن جهود جيل التابعين كله بمختلف طبقاته.

تلقي التابعون – رحمهم الله – السنة، بل الدين كله عن الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – فقاموا بمهمة تبليغ الرسالة من بعد شيوخهم إلى الناس كافة، فكانوا خير جيل بعد ذلك الجيل، وقد بذل جيل التابعين في خدمة السنة وتدوينها وحفظها جهوداً كبيرة، وفيما يلي نماذج من تلك الجهود:

لقد كانت جهود هذا الجيل المبارك هي الأساس الأول في تدوين السنة وحفظها ونقلها إلى الأمة، كما كانت جهودهم – رضوان الله عليهم – هي الأساس في نشر الدين وترسيخ العقيدة وحماية السنة من كل ما يشوبها.

اشتهر بين عامة الناس من غير ذوي التتبع والاستقصاء أن الحديث أو ما يطلق عليه علماء الحديث لفظ (العلم) ظل أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظاً دون أن يكتبوه، واستمر هذا الظن قرابة خمسة قرون متتابعة وهو يزيد توسعاً ويطرد قوة، حتى جاء الخطيب فتتبع مسائل هذا الموضوع وجمع شتاته وألف في ذلك (تقييد العلم).

إن أعداء الإسلام من الطوائف والأمم التي قضي عليها الإسلام ونسخ دياناتهم، لم يهدأ لهم بال ولم يقر لهم قرار من رأوا ذلك الانتشار السريع للإسلام وذلك الإقبال الشديد عليه من أبناء شعوبهم، لذلك شرعوا في الكيد والمكر لهذا الدين وأهله.

الأصل في ذلك رحلة نبي الله وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام إلى الخضر وقد قصها الله علينا في سورة الكهف.

سبق القول عن الكلام عن مكانة السنة في الإسلام بأن السنة وحي من الله وأنها المبينة لما أشكل من كتاب الله، فلما كانت للسنة هذه المكانة أولاها السلف غاية اهتمامهم وبذلوا من أجل جمع الحديث وأسانيده كل ما في وسعهم

ما كاد عصر الصحابة ينقضي ليبدأ عصر التابعين حتى بدأ بزوغ شمس الفتن والأهواء والبدع، وذلك أن أعداء الإسلام من يهود ونصارى ومجوس وصابئة وفلاسفة شرقوا بهذا الدين الذي حمله هؤلاء الصحابة الكرام إلى الناس كافة

تنوعت عناية السلف – رحمهم الله تعالى – بالسنة المطهرة، وذلك حسب الإمكانات والوسائل المتاحة في كل عصر، ولذلك نلاحظ أنهم يبذلون غاية الجهد وكافة الإمكانات ومختلف الوسائل في العناية بالسنة علماً وعملاً، حفظاً وكتابةً

السنة بالمعنى الذي مر ذكره في التمهيد (ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير) هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم الذي هو كلام الله رب العالمين مُنَزَّل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.

وتعود الإشكالات في هذا الأصل إلى عدد من الأمور، أبرزها: 1- التقليل من وثوقية نقل الآحاد، ورد جمهور أحاديث السنة لأنها نُقِلت كذلك. وقبل الرد على هذا الكلام فإني أودّ أن أوضّح بأن قائله لا ينضبط مع قوله من الناحية العمليّة

وهذا الأصل هو الذي تنبثق منه أكثر الشبهات والاستشكالات المعاصرة، ولذلك؛ فإنك تجده حاضراً في خطاب جميع من يطعن في السنّة، فإما أن يزعم أن في السنة الصحيحة روايات تخالف العقل، أو تخالف القرآن، أو العلم التطبيقي ،أو تخالف روايات أخرى أصحّ منها

إن الأسئلة والاستشكالات حول تاريخ السنة وتدوينها حاضرة بقوة في الخطاب التشكيكي، ونستطيع أن نُرجع الشبهات في هذا الباب إلى أمرين :

من السهولة بمكان أن يخادع المرء نفسه في قضية عدم الاحتجاج بالسنة ليقول: إنه لا يَرُدُّ على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، ولكنه لا يثق بالرواة الذين أوصلوا لنا الأخبار عنه، لا من الصحابة ولا ممن بعدهم، وممن حمل لواء الطعن في الصحابة ونَقَلة السنّة في العصر الحديث

يزعم منكرو السنّة، المتسمّون -زوراً- بالقرآنيّين أنه لا حاجة في أي أمر ديني إلى شيء خارج نص القرآن الكريم، لأنه تبيان لكل شيء. وهذا الكلام فيه حق وباطل؛

بعد أن اجتهدنا في إقامة البنيان جاء الوقت لنبعد عنه ما أثير حوله من إشكالات. وأود أن أُقَدِّم بذكر نقاط مهمة، ينبغي أن تراعى عند نقاش المـُشكّكين في السنة، ألا وهي:

وهذه القضية يجهلها عامة المـُشكّكين في علم الحديث، مع أنها من أهم وأدق مباحث هذا الفَنّ الشريف، وهي تُظهر بحق علوّ كعب أئمة المحدثين وتُبرِز قيمة هذا العلم. ولِشَرح القضية نقفُ عند هذا النصّ:

يحرص المحدّثون على التأكد من اتصال الرواية التي يُراد الحُكم عليها، فإذا وجدوا انقطاعاً فيها فإنهم يحكمون عليها بالضعف -في الجملة-.

السنّة نقلت إلينا عن طريق سلسلة من الرواة، تبدأ بالصحابة فالتابعين فتابعيهم، إلى أصحاب الكتب والمصنّفات الحديثية: كأصحاب الكتب الستّة، ولا بد من معرفة أحوال هؤلاء الرواة قبل قبول أخبارهم؛ فنعلم عن راوي الحديث أثقة هو أم ضعيف؟

ما أكثر ما شكّك المنكرون للسنة في علم الحديث، وزهّدوا فيه، واستنقصوا علماءه؛ إذْ هو الطريق الموصل إلى معرفة السنّة. ولقد رأيتُ في مناقشة هؤلاء المشككين عجباً، ولا أذكر أنه - إلى ساعتي هذه- ناقشني مشكك في علم الحديث ، وله معرفة به، وما أسرع الناسَ إلى إنكار ما لا علم لهم به

ينتابني العَجَب حين أقرأ لمن يشتغل بإيراد الأسئلة التشكيكية على حجية السنّة النبويّة ،متعلقاً بأتفهِ الحجج، مُعرضاً في الوقت ذاته عن البراهين القاطعة، والأصول الثابتة الدالّة على حجيتها! وهذا يدلّ على انتقائية غير عادلة، وترتيب منكوس في التعامل مع الأدلة!

يظنّ بعض من لا علم له بحقيقة السنّة، أنّ العناية بها إنما حصلت في أزمنة متأخرة ؛ أي بعد قرنٍ أو قرنين من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأنّ هذه المدة تضمنت فراغاً مجهولاً فيما يتعلق بحال السنّة ومكانتها.

لا يصح الحكم على حديث بأنه يُعارض القرآن أو العقل أو الحس مالم يكن ثابتاً من جهة إسناده، ومن باب أولى فإنه لا يصح الطعن في عموم السنة بدعوى تضمُّنِها أحاديث تعارض ما سبق ذكره ثم لا تكون تلك الأحاديث ثابتة.

مِن بين آلاف الأحاديث الصحيحة التي لم يتعرض لها المشككون في السنة بالإنكار أو الاعتراض، نجد أن نسبة النصوص التي أثاروا شبهات حولها لا تكاد تتجاوز 2% من مجموعها، ولكنهم يجعلون هذه النسبة الضئيلة جداً سبباً في إسقاط ما بقي من الأحاديث الصحيحة.

يشترط المحدثون لقبول الروايات والأخبار شروطاً تعود إلى ظواهر الاسانيد وأخرى إلى بواطنها، فأما الشروط التي تعود إلى الظاهر فهي للتصفية الأولية، ثم ينخلون بعد ذلك المصفّى من الروايات بالبحث عن عللها الباطنة

(أول من نظَّمنقد الروايات التاريخية، ووضع القواعد لذلك: علماء الدين الإسلامي؛ فإنهم اضطروا اضطرارًا إلى الاعتناء بأقوال النبي، وأفعاله؛ لفهم القرآن وتوزيع العدل. فقالوا: إن هو إلا وحي يوحى، ما تلي منه فهو القرآن ومالم يُتلَ منه فهو السنة

لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصح الاسانيد، ومن طرق كثيرة جداً تفيد القطع بما انتهت إليه أنه قال: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار»( )،وقال: «لا تكذبوا علي، فإنه من كذب علي فلْيَلِج النار»( )،

كثيراً ما يُثير المنكرون للسنة والمشككون فيها هذا السؤال، وهو (لو كانت السنة حجة فلماذا لم يحفظها الله كما حفظ القران)؟ ولا شكَّ أنَّ هذا السؤال فيه خلل ظاهر، وهو يختلف اختلافاً جذريًّا عن سؤال (هل حفظ الله السنة كما حفظ القرآن)

إن اتهام بعض مشاهير حملة السنة وناقليها لَـمِن أصول الإشكالات التي اعتمد عليها المستشرقون في طعنهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتشرَّبت هذه الطعونات طائفة ممن تأثر بالمستشرقين فبثتها في الكتب والندوات والمحافل

حين يدرك كثير من المشككين في السنة حجم المأزق الذي سيفضي إليه قولهم بإنكارها مطلقاً، -وخاصة فيما يتعلق بتضليل كافة المسلمين في باب الصلوات الخمس؛ إذْ يصعب إقناع المرء نفسه بأن إطباق الأمة كلها على تحديد المفروضات بخمس صلوات

يزعم منكرو السنّةأنه لا حاجة للمسلم -كي يقيم دينه على الوجه الذي يريده الله سبحانه- إلى أي مصدر ديني سوى نصّ القرآن الكريم، لأنه تبيان لكل شيء.

من الأمور المهمة التي تعين على بناء معرفة صحيحة منضبطة، أن يكون لدى المرء قواعد كُلية يبني عليها تصوراته الأساسية في أبواب المعرفة، ويردّ إليها الجزئيات والـمُشكِلات

لقد مر معنا في الطريق الثالث من طرق دلالة القرآن على حجية السنّة الأصول الـمُثبتة لكون السنة مبيّنة للقرآن، وأنه يتعذر العمل ببعض ما أمر الله به في كتابه دون الرجوع إلى سنة نبيه، فلتُراجَع هناك.

تقدم معنا في أول مبحث الركائز أن دلائل القرآن على حجية السنة لا تقتصر على إثبات أصل حجيتها فقط، وإنما تفيد دوام الحجية واستمرارها كذلك. ولا يقل إثبات معنى دوام الحجية أهمّيةً عن إثبات أصلها

لم يختلف علماء المسلمين في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن آيات الكتاب العزيز، إما من جهة تبليغ ألفاظه -وهذا نوع من البيان- وإما من جهة تفصيل مجملها، وإيضاح مُشكلها

يقرر منكرو السنة أن الوحي منحصر فيما جاء في نص القرآن، وأنه لا شيء مما يُروى في كتب السنة يصدق عليه أنه وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هو من خرافات المحدثين، وأساطير الأولين.

والاستدلال بهذا الطريق يُبنى على مقامات، هذا بيانها وبسطُها: المقام الأول: عموم الخطاب القرآني للأمة.

إن أعظم ما ينطلق منه أهل العلم لإثبات حجية سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم، ولا يكاد يخلو كتاب من الكتب المؤلفة في هذا الباب من الاستشهاد بآياته على مكانة السنة وحجيتها.

هذا هو المراد لمنكري السُّنَّة من كل محاولاتهم اليائسة وشبهاتهم الفارغة، التي أثاروها ضد السُّنَّة المطهرة وكما يرى القاريء أن هذه الشبهة موضوعة لكي يتعاملوا بها مع السُّنَّة وهي حقيقة لم ينالوا منها، أعني أنها شبهة وضعت متضمنة الاعتراف منهم ببقائها رغم محاولات التشكيك والمحو الكلي للسُّنَّة

هذه الشبهة كالتي قبلها، موضوعة للتعامل مع السُّنَّة في حالتي الفشل في التشكيك فيها، وفي محوها من الوجود كلية. وكان لسان حالهم – بعد لسان مقالهم – يقول: سلمنا أن السُّنَّة صحيحة وبريئة، من كل المآخذ، ومع هذا فليس لها دور في التشريع

هذه الشبهة من القسم الثالث، كما أشرنا في المدخل، والقسم الثالث هو الشبهات التي يتعامل بها منكرو السُّنَّة مع السُّنَّة إذا يئسوا من التشكيك فيها، ومن محوها من الوجود.

عنوان ضخم، ووصف مفزع، فإذا فتشت وراءه لم تجد لهذا "القول" أباً ولا أماً, وهذا يؤكد أن منكري السُّنَّة يتهافتون – دائماً – وراء تصيد الشبهات إنكار شطر الإيمان.

المقصود من الوضع في الحديث النبوي، هو الافتراء والاختلاق أي صياغة كلام في الشئون الدينية، وإسنادها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنه هو قائلها زوراً وافتراء عليه، وهذه الظاهرة لا ينكرها أحد، وهي موضع إجماع عند علماء الحديث وغيرهم من علماء الأمة.

إن منكري السُّنَّة المعاصرين، يكثرون من ذكر هذه الشبهة – الآن – فقد طالعتنا كثير من الصحف الجديدة، والمجلات التي لها غرام بالسير في الممنوع، وتاريخ في ترويج الأباطيل، وكل ما ينافي الإسلام، طالعتنا هذه الصحف والمجلات بمقالات متكررة، يستخدم كاتبوها شبهة مخالفة السُّنَّة للقرآن

ومما يروجه منكرو السُّنَّة ادعاؤهم أن السُّنَّة ورد فيها أحاديث كثيرة تخالف العقل، وهدفهم إحداث ثلمة في صرح السنة، تضاف إلى ما قدموه من شبهات، معتقدين أن هذه الشبهات يقوي بعضها بعضاً، وأنها لا بد من إحداث الهدف المقصود في النهاية إذا أمكن لهذه الشبهات أن تترسب في أذهان الناس

منكرو السُّنَّة المعاصرين حاطبو ليل، لا يفرقون وهم يجمعون الحطب بين أعواده وبين أجسام الحيات والثعابين، ثم أنهم – كما أشرنا من قبل – يفرضون جهلهم على حقائق الإيمان، ويجعلونه هو المقياس عندهم بين الحق والباطل، والخطأ والصواب.

هذه الشبهة نظن أن منكري السُّنَّة ذكروها من باب "كبر الكوم ولا شماتة العدا" كما يقول المثل الشعبي المعروف؛ لأنها شبهة خفيفة الوزن، فهم يدعون أن علماء اللغة والنحو والصرف لم يعولوا في الاستشهاد على ثبوت اللغة

من يتأمل في مجموع الشبهات التي أثارها منكرو السُّنَّة، يظهر له أنها قسمان مهما تعددت. وهذا التقسيم ناشيء بالنظر في الآثار التي رتبوها على كل شبهة، شبهة وإن كنا قد أشرنا في المدخل إنها ثلاثة أقسام.

الجهل، وصنوه الغباء، لهما أثر واضح في مغالطات منكري السُّنَّة، وقد أشرنا إلى هذا مرات في ما تقدم وها هو ذا يتضح مرة أخرى، في ترديدهم هذه الشبهة؛ لأننا رأيناهم يستدلون على أن السُّنَّة زيادة في الدين وبدعة ضالة استناداً إلى هذه الآية الحكيمة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ".

مكر جديد يمكره منكرو السُّنَّة المعاصرون، هذا المكر وليد الحاضر، ولم يقل به أحد من منكري السُّنَّة القدامى. وفي عرضهم لهذه الشبهة يفرقون بين دلالة السُّنَّة، ودلالة الأحاديث النبوية. فالسُّنَّة – عندهم – هي حياة النبي، التي انتهت بوفاته

علماء الحديث رضي الله عنهم، بعد الجهود المضنية، التي بذلوه فيجمع الحديث النبوي، ووضع المناهج الدقيقة الحكيمة، الجامعة المانعة، للتمييز بين الحديث المقبول، والحديث المردود، ولم ينسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما أطمأنت إليه أنفسهم

تقدمت الإشارة إلى أن علماء الحديث من تقسيماتهم له باعتبار كثرة الرواة وقلتهم في الرواية الواحدة، التقسيم الثنائي الآتي:

السند هو سلسلة الرواة الذين رووا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمتن هو الكلام المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدأ السند من الراوي الذي سمع الرسول يتحدث بحديث في التبليغ عن الله

من كره شيئاً كره كل ماله صلة به، ويكون أكثرهم صلة بذلك الشيء المكروه أكثرهم كرهاً عند الكاره لذلك الشيء، هذا طبع مغروز في النفس البشرية، وما بالطبع لا يتخلف.

دأب منكرو السُّنَّة على تلمس النقائص لرواة السُّنَّة النبوية من الصحابة والتابعين، والصحابة والصحابة هم وحدهم الذين رووا الحديث النبوي والأفعال والموافقات.

هذه الشبهة مما ردده منكرو السُّنَّة المعاصرون، وعولوا عليها كثيراً في النيل من السُّنَّة، والطعن في أساسها، وهو النبي صلى الله عليها وسلم. وتراهم وهم يرددونها يحملون أطناناً من الحقد على من أرسله الله رحمة للعالمين

هذه شبهة جديدة أملاها الشيطان على بعض منكري السُّنَّة المعاصرين، ثم أخذ الآخرون يرددونها ويهولون من شأنها ظانين أنهم اكتشفوا معول هدم للسُّنَّة لم يعرفه من قبلهم أحد.

الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه، أول الأئمة الأربعة الكبار، أصحاب المذاهب الفقهية: مالك، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم.

في هذه الشبهة يحاول منكرو السُّنَّة الحط من شأنها، وتجريدها من خصائصها الدينية، فهي عندهم مجرد كلام للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلامه ليس فيه إلزامه للأمة.

في كثير من العلوم الإسلامية والعربية، قمم شامخة، احتلت تلك القمم مكان الصدارة في مجالاتهم، ففي علوم العربية، يشار إلى سيبويه بالبنان، وفي علوم النقد الأدبي ترى الآمدي صاحب الموازنة، والقاضي الجرجاني صاحب الوساطة منازتين سامقتين

كنا، ونحن صغار في الريف المصري، نسمع كبارنا يرددون مثلاً أو حكمة، والحكم والأمثال يودعها أصحابها خلاصات تجارب الحياة، ويرددونها في مناسباتها التي يتكرر وقوعها في الحياة.

أعداء الحق منذ قديم الزمان، لهم حيل وأساليب ماكرة في رفض الحق، وتشويه صورته، لأنهم لا يكتفون برفض الحق، وحرمان أنفسهم منه، ولو كانوا قد فعلوا ذلك لكانوا أنصاف عقلاء.

من الأمور القادحة في صدق السُّنَّة وصحتها عند منكريها المعاصرين، ما فيها من أحاديث تتحدث عن الأمور الغيبية وهذا – عندهم – لا يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر والبشر لا يعلمون الغيب؟